مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 225
المذكرة الإيضاحية :
ثانياً – السبب :
نظرة عامة :
لم ينهج المشروع نهج التقنيات الجرمانية بشأن نظرية السبب ، بل اختار على النقيض من ذلك مذهب التقنيات اللاتينية وانتصر معها لهذه النظرية والواقع أن السبب كما يصوره القضاءان الفرنسي والمصري بمعنى الباعث المستحث يدخل في نطاق القانون المدني عنصراً نفسياً من عناصر الأخلاق يحد من نزعته المادية وهي بعد نزعة يشتد طغيانها في بعض الأحيان.
ورغم أن المشروع قد التزم حدود التصوير التقليدي للسيب كما ارتسمت معالمه في التقنينات اللاتينية إلا أنه عرض له بتعديلين متفاوتين الأهمية.
فيراعى أولاً أنه اقتصر على رد عدم مشروعية السبب إلى تعارضه مع النظام العام أو الآداب دون أن يشير إلى مخالفته لنص من نصوص القانون وهو بإغفال هذه الإشارة يخالف ما اتبعه التقنين الفرنسي وأكثر التقنينات اللاتينية معتد في ذلك بعين الاعتبارات التي أملت عليه مسلكه فيما يتعلق بعدم مشروعية المحل والواقع أنه قد يؤخذ على الإشارة إلى مخالفة السبب لنص من نصوص القانون افراطها في السعة أو تجردها من الفائدة فهي تجاوز حدود المقصود إذا صرفت عبارة ونص القانون، إلى الأحكام التشريعية كافة وهي تصبح عديمة الغناء إذا اقتصر المقصود من هذه العبارة على الأحكام الامرة التي لا يجوز الخروج عليها بمشيئة الأفراد.
ويراعي من ناحية أخرى أن المشروع قد أغفل ذكر ( السبب غير الصحيح )، وهو مايكون غير مطابق للواقع وهذا هو أهم التعديلين فالحق أن الخطأ في هذا الشأن لا يعدو أن يكون غلطاً في الباعث وقد كان يخلق التنبيه إلى مافي الإبقاء على التفرقة بين الغلط والسبب غير الصحيح ، من تشبثه بأهداب السطحيات والفوارق الصناعية بعد أن أصابت فكرة الغلط من السعة ما جعلها تجاوز نطاقها المادي الضيق وتصبح فكرة نفسية تتناول الباعث المستحث وتنتهي بذلك إلى صورتها السرية في الغلط الجوهري ، ولهذا رئي إخراج السبب غير الصحيح أو الغلط في السبب من بين أسباب البطلان المطلق واعتباره سبباً للبطلان النسي شأنه في ذلك شأن سائر ضروب الغلط .
ولم يستبق المشروع من صور السبب غير الصحيح إلا السبب الصوري ومع ذلك فقد رد حكمه إلى فكرة المشروعية وجعل السبب الحقيقي مرجع الحكم فيها رتبه العقد من آثار فإن كان هذا السبب مشروعاً صح العقد وإن كان غير مشروع بطل العقد لعدم مشروعية سببه لا للصورية .
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- يقصد بالسبب معناه الحديث كما يتمثله القضاء أن المصري والفرنسي في العمر الحاضر فهو بهذه المثابة الباعث المستحث في التصرفات القانونية عامة لا فرق في ذلك بين التبرعات والمعارضات.
وبفرق التقنين اللبناني بين سبب الالتزام وسبب العقد ( المادة 194 ) فسبب الالتزام هو الباعث الذي يدفع إليه مباشرة وهو بهذا الوصف يتمثل في صورة واحدة في كل ضرب من ضروب الالتزام ويعتبر جزءاً من التعاقد نفسه فهو في العقود الحكومة الجانبين الالتزام المقابل وفي العقود العينية قسم المعقود عليه وفي التبرعات نية التبرع وفي المعارضات الملزمة لجانب واحد التزام مدن أو طبیعی كان قائمة بين المتعاقدين قبل التعاقد ( المادة 195 ) أما سبب العقد فهو الباعث الشخصي الذي يدعو المتعاقد إلى إبرامه و هو لا يعتبر شقاً من التعاقد فهو يختلف باختلاف الأحوال في العقد الواحد بين أن هذه التفرقة ليست في الواقع الابقاء على التميز بين دلالة السبب في الفقه التقليدي و بين دلالته الحديثة كما استخلصها القضاء ولما كان التصوير التقليدي ضيق الحدود فقد رأي الإعراض عنه .
2 - ولا يترتب على السبب الصوري بطلان العقد لمجرد الصورية بل يتوقف الأمر على السبب المستتر فإذا تخلف هذا السبب أو تحقق غير مشروع بطل العقد فكرة انعدام السبب أو عدم مشروعيته هي التي يناط بها أمر الحكم على السبب الصوري .
2 - أما فيما يتعلق بإثبات السبب فثمة قاعدتان أساسيتان :
(أ) أولاهما افتراض توافر السبب المشروع في الالتزام ولو أغفل ذكره في العقد إلى أن يقوم الدليل على خلاف ذلك ، ويكون عبده إثبات عدم وجود السبب أو عدم مشروعيته على عاتق الدين الذي يطعن في العقد .
(ب) والثانية افتراض مطابقة السبب المذكور في العقد للحقيقة إلى أن يقيم الدين الدليل على صوريته فإذا أقيم هذا الدليل وجب على الدائن أن يثبت توافر الالتزام على سبب حقيقي تلحق به صفة المشروعية .
المشروع في لجنة المراجعة
تليت المادتان 189 و 190 من المشروع، واقترح إدماجهما في مادة واحدة وقدم أحد الأعضاء نصة تحقق فيه هذا الإدماج فوافقت اللجنة عليه وأصبح النص النهائي ما يأتي :
إذا لم يكن للالتزام سبب أو كان سببه مخالفة للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلاً ، وأصبح رقم المادة 140 في المشروع النهائي .
المشروع في مجلس النواب .
وافق المجلس على المادة دون تعديل ، تحت رقي 140.
المشروع في مجلس الشيوخ
مناقشات لجنة القانون المدني :
وافقت اللجنة على المادة بالإجماع دون تعديل و أصبح رقمها 136 ..
مناقشات المجلس :
وافق المجلس على المادة دون تعديل .
1- إذ كان المطعون ضده أقام دعواه للمطالبة بمبلغ 100000 جنيه قيمه الشيك محل التداعى وكان الطاعن قد تمسك فى دفاعه بأن سبب إصداره له كان ضمانا لحضور جلسة تحكيم بين عائلته وعائلة المطعون ضده وتنفيذ الحكم الذى يصدر من المحكمين وأنه نفذ هذه الالتزامات فلا محل لمطالبته بقيمة الشيك ، فإن الحكم المطعون فيه إذ التفت عن تحقيق هذا الدفاع بمقولة أن الحكم الجنائي الصادر فى الجنحة المشار إليها قد رد علية وطرحه، وقضى تبعا لذلك بتأييد الحكم المستأنف بإلزامه بأن يدفع للمطعون ضده مبلغ 100000 جنيه قيمة ذلك الشيك بما مفاده أنه أسبغ على ذلك الحكم الجنائي حجية تنفيذ بها المحكمة المدنية بشأن سبب إصدار الشيك محل التداعى حال أن الحكم الجنائي لا حجية له فى هذا الصدد فإن الحكم المطعون فيه يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون وهو ما حجبه عن بحث دفاع الطاعن الجوهرى الذى لوعنى الحكم ببحثه وتمحيصه لتغيريه- إن صح - وجه الرأى فى الدعوى وهو ما يعيبه أيضا بالقصور .
(الطعن رقم 4328 لسنة 61 جلسة 1993/01/21 س 44 ع 1 ص 299 ق 55)
2- مجرد توقيع مصدر السند عليه يفيد التزامه بدفع قيمته ولو لم يذكر فيه سبب المديونية ذلك أن كل التزام لم يذكر له سبب فى العقد يفترض أن له سبباً مشروعاً ما لم يقم الدليل على غير ذلك ويقع عبء الاثبات على من يدعى انعدام السبب، غير أن الإدعاء بانعدام السبب لا يجوز للمدين إثباته بغير الكتابة إذا كان الالتزام مدنياً طالما لم يدع المتعاقد بوقوع احتيال على القانون.
(الطعن رقم 366 لسنة 58 جلسة 1991/01/30 س 42 ع 1 ص 346 ق 57)
3- لما كانت المادة 136 من القانون المدني - وعلى ما جرى فى قضاء هذه المحكمة - وإن أوجبت أن يكون للإلتزام سبب مشروع إلا أنها لم تشترط ذكر هذا السبب، كما أن المادة 137 تنص على أن كل التزام لم يذكر له سبب يفترض أن له سبباً مشروعاً ما لم يقم الدليل على غير ذلك، وكان مؤدى ذلك أن عدم ذكر سبب الإلتزام لا يؤدى إلى بطلانه، وكان الحكم المطعون فيه قد التزم هذا النظر فى قضائه فإنه لا يكون قد خالف القانون ولا شابه فساد فى الإستدلال.
(الطعن رقم 2809 لسنة 57 جلسة 1989/11/07 س 40 ع 3 ص 22 ق 317)
4- عقد القسمة ينعقد بين الشركاء فى ملكية المال الشائع و محله المال المملوك ملكية شائعة بين الجميع وهو من العقود التبادلية التى تتقابل فيها الحقوق ، وكان المطعون عليهما الأول والثانى لا يملكان فى مال مورث الطاعنين - الثلاثة أفدنة التى اشتراها من المطعون عليه الأخير شيئاً ، فإن اقتسام هذا القدر لا تتوافر فيه شرائطه المقررة فى القانون لعقد القسمة . وكان مؤدى ذلك أن مورث الطاعنين يكون قد تنازل عن ماله لإخوته بدخوله فى عقد القسمة دون مقابل مما يجعل العقد هبة مستورة فى عقد قسمة فقد شروطه القانونية و لم تتم - باعتبارها هبة - فى ورقة رسمية فتقع باطلة طبقاً لنص المادة 488 من القانون المدنى هذا إلى أنه يكون قد تنازل بموجب هذه القسمة عن مال لإخوته دون سبب مما يفقد العقد ركناً من أركانه ويضحى إلتزامه فيه باطلاً بطلاناً مطلقاً لنص المادة 136 من القانون المدنى .
(الطعن رقم 1714 لسنة 48 جلسة 1980/06/10 س 31 ع 2 ص 1732 ق 322)
5- السبب غير المشروع الذى من شأنه أن يبطل العقد وفقاً لحكم المادة 136 من القانون المدنى يجب أن يكون معلوماً للمتعامل الآخر فإذا لم يكن على علم به أو ليس فى إستطاعته أن يعلمه فلا يعتد بعدم المشروعية .
(الطعن رقم 626 لسنة 46 جلسة 1979/11/29 س 30 ع 3 ص 103 ق 358)
6- إذ كان الحكم المطعون فيه قد نهج فى تكييف العقد محل التداعى تكييفاً صحيحاً و لم يخرج فى تفسيره عما تحتمله نصوصه فلقد إستخلص من عباراته الظاهرة أن تصرف الأب المطعون ضده لإبنه الطاعن فى حق الإنتفاع بالأرض الزارعية التى سلمها إياه كان بغير عوض مما يعتبر من التصرف تبرعاً أى هبة وقد وقعت الهبة باطلة لعدم مشروعية سببها المخالف للنظام العام بإنصرافه إلى تعامل فى تركة مستقبلة ، وكان من المقرر أن تعيين الورثة وأنصبتهم وإنتقال الحقوق فى التركات بطريق التوريث لمن لهم الحق فيها شرعاً مما يتعلق بالنظام العام و تحريم التعامل فى التركات المستقبلة بأى نتيجة لهذا الأصل فلا يحوز قبل وفاة إنسان الإتفاق على شىء يمس بحق الإرث و إلا كان الإتفاق باطلاً ، وكان الحكم قد إستدل على قيام ذلك السبب غير المشروع - وهو الباعث الدافع إلى التبرع - بما ورد فى الإتفاق من بيان صريح يفصح عن أن ما تسلمه الإبن الطاعن - أرض زراعية يمثل مقدار نصيبه ميراثاً عن أبيه الذى لم يزل على قيد الحياة و من اشتراط على هذا الإبن بعدم المطالبة بميراث أرض أخرى من بعد وفاة الأب ، و هو ما يعد إستدلالاً سائغاً له مأخذه الصحيح من واقع ما أثبت بالإتفاق الذى انعقد بين الطرفين ، فإن الحكم يكون قد التزم صحيح القانون فى تفسير الإتفاق و تكييف التصرف الثابت به الذى لحقه البطلان .
(الطعن رقم 626 لسنة 46 جلسة 1979/11/29 س 30 ع 3 ص 103 ق 358)
7- الهدايا التى يقدمها أحد الخاطبين للآخر أبان الخطبة و منها الشبكة ، تعتبر - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - من قبيل الهبات فيسرى عليها ما يسرى على الهبة من أحكام فى القانون المدنى ، و لما كان السبب ركناً من أركان العقد وينظر فى توفره أو عدم توفره إلى وقت إنعقاد العقد و كان العقد قد إنعقد صحيحاً بتوفر سببه فإنه يمكن القول بعد ذلك بتخلف هذا السبب بعد وجوده ، ومن ثم فإذا كانت الخطبة هى السبب فى هذا النوع من الهبات وذلك بإعتبارها الباعث الدافع للتبرع فإن فسخها لا يمكن أن يؤدى إلى إنعدام هذا السبب بعد أن تحقق و تظل الهبة صحيحة قائمة رغم العدول عن الزواج
(الطعن رقم 62 لسنة 39 جلسة 1974/05/26 س 25 ع 1 ص 948ق 156)
8- المادة 136 من القانون المدنى و إن كانت توجب أن يكون للإلتزام سبب مشروع إلا أنها لم تشترط ذكر هذا السبب فى العقد ، بل أن المادة 137 تنص على أن كل إلتزام لم يذكر له سبب فى العقد يفترض أن له سببا مشروعا ما لم يقم الدليل على غير ذلك و هو ما يقطع بأن عدم ذكر سبب الإلتزام فى العقد لا يؤدى إلى بطلانه .
(الطعن رقم 207 لسنة 35 جلسة 1969/04/17 س 20 ع 2 ص 627 ق 102)
9- تجيز المادة 488 من القانون المدنى حصول الهبة تحت ستار عقد آخر ، وكل ما يشترطه القانون لصحة الهبة المستترة أن يكون العقد الساتر للهبة مستوفيا الشروط المقررة له فى القانون ، وإذ كان الحكم قد إنتهى فى أسبابه إلى أن تصرفات مورث الطاعن - التى إعتبرها هبات مستترة - قد صدرت منجزة ومستوفية الشكل القانونى بتلاقى الإيجاب و القبول على مبيع معين لقاء ثمن مقدر ، وكان ذكر الباعث الدافع للهبة فى العقد الساتر لها يتنافى مع سترها ، وكان الطاعن لم يقدم - على ما سجله ذلك الحكم - الدليل على ما إدعاه من عدم مشروعية السبب فى هذه التصرفات ، فإن النعى على الحكم المطعون فيه بالخطأ فى تطبيق القانون و فى تأويله يكون على غير أساس .
(الطعن رقم 207 لسنة 35 جلسة 1969/04/17 س 20 ع 2 ص 627 ق 102)
10- قيود البناء الاتفاقية تعتبر - على ما جرى به قضاء محكمة النقض - حقوق إرتفاق متبادلة مقررة لفائدة جميع العقارات الكائنة فى الحى و التى فرضت لمصلحتها تلك القيود فإذا خالفها أغلب أهل الحى أصبح صاحب العقار المرتفق به فى حل من الإلتزام بها سبب هذا الإلتزام .
(الطعن رقم 219 لسنة 33 جلسة 1968/02/29 س 19 ع 1 ص 428 ق 63)
11- السبب ركن من أركان العقد فينظر فى توفره وعدم توفره إلى وقت انعقاد العقد فإن انعقد صحيحاً بتوفر سببه فإنه لا يمكن أن يقال بعد ذلك بتخلف هذا السبب بعد وجوده . فإذا كانت الخطبة هى السبب فى هذا النوع من الهبات الشبكة وذلك باعتبارها الباعث الدافع للتبرع فإن فسخها لا يمكن أن يؤدى إلى انعدام هذا السبب بعد أن تحقق .
(الطعن رقم 302 لسنة 28 جلسة 1963/10/24 س 14 ع 3 ص 967 ق 135)
12- مؤدى نص المادتين 136 و 137 من القانون المدنى أن المشرع قد وضع بهما قرينة قانونية يفترض بمقتضاها أن للعقد سبباً مشروعاً ولو لم يذكر هذا السبب فإن ذكر فى العقد فإنه يعتبر السبب الحقيقى الذى قبل المدين أن يلتزم من أجله ، وإن إدعى المدين صورية السبب المذكور فى العقد كان عليه أن يقدم الدليل القانونى على هذه الصورية و من ثم ينتقل عبء إثبات أن للعقد سبباً آخر مشروعاً على عاتق المتمسك به
(الطعن رقم 86 لسنة 26 جلسة 1962/12/27 س 13 ع 2 ص 1214 ق 191)
13- لما كانت المادة 551 من القانون المدنى لا تجيز الصلح فى المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية فإن التنازل عن طلب الحجز يكون عديم الأثر قانوناً ، و من ثم فإذا كانت محكمة الموضوع قد إستخلصت بأدلة سائغة فى حدود سلطتها الموضوعية ، أن عقد البيع قد إنعقد مقابل التنازل عن دعوى حجز و أن ثمناً لم يدفع فإنها تكون قد تحققت من صورية السبب الوارد فى العقد و الحكم المطعون فيه ، إذ إنتهى إلى بطلان عقد البيع لا يكون قد خالف القانون
(الطعن رقم 86 لسنة 26 جلسة 1962/12/27 س 13 ع 2 ص 1214 ق 191)
بطلان العقد لإنعدام السبب أو لمخالفته النظام العام أو الآداب :
السبب ركن من أركان الالتزام فلا يقوم بدونه، وهو الذي يؤدي بالملتزم إلى أن يلتزم، ولئن كان يكفي في توافر السبب الوقوف عليه من طبيعة التصرف بحيث إن وضح لنا جلياً من ذلك، كان الالتزام صحيحة، إلا أن الإرادة الظاهرة لا تغني في هذا المقام إذ يتعين البحث عن الإرادة الباطنة بالوقوف على الباعث الذي دفع الارادة إلى الالتزام، فإن كان هذا الباعث مشروعة وتطابقت الإرادتين الظاهرة والباطنة في ذلك، كان السبب صحيحة، أما إن تبين أن الباعث غير مشروع كاشفاً عن الارادة الباطنة، كان السبب باطلاً مثال ذلك أن يشتري شخص عقار، فإن السبب الذي اتجهت اليه الارادة الظاهرة في هذه الحالة هو الرغبة في تملك العقار، وهو سبب مشروع في حين أن المشتري ما قصد من الشراء إلا تخصيص العقار للدعارة أو لأعمال المقامرة، تلك الارادة الباطنة هي في حقيقتها الباعث الذي دفع إلى الشراء، فيكون هذا الباعث هو سبب الالتزام، وهو سبب غير مشروع يؤدي إلى بطلان السبب وبالتالي بطلان الالتزام .
والسبب على هذا النحو يكون خارجة عن نطاق العقد إذ لم يفصح عنه به ، إلا أنه متى ثبت أصبح داخلاً في هذا النطاق وأدى إلى بطلان الالتزام، و بدیهی أن السبب باعتباره الباعث الدافع إلى التعاقد، إذا كان واردة بالعقد وكان غير مشروع أدى الى بطلانه، ويكون السبب غير مشروع عندما يكون مخالفاً للنظام العام والآداب .
والسبب غير المشروع لا يؤدي إلى بطلان العقد إلا إذا كان المتعاقد الآخر يعلم به أو كان في إمكانه أن يعلم، مثال ذلك من يقرض المقامر حتى يتمكن الأخير من الاستمرار في المقامرة، فالباعث الدافع للاقتراض هو المقامرة يعلمه المقرض، وحينئذ يبطل السبب ويتبعه الإلتزام، أما إن كان المقرض لا يعلم بهذا الباعث، كان الالتزام صحيحاً ولا يكون للمقترض أن يتمسك بعدم مشروعية السبب.
ويكفى لبطلان السبب أن يكون المتعاقد الأخر يعلم أو كان بإمكانه أن يعلم بعدم مشروعية السبب، فلا يلزم أن يكون هذا الباعث متفق عليه بين المتعاقدين تستوي في ذلك التصرفات الملزمة للجانبين والتبرعات ما يتم فيها تلاقي إرادتين کالهبة أو بإرادة واحدة كالوصية.
والبطلان هنا مطلق، فيجوز لكل ذي مصلحة التمسك به وللمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ولا ترد عليه الاجازة ولا يسرى في شأنه التقادم .(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الثاني الصفحة/ 602 )
والمشروع بذلك يأخذ بالنظرية الحديثة للسبب وينبذ النظرية التقليدية، وذلك داستان في القانون القديم، إذ كان الفقه والقضاء يفسران عبارات القانون القديم على النظرية الحديثة لا معنى النظرية التقليدية ولم يقطع القانون الجديد صلته بهذه ، بل هو قد تأثر بنوع خاص بتقاليد القضائين المصري والفرنسي وقد ذكر ذلك صراحة في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ ورد بها ما يأتي : لم ينهج شروع نهج التقنيات الجرمانية بشأن نظرية السبب، بل اختار على النقيض من ذلك سبب التقنينات اللاتينية وانتصر معها لهذه النظرية والواقع أن السبب كما يصوره القضاء الفرنسي والمصري بمعنى الباعث المستحدث يدخل في نطاق القانون المدني حصراً نفسياً من عناصر الأخلاق يحد من نزعته المادية وهي تعد نزعة يشتد طغيانها في بعض الأحيان .
فالسبب إذن، في القانون المدني الجديد، هو الباعث الدافع إلى التعاقد لا مجرد الغرض المباشر المقصود من العقد وهو أمر نفسی خارج عن العقد يتغير بتغير البواعث.
ويجب أن يكون الباعث مشروعاً وأن يكون السبب معلوماً من المتعاقد الأخر، كان الباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد غير مشروع، ولم يكن المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث وليس في استطاعته أن يعلم به فعدم المشروعية هنا لا يعتد به ، ويكون العقد صحيحاً .
ومثال السبب غير الموجود التزام المشتري بدفع ثمن منزل تهدم من قبل، والتزام شخص بسداد قرض اعتباراً بأنه سيتسلمه، إذا أثبت أنه لم يدفع له في الحقيقة والتزام الورثة بدفع مبلغ من النقود إلى شخص اعتباراً بأن مورثهم أوصى له به، إذا ثبت أن الموصى قد رجع في هذه الوصية، أو أنها قد جاءت باطلة .
ويلاحظ أن عدم وجود السبب قد يأتي نتيجة وقوع العاقد في غلط، كما هي الحال في مثال الوارث الذي يتعهد لشخص بدفع مبلغ من المال، اعتقاداً منه عن خطأ بأن مورثه قد أوصى له به وهذه هي الحالة التي يطلق عليها التقليديون "الغلط فی السبب". وفي هذه الحالة، يقع التصرف باطلاً، لا إعمالاً للغلط، فذلك لا يؤدي إلا إلى وقوع العقد قابلاً للإبطال، وإنما تأسيساً على إنتفاء ركن من أركان العقد وهو السبب.
العبرة بوجود السبب عند إبرام العقد :
العبرة بوجود السبب بوجوده عند إبرام العقد، فإذا كان السبب موجوداً عند إبرام العقد، فإن العقد يكون قد انعقد صحيحاً، ولا يؤثر فيه زوال السبب بعد ذلك فاذا وهب شخص ماله لآخر قاصداً إسداء الجميل له، و مدفوعاً في ذلك بدافع نبيل وقامت الهبة بالتالي صحيحة، فإنها لا تبطل لمجرد أن الواهب غير نيته بعد ذلك، بمقولة سبب الهبة قد زال بعد وجوده.
بطلان العقد لمخالفة السبب النظام العام :
تنص المادة 136 صراحة على أنه إذا كان سبب العقد مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلاً .
فالسبب لابد أن يكون مشروعاً، والسبب الذي يخالف النظام العام أو الآداب يعد سبباً غير مشروع ومن ثم يقع باطلاً .
ومثل السبب المخالف للنظام العام الاتفاق الذي بمقتضاه يقبل الموظف رشوة لأداء عمل يدخل في مهام وظيفته، والاتفاق الذي يتعهد بمقتضاه شخص أن يرتكب جريمة، وكذلك الاتفاقات التي تستهدف التأثير على حرية الناخب في أن يختار من يراه صالحاً لتمثيله .
ومن أمثلة السبب المخالف للآداب ما يأتي :
1- الاتفاق الذي يتعهد بمقتضاه شخص على أن يكذب لمصلحة أخر، وعلى الأخص أمام المحكمة.
2- الإتفاق الذي ترتضي به امرأة تعاشر رجلاً معاشرة آثمة غير مشروعة.
والاتفاقات التي ترد بشأن الدعارة، كالاتفاق مع إمرأة على أن تعمل فيها، أو الاتفاق على الترويج لها أو الاتفاق على تأثيث مكان لها.
3- الاتفاقات التي تستهدف التأثير على حرية الناخب في أن يختار ما يراه صالحاً لتمثيله.
4- إبرام عقد بيع مقابل التنازل عن دعوى حجر.
إذا كان سبب السد الصادر من الأم لإبنتها، قصد به التحايل على أحكام الميراث .
وإذا كان السبب مخالفاً للنظام العام، وقع العقد باطلاً بطلاناً مطلقاً ويجوز لكل من مصلحة التمسك ببطلانه، وعلى المحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثاني الصفحة/391)
سبب الارادة - سبب الارادة هو الغرض المباشر الذي جعلها تتجه نحو احداث الأثر القانوني وتارة يكون السبب هو رغبة الشخص في الحصول على منفعة من التطرف الآخر ، كما في عقد البين مثال ، فان السبب الذي جعل ارادة البائع تتجه نحو التزامه بنقل ملكية المبيع إلى المشتري وبتسليمه إليه وبضمانه له هو الرغبة في الحصول على الثمن من المشتري ، وتارة يكون الرغبة في قضاء التزام قائم كما في وفاء الدين ، أو مجرد الرغبة في التبرع كما في الهبة الخ.
ولا يعتبر السبب ركناً ضرورياً إلا في الإرادة التي تتجه الى نقل حق من ذمة صاحبها إلى ذمة أخرى أو تتجه إلى إنشاء التزام في ذمة صاحبها، ويجب أن يكون ذلك السبب مشروعاً ( المادة 136 مدنی).
فاذا تعهد شخص أن يدفع مبلغاً من النقود إلى آخر ، لا تبرعاً منه ، ولا وفاء لدين سابق ولا رغبة في الحصول على منفعة مقابل ذلك المبلغ ، فإن القانون لا يرتب على هذه الإرادة أثراً لإنعدام السبب فيها.
وإذا كان تعهد الشخص بهذا المبلغ وفاء لدين يعتقد قيامه في ذمته بينما هو في الواقع غير قائم شأن هذا هو السبب الوهمي لأنه لا وجود له في الواقع ، فلا يصلح لانعقاد العمل القانوني ولا يترتب عليه أثر وكذلك اذا كان السبب صورياً كما في مثل من باع أطيانه بيعاً صورياً لتكملة نصاب معين المشتري ( أنظر بند 376 ).
وإذا كان السبب غير مشروع ، وهو يكون كذلك - كما في المحل - اذا كان مخالفاً للنظام العام أو الآداب العامة ، فانه يجعل الإرادة قائمة على أساس لا يقره القانون ، فلا يترتب عليها نشوء الالتزام الذي اتجهت الى انشائه ، و ذلك كالتعهد بدفع مبلغ من النقود مقابل قتل شخص أو تهريب مخدر أو معاشرة امرأة معاشرة غير شرعية إلخ .(الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الأول الصفحة/ 878)
وقد تقدم أن هذا النص يسمح بالقول بأن المشرع اعتبر السبب ركناً لا في العقد ولا في الالتزام الذي ينشأ منه بل في العمل الذي نتجه به الارادة نحو انشاء الالتزام ، لأن لفظ الالتزام كما يدل على الواجب القانوني الذي يقوم في الذمة يدل أيضاً على عمل الارادة في اتجاهها نحو إلزام صاحبها .
وإذا كان المشرع لم يعرف السبب بهذه المناسبة، فالثابت أنه كان يقصد الأخذ بمذهب القضاء في شأنه، ولو أن المذكرة الإيضاحية تزعم أنه قصد أن يذهب الى أبعد مما ذهب إليه القضاء وأن يعتبر السبب في جميع الأحوال هو الباعث الدافع إلى التعاقد، كما يذهب الى ذلك بعض الشراح الحديثين.
غير أن هذا الزعم ينفيه نص المادة 136 الذي يدل على أن المشرع تصور امكان اتجاه الإرادة نحو إلزام صاحبها دون أن يكون لذلك سبب وهذه الصورة غير ممكن تحققها إذا كان المقصود بالسبب الباعث الدافع، إذ لا يتصور أن تتخذ الإرادة اتجاهاً معيناً دون أن يدفعها إلى ذلك باعث، اللهم إلا أن تكون إرادة عابثة، وفي هذه الحالة لا يعتد بها القانون.
ولا يبقى إذن إلا أن يكون السبب المقصود في هذه العبارة هو السبب القصدي أو القريب بالمعنى الذي قالت به النظرية التقليدية، أي السبب الموضوعي الداخل في نطاق العقد والذي لا يختلف من عقد إلى آخر في كل طائفة من العقود والذي يكون الأصل فيه أنه يحجب البواعث النفسية الكامنة وراءه، إلا في الحالات التي يكون فيها أحد هذه البواعث هو الدافع الرئيسي إلى التعاقد ويكون هذا الباعث الدافع غير مشروع ومعلوماً للطرف الآخر إذا كان العقد ملزماً للجانبين، فحينئذ يبرز هذا الباعث وتزكم رائحته الأنوف ويهتك الستار الذي كان يعزله عن السبب القصدي ويقع بذلك في نطاق العقد، فيؤثر فيه بالبطلان، وهذا هو مؤدی النظرية الحديثة في السبب التي يظهر أن المشرع المصري أخذ بها في المادة 136 خلافاً لما تقول به المذكرة الإيضاحية ولما يذهب إليه واضعها وواضع نص القانون أستاذنا الكبير الدكتور السنهوري من أخذ المشروع بنظرية أحدث من ذلك تستبعد السبب القصدي كلياً، وتستبدل به الباعث، الدافع في جميع الأحوال.
ولأن السبب ركن في إرادة الالتزام، فيشترط توافره وقت اتجاه هذه الإرادة إلى الالتزام، فلا يؤثر في بقاء الالتزام تخلف السبب بعد توافره .
وبناءً على ذلك يمكن القول أن المشرع يشترط في الإرادة التي تتجه إلى إلزام صاحبها : (1) أن يكون لها سبب ، (2) وأن يكون هذا السبب مشروعاً، وأنه فيما يتعلق بوجود السبب يكتفي بالسبب القصدي بمعناه التقليدي وأما فيما يتعلق بمشروعية المسببة فان المشرع لا يقف عند حد السبب التقليدي لأن ذلك لا يكفي لإستيعاب جميع الحالات التي يراد تقرير البطلان فيها لعدم المشروعية بل يذهب الى الباعث الدافع، فإن وجده غير مشروع جعل جزاء ذلك بطلان عقد بشرط أن يكون الباعث غير المشروع في العقود الملزمة للجانبين معلوماً للطرف الآخر .
والغرض من هذا الشرط الأخير درء ضرر البطلان عن الطرف الآخر إذا كان حسن النية حتى لا يضار هذا الأخير ولا يبطل عليه عقده إلا إذا ثبت علمه بعدم مشروعية باعث المتعاقد معه، وبناءً على ذلك لا يشترط هذا العلم إذا كان البطلان لا يضر الطرف الآخر أو كان هذا الطرف الآخر هو الذي يتمسك بالبطلان ، فإذا كان العقد بیعاً مثلاً وتمسك المشتري ببطلانه لعدم مشروعية باعثه على الشراء وهو استغلال العين المبيعة داراً للدعارة أو للعب الميسر، كان عليه أن يثبت علم البائع بهذا الباعث غير المشروع أما إذا تمسك البائع بالبطلان ، اكتفي منه باثبات باعث المشتري غير المشروع، وحكم له بالبطلان بناءً من ذلك ، سواء تم علمه وقت العقد بعدم مشروعية الباعث أو ثبت دم علمه بذلك ، لأن المفروض أن البطلان في هذه الحالة نافع له ، وأن اشتراط بعلمه بعدم مشروعية الباعث إنما قصد به دفع ضرر البطلان عنه في حالة عدم علمه بعدم المشروعية.
وكذلك إذا استأجر شخص داراً لإستعمالها للدعارة أو للعب الميسر، ثم بدا له أن يتمسك بعدم مشروعية هذا الباعث التخلص من الإجارة بترير بطلانها، لم يجز له ذلك إلا في حالة ثبوت علم المؤجر هذا الباعث غير المشروع، أما إذا أراد المؤجر أن يتمسك بعدم مشروعية هذا الباعث لتقرير بطلان العقد ولطلب إخلاء المستأجر باعتباره شاغلاً العين دون عقد إيجار صحيح، وبالتالي بإعتبار أنه لا حق له في المادة من أحكام قانون إيجار الأماكن التي تقضي بالامتداد القانوني للإيجار بعد انقضاء مدته الإتفاقية ، جاز له ذلك، ولو لم يكن علم و الإجازة بالباعث غير المشروع لدى المستأجر.
إثبات السبب - الأصل أن على الدائن إثبات دينه وعلى الذين اثبات الوفاء به ، ولا يعتبر الدائن أنه أثبت دینه إلا إذا أثبت العقد المنشيء للدين، وأثبت توافر جميع أركانه أيضاً بما في ذلك الرضا والمحل والسبب، وبالتالي فإن على الدائن وفقاً للقواعد العامة إثبات وجود سبب مشروع للدين .
ولم يكن في التقنين الملغى نص خاص بإثبات السبب فخضع اثباته القواعد العامة وهي تقضي بما تقدم غير أن المحاكم سهلت على الدائن عبء الإثبات هذا بأن استنبطت من وجود سند محرر بالدين قرينة قضائية على أن للدين سبباً مشروعياً واعتبرت هذه القرينة كافية لأعضاء الدائن من إثبات ذلك وإلقاء عبء إثبات العكس على المدين.
وإذا ذكر في السند بسبب الدين ، كان تعهد شخص لأخر بدفع مبلغ مائة جنيه وجزر بذلك سنداً ذكر فيه أن القيمة وصلته نقداً ، فقد جرت المحاكم على اعتبار السبب المذكور حقيقياً حتى يثبت المدين أنه ليس كذلك. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الثاني الصفحة/ 299)
المقصود بالسبب : كانت النظرية التقليدية تعتد في المقصود بسبب الالتزام بالسبب المباشر أو العقدي فترى أن سبب التزام كل متعاقد يتمثل في التزام المتعاقد الآخر بحسبانه الغرض المباشر ففي العقود الملزمة للجانبين يكون التزام المتعاقد هو التزام المتعاقد الآخر كالشأن في عقد البيع فإن التزام المشتري بدفع الثمن هو التزام البائع بنقل الملكية والعكس ، وفي العقود الملزمة لجانب واحد إذا كان العقد عينياً يكون سبب التزام الملتزم هو تسلمه الشيء محل العقد ، وإن كان عقداً رضائیاً فالسبب هو إتمام العقد النهائي ، وفي عقود التبرع يكون السبب نية التبرع، وهكذا يكون السبب في كل نوع من العقود واحداً دائماً مهما تنوعت البواعث والغايات عند احد الطرفين أو كلاهما وإذا كان سبب الالتزام في منطق هذه النظرية هو السبب المباشر على التفصيل المتقدم فإنه لم يكن يشترط في ظلها مشروعية الباعث الكامن وراء الالتزام أو ابرام العقد ، فيكون الالتزام صحيحاً متى كان له سبب مباشر على التفصيل السابق ومن ثم اكتفت في شروط السبب يشرط وحيد هو شرط الوجود الذي يتحقق بمجرد قيام السبب المباشر القريب على التفصيل السالف ، وإذ كان مؤدي هذه النظرية عدم اشتراط مشروعية الباعث الدافع إلى الإلتزام أو إبرام العقد بما أدى إلى نتائج غير مقبولة فقد ظهرت النظرية الحديثة في السبب والتي لا تقف في تحديده عند السبب المباشر ، وإنما تراه يجاوز ذلك إلى السيب غير المباشر ومن ثم عرفت السبب بأنه الباعث الدافع إلى التعاقد آذان الإرادة هي جوهر الالتزام ، والإرادة لابد لها من دافع يدفعها فيكون هذا الباعث هو السبب ، وإن كانت البواعث متنوعة متعددة منها الرئيسي وغير الرئيسي ومنها الدافع إلى التعاقد و غير الدافع إليه ، فقد تخير القضاء الباعث الدافع إلى التعاقد ، غير انه اذ كان الباعث أمراً باطناً قد لا يتصل به الطرف الآخر مما يهدد الاعتداد به في جميع الأحوال استقرار التعامل إذ يتيح لمن يريد التخلص من التزامه الإدعاء بوجود دافع باعث غير مشروع فقد اشترط للاعتداد بالباعث الدافع أن يكون معلوماً للطرف الآخر (يراجع في تفصيل نظرية السبب وتطورها السنهوري في الجزء الأول من الوسيط بند 242 ص 294)، وقد ذهب السنهوري إلى أن المشرع المصري باشتراطه مشروعية السبب يكون قد اخذ بالنظرية الحديثة في تحديد المقصود بسبب الالتزام ( المرجع السالف ) بينما ذهب اتجاه حديث إلى نقد نظرية السبب من أساسها لإمكان الاستغناء عنها ( يراجع في ذلك المستشار الدكتور عبد الرحمن عياد في رسالته عن أساس الالتزام العقدي بند 113) ولكن الاتجاه السائد في الفقه المصري يرى التفرقة بين سبب الالتزام من جهة وبين سبب العقد من جهة أخرى فيتحدد سبب الالتزام وفقاً للنظرية التقليدية بالسبب المباشر في حين يتحدد سبب العقد وفقاً للنظرية الحديثة بالسبب غير المباشر ولا يشترط في سيب الالتزام سوى شرط الوجود ، كما لا يشترط فی سبب العقد سوى شرط المشروعية ، وهكذا يمكن القول مع هذا الإتجاه السائد أن المشرع المصري في ظل المادة 136 قد أخذ في تحديد المقصود بالسبب بنظرة مزدوجة ، فهو من حيث شرط الوجود يتمثل في الغرض المباشر وهذا هو سبب الالتزام وهو من حيث شرط المشروعية يتمثل في الباعث الدافع إلى التعاقد وهذا هو سبب العقد وعلى ذلك إذا انعدم الغرض المباشر كان الالتزام باطلاً لإنعدام السبب ، وإذا وجد مثل هذا الغرض المباشر ، ولكن كان الباعث الدافع إلى التعاقد غير مشروع كان العقد باطلاً لعدم مشروعية السبب ( يراجع في هذا المعنى الدكتور محمود جمال الدين زكي في الوجيز في النظرية العامة للالتزامات طبعة 1978 بند 116 الدكتور حشمت ابو ستيت في الالتزامات بند 233 - الدكتور / عبد الحى حجازى فى المصادر الإرادية بند 154 وما بعده - الدكتور عبد المنعم فرج الصدة في مصادر الالتزام بند 231 - الدكتور عبد الرحمن مصطفى عثمان في رسالته نظرية السبب طبعة 1984 ص 714 وما بعدها - الدكتور محمود شعبان في رسالته السبب الباعث على التعاقد في الفقه الإسلامي طبعة 1994 ص 200 وما بعدها - ويراجع الشرقاوي بند 46 وما بعده حيث يرى إدماج المحل والسبب واعتبار المشروعية شرطهما الوحيد .
وينظر إلى توافر السبب ومشروعيته إلى وقت انعقاد العقد .
ولا يلزم ذكر السبب في العقد .
ويقع الالتزام باطلاً إذا كان سببه غير مشروع .
(التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه، الأستاذ/ محمد كمال عبد العزيز، طبعة 2003 الصفحة / 836 )
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / التاسع ، الصفحة / 143
بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ، سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ فِي مُصْطَلَحِ «بَيْع». أَمَّا «الْمَنْهِيُّ عَنْهُ» فَهُوَ صِيغَةُ مَفْعُولٍ مِنَ النَّهْيِ.
وَالنَّهْيُ لُغَةً: الزَّجْرُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ: ضِدُّ الأْمْرِ . وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ الْكَفِّ عَنِ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الاِسْتِعْلاَءِ.
الأْصْلُ فِي الْبَيْعِ الْحِلُّ إِلاَّ لِطَارِئٍ:
2 - أَنَّ الأْصْلَ فِي الْبَيْعِ هُوَ الإْبَاحَةُ وَالصِّحَّةُ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْحَظْرِ أَوِ الْفَسَادِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي إِبَاحَةِ جَمِيعِ الْبُيُوعِ. وَدَلِيلُ الْعُمُومِ هُوَ: أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِالأْلِفِ وَاللاَّمِ، وَالْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالأْلِفِ وَاللاَّمِ يُفِيدُ الْعُمُومَ عِنْدَ أَهْلِ الأْصُولِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَهْدٌ مُطْلَقًا، وَلاَ قَصْدٌ إِلَى إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ .
فَصَارَ حَاصِلُ مَعْنَى الآْيَةِ: أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ حَلاَلٍ، أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْعُمُومِ، فَقَدْ لَحِقَهَا التَّخْصِيصُ، لأِنَّهُمْ - كَمَا يَقُولُ الرَّازِيُّ الْجَصَّاصُ، وَكَمَا سَيَأْتِي - مُتَّفِقُونَ عَلَى حَظْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْبِيَاعَاتِ، نَحْوِ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإْنْسَانِ ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْمَجَاهِيلِ وَعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الأْشْيَاءِ.
وَقَدْ كَانَ لَفْظُ الآْيَةِ يُوجِبُ جَوَازَ هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ مِنْهَا بِدَلاَئِلَ، إِلاَّ أَنَّ تَخْصِيصَهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ اعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِ الآْيَةِ، فِيمَا لَمْ تَقُمِ الدَّلاَلَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ .
مُوجِبُ النَّهْيِ:
3 - مُوجِبُ النَّهْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّحْرِيمُ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ تَصْرِفُهُ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْكَرَاهَةِ أَوِ الإْرْشَادِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوْ نَحْوِهَا . وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأْصُولِيِّ. وَفِي مُصْطَلَحِ: (نَهْي).
فَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ أَوْ دَلِيلٌ يَصْرِفُ النَّهْيَ عَنِ التَّحْرِيمِ، كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْكَرَاهَةَ. وَهِيَ لُغَةً: ضِدُّ الْمَحَبَّةِ. وَاصْطِلاَحًا: تَشْمَلُ:
أ - الْمَكْرُوهَ تَحْرِيمًا، وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ، بِمَعْنَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَحْذُورٌ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ كَحِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ، وَهُوَ الْمَحْمَلُ عِنْدَ إِطْلاَقِ الْكَرَاهَةِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - لَكِنَّهُ عِنْدَ الإْمَامِ مُحَمَّدٍ حَرَامٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.
ب - كَمَا تَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا، وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ أَصْلاً، لَكِنْ يُثَابُ تَارِكُهُ أَدْنَى ثَوَابٍ فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ. وَيُرَادِفُ الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا (خِلاَفُ الأْوْلَى) وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَهُ أَيْضًا.
فَإِذَا ذَكَرُوا مَكْرُوهًا: فَلاَ بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ:
أ - فَإِنْ كَانَ نَهْيًا ظَنِّيًّا، يُحْكَمُ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، إِلاَّ لِصَارِفٍ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى النَّدْبِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ نَهْيًا، بَلْ كَانَ مُفِيدًا لِلتَّرْكِ غَيْرِ الْجَازِمِ، فَهِيَ تَنْزِيهِيَّةٌ.
وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَيْنِ: تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا (الإْسَاءَةُ) وَهِيَ دُونَ الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا، وَفَوْقَ الْمَكْرُوهِ تَنْزِيهًا. وَتَتَمَثَّلُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ عَامِدًا غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ، فَإِنَّ السُّنَّةَ يُنْدَبُ إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَيُلاَمُ عَلَى تَرْكِهَا، مَعَ لُحُوقِ إِثْمٍ يَسِيرٍ .
وَإِذَا كَانَ الْحَنَفِيَّةُ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ لَفْظَ الْمَكْرُوهِ إِذَا أُطْلِقَ فِي كَلاَمِهِمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ، مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ . فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ مَتَى أُطْلِقَتْ لاَ تَنْصَرِفُ إِلاَّ لِلتَّنْزِيهِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ (الْكَرَاهَةَ) عَلَى مَا يُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
أَسْبَابُ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ
4 - أَسْبَابُ النَّهْيِ عَقْدِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ عَقْدِيَّةٍ. وَالأْسْبَابُ الْعَقْدِيَّةُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ:
الأْسْبَابُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ:
مَحَلُّ الْعَقْدِ: وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ.
وَيَشْتَرِطُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الشُّرُوطِ:
الشَّرْطُ الأْوَّلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
5 - أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ (أَيْ غَيْرَ مَعْدُومٍ) فَلاَ يَقَعُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَيُعْتَبَرُ بَاطِلاً.
وَيَتَمَثَّلُ هَذَا فِي الْبُيُوعِ الآْتِيَةِ: بَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلاَقِيحِ، وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَبَيْعِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
وَالْمَضَامِينُ: جَمْعُ مَضْمُونٍ، كَمَجْنُونٍ.
وَهِيَ: مَا فِي أَصْلاَبِ الْفُحُولِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ جُزَيٍّ . أَمَّا الْمَلاَقِيحُ: فَهِيَ جَمْعُ مَلْقُوحَةٍ وَمَلْقُوحٍ، وَهِيَ: مَا فِي أَرْحَامِ الأْنْعَامِ وَالْخَيْلِ مِنَ الأْجِنَّةِ .
وَفَسَّرَ الإْمَامُ مَالِكٌ الْمَضَامِينَ بِأَنَّهَا: بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ إِنَاثِ الإْبِلِ، وَأَنَّ الْمَلاَقِيحَ بَيْعُ مَا فِي ظُهُورِ الْفُحُولِ .
وَأَمَّا بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ فَهُوَ بَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ، بِأَنْ يَبِيعَ وَلَدَ مَا تَلِدُهُ هَذِهِ النَّاقَةُ أَوِ الدَّابَّةُ، فَوَلَدُ وَلَدِهَا هُوَ نِتَاجُ النِّتَاجِ .
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ بَيْعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْبُيُوعِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ غَيْرُ جَائِزٍ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ» .
وَلِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: لاَ رِبَا فِي الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ مِنَ الْحَيَوَانِ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ
وَلأِنَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ غَرَرًا، فَعَسَى أَنْ لاَ تَلِدَ النَّاقَةُ، أَوْ تَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَمَالُهُ خَطَرُ الْمَعْدُومِ .
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَلاَ مَعْلُومٍ وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِالْجَهَالَةِ، فَإِنَّهُ لاَ تُعْلَمُ صِفَتُهُ وَلاَ حَيَاتُهُ، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحَمْلِ، فَأَوْلَى أَنْ لاَ يَجُوزَ بَيْعُ حَمْلِهِ .
6 - وَمِنْ قَبِيلِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ أَيْضًا:
بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ» وَيُرْوَى: «عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ». فَقَالَ الْكَاسَانِيُّ فِيهَا: وَلاَ يُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْعَسْبِ، وَهُوَ الضِّرَابُ؛ لأِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالإْعَارَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ ، إِلاَّ أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ، وَأَضْمَرَهُ فِيهِ كَمَا فِي قوله تعالي : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ نَحْوَ هَذَا فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ، وَطَرَقُوا لَهُ ثَلاَثَةَ أَوْجُهٍ مِنَ الاِحْتِمَالاَتِ، وَنَصُّوا - كَغَيْرِهِمْ - عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِهِ، وَقَالُوا: يَحْرُمُ ثَمَنُ مَائِهِ، وَيَبْطُلُ بَيْعُهُ، لأِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلاَ مُتَقَوَّمٍ، وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
الشَّرْطُ الثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ:
7 - أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَالاً، بِمَعْنَاهُ الْفِقْهِيِّ الاِصْطِلاَحِيِّ، وَهُوَ: مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ . (ر: مُصْطَلَحُ: مَال) فَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَذَلِكَ مِثْلُ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الْمَيْتَةَ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ أَمَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، أَمْ مَاتَتْ بِخَنْقٍ وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، لِحَدِيثِ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» .
أَمَّا بَيْعُ الذِّمِّيِّ لِلْمَيِّتَةِ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا حَتْفَ أَنْفِهَا أَيْ بِغَيْرِ ضَرْبٍ وَلاَ قَتْلٍ - وَهِيَ: مَا تَنَفَّسَتْ حَتَّى انْقَضَى رَمَقُهَا - فَهِيَ لَيْسَتْ مَالاً بِالاِتِّفَاقِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهِ، بَلْ مَاتَ خَنْقًا، أَوْ بِمَا يَدِينُ بِهِ الذِّمِّيُّ، وَلَيْسَ تَذْكِيَةً فِي شَرْعِنَا فَالرِّوَايَاتُ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَفِي فَسَادِهِ: فَالرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَازُ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْفَسَادُ، وَلاَ رِوَايَةَ فِي الْبُطْلاَنِ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فِي بُطْلاَنِ الْبَيْعِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا .
وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأْصْنَامِ»
وَيَحْرُمُ وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَسْفُوحِيَّةِ مُخْرِجٌ مَا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَقَدِ اسْتُثْنِيَا مِنْ تَحْرِيمِ الدَّمِ، بِحَدِيثِ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ...» الآْنِفِ الذِّكْرِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالشَّوْكَانِيُّ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ .
وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتِفَاءُ الْمَالِيَّةِ، وَعِنْدَ الآْخَرِينَ نَجَاسَةُ الْعَيْنِ .
وَمَنْ صَوَّرَ انْتِفَاءَ الْمَالِيَّةِ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ: بَيْعَ الْحُرِّ. وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِهِ، بِجَعْلِهِ ثَمَنًا، بِإِدْخَالِ الْبَاءِ عَلَيْهِ (كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذَا الْغُلاَمِ، وَهُوَ حُرٌّ) لأِنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ. وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا، لأِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَفِي الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ، وَرَدَ حَدِيثُ: «ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ. رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: التَّقَوُّمُ:
8 - وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ - بَعْدَ كَوْنِهِ مَالاً - أَنْ يَكُونَ مُتَقَوَّمًا.
وَالتَّقَوُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرْبَانِ:
عُرْفِيٌّ: وَيَكُونُ بِالإْحْرَازِ، فَغَيْرُ الْمُحْرَزِ، كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ، لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ.
وَشَرْعِيٌّ: وَيَكُونُ بِإِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
فَمَا لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ مِنَ الْمَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ، يَبْطُلُ بَيْعُهُ .
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، بِشَرْطَيِ الطَّهَارَةِ وَالنَّفْعِ، كَمَا فَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ .
وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ شَرْطِ التَّقَوُّمِ هَذَا بِشَرْطِ الْمَالِيَّةِ، بِتَعْرِيفِ الْمَالِ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ: مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَيُبَاحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الْحَنَابِلَةُ.
فَخَرَجَ بِقَيْدِ الْمَنْفَعَةِ، مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلاً: كَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ. وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ. وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلضَّرُورَةِ، كَالْمَيْتَةِ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ .
9 - فَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ: بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ هُوَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ، وَيُلْحَقُ بِهِمَا بَاقِي نَجِسِ الْعَيْنِ وَكَذَا كُلُّ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ أَوْ ذَاتِيَّةٌ وَلاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ . وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأْصْنَامِ» .
وَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بِثَمَنٍ أَوْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَبَيْنَ بَيْعِهَا بِأَعْيَانٍ أَوْ عُرُوضٍ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي الْخَمْرِ، وَيَفْسُدُ فِيمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالأْعْيَانِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الأْصْلُ فِي الْبَيْعِ، وَلَيْسَتِ الْخَمْرُ وَنَحْوُهَا مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ، فَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهَا، فَكَذَا يَبْطُلُ فِي ثَمَنِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، مَقْصُودٍ بِالتَّمَلُّكِ، وَلَكِنْ فَسَدَتِ التَّسْمِيَةُ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ دُونَ الْخَمْرِ الْمُسَمَّى .
وَكَذَلِكَ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ. وَفِي هَذَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِ، لأِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ تَبَايُعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِمَا يَلِي:
أ - أَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، فَلأِنَّهُ مُبَاحٌ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لَهُمْ، كَالْخَلِّ وَكَالشَّاةِ لَنَا، فَكَانَ مَالاً فِي حَقِّهِمْ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ: أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمُ الْبَيْعَ.
ب - وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ لأِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لَكِنَّهُمْ لاَ يُمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِهَا، لأِنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا، وَيَتَمَوَّلُونَهَا، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ .
فَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله - مُعَلِّقًا عَلَى عِبَارَةِ الْكَاسَانِيِّ: وَظَاهِرُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَوْ بِيعَتْ بِالثَّمَنِ .
10 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، الْمَيْتَةُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، بَلْ مَاتَتْ بِالْخَنْقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهَا مَالٌ عِنْدَ الذِّمِّيِّ كَالْخَمْرِ . وَسَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهَا فِي شَرْطِ الْمَالِيَّةِ.
11 - وَيَتَّصِلُ بِغَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ: الْمُتَنَجِّسُ الَّذِي لاَ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ.
وَالْمَشْهُورُ وَالأْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الأْكْثَرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا؛ لأِنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ، لأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ، فَقَالَ:... وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ» وَإِذَا كَانَ حَرَامًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلي الله عليه وسلم قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَّلُوهَا أَيْ أَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا» ...
وَلأِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، قِيَاسًا عَلَى شَحْمِ الْمَيْتَةِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ .
وَقَدْ قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِمْ هُوَ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا اخْتِيَارًا، أَمَّا اضْطِرَارًا فَيَصِحُّ .
وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ رِوَايَةٌ وَقَعَتْ لِمَالِكٍ، هِيَ جَوَازُ بَيْعِهِ، وَكَانَ يُفْتِي بِهَا ابْنُ اللَّبَّادِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، الْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ بَيْعَهُ لاَ يَجُوزُ، وَالأْظْهَرُ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ مِمَّنْ لاَ يَغُشُّ بِهِ إِذَا بَيَّنَ؛ لأِنَّ تَنْجِيسَهُ بِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ فِيهِ لاَ يُسْقِطُ مِلْكَ رَبِّهِ عَنْهُ، وَلاَ يُذْهِبُ جُمْلَةَ الْمَنَافِعِ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُتْلَفَ عَلَيْهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ لَهُ هُوَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِيهِ، وَهَذَا فِي الزَّيْتِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لاَ يُجِيزُ غَسْلَهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ غَسْلَهُ - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ - فَسَبِيلُهُ فِي الْبَيْعِ سَبِيلُ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ .
وَجَعَلَ ابْنُ جُزَيٍّ قِيَاسَ ابْنِ رُشْدٍ مِمَّا أَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ إِذَا بَيَّنَ. وَأَشَارَ إِلَى الاِخْتِلاَفِ فِي الاِسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، هُوَ مُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ، بِأَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ فِي إِنَاءٍ مَاءٌ يَغْلِبُهُ، وَيُحَرَّكُ بِخَشَبَةٍ حَتَّى يَصِلَ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، جَازَ بَيْعُهُ قِيَاسًا عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ. وَالأْصَحُّ عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ مِنَ الْبَيْعِ، لِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ، لِحَدِيثِ الْفَأْرَةِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ لَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ: «أَلْقَوْهَا وَمَا حَوْلَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَرِيقُوهُ» وَكَذَلِكَ الْخِلاَفُ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْمَاءِ النَّجِسِ.
فَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، لإِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِمَنْعِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - كَمَا يَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ نَقْلاً عَنْ شَيْخِهِ - إِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ نَظَرًا إِلَى النَّجَاسَةِ الآْنَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ صَحَّ عِنْدَهُمْ .
وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيزُوا بَيْعَ الدُّهْنِ النَّجِسِ، رَوَوْا عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ يَعْلَمُ نَجَاسَتَهُ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ، وَيَسْتَبِيحُ أَكْلَهُ، وَلأِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى: لُتُّوا بِهِ السَّوِيقَ وَبِيعُوهُ، وَلاَ تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَبَيِّنُوهُ. لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ الْجَوَازِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا» .
وَلأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ كَافِرٍ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لَهُمْ.
وَلأِنَّهُ دُهْنٌ نَجِسٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ، كَشُحُومِ الْمَيْتَةِ .
هَذَا، وَأَمَّا الثَّوْبُ الْمُتَنَجِّسُ أَوِ الإْنَاءُ الْمُتَنَجِّسُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ كُلِّ مَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مِنَ الْمُتَنَجِّسَاتِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِهِ، لِمَا أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ التَّطْهِيرِ، وَطَهَارَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا.
وَقَدْ أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ تَبْيِينَ النَّجَاسَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبُ - مَثَلاً - جَدِيدًا أَمْ قَدِيمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُفْسِدُهُ الْغَسْلُ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشْتَرِي يُصَلِّي أَمْ لاَ، قَالُوا: لأِنَّ النُّفُوسَ تَكْرَهُهُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَجَبَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا - خِلاَفًا لِلأْصَحِّ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، وَهُوَ الَّذِي عَرَضَتْ لَهُ النَّجَاسَةُ، وَأَجَازُوا الاِنْتِفَاعَ بِهِ فِي غَيْرِ الأْكْلِ، كَالاِسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَالدَّبَّاغَةِ وَغَيْرِهِمَا .
وَفَرَّقُوا بَيْنَ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ وَبَيْنَ دُهْنِ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّ هَذَا نَجِسٌ، لأِنَّهُ جُزْؤُهَا، فَلاَ يَكُونُ مَالاً، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ اتِّفَاقًا، كَمَا لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله - بِحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأْصْنَامِ. فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لاَ، هُوَ حَرَامٌ» .
12 - وَيَتَّصِلُ بِغَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ، بَيْعُ عَظْمِ الْمَيْتَةِ وَجِلْدِهَا وَصُوفِهَا وَحَافِرِهَا وَرِيشِهَا وَنَحْوِهَا.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِنَجَاسَتِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وَهَذِهِ أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ، فَتَكُونُ حَرَامًا، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ» . بَلْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِمُضْطَرٍّ، إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ وَالْجُنْدُبَ، لِحِلِّ أَكْلِهَا .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَفَصَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ غَيْرِ الآْدَمِيِّ وَبَيْنَ الآْدَمِيِّ، وَبَيْنَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ وَبَيْنَ جِلْدِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ. قَالُوا:
أ - إِنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا: «لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ» وَلأِنَّ نَجَاسَتَهُ مِنَ الرُّطُوبَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَصَارَ كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ. بِخِلاَفِ الثَّوْبِ النَّجِسِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لأِنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ.
ب - أَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، لأِنَّهُ طَهُرَ بِالدَّبَّاغِ.
ج - أَمَّا الْعَظْمُ وَنَحْوُهُ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لاَ يَسْرِي فِيهِ الدَّمُ لاَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ وَالْقَرْنِ وَالْحَافِرِ وَالْعَظْمِ - كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي الطِّهَارَاتِ - فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا هَذِهِ الأْشْيَاءَ، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ، فَيَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الإْبَاحَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأْنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) .
وَلأِنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِمَوْتِهَا، فَإِنَّ الْمَوْتَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَهُمَا حَلاَلاَنِ بِالنَّصِّ، بَلْ لِمَا فِيهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ السَّيَّالَةِ وَالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ، لاِنْجِمَادِهَا بِالْمَوْتِ. وَلِهَذَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بِالدَّبَّاغِ، حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِزَوَالِ الرُّطُوبَةِ عَنْهُ، وَلاَ رُطُوبَةَ فِي هَذِهِ الأْشْيَاءِ، فَلاَ تَكُونُ حَرَامًا . بَلْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَمِنْهُمُ الزَّيْلَعِيُّ، عَلَى أَنَّ لُحُومَ السِّبَاعِ وَشُحُومَهَا وَجُلُودَهَا بَعْدَ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ كَجُلُودِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدَّبَّاغِ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهَا وَالاِنْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الأَْكْلِ، وَذَلِكَ لِطَهَارَتِهَا بِالذَّكَاةِ. يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ (وَكَذَا لَحْمُهُ وَعَظْمُهُ وَشَعْرُهُ) فَلاَ يَطْهُرُ بِالتَّذْكِيَةِ وَلاَ بِالدَّبَّاغِ. وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ - فِيمَا سِوَى الْخِنْزِيرِ - بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَرَّرَ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ أَنَّهُ تُطَهِّرُ الذَّكَاةُ الشَّرْعِيَّةُ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، دُونَ لَحْمِهِ، عَلَى أَصَحِّ مَا يُفْتَى بِهِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَيْعُ عَظْمِ الْفِيلِ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ كَسَائِرِ السِّبَاعِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَجُوزُ، وَهُوَ عِنْدَهُ كَالْخِنْزِيرِ .
أَمَّا عَظْمُ الآْدَمِيِّ وَشَعْرُهُ، فَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ. الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ. قَالَ الْكَاسَانِيُّ: «لاَ لِنَجَاسَتِهِ» لأِنَّهُ طَاهِرٌ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ، لَكِنِ احْتِرَامًا لَهُ، وَالاِبْتِذَالُ بِالْبَيْعِ يُشْعِرُ بِالإْهَانَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الآْدَمِيَّ مُكَرَّمٌ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَإِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَابْتِذَالُهُ وَإِلْحَاقُهُ بِالْجَمَادَاتِ إِذْلاَلٌ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَبَعْضُ الآْدَمِيِّ فِي حُكْمِ كُلِّهِ. وَصَرَّحَ الْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِبُطْلاَنِ بَيْعِهِ .
بَيْعُ الْكَلْبِ
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْكَلْبِ، أَيَّ كَلْبٍ كَانَ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ» .
وَلِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» .
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ بِاتِّخَاذِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَأَجَازُوا بَيْعَ الأْوَّلِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِي.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْكَلْبِ أَيَّ كَلْبٍ كَانَ حَتَّى الْعَقُورِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب).
أَمَّا الْهِرُّ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ، لأِنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ جَابِرٍ رضي الله عنه «نَهَى رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ» عَلَى غَيْرِ الْمَمْلُوكِ، أَوْ عَلَى مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ مِنَ الْهِرَرَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (هِر).
بَيْعُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْهَوَامِّ:
14 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ، إِذَا كَانَتْ مِمَّا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ بِحَالٍ. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ جَازَ بَيْعُهُ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، فَإِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ .
لَكِنَّهُمْ ذَهَبُوا مَذَاهِبَ فِي تَفْسِيرِ النَّفْعِ الَّذِي يُجِيزُ بَيْعَ السِّبَاعِ:
15 - فَالْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ - وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، ذَهَبُوا إِلَى إِطْلاَقِ النَّفْعِ، وَلَوْ بِالْجِلْدِ، وَبِدُونِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ نُصُوصِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا: صَحَّ بَيْعُ الْكَلْبِ وَلَوْ عَقُورًا، وَالْفَهْدِ وَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ، وَالسِّبَاعِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا، حَتَّى الْهِرَّةِ، وَكَذَا الطُّيُورُ أَيِ الْجَوَارِحِ مِنْهَا) عُلِّمَتْ أَوْ لاَ، سِوَى الْخِنْزِيرِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا وَبِجِلْدِهَا .
وَعَلَّلَ الزَّيْلَعِيُّ أَيْضًا جَوَازَ بَيْعِهَا بِجَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا شَرْعًا، وَبِقَبُولِهَا التَّعْلِيمَ عَادَةً، ثُمَّ طَرَحَ هَذَا الضَّابِطَ قَائِلاً فِيهِ:
وَكُلُّ مُنْتَفَعٍ بِهِ شَرْعًا، فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ، وَلَهُ قِيمَةٌ.. جَازَ بَيْعُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ
وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: جَوَازُ الْبَيْعِ يَدُورُ مَعَ حِلِّ الاِنْتِفَاعِ .
وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ الاِنْتِفَاعُ، ثَبَتَ فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ. بِخِلاَفِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ، كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالزَّنَابِيرِ، لأِنَّهَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا . وَكَذَا غَيْرُ الْمُؤْذِيَةِ مِنْ هَوَامِّ الأْرْضِ: كَالْخَنَافِسِ وَالْفَأْرَةِ وَالنَّمْلِ وَالْوَزَغِ وَالْقَنَافِذِ وَالضَّبِّ، أَوْ مِنَ الْبَحْرِ، كَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ .
16 - أَمَّا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ بَيْعَ الْهِرِّ وَالسَّبْعِ لِلْجِلْدِ جَائِزٌ، وَأَمَّا لِلَّحْمِ فَقَطْ، أَوْ لَهُ وَلِلْجِلْدِ فَمَكْرُوهٌ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ لَحْمِ السِّبَاعِ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا سِبَاعُ الطَّيْرِ ذَوَاتُ الْمَخَالِبِ، فَلَحْمُهَا مُبَاحٌ عِنْدَهُمْ، كَالْبَازِ وَالْعِقَابِ وَالرَّخَمِ، وَكَرِهُوا الْوَطْوَاطَ.
وَأَمَّا سِبَاعُ الْبَهَائِمِ، فَلَهُمْ فِيهَا ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: الْكَرَاهَةُ. وَالْمَنْعُ. وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَادِي - الَّذِي يَعْدُو عَلَى الآْدَمِيِّ - كَالأْسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ، فَيَحْرُمُ. وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَادِي، كَالدُّبِّ وَالثَّعْلَبِ وَالضَّبُعِ وَالْهِرِّ مُطْلَقًا، فَيُكْرَهُ.
لَكِنَّ الَّذِي فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ كَرَاهَتُهَا، حَتَّى الْفِيلِ عِنْدَهُ - وَفِي عُهْدَتِهِ، كَمَا قَالُوا -
17 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ فَسَّرُوا النَّفْعَ بِنَحْوِ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَلَوْ مَآلاً، بِأَنْ يُرْجَى تَعَلُّمُ الْحَيَوَانِ. أَمَّا مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ، وَكَذَا مَا لاَ يُرْجَى تَعَلُّمُهُ لِلصَّيْدِ، لِكِبَرِهِ مَثَلاً. فَالْفَهْدُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلصَّيْدِ، وَالْفِيلُ لِلْقِتَالِ، وَالْقِرْدُ لِلْحِرَاسَةِ، وَالْهِرَّةُ الأْهْلِ يَّةُ لِدَفْعِ نَحْوِ فَأْرٍ، وَالْعَنْدَلِيبُ لِلأْنْسِ بِصَوْتِهِ، وَالطَّاوُوسُ لِلأْنْسِ بِلَوْنِهِ .
وَكَتَبَ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ عَلَى قَوْلِ النَّوَوِيِّ فِي مِنْهَاجِهِ: فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحَشَرَاتِ وَكُلِّ سَبُعٍ لاَ يَنْفَعُ. مُبَيِّنًا خِصَالَ انْتِفَاءِ النَّفْعِ، بِقَوْلِهِ: مِثْلَ: أَنْ لاَ يُؤْكَلَ، وَلاَ يُصَالُ وَلاَ يُقَاتَلُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَتَعَلَّمُ، وَلاَ يَصْلُحُ لِلْحَمْلِ.
كَمَا قَرَّرَ أَنَّ انْتِفَاءَ النَّفْعِ قَدْ يَكُونُ حِسًّا، وَقَدْ يَكُونُ شَرْعًا، وَأَنَّ انْتِفَاءَ النَّفْعِ يَنْفِي الْمَالِيَّةَ، فَأَخْذُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ قَرِيبٌ - كَمَا نَقَلَهُ عَنِ الرَّافِعِيِّ - مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ .
18 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا - كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ اعْتَمَدَهَا السَّرَخْسِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا لاَ يَصْلُحُ لِلاِصْطِيَادِ، وَلاَ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ بِحَالٍ:
(أ) وَمَثَّلَ الْحَنَابِلَةُ لِمَا لاَ يَصْلُحُ لِلاِصْطِيَادِ بِالأْسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالدُّبِّ، وَبِالرَّخَمِ وَالْحَدَأَةِ وَالْغُرَابِ الأْبْقَعِ وَالنِّسْرِ وَالْعَقْعَقِ وَغُرَابِ الْبَيْنِ، وَبَيْضِهَا، لأِنَّهُ لاَ نَفْعَ فِيهِ، فَأَخْذُ ثَمَنِهِ أَكْلٌ لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَلأِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَفْعٌ مُبَاحٌ كَالْحَشَرَاتِ، فَأَشْبَهَتْ الْخِنْزِيرَ.
فَأَمَّا مَا يَصْلُحُ لِلاِصْطِيَادِ، كَالْفَهْدِ وَكَالصَّقْرِ وَالْبَازِ، بِأَنْ كَانَتْ مُعَلَّمَةً أَوْ قَابِلَةً لِلتَّعْلِيمِ، فَإِنَّ فِيهَا نَفْعًا مُبَاحًا، فَيَصِحُّ بَيْعُهَا، وَبَيْعُ أَوْلاَدِهَا وَفِرَاخِهَا، وَبَيْضِهَا لاِسْتِفْرَاخِهِ، فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَآلاً.
وَمَعَ ذَلِكَ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْقِرْدِ، لِلْحِفْظِ لاَ لِلَّعِبِ؛ لأِنَّ الْحِفْظَ - كَمَا قَالُوا - مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ
(ب) وَمَثَّلَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، بِالآْتِي: مَعَ التَّفْصِيلِ تَطْبِيقًا عَلَيْهِ:
- الأْسَدُ، إِنْ كَانَ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَيُصْطَادُ بِهِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِلاَّ فَلاَ.
- الْفَهْدُ وَالْبَازِي يَقْبَلاَنِ التَّعْلِيمَ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.
- النَّمِرُ - كَمَا يَقُولُ الْكَمَالُ - لاَ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ لِشَرَاسَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ، وَكَذَا الْكَلْبُ الْعَقُورُ عَلَى التَّخْصِيصِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
- الْقِرْدُ، فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ:
الأْولَى: جَوَازُ بَيْعِهِ لإِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَصَحَّحَهَا الزَّيْلَعِيُّ.
وَالأْخْرَى: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، لأِنَّهُ لِلتَّلَهِّي، وَهُوَ مَحْظُورٌ، فَكَانَ بَيْعُ الْحَرَامِ لِلْحَرَامِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَصَحَّحَ هَذَا الْكَاسَانِيُّ، وَبَنَى عَلَيْهِ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَوْلاَ قَصْدُ التَّلَهِّي لَجَازَ بَيْعُهُ.
لَكِنَّ قَصْدَ التَّلَهِّي يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ، لاَ عَدَمَ الصِّحَّةِ، كَمَا قَالَ الْحَصْكَفِيُّ .
بَيْعُ آلاَتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ آلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالْمَعَازِفِ إِلاَّ مَا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْهَا، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهَا .
وَالتَّقْيِيدِ بِالْمُحَرَّمَةِ، لإِخْرَاجِ بَيْعِ الشِّطْرَنْجِ، الَّذِي يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ بِحِلِّهِ، وَطَبْلِ الْغُزَاةِ وَنَحْوِهِ، فَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الطُّنْبُورُ، وَالْمِزْمَارُ، وَالشَّبَّابَةُ (وَهِيَ النَّايَةُ) وَالْعُودُ، وَالصَّنْجُ وَالرَّبَابُ.
فَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الآْلاَتِ أُعِدَّتْ لِلْمَعْصِيَةِ، فَبَطَلَ تَقَوُّمُهَا، وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُهَا، كَالْخَمْرِ .
وَالْمَالِكِيَّةُ قَرَّرُوا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا شَرْعِيًّا، وَإِنْ قَلَّ كَالتُّرَابِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لاَ تَجُوزُ فَهِيَ كَآلاَتِ اللَّهْوِ .
وَالشَّافِعِيَّةُ قَرَّرُوا أَنَّ آلَةَ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةَ لاَ يُقْصَدُ مِنْهَا غَيْرُ الْمَعْصِيَةِ، وَلاَ نَفْعَ بِهَا شَرْعًا .
وَالْحَنَابِلَةُ قَرَّرُوا أَنَّ كَسْرَ هَذِهِ الآْلاَتِ لاَ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، وَأَنَّهَا كَالْمَيْتَاتِ .
وَتَحْرِيمُ بَيْعِ الْمَعَازِفِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِتَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِبَاحَتِهَا إِذَا لَمْ يُلاَبِسْهَا مُحَرَّمٌ، فَيَكُونُ بَيْعُهَا عِنْدَ هَؤُلاَءِ مُبَاحًا .
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَعَازِفُ).
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ - أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ آلاَتِ اللَّهْوِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مُقَيَّدٌ بِأَنْ يُمْكِنَ اعْتِبَارُ مُكَسَّرِهَا مَالاً، فَفِيهَا نَفْعٌ مُتَوَقَّعٌ عِنْدَئِذٍ .
وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَرَى الصَّاحِبَانِ أَنَّ آلاَتِ اللَّهْوِ مُعَدَّةٌ لِلْمَعْصِيَةِ، مَوْضُوعَةٌ لِلْفِسْقِ وَالْفَسَادِ
- كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الْكَاسَانِيِّ - فَلاَ تَكُونُ أَمْوَالاً فَيَبْطُلُ تَقَوُّمُهَا، كَالْخَمْرِ. يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ لِصَلاَحِيَتِهَا لِمَا يَحِلُّ مِنْ وُجُوهِ الاِنْتِفَاعِ، بِأَنْ تُجْعَلَ ظُرُوفًا لأِشْيَاءَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ صَلَحَتْ لِمَا لاَ يَحِلُّ فَصَارَتْ كَالأْمَةِ الْمُغَنِّيَةِ، وَهَذَا لأِنَّ الْفَسَادَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَلاَ يُوجِبُ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ. وَجَوَازُ الْبَيْعِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ .
بَيْعُ الأْصْنَامِ وَنَحْوِهَا:
20 - الْخِلاَفُ الْمَارُّ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَيْعِ آلاَتِ اللَّهْوِ، جَارٍ هُنَا فِي بَيْعِ الأْصْنَامِ.
وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى التَّحْرِيمِ انْتِقَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ شَرْعًا، وَنَصُّ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأْصْنَامِ» .
وَدَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقِلَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْجَوَازِ: الاِنْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ، فَنَفْعُهَا مُتَوَقَّعٌ، فَوُجِدَتِ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي الْمَالِ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِمَا.
وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْوَجْهَيْنِ يَجْرِيَانِ فِي الأْصْنَامِ وَالصُّوَرِ وَكَذَا الشَّوْكَانِيُّ
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا يُلْحَقُ بِالأْصْنَامِ مَعَ بَعْضِ أَحْكَامِهَا: نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الصُّوَرِ وَالصُّلْبَانِ، وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي الصُّوَرِ لِلصِّغَارِ صِحَّةً وَضَمَانًا .
وَنَصُّوا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ النَّقْدِ الَّذِي عَلَيْهِ صُوَرٌ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا .
وَتَرَدَّدُوا فِي الصَّلِيبِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، هَلْ يُلْحَقُ بِالأْصْنَامِ، أَوْ بِالنَّقْدِ الَّذِي عَلَيْهِ صُوَرٌ؟
(أ) فَرَجَّحُوا إِلْحَاقَهُ بِالصَّنَمِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ مِنْ شِعَارِهِمُ الْمَخْصُوصِ بِتَعْظِيمِهِمْ.
(ب) وَرَجَّحُوا إِلْحَاقَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي عَلَيْهِ صُوَرٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ ابْتِذَالُهُ بِالاِسْتِعْمَالِ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَلِيَ الْبَيْعَ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ.
21 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ أَوْ مُوَكِّلِهِ أَوْ مُوَلِّيهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ يَبِيعُ بِالأْصَالَةِ أَوِ النِّيَابَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فُضُولِيًّا بِأَنْ يُصَرِّحَ أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنٍ، فَلاَ يَكُونُ شَرْطَ انْعِقَادٍ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ).
وَدَلِيلُ هَذَا الشَّرْطِ مَا رُوِيَ «عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي الْبَيْعَ، لَيْسَ عِنْدِي مَا أَبِيعُهُ، ثُمَّ أَبْتَاعُهُ مِنَ السُّوقِ، فَقَالَ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» .
قَالُوا: الْمُرَادُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِكَ وَقُدْرَتِكَ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: النَّهْيُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ بُيُوعِ الأْعْيَانِ الَّتِي لاَ يَمْلِكُهَا .
وَمَا رُوِيَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإْنْسَانِ ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» .
وَلأِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، فَلاَ يَنْعَقِدُ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ .
وَبِنَاءً عَلَيْهِ: لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْكَلأَ فِي مَنَابِتِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، لأِنَّهُ مُبَاحٌ بِالنَّصِّ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ فِي مَنَابِعِهِ مَا لَمْ يُحْرَزْ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلأَ وَالنَّارِ» وَكَذَا الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكُ فِي الْمَاءِ، كُلُّ ذَلِكَ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ، لاِنْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَهُوَ الإْحْرَازُ .
فَإِذَا جُمِعَ الْكَلأَ، وَصِيدَ الطَّيْرُ وَالسَّمَكُ، وَحُمِلَ الْمَاءُ مِنَ الْيَنَابِيعِ وَالأْنْهَارِ الْعَامَّةِ مُلِكَ، وَجَازَ بَيْعُهُ. وَفِي هَذَا يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ مِنْهُ» .
وَنَذْكُرُ هُنَا فُرُوعًا فِقْهِيَّةً تَطْبِيقِيَّةً لِهَذَا الشَّرْطِ:
أ - بَيْعُ الْفُضُولِيِّ:
22 - وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ وَلاَ وَلِيٍّ عَنِ الْمَالِكِ، وَكَذَا سَائِرُ عُقُودِهِ:
- فَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا «لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» وَلأِنَّهُ تَمْلِيكُ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَبَيْعُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ .
- وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا: أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَارَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَلَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ وَرَدَّهُ بَطَلَ. وَذَلِكَ لإِطْلاَقَاتِ النُّصُوصِ فِي حِلِّ الْبَيْعِ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الأْصِيلِ وَالْوَكِيلِ، ابْتِدَاءً أَوْ بَقَاءً وَانْتِهَاءً. وَلِحَدِيثِ «عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، ثُمَّ عَادَ بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ» . وَتَفْصِيلُ الْكَلاَمِ عَنْ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِبُطْلاَنِ بَيْعِ مَا يَلِي:
(1) بَيْعُ الْوَقْفِ: وَقَدْ صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِهِ، حَتَّى الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بَاطِلٌ لاَ فَاسِدٌ، فَلاَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ (ر مُصْطَلَحُ: وَقْف)
(2) - بَيْعُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ: فَقَدْ قَرَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى رَقَبَتِهَا أَحْكَامُ الْوُقُوفِ الْمُؤَبَّدَةِ (ر مُصْطَلَحُ: أَرْض) وَأَرَاضِي الْجِزَى (ر مُصْطَلَحُ: جِزْيَة).
(3) بَيْعُ الْمَسَاجِدِ، وَرِبَاعُ مَكَّةَ، وَالْحَرَمِ، وَبِقَاعِ الْمَنَاسِكِ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ. ر مُصْطَلَحَاتِ: (مَسْجِد، حَرَم، مَكَّة).
(4) الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ وَالْجَامِدَةُ، فِي الأْرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمُحَيَّاةِ. وَخِلاَفُ الْفُقَهَاءِ مَعْرُوفٌ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا. ر مُصْطَلَحُ: (أَرْض، مَعْدِن، إِحْيَاء).
(5) ضَرْبَةُ الْغَائِصِ:
23 - الْغَائِصُ: مَنْ يَغُوصُ لاِسْتِخْرَاجِ اللآَّلِئِ مِنَ الْبَحْرِ، يَقُولُ: أَغُوصُ غَوْصَةً، فَمَا أَخْرَجْتُهُ مِنَ اللآَّلِئِ فَهُوَ لَكَ بِكَذَا. وَمِثْلُهُ الْقَانِصُ، وَهُوَ الصَّائِدُ، يَقُولُ: بِعْتُكَ مَا يَخْرُجُ مِنْ إِلْقَاءِ هَذِهِ الشَّبَكَةِ مَرَّةً، بِكَذَا .
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأْنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا إِلاَّ بِكَيْلٍ، وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ» .
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ هَذَا الْبَيْعِ، لأِنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُمْلَكْ، وَبَيْعُ مَجْهُولٍ، وَبَيْعُ غَرَرٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِبُطْلاَنِهِ. وَنَصَّ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ مِلْكِ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَكَانَ غَرَرًا، وَلِجَهَالَةِ مَا يَخْرُجُ .
وَكَذَلِكَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَّلَ الْبُطْلاَنَ بِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ
(6) بَيْعُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ:
24 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُونَ الْقَبْضَ فِي التَّبَرُّعَاتِ، كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا، فَمَا لَمْ تُقْبَضْ لاَ تَلْزَمُ وَلاَ تُفِيدُ الْمِلْكَ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ «النَّهْيُ عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ» وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
وَهَذَا خِلاَفًا لِلْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَآخَرِينَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، مِنَ اللُّزُومِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ شَرْطُ تَمَامٍ - كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ - لاَ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَالاِنْعِقَادُ وَاللُّزُومُ بِالْقَوْلِ. وَلِذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا، خِلاَفًا لِمَا مُلِكَ بِالْمُعَاوَضَةِ وَلَمْ يُقْبَضْ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ.
(7) بَيْعُ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ:
25 - مِمَّا يَتَّصِلُ بِبَيْعِ مَا لَمْ يُمْلَكْ، مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْمُجَاهِدِ نَصِيبَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، قَبْلَ أَنْ يَقْسِمَهُ لَهُ الإْمَامُ .
وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِهَا فِي خُصُوصِهَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأْنْعَامِ.. وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ» الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَنَائِمِ حَتَّى تُقْسَمَ» .
وَيَرَى الْفُقَهَاءُ إِبَاحَةَ أَخْذِ الأْطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأْقْوَاتِ مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا لِلْحَاجَةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَلَمْ يُبِيحُوا تَمَلُّكَهَا، وَلاَ تَمَوُّلَهَا - كَمَا عَبَّرَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - فَدَلَّ هَذَا عَلَى مَنْعِ الْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ بَحَثُوا حُكْمَ بَيْعِهَا عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا.
26 - فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَصْلاً، وَلَوْ كَانَ لِحَاجَةٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ؛ لأِنَّ الْغَنَائِمَ لاَ تُمْلَكُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ الاِنْتِفَاعُ لِلْحَاجَةِ، وَالْمُبَاحُ لاَ يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ، وَهَذَا نَصُّ الْمَرْغِينَانِيِّ فِي بِدَايَتِهِ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
فَلَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ الْمُبَاحَةِ لَهُ، كَانَ بَيْعُهُ فُضُولِيًّا عِنْدَهُمْ، فَإِنْ أَجَازَهُ الإْمَامُ رَدَّ ثَمَنَهُ إِلَى الْمَغَانِمِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَغَانِمُ قَدْ قُسِمَتْ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَقِيرٍ، لأِنَّهُ لِقِلَّتِهِ لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، فَتَعَذَّرَ إِيصَالُهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَيُتَصَدَّقُ بِهِ كَاللُّقَطَةِ. وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَهُ .
27 - وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: يَجُوزُ - مَعَ - الْكَرَاهَةِ - مُبَادَلَةُ الطَّعَامِ بِمِثْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِتَفَاضُلٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فِي الطَّعَامِ الرِّبَوِيِّ الْمُتَّحِدِ الْجِنْسِ .
28 - وَالشَّافِعِيَّةُ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ، وَقَرَّرُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ صَرْفُ الطَّعَامِ إِلَى حَاجَةٍ أُخْرَى، بَدَلاً عَنْ طَعَامِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ إِلاَّ أَكْلَهُ فَقَطْ، لأِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الإْبَاحَةِ لاَ التَّمْلِيكِ .
وَهَذَا كَالنَّصِّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي بَحْثِ الْغَنَائِمِ، لَكِنْ فِي بَحْثِ حُكْمِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، قَرَّرُوا خِلاَفَهُ. وَلِمَا قَرَّرَ النَّوَوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ أَنَّ الشَّخْصَ لَهُ بَيْعُ مَا لَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَمَانَةً، كَوَدِيعَةٍ وَمُشْتَرَكٍ وَقِرَاضٍ، وَمَرْهُونٍ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ، عَلَّقَ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى قَوْلَةِ: «كَوَدِيعَةٍ» بِمَا نَصُّهُ: وَمُثْلَةُ غَلَّةُ وَقْفٍ وَغَنِيمَةٍ، فَلأِحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَوِ الْغَانِمِينَ، بَيْعُ حِصَّتِهِ قَبْلَ إِفْرَازِهَا. قَالَهُ شَيْخُنَا. بِخِلاَفِ حِصَّتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهَا قَبْلَ إِفْرَازِهَا وَرُؤْيَتِهَا، وَاكْتَفَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِالإْفْرَازِ فَقَطْ، وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ .
فَكَلاَمُ الْقَلْيُوبِيِّ هُنَا، نَقْلاً عَنْ شَيْخِهِ، يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّ لَهُ الأْخْذَ عَلَى سَبِيلِ الإْبَاحَةِ لاَ التَّمْلِيكِ.
فَيَبْدُو أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مِلْكِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لاَ تُمْلَكُ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ، لَكِنْ لاَ بِمُجَرَّدِهَا، بَلْ إِنْ قَبِلَ مَا أُحْرِزَ لَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ؛ لأِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ اخْتِيَارُ التَّمَلُّكِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ اللَّفْظِ بِأَنْ يَقُولَ: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ.
الثَّانِي: وَقِيلَ يَمْلِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِالاِسْتِيلاَءِ مِلْكًا ضَعِيفًا يَسْقُطُ بِالإِْعْرَاضِ، وَوَجَّهَ هَذَا الشَّيْخُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: بِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَدْ زَالَ، وَبَعِيدٌ بَقَاؤُهُ بِلاَ مَالِكٍ.
الثَّالِثُ: إِنْ سَلِمَتِ الْغَنِيمَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ، بَانَ (أَيْ ظَهَرَ مِلْكُهُمْ) بِالاِسْتِيلاَءِ، وَإِلاَّ بِأَنْ تَلِفَتْ أَوْ أَعْرَضُوا فَلاَ مِلْكَ لَهُمْ .
فَيَبْدُو أَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ عِنْدَ شَيْخِ الْقَلْيُوبِيِّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، بِنَاءً عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
29 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصَّ الْخِرَقِيُّ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ تُعْلَفُ فَضْلاً عَمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ بَاعَهُ رَدَّ ثَمَنَهُ فِي الْمُقْسَمِ .
وَعَلَّلُوا وُجُوبَ رَدِّ مَنْ فَضَلَ مَعَهُ طَعَامٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغَنَائِمِ وَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، إِلَى مُقَسِّمِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ بِأَنَّهُ: أَخَذَ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ، لأِنَّ الأْصْلَ تَحْرِيمُهُ، لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَسَائِرِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ بَيْعُهُ .
وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ هَذَا الأْثَرَ، وَهُوَ: أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه: إِنَّا أَصَبْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَتَقَدَّمَ فِي شَيْءٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: دَعِ النَّاسَ يَعْلِفُونَ وَيَأْكُلُونَ، فَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَفِيهِ خُمُسٌ لِلَّهِ وَسِهَامُ الْمُسْلِمِينَ
وَفَصَّلَ الْقَاضِي مِنْ أَئِمَّتِهِمْ تَفْصِيلاً دَقِيقًا، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ ارْتَضَوْهُ، فَقَالَ: لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَازٍ أَوْ غَيْرِهِ.
- فَإِنْ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأِنَّهُ يَبِيعُ مَالَ الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ وِلاَيَةٍ وَلاَ نِيَابَةٍ، فَيَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ، وَنَقْضُ الْبَيْعِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، رَدَّ قِيمَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ، إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ إِلَى الْمَغْنَمِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حُمِلَ كَلاَمُ الْخِرَقِيِّ
- وَإِنْ بَاعَهُ لِغَازٍ لَمْ يَحِلَّ، إِلاَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِطَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ، مِمَّا لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
- فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ، فَلَيْسَ هَذَا بَيْعًا فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا سَلَّمَ إِلَيْهِ مُبَاحًا وَأَخَذَ مِثْلَهُ مُبَاحًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْتِفَاعُ بِمَا أَخَذَ، وَصَارَ أَحَقَّ بِهِ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ، لأِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ. وَإِنْ بَاعَهُ نَسِيئَةً، أَوْ أَقْرَضَهُ إِيَّاهُ فَأَخَذَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِيفَاؤُهُ، فَإِنْ وَفَّاهُ أَوْ رَدَّهُ إِلَيْهِ، عَادَتِ الْيَدُ إِلَيْهِ.
- وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَالْبَيْعُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهِ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلاَ ثَمَنَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِ .
30 - وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الاِتِّجَاهَ الْعَامَّ فِي الْفِقْهِ
- بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّا رُوِيَ مِنْ قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعَنْ حَالِ مُبَادَلَةِ الطَّعَامِ بِالْمِثْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - هُوَ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الْمَغَانِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، الَّذِي نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ.
وَفِي هَذَا يَقُولُ الشَّوْكَانِيُّ: مُقْتَضَى النَّهْيِ عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لأِنَّهُ لاَ مِلْكَ - عَلَى مَا هُوَ الأْظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ - لأِحَدٍ مِنَ الْغَانِمِينَ قَبْلَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
31 - هَذَا حُكْمُ بَيْعِ الْغُزَاةِ الْغَانِمِينَ أَنْصِبَتَهُمْ وَمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
أَمَّا حُكْمُ بَيْعِ الإْمَامِ الْغَنَائِمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَقَدْ عَرَضَ لَهُ الْحَنَفِيَّةُ فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَصِحُّ.
لأِنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الإْمَامُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَقَلُّهَا تَخْفِيفُ إِكْرَاهِ الْحَمْلِ عَلَى النَّاسِ، أَوْ عَنِ الْبَهَائِمِ وَنَحْوِهِ، وَتَخْفِيفُ مُؤْنَتِهِ عَنْهُمْ، فَيَقَعُ عَنِ اجْتِهَادٍ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَلاَ يَقَعُ جُزَافًا، فَيَنْعَقِدُ بِلاَ كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا .
كَمَا عَرَضَ لَهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، وَلَهُمْ فِيهِ قَوْلاَنِ:
الأْوَّلُ: وُجُوبُ بَيْعِ الإْمَامِ الأْرْبَعَةَ الأْخْمَاسَ مِنَ الْغَنَائِمِ، لِيَقْسِمَهَا بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ؛ لأِنَّ قِسْمَةَ الأْثْمَانِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُسَاوَاةِ، لِمَا يَدْخُلُ التَّقْوِيمَ مِنَ الْخَطَأِ.
الآْخَرُ: عَدَمُ الْوُجُوبِ، بَلِ الإْمَامُ مُخَيَّرٌ، فَإِنْ شَاءَ بَاعَ وَقَسَمَ الثَّمَنَ، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَ الأْعْيَانَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ.
32 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ كَوْنَهُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، بَعْدَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا. فَقَدْ يَمْلِكُ الإْنْسَانُ مَالاً، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالْجَمَلِ الَّذِي شَرَدَ مِنْ صَاحِبِهِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لأِنَّ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَبِيهٌ بِالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ.
وَمِمَّا يُمَثِّلُ بَيْعَ غَيْرِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ: السَّمَكُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ امْتِلاَكِهِ، وَالطَّيْرُ الْمَمْلُوكُ إِذَا طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَالصَّيْدُ إِذَا انْفَلَتَ بَعْدَ صَيْدِهِ، وَمِنْهُ بَيْعُ الْعَبْدِ الآْبِقِ وَالشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ.
وَالآْبِقُ: مَنْ تَرَكَ سَيِّدَهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ كَدِّ عَمَلٍ.
وَلِهَذَا قِيلَ: إِنْ كَانَ هُرُوبُهُ مِنْ خَوْفٍ أَوْ تَعَبٍ، يُقَالُ لَهُ: هَارِبٌ .
33 - وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَإِنْ تَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: مِنْ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ يَرُدُّ الْعَقْدَ صَحِيحًا، لِقِيَامِ الْعَقْدِ مَعَ الْفَسَادِ، بِخِلاَفِ ارْتِفَاعِ الْمُبْطِلِ؛ لأِنَّ الْعَقْدَ مَعْدُومٌ مَعَهُ وَإِنْ رَجَّحَ الْكَمَالُ مِنْهُمُ الْفَسَادَ، لاِنْعِدَامِ الْقُدْرَةِ فِيهِ عَلَى التَّسْلِيمِ .
وَعَلَّلُوا فَسَادَ هَذَا الْعَقْدِ:
- بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَْنْعَامِ... وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ». - وَلأِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِهِ .
34 - وَمَعَ ذَلِكَ، لَوْ حَصَلَ بَيْعُ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، فَفِيهِ هَذِهِ الصُّوَرُ التَّفْصِيلِيَّةُ الْمَذْهَبِيَّةُ:
الأْولَى: أَنْ يَبِيعَهُ الْمَالِكُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَلْ قَطْعًا كَمَا يُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ ابْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُ: إِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ جَازَ بَيْعُهُ، لإِِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ لَكِنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَوْ لِقَادِرٍ عَلَى تَحْصِيلِهِ .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ فَصَّلُوا فِي صَيْرُورَةِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ قَابِضًا بَعْدَ الْبَيْعِ:
أ - فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الآْبِقَ حِينَ وَجَدَهُ لِنَفْسِهِ، لاَ لِيَرُدَّهُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى قَبْضِهِ لِسَيِّدِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا، لأِنَّ قَبْضَهُ هَذَا قَبْضُ غَصْبٍ، وَهُوَ قَبْضُ ضَمَانٍ، كَقَبْضِ الْمَبِيعِ.
ب - وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَمَا وَجَدَهُ لاَ يَصِيرُ قَابِضًا؛ لأِنَّ قَبْضَهُ هُوَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى سَيِّدِهِ لاَ يَضْمَنُهُ، فَلاَ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ، وَهُوَ قَبْضُ الْمَبِيعِ، لأِنَّهُ أَقْوَى، وَلأِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَالِكِهِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ .
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ الْمَالِكُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى الاِنْتِزَاعِ وَالتَّحْصِيلِ - لَكِنْ بِسُهُولَةٍ كَمَا هُوَ نَصُّ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْمُصَوَّبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقْتَضَى نَصِّ ابْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ .
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنِ التَّسْلِيمِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ الْمَالِكُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي يَدِ أَحَدٍ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
لَكِنَّ الْقَلْيُوبِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَيَّدَهَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُشْرِي قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ بِلاَ مَشَقَّةٍ لاَ تُحْتَمَلُ عَادَةً، وَبِلاَ مُؤْنَةٍ لَهَا وَقْعٌ .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ جَوَازِهَا .
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ.
وَالإْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا، وَهِيَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ.
35 - وَيَتَّصِلُ بِبَيْعِ الآْبِقِ، بَيْعُ الْمَغْصُوبِ:
أ - فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ غَاصِبِهِ، جَازَ بِالاِتِّفَاقِ، وَعَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْجَوَازِ هُنَا لأِنَّ الْمَبِيعَ مُسَلَّمٌ بِالْفِعْلِ إِلَى الْمُشْتَرِي (وَقَبْضُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ، كَقَبْضِهِ قَبْلَهُ، فِي الْمَضْمُونِيَّةِ).. وَقَيَّدَهُ - مَعَ ذَلِكَ - الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْغَاصِبَ عَزَمَ عَلَى رَدِّهِ لِرَبِّهِ .
ب - وَإِنْ بَاعَهُ مِنْ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ أَوْ رَدِّهِ صَحَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِتَيَسُّرِ وُصُولِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي بِلاَ مُؤْنَةٍ وَلاَ مَشَقَّةٍ مَلْحُوظَةٍ عَلَيْهِ فَإِنِ احْتَاجَ الرَّدُّ إِلَى مُؤْنَةٍ انْتَفَى الْمَنْعُ . كَمَا قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِكَوْنِ الْغَاصِبِ مُقِرًّا مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ لاَ. لأِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَهُمْ مَنْعُ شِرَاءِ مَا فِيهِ خُصُومَةٌ . وَالْمُقَرَّرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَغْصُوبِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ مِنْ غَاصِبٍ كَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، لِعَجْزِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ عَنِ التَّسْلِيمِ . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ بَيْعَ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى التَّسْلِيمِ، فَلَوْ سَلَّمَ نَفَذَ، وَإِلاَّ لاَ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ بَيْعِ الآْبِقِ - فَإِنَّهُ فَاسِدٌ بَلْ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ - وَبَيْنَ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ - فَإِنَّهُ صَحِيحٌ - بِأَنَّ الْمَالِكَ فِي بَيْعِ الْمَغْصُوبِ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ بِقُدْرَةِ الْحَاكِمِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِقِيَامِ يَدِ الْغَاصِبِ صُورَةً، فَإِذَا سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ الآْبِقِ، لأِنَّهُ - كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ -: مَعْجُوزُ التَّسْلِيمِ عَلَى الإْطْلاَقِ إِذْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُ أَحَدٍ، لِمَا أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ مَكَانُهُ، فَكَانَ الْعَجْزُ مُتَقَرِّرًا، وَالْقُدْرَةُ مُحْتَمَلَةً مَوْهُومَةً، فَلاَ يَنْعَقِدُ مَعَ الاِحْتِمَالِ، فَأَشْبَهَ بَيْعُ الآْبِقِ بَيْعَ الطَّيْرِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ وَبَيْعَ السَّمَكِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، كَذَا هَذَا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المذكرة الإيضاحية للإقتراح بمشروع القانون المدني طبقا لاحكام الشريعة الإسلامية
( مادة 124)
1- يجب ان يكون الباعث الدافع الى التعاقد جائزا شرعا ، والا كان العقد باطلا .
۲- على أنه لا يجوز للمتعاقد الذي قام لديه الباعث غير المشروع أن يتمسك ببطلان العقد ، الا اذا كان المتعاقد الآخر على علم بهذا الباعث
اختلف الفقهاء في تحديد ماهية السبب . فمنهم من يعتبره رکنا في الالتزام ، ومنهم من يعتبره رکنا في العقد ، ومنهم من يعتبره من عناصر الإرادة . وهذا الراي الأخير رغم صحته لا يفصل في الخلاف لأن السبب ايا كان وضعه يعتبر من عناصر الارادة ، اذ الارادة المعتبرة قانونا تتجه الى التعاقد يحدوها غرض تهدف اليه أو باعث تتحرك . بدافع منه . والصحيح ما يراه فريق من أن للالتزام سببا وللعقد سبب آخر ، فكل من السببين يتميز عن الآخر .
ويظهر هذا التمييز فيما نصت عليه المادة 194 من تقنين الوجبات والعقود اللبناني اذ تقول :« يميز بين سبب الموجب وسبب العقد، ۰ كما نصت المادة ۲۰۰ من هذا التقنين على . أن سبب العقد يكون في الدافع الشخصي الذي حمل الفريق العاقد على انشاء العقد وهو لا يعد جزها غير منفصل في العقد بل يختلف في كل نوع من العقود وان تكن من فئة واحلية ، ونصت المادة ۲۰۱ من هذا التقنين على انه « انا كان سبب العقد غير مباح كان العقد باطلا اصلا •
كما يظهر هذا التمييز فيما نصت عليه المادتان 165 و 166 من التقنين الأردنی : فالمادة 160 من هذا التقنين تتحدث عن م جب الالتزام فتقول :
۱- لسبب هو الغرض المباشر المقصود من العقد .
۲ - ويجب أن يكون موجودا وصحيحا ومباحا غير مخالف للنظام العام أو الآداب والمادة ۱۹۹ من هذا التقنين تتحدث عن سبب العقد فتقول :
1- لايصح العقد اذا لم تكن فيه منفعة مشروعة لعاقدية .
۲ - ويفترض في العقود وجود هذه المنفعة المشروعة ما لم يقم الدليل على غير ذلك ، (م 305 من مرشد الحيران )•
فسبب الالتزام هو الغرض المباشر المجرد الذي يقصد الملتزم الوصول اليه من وراء التزامه . فهو عنصر موضوعی ، وداخل في العقد ، ولا يتغير في النوع الواحد من العقود ، وهذا هو المعنى المقصود من اعتباره الغرض المجرد للملتزم . فمثلا في عقود البيع يكون س بب التزام البائع بنقل الملكية و دائما رغبته في الحصول على الثمن ، ويكون سبب التزام المشتري بدفع الثمن هو دائما رغبته في الحصول على المبيع
--
اما سبب العقد فهو الباعث الدافع الى التعاقد ، أي الباعث الرئيسي الذي جعل المتعاقد يقدم على ابرام التصرف : وهذا الباعث يختلف بطبيعة الحال من شخص إلى آخر فيتغير في النوع الواحد من العقود فهذا يبيع لأنه في حاجة إلى مال ينفقه في اغراض معيشته ، وذاك يبيع لأنه يريد أن يشترى بالثمن شيئا آخر . وفي هذا يختلف سبب العقد عن سبب الالتزام
ولا يتطلب القانون في سبب العقد فيما يتعلق بذاتيته سوی مرط المشروعية ، ای عدم مخالفته للنظام العام والآداب ، اذ لابد لكل ارادة من باعث يحركها والا كانت ارادة غير واعية تصدر من شخص عدیم التمييز .
على انه اذا كان المتعاقد الذي يتمسك ببطلان العقد هو الطرف التي تام لديه الباعث غير المشروع، وجب أن يتوافر شرط آخر لامکان بطلان التصرف ، وهو لا يتعلق بذاتية السيب ، وانما يتعلق باستقرار التعامل ، حيث يجب ان يكون المتعاقد الآخر على علم بهذا الباعث غير المشروع . اذ لا يكون من العدل أن يفاجأ الطرف حسن النية ببطلان التصرف في حين أنه لا يعلم عن ذلك الباعث شيئا . وهذا يتفق مع ما يشترطه القانون في الغلط، لابطال العقد من أن الطرف الذي لم يقع في الغلط يجب ان يكون على علم به أو أن يكون من المفروضی حتما أن يعلم به . كما انه الحل النى ياخذ به القضاء .
اما اذا كان الطرف الذي يتمسك بالبطلان حسن النية وقت قیام العقد ، ولكنه علم بعد ذلك بالباعث غير المشروع، فانه يجاب الى طلب البطلان ، اذ أن هذا لا يمس استقرار التعامل ، كما انه ليس من المقبول أن يكافا الطرف الآثم على نجاحه في اخفاء الباعث غیر المشروع
ويلاحظ أن التقنين اللبناني والتقنين الأردني يميزان في نصوصهما بين سبب الالتزام وسبب العقد على النحو الذي تقدم ذكره ، كما أن فريقا من الفقه المصري والفقه الفرنسي يقول بهذا التمييز ، وهو واضع كذلك في أحكام القضاء، حيث جاءت أغلب التطبيقات القضائية في خصوص الباعث غير المشروع
والفقرة الأولى من المادة المقترحة تطابق في حكمها المادة 116 من التقنين الأردني التي تقول :
1- لا يصح العقد اذا لم تكن فيه منفعة مشروعة لعاقديه :
۲ - ويفترض في العقود وجود هذه المنفعة المشروعة ما لم يقم الدليل على غير ذلك
والمادة المقترحة يطابق في حكمها الفقرة الثانية من المادة 176 من التقنين الكويتي التي تقول : ويعتد في السبب بالباعث المستحث الذي يدفع المتعاقد على التعاقد اذا كان المتعاقد الأخر يعلمه ، او كان ينبغي عليه أن يعلمه .
والباعث الدافع إلى التعاقد له مكان ملحوظ في الفقه الاسلامی - فهو الذي تقام به النوايا على أساس من الاعتبارات الأدبية والخلقية والدينية . ولذلك فان المذهبين الحنبلي والمالكي يعتدان به سواء ذكر في العقد أو لم يذكر ، مادام یکون معلوما من الطرف الآخر ، فاذا كان الباعث مشروعا فالعقد صحيح ، واذا كان غير مشروع فالعقد باطل ( اعلام الموقعين لابن القيم ج ۳ ص 96 – ۹۸ - المغني ج 4 ص 283 ۔ 285 ۰ الحطاب ج 4 ص 267). بل أنه يعتد بالباعث ولو لم يعلم به الطرف الآخر اذا كانت الظروف بحيث ينبغي أن يعلم به ( القواعد لابن رجب می ۳۲۱ و ۳۲۲)
( انظر في هذا : عبد الرزاق السنهوری ، مصادر الحق في الفقه الاسلامی ج 4 ص 53 – 86)
كذلك يستد الفقه الاسلامى الى جانب الباعث الدافع إلى التعاقد باعتباره مببا للعقد ، بسبب الالتزام ( البدائع جزء 5 ص 285) . وسنعود إلى هذه النقطة عند الكلام في المادة التالية .
( مادة 126 )
يكون العقد صحيحا اذا توافرت اركانه أصلا ووصفا ، وهي الرضا ، ممن هو أهل له والمحل والسبب بشروطهما الجوهرية والشكلية حين يفرضها القانون الانعقاد •
هذه المادة مستحدثة
وهي تطابق في حكمها المادة ۱۳۳ من التقنين العراقي التي تنص على ما ياتي :
1 - العقد الصحيح هو العقد المشروع ذاتا ووصفا بان يكون صادرا من اهله مضافا إلى محل قابل لحكمه وله سبب مشروع وأوصافه صحيحة سالمة من الخلل
٢- واذا لم يكن العقد الصحيح موقوفا افاد الحكم في الحال
وتطابق في حكمها المادة 167 من التقنين الأردني التي تنص على ما يأتي := العقد الصحيح هو العقد المشروع بأصله ووصفه بأن يكون صادرا من أهله مضافا إلى محل قابل لحكمه وله غرض قانع وصحيح ومشروع واوصافه صحيحة ولم يقترن به شرط مفسد له
وقد نصت المادة 108 من المجلة على أن ( البيع الصحيح هو البيع الجائز وهو البيع المشروع ذاتا ووصفا )
ونصت المادة ۳۱۱ من مرشد الجيران (217) وصحتها المادة على أن يظهر أثره بانعقاده هو العقد المشروع ذاتا ووصفا
والمراد بمشروعية ذاته ووصفه أن يكون ركنه صادرا من اهله مضافا الى محل قابل لحكمه وان تكون أوصافه صحيحة سالبة من الخلل والا يكون مقرونا بشرط من الشروط المفسدة للعقده
مجلة الأحكام العدلية
مادة (108) البيع الصحيح
البيع الصحيح: هو البيع الجائز وهو البيع المشروع ذاتاً ووصفاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
(مادة 217)
العقد الصحيح الذي يظهر أثره بانعقاده هو العقد المشروع ذاتاً ووصفاً.
والمراد بمشروعية ذاته ووصفه أن يكون ركنه صادراً من أهله مضافاً إلى محل قابل لحكمه وأن تكون أوصافه صحيحة سالمة من الخلل وأن يكون مقروناً بشرط من الشروط المفسدة للعقد.