مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : الثاني، الصفحة : 514
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- يتفرع على وجوب التنفيذ العيني و جوباً نافياً للتخيير، أن الالتزام بنقل حق عيني يترتب عليه انتقال هذا الحق بحكم القانون، من كان محل الالتزام شيئاً معيناً بالذات، ومؤدى هذا، أن الالتزام بنقل حق عيني ينفذ بمجرد نشوئه، وأن القانون نفسه هو الذي يتكفل له بترتيب هذا الأثر.
2- ويجري هذا الحكم فيما يتعلق بالمنقولات، دون أن يرد على إطلاقه أي تحفظ أو قيد، فإذا صدر التصرف في منقول معين بالذات من مالكه، انتقال حق المالك فيه إلى المتصرف له فور الوقت، بل ولا تحول دون ذلك قاعدة، إنزال الحيازة في المنقول منزلة السند المثبت للملكية بالنسبة لأول خلف يدلى إليه المالك بحقه، وقد يقع أن يدخل المنقول في يد خلف ثان حسن النية، تنتقل إليه الحيازة على أثر تصرف ثان يصدر من المالك نفسه، بعد أن زالت عنه الملكية بمقتضى التصرف الأول، وقد تخلص الملكية لهذا الخلف الثاني، ولكن الملكية لا تؤول إليه بمقتضى التزام بنقل حق عيني، بل بطريق آخر من طرق كسب الحقوق العينية، هو طريق الحيازة، ومن الجائز أن يقال إن ملكية المنقول قد انتقلت أولاً إلى الخلف الأول بمقتضى التزام المالك بنقل حق عيني، ثم آلت منه إلى الخلف الثاني من طريق الحيازة .
3- أما العقارات فتحول قواعد التسجيل دون تنفيذ الالتزام بنقل الحق العيني فيها فور الوقت، ويشفع الالتزام بنقل الحق العيني في هذه الحالة بالتزام بعمل، قوامه وجوب اشتراك مالك العقار في تيسير إجراء التسجيل، ولا سها من طريق التصديق على إمضائه، وعلى هذا النحو، يظل تنفيذ الالتزام بنقل الحق العيني على التراخي فترة من الزمن، وهذه هي علة التفريق، في هذا المقام، بين مجرد الالتزام بنقل الملكية وبين انتقالها فعلاً.
4- ويتفرع على ما تقدم أن الدائن أن يتسلم الشيء المعين بذاته الذي التزم المدين أن يدلى به إليه، منقولاً كان أو عقاراً، بتوافر شرطين :
أولهما : أن يكون هذا الشيء مملوكاً المدين وقت إنشاء الالتزام، أو أن تكون ملكيته قد آلت إليه بعد ذلك، والثاني ألا يكون قد ترتب على المعقود عليه حق عيني لأحد من الأغيار، كخلف ثان يحوز منقولاً بحسن نية، أو مشتر آخر آل إليه عقار بمقتضى عقد سبق تسجيله، وقد نص على هذا الحكم في المادة 118/175 من التقنين الحالي، ولم ير المشروع محلاً للتنويه به، بإعتبار أنه يستخلص من دلالة ما تقدم من القواعد العامة.
1- ملكية المنقول تنتقل - فيما بين المتعاقدين وبالنسبة للغير - بمجرد التعاقد إذا كان محل الإلتزام شيئاً معيناً بالذات ، مما مفاده أن تصرف البائع فى الشئ لمشتر ثان يكون صادراً من مالك لأن ملكيته قد إنتقلت منه إلى المشترى الأول . وإذا تعرض الأخير للمشترى الثانى مدعياً ملكية المبيع وإنتزعه منه ، حق للمشترى الثانى الرجوع على بائعه بضمان الإستحقاق .
(الطعن رقم 554 لسنة 46 جلسة 1982/11/18 س 33 ع 2 ص 944 ق 170)
2- إنه و لئن كانت ملكية الأسهم تنتقل من البائع إلى المشترى بمجرد الإتفاق بينهما على ذلك ما دامت الأسهم المبيعة تتعين بالذات طبقاً للمادة 204 من القانون المدنى التى تنص على أن الإلتزام بنقل الملكية أوأى حق عينى آخر ينقل من تلقاء نفسه هذا الحق إذا كان محل الإلتزام شيئاً معيناً بالذات يملكه الملتزم ، وذلك دون إخلال بالقواعد المتعلقة بالتسجيل، وكانت المادة 39 من قانون التجارة حين إستلزمت قيد الأسهم الاسمية فى دفاتر الشركة قد إستهدفت من ذلك فرض قيد على حرية تداولها و جعلت من هذا القيد مناطاً لإثبات ملكيتها والتنازل عنها إلا أن النص فى المادة 461 من القانون المدنى على أنه " فى بيع العروض وغيرها من المنقولات إذا اتفق على ميعاد لدفع الثمن وتسلم المبيع يكون البيع مفسوخاً دون حاجة إلى إعذار إن لم يدفع الثمن عند حلول الميعاد إذا إختار البائع ذلك وهذا ما لم يوجد إتفاق على غيره " يدل على أنه فى حالة بيع المنقولات إذا إتفق على ميعاد لدفع الثمن وتسلم المبيع ولم يدفع المشترى الثمن فى الميعاد فإنه يجوز للبائع أن يعتبر العقد مفسوخاً بدون حاجة إلى إعذار أو حكم من القضاء ، فيقع الفسخ بنص القانون ويكون البائع بمجرد عدم دفع الثمن فى حل أن يعتبر المبيع لم ينتقل من ملكه، ويحق له أن يتصرف فيه تصرف المالك فيبيعه مرة أخرى إذ ورد هذا النص بصيغة عامة تدل على أن حكمه مطلق ، ومن ثم فينصرف إلى البيع سواء كان مدنياً أو تجارياً .
(الطعن رقم 1229 لسنة 47 جلسة 1981/05/04 س 32 ع 2 ص 1366 ق 248)
3- المقرر بحكم المادتين 204 و 932 من القانون المدنى أن ملكية المنقول المعين بذاته تنتقل إلى المشترى بمجرد التعاقد ودون توقف على تسليمه إليه ، مما مؤداه و على نحو ما ورد بالمذكرة الإيضاحية للمادة 932 أنه إذا قام بائع هذا المنقول بعد ذلك ببيعه مرة أخرى إلى مشتر ثان فإن الملكية تبقى مع هذا للمشترى الأول إلا أن يكون البائع قد قام بتسليم المنقول إلى المشترى الثانى ، وكان هذا الأخير حسن النية ولا يعلم بسبق التصرف فى المنقول إلى المشترى الأول ، فإن الملكية تنتقل فى هذه الحالة إلى المشترى الثانى لاعن طريق العقد بل عن طريق الحيازة وهى فى المنقول سند ملكية الحائز ، لما كان ذلك ، وكان الثابت بالعقد موضوع التداعى أن المطعون عليه الثانى باع المنقولات المبينة إلى المطعون عليه الأول على أن يتم تسليمها إليه عند دفع باقى الثمن فى موعد غايته 1976/4/1 وكان الثابت بالعقد الصادر من المطعون عليه الثانى ذاته إلى الطاعنة بتاريخ 1976/1/28 أنه باع إليها المنقولات عينها و أقر بقبض ثمنها وقام بتسليمها إليها ، وإذ خلت الأوراق مما يدل على علم الطاعنة بالتصرف السابق الحاصل للمطعون عليه الأول ، فإنها تكون قد إكتسبت ملكية هذه المنقولات عن طريق الحيازة المقترنة بحسن النية .
(الطعن رقم 293 لسنة 49 جلسة 1980/04/12 س 31 ع 1 ص 1093 ق 210)
4- دعوى صحة و نفاذ عقد البيع هى دعوى إستحقاق مآلا للقدر المبيع ، يقصد بها - على ما جرى به قضاء محكمة النقض - تنفيذ إلتزمات البائع التى من شأنها نقل ملكية البائع إلى المشترى تنفيذاً عينياً والحصول على حكم يقوم تسجيله مقام تسجيل العقد فى نقل الملكيه ويتعين عند الفصل فيها بحث ما عسى أن يثار من منازعات بشأن ملكية البائع للمبيع كله أو بعضه .
(الطعن رقم 161 لسنة 33 جلسة 1967/01/31 س 18 ع 1 ص 281 ق 42)
5- متى كان المبيع جزافا فإن الملكية فيه تنتقل إلى المشترى بمجرد تمام العقد طبقا للمواد 429 و 204 و 932 من القانون المدنى و لو كان تحديد الثمن موقوفا على تقدير المبيع كما يتم تسليم المبيع فيه طبقا للمادة 435 بوضعه تحت تصرف المشترى بحيث يتمكن من حيازته و الإنتفاع به دون عائق و لو لم يستول عليه إستيلاء ماديا ما دام البائع قد أعلمه بذلك .
(الطعن رقم 276 لسنة 33 جلسة 1968/03/28 س 19 ع 1 ص 622 ق 94)
الالتزام بنقل الملكية أو حق عيني معيناً بذاته :
الالتزام بنقل الملكية أو أى حق عينى آخر ينقل من تلقاء نفسه هذا الحق إذا كان محل الالتزام شيئاً معيناً بالذات يملكه الملتزم، ومفاد ذلك أن ملكية الشيء المعين بالذات الغير خاضع لقواعد التسجيل تنتقل فى ذات الوقت الذى نشأ فيه الالتزام وبحكم القانون أما الشيء المعين بالذات الخاضع لقواعد التسجيل، فإن ملكيته تنتقل بالتسجيل استناداً الى التزام سابق بنقلها ومن ثم تعين التفرقة بين الالتزام بنقل ملكية العقار وبين الالتزام بنقل ملكية المنقول.
أولاً : الإلتزام بنقل ملكية عقار أو ترتيب حق عينى عليه :
يترتب على العقد العرفى إنشاء التزامات شخصية فيما بين المتعاقدين، فيلتزم البائع لعقار أن ينقل ملكيته إلى المشتري وذلك بالتصديق على توقيعه وتقديم مستندات الملكية لمصلحة الشهر العقارى لإتمام التسجيل فالالتزام بنقل الملكية ينشأ بمجرد التعاقد أما نقل الملكية إلى المشتري فيتراخي لحين إتمام إجراءات التسجيل، وذلك بالنسبة للحقوق العينية الأصلية كحق الملكية وحق الارتفاق وحق الانتفاع، وأيضاً بالنسبة للحقوق العينية التبعية كالرهن الرسمي والحيازي والاختصاص والامتياز، فلتلك الحقوق الأخيرة تنشأ وتنتج آثارها بمجرد نشوء الالتزام بترتيب حق عيني تبعي يوجب على الملتزم أن يجعله أيضاً نافذاً فى حق الغير بإتمام إجراءات القيد حتى يكون نافذاً فى مواجهة الغير.
وتسرى أحكام التسجيل بالنسبة للحقوق العينية الأصلية على نحو ما أوضحناه بالمادة 934 وأحكام القيد بالنسبة للحقوق العينية التبعية على نحو ما أوضحناه فيما يتعلق بقيد هذه الحقوق .
ولما كان تنفيذ الالتزام بنقل حق الملكية أو بترتيب حق عيني على عقار، لا يتطلب تدخلاً من المدين، لذلك كان للدائن أن يستصدر حكماً من القضاء يقوم مقام العقد المصدق عليه من المدين على نحو ما أوضحناه بالمادتين 210 و 428 .
ثانياً : الإلتزام بنقل ملكية منقول أو ترتيب حق عينى عليه :
إذا التزم المدين بنقل حق الملكية فى المنقول المعين بالذات والمملوك له الى الدائن، أو التزم بأن يرتب عليه حقاً عينياً تبعياً كرهن حيازة فإن هذا الإلتزام ينفذ فور صدوره، فيصبح الدائن مالكاً لهذا المنقول أو مرتهناً له رهن حيازة دون حاجة الى التسليم، إذ تترتب هذه الحقوق بحكم القانون فور نشوء الالتزام.
فإذا قام المدين بالتصرف فى المنقول مرة أخرى، وكان المنقول لم يزل فى حيازته، فإن الملكية تظل للمتصرف إليه الأول، أما إن تسلم المتصرف إليه الثانى هذا المنقول وكان حسن النية لا يعلم بالتصرف السابق فإنه يتملكه بموجب قاعدة الحيازة فى المنقول سند ملكية الحائز، ولذلك يتعين على المصارف إليه الأول إذا علم بالتصرف الثاني أن يبادر بإخطار المتصرف إليه الثانى قبل أن يتسلم المنقول بأنه يتعامل فى منقول غير مملوك للمتصرف، ومتى تم هذا الإخطار قبل التسليم أصبح بالعقد إنما بالحيازة وحسن النية وقد كان سىء النية عندما تسلم المنقول .
أما إن تسلمه وهو حسن النية، كان مالكاً له، بموجب قاعدة الحيازة لا بموجب العقد، وتكون الملكية قد انتقلت إليه من المالك وهو المتصرف إليه الثاني لا من المتصرف الذي يعتبر متصرفاً في ملك غيره .
وتسري نفس هذه الأحكام بالنسبة للالتزام بترتيب رهن حيازى وقد يتطلب القانون التصديق على توقيع البائع لنقل الملكية فى بعض المنقولات، كالسيارات، وحينئذ يقوم حكم القاضى مقام هذا التصديق إذا امتنع البائع عن إجرائه على نحو ما أوضحناه بالمادة 428 بند صحة ونفاذ عقد سيارة .
المطالبة بالمنقول المعين بذاته بطريق أمر الأداء :
كانت المادة 201 من قانون المرافعات تقصر أوامر الأداء على الدين من النقود المعين المقدار أو المنقول المعين بنوعه ومقداره، وبموجب القانون رقم 23 لسنة 1992 أضاف المشرع اليها المنقول المعين بذاته، وهو دائماً قيمى لا يحل غيره محله فى الوفاء، وينتقل الحق الذى يتقرر عليه الى الدائن فور نشوء الالتزام وبحكم القانون ولو قبل التسليم، سواء كان هذا الحق هو حق ملكية أو أى حق عيني آخر كحق انتفاع أو إيجار أو رهن حيازى نفذ فى حق ملكية أو أى حق عيني آخر كحق إنتفاع أو إيجار أو رهن حيازي نفذ في حق الغير، ويكون تنفيذ هذا الالتزام جبراً على المدين ممكناً إذ لا يتطلب تدخلاً شخصياً منه، ومتى استصدر الدائن أمراً بإلزام المدين بأداء هذا المنقول وكانت ملكيته مازالت للمدين، جاز تنفيذ التزامه جبراً عليه، وهذا يتطلب بقاء المنقول في حيازة المدين، فإن انتقلت الحيازة الى الغير حسن النية، امتنع التنفيذ بطريق التعويض .
وقد يرد التزام المدين على التزام بتسليم منقول معين بنوعه ومقداره، وباتفاق لاحق، يتم إفرازه وحينئذ يصبح التزام المدين التزاماً بأداء منقول معين بذاته مثال ذلك أن يلتزم المدين بتسليم مائة ثلاجة من ماركة معينة، وهى منقولات معينة بنوعها، ثم يقوم بإفرازها بإثبات رقم مواتيرها وما يميز كل منها عن الأخرى، فتصبح بذلك منقولات معينة بذاتها، وإن كان مؤدى التعديل الذي أدخله المشرع على المادة 201 من قانون المرافعات بموجب القانون رقم 23 لسنة 1992 التزام الدائن بسلوك طريق أمر الأداء عند المطالبة بالمنقول سواء كان معيناً بذاته أو بنوعه، إلا أن هذه التفرقة تفيد إذا أراد الدائن توقيع حجز تحفظى إن كان المنقول معيناً بذاته ويمتنع توقيعه إن كان المنقول معيناً بنوعه ولم يفرز بعد .
ويرد أمر الأداء على المنقول المعين بذاته بطبيعته كسيارة مبين رقم لوحتها المعدنية وماتورها وشاسيهها وماركتها وموديلها ولونها بما يكفي لتحديدها عن غيرها، وقد يرد على المنقول المعين بذاته بحسب المآل، كما لو تصرف المدين في نوافذ عقاره الصادر به قرار إزالة ولم يطعن فيه ولم يصدر حكم نهائى بتأييده، ظل المنقول على طبيعته وقت نشوء الالتزام عقاراً بالتخصيص مما يؤدى الى امتناع القاضي عن إصدار الأمر وتحديد جلسة لنظر الدعوى، كما يمتنع توقيع الحجز التحفظى لإقتصار ذلك على المنقول بطبيعته أو بحسب المال ويمتنع على العقار بطبيعته والعقار بالتخصيص. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : الرابع، الصفحة : 180)
يجب التمييز هنا بين حالتين :
(الحالة الأولى) أن يكون محل الالتزام شيئاً معيناً بالذات يملكه الملتزم .
(الحالة الثانية) أن يكون محل الالتزام شيئاً لم يعين إلا بنوعه .
نقل الملكية يسبقة التزام بنقلها – التمييز بين المنقول والعقار : ويتبين من هذا النص أن الالتزام بنقل حق عينى - سواء كان الحق العينى حق ملكية أو أى حق عينى آخر كحق انتفاع أو حق ارتفاق أو حق رهن - يتم تنفيذه من تلقاء نفسه، فينتقل الحق العيني إلى الدائن يحكم القانون، إذا كان الشيء الذى يقع عليه الالتزام شيئاً معيناً بالذات يملكه المدين.
فإذا كان الشيء الذى يقع عليه الالتزام منقولاً وكان عيناً معينة مملوكة للمدين، كسيارة معينة بالذات أو مجوهرات التقنين المدنى المختلط اختيارها بأعيانها، فإن الالتزام بنقل حق عيني على هذا المنقول يتم تنفيذه بمجرد نشوئه، فإذا باع شخص سيارة معينة بالذات من آخر أو رهنا رهناً حيازياً لضمان دين في ذمته، كان ملتزماً بنقل ملكية السيارة إلى المشتري أو بترتيب حق رهن حيازى عليها لمصلحة الدائن المرتهن، ومتى نشأ هذا الالتزام فى ذمة المدين تم تنفيذه بمجرد نشوئه، فتنتقل ملكية السيارة فعلاً إلى المشترى أو يترتب حق الرهن فعلاً لمصلحة الدائن المرتهن، وذلك دون حاجة إلى أى إجراء آخر من تسليم أو نحوه .
أما إذا كان الشيء الذى يقع عليه الالتزام عقاراً معيناً بالذات ومملوكاً للمدين، كدار أو أرض محددة، فإن الالتزام بنقل حق عينى على هذا العقار لا يتم تنفيذه بمجرد نشوئه، بل تجب مراعاة قواعد التسجيل بالنسبة إلى الحقوق العينية الأصلية كالملكية والارتفاق والانتفاع، وقواعد القيد بالنسبة إلى الحقوق العينية التبعية كالرهن الرسمية والاختصاص ورهن الحيازة، على أن عدم التسجيل لا يمنع من نشوء الالتزام بنقل الملكية أو الحق العينى، لأن هذا الالتزام إنما ينشأ من العقد، والتسجيل إنما ينفذ الالتزام لا ينشئه.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : الثاني، المجلد : الثاني، الصفحة : 1004)
الالتزام بنقل الملكية في المنقول المعين بالذات ينفذ تلقائياً وبقوة القانون فلا يبقى بعد ذلك إلا مطالبة المدين بتسليم المنقول، وهذا الالتزام بعمل يمكن تنفيذه جبراً على المدين، ذلك أن الالتزام بالإعطاء يتضمن دائماً التزام المدين بالمحافظة على الشيء وبتسليمه .
ولا يشترط القانون أي شرط خاص لانتقال الملكية أو الحق العيني، فيعتبر المشتري مالكاً للمبيع بمجرد العقد ولو لم يكن قد استلمه من البائع.
ولا يغير من هذا الحكم أن البائع قد يبيع المنقول مرة ثانية إلى مشتر ثان يستلمه وهو حسن النية فتنتقل إليه الملكية بمقتضى قاعدة الحيازة في المنقول سند الحائز (م 976) وذلك لأنه ليس معنى هذا أن الملكية لم تنتقل إلى المشتري الأول نتيجة لعدم تسلمه المبيع، وإنما انتقلت الملكية إليه بمجرد العقد مادام المبيع منقولاً معيناً بذاته، أما المشتري الثاني، فلم يتلق الملكية من البائع بمقتضى البيع الثاني، إذ أنها قد زالت من البائع بمقتضى البيع الأول، بل يرجع سبب اكتسابه الملكية إلى واقعة الحيازة المستندة إلى سبب صحيح والمقترنة بحسن نية.(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : الثالث، الصفحة : 359)
في الالتزام بإعطاء شيء يكون محل الالتزام إنشاء أو نقل حق حتى على شيء، سواء أكان هذا الحق العيني حق ملكية أم حقاً عينياً اخر، وسواء في هذه الحالة الأخيرة أكان هذا الحق العيني الآخر حقاً أما أم حقاً تبعياً، كالالتزام بنقل ملكية سيارة معينة، أو بانشاء حق الشقق على أرض لمصلحة مالك الأرض المجاورة، أو بإنشاء رهن على حلية من الذهب أو الماس أو على منزل معين .
والشيء المتعهد بنقل الحق العينى أو بانشائه عليه أما أن يكون منقولاً وإما أن يكون عقاراً .
ومؤدى هذا النص أن الحق العيني الذي تعهد الدين بنقله على شيء معين بالذات ينتقل في الحال بمجرد التعهد، ويصبح الالتزام منفذاً من وقت نشوئه بشرط أن يكون المدين مالكاً الحق الذي تعهد بنقله، وألا يكون العقد قد عين أجلاً لانتقال الملكية، فإن كان محل الإلتزام نقل ملكية سيارة معينة وجب أن يكون الملتزم مالكاً هذه السيارة، وأن كان محله إنشاء أو نقل حق رهن على سيارة، وجب أن يكون المتعهد مالكاً السيارة أو مالكاً حق الرهن عليها، فإذا تحقق هذا الشرط صار الدائن مالكاً الشيء أو الحق العينى عليه بمجرد نشوء الالتزام بنقله .
ويترتب على ذلك أنه اذا اشترى شخص حصاناً معيناً بالذات، ملكه من وقت العقد ومن قبل أن يتسلمه أو يدفع ثمنه وجاز لدائنيه أن يوقعوا الحجز عليه في يد البائع، ولا يكون حينئذ لهذا أن يعارض في الحجز أو يرفع دعوى الاسترداد، وان كان له التمسك بحق الحبس كما سيجيء في نبذة.
ويلاحظ أن هذا النص قد ورد بصيغة مطلقة تشمل المنقول و العقار على حد سواء متى كان معيناً بالذات، غير أنه إذا اشترط في ختامه عدم الإخلال بالقواعد المتعلقة بالتسجيل، يكون في الواقع قد جعل حكمه مقصوراً على الالتزام بنقل حق عيني على منقول معين بالذات لأن القواعد المتعلقة بالتسجيل - وهي يتضمنها الآن قانون الشهر العقاري - تجعل الالتزام بنقل حق عيني أصلي على عقار يحتاج في تنفيذه إلى تسجيل التصرف المنشيء أو المقرر لهذا الالتزام .
ويلاحظ أيضاً أن هذا الحكم الذي نصت عليه المادة 204 يبدو غريباً من حيث أنه يجعل الالتزام منفذاً من وقت نشوئه أي أنه يقرر أن الإلتزام بنقل حق عيني على منقول معين بالذات ينشأ وينقضي في وقت واحد، أي أنه يولد ويموت في اللحظة ذاتها وأنه بالرغم من موته بمجرد ميلاده يتخلف عنه أثر في غاية الأهمية هو انتقال حق عینی من الملتزم بنقل هذا الحق الى دائنه ولم يصل القانون دفعة واحدة الى هذا الحكم الذي تبدو غرابته، بل كان ذلك نتيجة تطور طويل يحسن الإلمام به لفهم الحكم على حقيقته.
ويلاحظ أن هذا التحفظ لا يتعلق الا بالحقوق العينية الأصلية العقارية فهو لا يشمل الحقوق العينية التبعية الواردة على عقار لأنها لا تسری عليها أحكام التسجيل بل أحكام القيد، وهو فوق ذلك لا يشمل الحقوق العينية التبعية الواردة على منقول مع أن الالتزام بهذه الحقوق لا يكفى بذاته لنقلها بالنسبة الى الغير
وقد حذا المشرع المصرى حذو المشرع الفرنسي في ذلك، فنص على هذه القاعدة في المواد 45 / 67 و 91 / 145 و 92 / 146 من التقنين الملغي، ثم أعاد النص عليها في المادة 204 من التقنين المدني الحالي .
شروط تطبيق قاعدة انتقال الملكية بمجرد نشوء الالتزام بنقلها :
ظهر من تاريخ هذه القاعدة أن المشرع قد وصل إليها من طريق افتراض المتعاقدين، أي افتراض حصول الاتفاق بينهما على أن التسليم الذي كان لا بد منه لنقل الملكية يعتبر قد تم بمجرد التعاقد، أما أن اتفق الطرفان على غير ذلك، كأن نصاً صراحة في العقد على أن الملكية لا تنتقل إلى المشتري إلا بعد مدة معينة أو بعد قيامه بإلتزام معين، فإن هذا الاتفاق يحول دون انتقال الملكية فوراً، أي أنه يجعل العقد لا ينشئ إلا التزاماً شخصياً بنقل الملكية يلزم تنفيذه عند حلول الأجل المتفق عليه أو قيام المشترى بما التزم به كما يحدث في الإيجار الذي يقصد به البيع.
وفي ضوء ذلك يمكن أن نحدد شروط تطبيق هذه القاعدة فيما يلي :
1- أن يكون محل الالتزام موجوداً وقت نشوء الالتزام لأنه لو كان محتمل الوجود مستقبلاً، فإنه لا يكون بعد صالحاً لأن يرد عليه حق ملكية فلا يتصور أن تنطبق عليه هذه القاعدة.
2- يجب أن يكون محل الالتزام نقل حق عيني على شيء معين بالذات، لأن الحق العيني لا يتحقق إلا على شيء من هذا النوع، فإذا نشأ التزام بنقل ملكية مائة أردب من القمح مثلاً كان عدم تعيين القمح المبيع بالذات مانعاً من انتقال ملكيته بمجرد الاتفاق المنشئ للالتزام .
ويعتبر الشيء المقدر « جزافاً في حكم الشيء المعين بالذات، فإذا اشتريت كل البرتقال الموجود في سلة معينة انتقلت إليك ملكيته فور ( المادة 429 ).
3- وأن يكون الشيء المطلوب نقل ملكيته أو نقل أي حق عيني آخر عليه مملوکاً - هو أو الحق العيني المذكور - للملتزم بنقله، لأنه اذا لم يكن كذلك استحال انتقال الحق العيني من الملتزم به الى دائنه بمجرد نشوء الالتزام، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولأن الملتزم لا يستطيع أن يدلي إلى غيره بما لا يملك.
4- وأن يكون الالتزام بنقل الملكية أو الحق العيني الآخر التزاماً باتاً منجزاً أي غير معلق على شرط ولا مضاف إلى أجل، والا فيكون مما يخالف قصد العاقدين انتقال الحق المتعهد به من نشوئه.
5 - أن لا يكون في القانون نص على أن شيئاً معيناً لا تنتقل ملكيته بمجرد العقد النص الوارد في المادة 3 من القانون التجاري البحري القاضي بأن ملكية السفن لا تنتقل بين المتعاقدين أنفسهم إلا بموجب عقد رسمي.
اختلاف التنفيذ القهري المباشر باختلاف محل الالتزام :
ويجب أن نفرق في التنفيذ العيني القهري المباشر بين أنواع الالتزام الثلاثة : الالتزام بإعطاء شيء، والالتزام بالقيام بعمل، والالتزام بالامتناع عن عمل.
التنفيذ القهري في الالتزام بإعطاء شيء :
الالتزام بإعطاء شيء ينفذ بمجرد نشوئه وبقوة القانون إذا كان محله منقولاً معيناً بالذات، فلا يتصور فيه الالتجاء إلى التنفيذ القهری.
أما إن كان محله عقاراً، فقد رأينا أن الحق العيني لا ينتقل فيما بين الطرفين ولا بالنسبة إلى الغير إلا بالتسجيل.
ومتى انتقل الحق العيني، بقي أن يسلم الشيء تسليماً مادياً إلى صاحب الحق فيه کی يحوزه وينتفع بحقه عليه وقد نصت المادة 206 مدني على أن الالتزام بنقل حق عيني يتضمن الالتزام بتسليم الشيء والمحافظة عليه حتى التسليم .
فيشمل الالتزام بنقل حق عيني على عقار التزاماً بنقل الحق ذاته، وهو يحتاج في وفائه إلى إجراءات قانونية معينة، والتزاماً آخر بتسليم الشيء تسليماً مادياً، وهو يعتبر التزاماً بعمل، ولكنه عمل متصل بعین معينة، الأمر الذي حدا المشرع المصري أن يخصه في التقنين الملغي بنص خاص.
والإجراءات القانونية اللازمة لنقل الحق العيني، تلخص في تحرير عقد على ورق من نوع خاص، والتأشير عليه من مصلحة المساحة بأنه صالح للشهر بعد تحققها من مطابقة الحدود الواردة فيه لما هو مدون بسجلات المصلحة، والتوقيع على هذا العقد أمام موظف مختص بالتصديق على التوقيع، ثم تقديم هذا العقد إلى التسجيل.
وغني عن البيان أن الدائن يستطيع أن يقوم وحده بأكثر هذه الإجراءات، ولا يحتاج غالباً إلى المدين إلا في التوقيع على العقد أمام الموظف المختص، فإن قام المدين بذلك كان وفاؤه بالالتزام اختيارياً، وإلا جاز للدائن أن يلجأ إلى طلب الوفاء القهري، ويكون ذلك بأن يطلب الدائن من المحكمة الحكم بثبوت التعاقد، وحينئذ يقوم هذا الحكم مقام العقد المصدق على توقيعه، ويسجل الدائن هذا الحكم، فينتقل بذلك إليه الحق العيني الذي التزم المدين بنقله، ويكون التزام المدين قد نفذ بذلك تنفيذاً عينياً بالرغم منه.
ولم يكن في التقنين الملغي نص على ذلك، لأن هذه الحالة نشأت عن قانون التسجيل الصادر في سنة 1933، وقد وصلت المحاكم إلى هذا الحل عن طريق تطبيق المبادئ العامة (60 مكرر)، وقد رأی واضعو التقنين الحالى أن ينصوا على هذا الحكم، فقرروا في المادة 210 منه أنه في الالتزام بعمل، يقوم حكم القاضي مقام التنفيذ، إذا سمحت بهذا طبيعة الالتزام.
أما بالنسبة إلى الالتزام بتسليم العين التي يرد عليها الحق العيني، فقد كانت المادة 118 / 180 مدني قديم تنص على أنه « إذا كان الدين عيناً معيناً، جاز للدائن أن يحصل على وضع يده عليها متى كانت مملوكة للمدين وقت التعهد أو حدث ملكه لها بعده، ولم يكن لأحد حق عيني عليها»، ومفاد ذلك أنه يجوز للدائن أن ينفذ الالتزام بالتسليم تنفيذاً قهرياً عن طريق السلطة العامة ما دام الشيء معيناً ومملوكاً للمدين، وقد تقدم أنه لا بد في ذلك من أن يكون لدى الدائن حكم أو سند رسمی وقد رأى واضعو التقنين الحالي أن هذا الحكم من البداهة بحيث لا يحتاج إلى النص عليه.
وإذا كان محل الالتزام بإعطاء شيء غير معين إلا بنوعه ومقداره، فقد تقدم أن ملكية هذا الشيء تنتقل بمجرد فرزه، فإن امتنع المدين عن فرز الشیء جاز للقاضي أن يخول الدائن حق القيام بفرز المقدار المستحق له بنفسه، أو بخبير يقوم بإجراء الفرز والتعيين، إذا كانت لدى المدين أشياء من هذا النوع.
وإذا لم تكن لدى المدين أشياء من هذا النوع، جاز للدائن أن يحصل على إذن من القاضي في أن يشتري لنفسه شيئاً من النوع ذاته، وفي حالة الاستعجال يجوز له الشراء دون إذن القاضي (المادة 205 فقرة ثانية)، وهذا دون إخلال بحقه في التعويض عما أصابه من ضرر بسبب تأخر المدين في الوفاء واضطراره هو إلى الشراء.
ويجوز للدائن أن يستغني عن الشراء من السوق وأن يطالب المدين بقيمة الشيء وقت استحقاق التنفيذ دون إخلال بحقه في التعويض وإذا كان الشيء من السلع التي لها سوق تحدد أسعارها، جاز للدائن أن يقتصر على المطالبة بالفرق بين الثمن المتفق عليه وسعر السوق وقت استحقاق التنفيذ.
وقصارى القول أن القاعدة هي إمكان التنفيذ العيني القهري في الالتزامات بنقل حق عینی، إلا حيث يتعذر ذلك استثناء ويتعين الالتجاء إلى التنفيذ بمقابل كما في الأحوال الآتية :
(1) إذا هلك الشيء المعين بالذات، فإن كان هلاكه بخطأ المدين جاز للدائن طلب التنفيذ بمقابل أي من طريق التعويض وأن كان الهلاك دون خطأ من المدين، فأما أن يؤدي إلى انفساخ العقد فتبرأ ذمة الدائن من التزامه في مقابل انقضاء التزام المدين بهلاك محله وأما أن لا يؤدي إلى الانفساخ، فينقضي التزام المدين ولكن يتعين على الأخير أن ينقل إلى الدائن ما قد ينشأ له من حقوق بسبب الهلاك كالحق في مبلغ التأمين أو في أي تعويض تقرره الحكومة لضحايا حادث من الحوادث التي تعتبر قوة قاهرة (63 مكرر).
(2) إذا كان الشيء المعين بالذات غير مملوك للمدين.
(3) إذا كان الشيء مثلياً ويتعذر الحصول على مثله.(الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء : السادس، الصفحة : 47)
شروط تطبيق قاعية انتقال ملكية المبيع بمجرد العقد - يبين من نص المادة 204 ذاته انه يتطلب شرطين أساسيين لانطباق حكمه هما أن يكون المبيع معيناً بذاته وأن يكون مملوكاً للبائع، وهناك شرط أولي يقتضيه توافر الشرطين المذكورين وهو أن يكون المبيع موجوداً وقت العقد لأنه اذا لم يكن كذلك تعذر أن يكون معيناً بذاته ومملوكاً للبائع .
ويؤخذ من نفس وضع المادة 204 في الباب الثاني الخاص بآثار الالتزام غير الموصوف وفي الفصل الأول منه المتعلق باستحقاق التنفيذ العيني وطريقة حصوله أنه يفترض أن الالتزام غير معلق على أجل أو شرط أي أنه مستحق الأداء، ويعتبر ذلك شرطاً رابعاً لانطباق النص، وكذلك يفترض هذا النص أيضاً عدم اشتراط القانون أی شرط آخر لنقل ملكية نوع معين من المنقولات .
وبناءً على ذلك تكون شروط تطبيق قاعدة انتقال الملكية بمجرد عقد البيع خمسة، هي :
1- ان يكون المبيع موجوداً وقت العقد لأنه اذا كان محتمل الوجود مستقبلاً كما في بيع محصول متقبل أو سلعة يراد منعها، فإنه لا يكون بعد صالحاً لأن يرد عليه حق ملكية لا للبائع ولا للمشتري، فلا يتصور أن تنطبق عليه القاعدة، فبيع المحصول القبل لا يجعل المشتري مالكاً هذا المحصول، بل يجعله فقط دائناً به للبائع، فإذا ما تحقق وجود المحصول و وقت ما بعد البيع صار المشتري مالكاً إياه ابتداءً من هذا الوقت فقط الزوال المانع من نشوء حق الملكية وهو عدم وجود الشيء وبشرط توافر الشروط الأخرى الواردة فيما بعد، وكذلك في بيع العقار تحت الانشاء، فيمكن أن تنتقل إلى المشتري ملكية الأرض منذ تسجيل العقد ثم تنتقل إليه ملكية أجزاء العقار المبيع على التوالي بمجرد انشاء كل جزء منها .
2- أن يكون المبيع معيناً بالذات وفقاً لما تقدم في نبذة 77 وما بعدها، وهذا الشرط تقتضيه - فوق نص المادة 204 عليه - طبيعة الأشياء، لأن الملكية - بإعتبارها حقاً عينياً - لا يمكن ورودها إلا على شيء معين بالذات، فلا تستطيع إرادة العاقدين وحدها أن تحقق أثراً تأبي طبيعة القانونية تحققه دون توافر شروطه، فإذا ورد البيع على مائة أردب من القمح مثلاً غير معينة إلا بنوعها ومقدارها، كان عدم تعيين القمح المبيع بذاته مانعاً من انتقال ملكيته بمجرد عقد البيع ولو نص في العقد صراحة على أن يصبح المشتري مالكاً القدر البيع من وقت العقد .
على أن الاشياء المثلية التي يعتبر الأصل فيها أن تعين الا بذاتها بل ببيان نوعها ومقدارها يسري عليها حكم المادة 204 من حيث انتقال ملكيتها بمجرد العقد اذا عينت بظروف من الزمان أو المكان تميزها عن غيرها، كما في بيع الثمار الموجودة في سلة معينة او القطن الناتج من ارض محدودة في موسم معين، ويستوي في ذلك أن يكون الثمن محدداً لها جملة أو محدداً بسعر الوحدة، ويسمى البيع في الحالتين بيعاً جازفاً ويميزه عن البيع العادي للمثليات آن محله يكون معيناً لا بعدده أو وزنه أو وكيله أو قياسه، بل بظروف من الزمان والمكان تفرزه عن بقية جنسه وتحدده تحديداً ذاتياً، هذا ولو تم البيع بسعر الوحدة وكان تعیین ثمن المبيع كله يقتني عدد أحاده أو وزنه أو کيله أو قياسه، لأن ما يلزم لتعيين، الثمن في هذه الحالة غير لازم لتعيين البيع ذاته، فلا يتوقف عليه النقال ملكية البيع، وقد نصت المادة 429 على أنه إذا كان البيع جزافاً، انتقلت الملكية إلى المشتري على النحو الذي تنتقل به في الشيء المعين بالذات، ويكون البيع جزافاً ولو كان تحديد الثمن موقوفاً على تقدير المبيع .
و يسري هذا الحكم أيضاً ولو اقتصر البيع على حصة شائعة من الشيء المعين جزافاً كبيع نصف القطن الناتج هذا العام من الفدان الفلاني، أما اذا ورد البيع على ثلاثة قناطير مثلاً من هذا القط، فإنه لا يعد بيعاً جزاناً ولا يأخذ حكم بيع المعين بالذات، بل يسري عليه حكم بيع المعين بنوعه و مقداره .
ويسري ذلك أيضاً على بيع الأشياء المستقلة، حيث أن انتقال ملكيتها بمجرد تحقق وجودها يفترض كونها معينة بذاتها منذ وجودها، كما في بيع شیء تعهد البائع بصنعة خصيصاً للمشتري كثوب أو حذاء أو تمثال أو صورة، وفي بيع محصول أرض معينة في موسم بدائه، أما اذا ورد البيع على أشياء مستقبلة معينة بنوعها فقط، فلا تنتقل ملكيتها بمجرد وجودها وإنما لا بد في ذلك من فرزها، أی فن تعيينها بالذات، كما في ابع عشرة قناطير من محصول القطن المقبل، ولو عينته الأرض التي سينتج منها ذلك المحمول، فلا تنتقل ملكية البيع بمجرد ظهور الحصول، بل بعد فرز القناطير العشرة من ذلك المحصول وتعيينها بالذات.
وكذلك اذا كان محل البيع تخییریاً، أي أحد شيئين أو أحد اشیاء عدة، فإنه لا يصح معيناً بالذات إلا عندما يعمل صاحب الخيار خياره، فإن انتقال ملكية المبيع يتراخى إلى ذلك الحين.
وإذا كان المبيع مثلياً واجب التسليم في مكان غير محل وجوده وقت العقد كما هو الغالب في البيوع التجارية، فمن المقرر أن تعيين الشيء بذاته يتم تسليمه إلى الناقل، فتنتقل ملكيته إلى المشتري بمجرد تسلم الناقل إياه، اذ يعتبر الناقل وكيلاً عن المشتري في تسلمه، غير أن بعض الفقه يرى أن تسليم المبيع إلى الناقل إذا كان يكفي لنقل ملكيته إلى المشتري، إلا أن نقل تبعة هلاك المبيع إلى المشتري ترتبط بتسلم هذا الأخير المبيع من الناقل، وقد أخذت بذلك اتفاقية فيينا لعقد البيع الدولي (11 مكرر) .
3- وأن يكون المبيع مملوکاً للبائع وقت البيع، لأنه اذا لم يكن كذلك استحال انتقال ملكيته من البائع الى المشتري فور العقد، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولان الملتزم لا يستطيع أن يدلي إلى غيره بما لا يملك، وقد تقدم في نبذة 88 وما بعدها أن بيع ملك الغيرعاجز لهذا السبب ذاته عن أن ينقل ملكية المبيع الى المشتري وانه الملك يكون قابلاً للإبطال الى أن يكسب البائع ملكية المبيع فتنتقل منه الى المشتري أو يقر المالك البيع فيترتب على اقراره انتقال الملكية إلى المشتري .
4- وأن يكون التزام البائع بنقل ملكية المبيع التزاماً باتاً منجزاً ای غير معلق على شرط ولا مضافاً الى أجل، وإلا فإنه يكون مما يخالف قصد العاقدين انتقال ملكية المبيع الى المشتري من وقت العقد، ذلك أن قاعدة انتقال ملكية البيع المعين بالذات بمجرد العقد به أو اعتبار بيع المنقول المعين بالذات ناقلاً الملك بمجرد إبرامه - لا تتعلق بالنظام العام ولا تنفي إمكان الاتفاق على تعليق البيع كله على شرط أو على جعل تنفيذ الالتزام بنقل ملكية المبيع مضافاً إلى أجل أو معلقاً على شرط، وقد تقدم ان البيع بشرط التجربة تتوقف آثاره على نتيجة التجربة، وان الإيجار الذي يقصد به البيع لا بنقل ملكية المبيع المعين بالذات إلا بعد أن يتحقق شرط وفاء جميع أقساط الثمن في آجالها، كما أنه لا مانع من أن يشترط البائع في عقد البيع أجلاً لتنفيذ التزامه بنقل ملكية المبيع، تتبقي له الملكية ولا تنتقل منه الى المشتري حتى يحل الأجل المذكور.
5- وأن لا يكون في القانون تنص على أن شيئاً معيناً لا تنتقل ملكيته بمجرد العقد كالنص الوارد في المادة 3 من القانون التجاري البحري القاضي بأن ملكية السفن لا تنتقل بين المتعاقدين أنفسهم إلا بموجب عقد رسمي. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء : السابع، الصفحة : 357)
ومؤدى هذا أن الالتزام بنقل حق عيني ينفذ بمجرد نشوئه وأن القانون نفسه هو الذي يتكفل له بترتيب هذا الأثر ويجري هذا الحكم فيما يتعلق بالمنقولات دون أن يريد على إطلاقه أي تحفظ، ولا يحول دون ذلك قاعدة انزال الحيازة في المنقول في يد خلف ثان حسن النية تنتقل إلى الحيازة على أثر تصرف ثان يصدر من المالك نفسه بعد أن زالت عنه الملكية بمقتضى التصرف الأول، وقد تخلص الملكية لهذا الخلف الثاني ولكن الملكية لا تؤول إليه بمقتضى التزام بنقل حق عيني بل بطريق آخر من طرق كسب الحقوق العينية هو طريق الحيازة أما العقارات فتحول قواعد التسجيل دون تنفيذ الالتزام بنقل الحق العيني فيها فور الوقت ويشفع الالتزام بنقل الحق العين في هذه الحالة بإلتزام بعمل قوامه وجوب اشتراك مالك العقار في تيسير إجراء التسجيل .. ويتفرع على ما تقدم أن للدائن أن يتسلم الشئ المعين بذاته الذي التزم المدين أن يدلى به إليه منقولاً كان أو عقاراً يتوافر شرطين أولهما أن يكون هذا الشيء مملوكاً للمدين وقت إنشاء الالتزام أو ان تكون ملكيته قد ألت إليه بعد ذلك والثاني ألا يكون قد ترتب على المعقود عليه حق عيني لأحد الأغيار كخلف ثان يحوز منقولاً بحسن نية أو مشتر آخر آل إليه عقل بمقتضى، عقد سبق تسجيله .(التقنين المدني، شرح أحكام القانون المدني، المستشار/ أحمد محمد عبد الصادق، طبعة 2015، دار القانون للاصدارات القانونية، الجزء : الأول، الصفحة : 1129)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت
الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس ، الصفحة / 157
آثار الالْتزام:
آثار الالْتزام هي: ما تترتّب عليْه، وهي الْمقْصد الأْصْليّ للالْتزام. وتخْتلف آثار الالْتزام تبعًا لاخْتلاف التّصرّفات الْملْزمة واخْتلاف الْملْتزم به، ومنْ ذلك:
(1) ثبوت الْملْك:
29 - يثْبت ملْك الْعيْن أو الْمنْفعة أو الانْتفاع أو الْعوض وانْتقاله للْملْتزم له في التّصرّفات الّتي تقْتضي ذلك متى اسْتوْفتْ أرْكانها وشرائطها، مثْل الْبيْع والإْجارة والصّلْح والْقسْمة، ومع ملاحظة الْقبْض فيما يشْترط فيه الْقبْض عنْد منْ يقول به . وهذا باتّفاقٍ.
حقّ الْحبْس:
30 - يعْتبر الْحبْس منْ آثار الالْتزام. فالْبائع له حقّ حبْس الْمبيع، حتّى يسْتوْفي الثّمن الّذي الْتزم به الْمشْتري، إلاّ أنْ يكون الثّمن مؤجّلاً.
والْمؤجّر له حقّ حبْس الْمنافع إلى أنْ يسْتلم الأْجْرة الْمعجّلة. وللصّانع حقّ حبْس الْعيْن بعْد الْفراغ من الْعمل إذا كان لعمله أثرٌ في الْعيْن، كالْقصّار والصّبّاغ والنّجّار والْحدّاد.
والْمرْتهن له حقّ حبْس الْمرْهون حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليْه. يقول ابْن رشْدٍ: حقّ الْمرْتهن في الرّهْن أنْ يمْسكه حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليْه، والرّهْن عنْد الْجمْهور يتعلّق بجمْلة الْحقّ الْمرْهون فيه وببعْضه، أعْني أنّه إذا رهنه في عددٍ ما، فأدّى منْه بعْضه، فإنّ الرّهْن بأسْره يبْقى بعْد بيد الْمرْتهن حتّى يسْتوْفي حقّه. وقال قوْمٌ: بلْ يبْقى من الرّهْن بيد الْمرْتهن بقدْر ما يبْقى من الْحقّ، وحجّة الْجمْهور أنّه محْبوسٌ بحقٍّ، فوجب أنْ يكون محْبوسًا بكلّ جزْءٍ منْه، أصْله (أي الْمقيس عليْه) حبْس التّركة على الْورثة حتّى يؤدّوا الدّيْن الّذي على الْميّت. وحجّة الْفريق الثّاني أنّ جميعه محْبوسٌ بجميعه، فوجب أنْ يكون أبْعاضه محْبوسةً بأبْعاضه، أصْله الْكفالة .
ومنْ ذلك حبْس الْمدين بما عليْه من الدّيْن، إذا كان قادرًا على أداء ديْنه وماطل في الأْداء، وطلب صاحب الدّيْن حبْسه من الْقاضي، وللْغريم كذلك منْعه من السّفر، لأنّ له حقّ الْمطالبة بحبْسه.
التّسْليم والرّدّ:
31 - يعْتبر التّسْليم منْ آثار الالْتزام فيما يلْتزم الإْنْسان بتسْليمه.
فالْبائع ملْتزمٌ بتسْليم الْمبيع للْمشْتري، والْمؤجّر ملْتزمٌ بتسْليم الْعيْن وما يتْبعها للْمسْتأْجر بحيْث تكون مهيّأةً للانْتفاع بها، والْمشْتري والْمسْتأْجر ملْتزمان بتسْليم الْعوض، وأجير الْوحْد (الأْجير الْخاصّ) ملْتزمٌ بتسْليم نفْسه، والْكفيل ملْتزمٌ بتسْليم ما الْتزم به، والزّوْج ملْتزمٌ بتسْليم الصّداق، والزّوْجة ملْتزمةٌ بتسْليم الْبضْع، والْواهب ملْتزمٌ بتسْليم الْموْهوب عنْد منْ يرى وجوب الْهبة، وربّ الْمال في السّلم والْمضاربة مطالبٌ بتسْليم رأْس الْمال.
وهكذا كلّ من الْتزم بتسْليم شيْءٍ وجب عليْه الْقيام بالتّسْليم.
ومثْل ذلك ردّ الأْمانات والْمضْمونات، سواءٌ أكان الرّدّ واجبًا ابْتداءً أمْ بعْد الطّلب، وذلك كالْمودع والْمسْتعار والْمسْتأْجر والْقرْض والْمغْصوب والْمسْروق واللّقطة إذا جاء صاحبها، وما عنْد الْوكيل والشّريك والْمضارب إذا فسخ الْمالك وهكذا.
مع اعْتبار أنّ التّسْليم في كلّ شيْءٍ بحسبه، قدْ يكون بالإْقْباض، وقدْ يكون بالتّخْلية والتّمْكين من الْملْتزم به.
(4) ثبوت حقّ التّصرّف:
يثْبت للْملْتزم له حقّ التّصرّف في الْملْتزم به بامْتلاكه، لكنْ يخْتلف نوْع التّصرّف باخْتلاف نوْع الْملْكيّة في الْملْتزم به، وذلك كما يأْتي:
32 - أ - إذا كان الْملْتزم به تمْليكًا للْعيْن أوْ للدّيْن، فإنّه يثْبت للْمالك حقّ التّصرّف فيه بكلّ أنْواع التّصرّف منْ بيْعٍ وهبةٍ ووصيّةٍ وعتْقٍ وأكْلٍ ونحْو ذلك، لأنّه أصْبح ملْكه، فله ولاية التّصرّف فيه.
وهذا إذا كان بعْد الْقبْض بلا خلافٍ، أمّا قبْل الْقبْض فإنّ الْفقهاء يخْتلفون فيما يجوز التّصرّف فيه قبْل الْقبْض وما لا يجوز.
وبالْجمْلة فإنّه لا يصحّ عنْد الْحنفيّة والشّافعيّة، وفي روايةٍ عن الإْمام أحْمد التّصرّف في الأْعْيان الْممْلوكة في عقود الْمعاوضات قبْل قبْضها، إلاّ الْعقار فيجوز بيْعه قبْل قبْضه عنْد أبي حنيفة وأبي يوسف خلافًا لمحمّدٍ. ودليل منْع التّصرّف قبْل الْقبْض قوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحكيم بْن حزامٍ: « لا تبعْ ما لمْ تقْبضْه » ولأنّ فيه غرر انْفساخ الْعقْد على اعْتبار الْهلاك.
وعنْد الْمالكيّة، والْمذْهب عنْد الْحنابلة: أنّه يجوز التّصرّف قبْل الْقبْض إلاّ في الطّعام، فلا يجوز التّصرّف فيه قبْل قبْضه، لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم: « من ابْتاع طعامًا فلا يبعْه حتّى يسْتوْفيه»
وأمّا الدّيون:
فعنْد الْحنفيّة يجوز التّصرّف فيها قبْل الْقبْض إلاّ في الصّرْف والسّلم:
أمّا الصّرْف فلأنّ كلّ واحدٍ منْ بدلي الصّرْف مبيعٌ منْ وجْهٍ وثمنٌ منْ وجْهٍ. فمنْ حيْث هو ثمنٌ يجوز التّصرّف فيه قبْل الْقبْض، ومنْ حيْث هو مبيعٌ لا يجوز، فغلب جانب الْحرْمة احْتياطًا.
وأمّا السّلم فلأنّ الْمسْلم فيه مبيعٌ بالنّصّ، والاسْتبْدال بالْمبيع الْمنْقول قبْل الْقبْض لا يجوز. وكذلك يجوز تصرّف الْمقْرض في الْقرْض قبْل الْقبْض عنْدهمْ، وذكر الطّحاويّ: أنّه لا يجوز.
وعنْد الْمالكيّة يجوز التّصرّف في الدّيون قبْل الْقبْض فيما سوى الصّرْف والسّلم، فإنّ الإْمام مالكًا منع بيْع الْمسْلم فيه قبْل قبْضه في موْضعيْن:
أحدهما: إذا كان الْمسْلم فيه طعامًا، وذلك بناءً على مذْهبه في أنّ الّذي يشْترط في صحّة بيْعه الْقبْض هو الطّعام، على ما جاء عليْه النّصّ في الْحديث.
والثّاني: إذا لمْ يكن الْمسْلم فيه طعامًا فأخذ عوضه الْمسْلم (صاحب الثّمن) ما لا يجوز أنْ يسْلم فيه رأْس ماله، مثْل أنْ يكون الْمسْلم فيه عرضًا والثّمن عرضًا مخالفًا له، فيأْخذ الْمسْلم من الْمسْلم إليْه إذا حان الأْجل شيْئًا منْ جنْس ذلك الْعرض الّذي هو الثّمن، وذلك أنّ هذا يدْخله إمّا سلفٌ وزيادةٌ، إنْ كان الْعرض الْمأْخوذ أكْثر منْ رأْس مال السّلم، وإمّا ضمانٌ وسلفٌ إنْ كان مثْله أوْ أقلّ .
وعنْد الشّافعيّة إنْ كان الْملْك على الدّيون مسْتقرًّا، كغرامة الْمتْلف وبدل الْقرْض جاز بيْعه ممّنْ عليْه قبْل الْقبْض، لأنّ ملْكه مسْتقرٌّ عليْه، وهو الأْظْهر في بيْعه منْ غيْره. وإنْ كان الدّيْن غيْر مسْتقرٍّ فإنْ كان مسْلمًا فيه لمْ يجزْ، وإنْ كان ثمنًا في بيْعٍ ففيه قوْلان.
وعنْد الْحنابلة: كلّ عوضٍ ملك بعقْدٍ ينْفسخ بهلاكه قبْل الْقبْض لمْ يجز التّصرّف فيه قبْل قبْضه، كالأْجْرة وبدل الصّلْح إذا كانا من الْمكيل أو الْموْزون أو الْمعْدود، وما لا ينْفسخ الْعقْد بهلاكه جاز التّصرّف فيه قبْل قبْضه، كعوض الْخلْع وأرْش الْجناية وقيمة الْمتْلف.
أمّا ما يثْبت فيه الْملْك منْ غيْر عوضٍ، كالْوصيّة والْهبة والصّدقة، فإنّه يجوز في الْجمْلة التّصرّف فيه قبْل قبْضه عنْد الْجمْهور.
33 - ب - وإذا كان الْملْتزم به تمْليكًا للْمنْفعة، فإنّه يثْبت لمالك الْمنْفعة حقّ التّصرّف في الْحدود الْمأْذون فيها، وتمْليك الْمنْفعة لغيْره كما في الإْجارة والْوصيّة بالْمنْفعة والإْعارة وهذا عنْد الْمالكيّة وفي الإْجارة عنْد جميع الْمذاهب، وفي غيْرها اخْتلافهمْ، والْقاعدة عنْد الْحنفيّة: أنّ الْمنافع الّتي تمْلك ببدلٍ يجوز تمْليكها ببدلٍ كالإْجارة، والّتي تمْلك بغيْر عوضٍ لا يجوز تمْليكها بعوضٍ. فالْمسْتعير يمْلك الإْعارة ولا يمْلك الإْجارة .
34 - ج - وإذا كان الْملْتزم به حقّ الانْتفاع فقطْ، فإنّ حقّ التّصرّف يقْتصر على انْتفاع الْملْتزم له بنفْسه فقطْ، كما في الْعاريّة عنْد الشّافعيّة، وفي وجْهٍ عنْد الْحنابلة، وكالإْباحة للطّعام في الضّيافات .
35 - د - وإذا كان الْملْتزم به إذْنًا في التّصرّف، فإنّه يثْبت للْمأْذون له حقّ التّصرّف الْمطْلق إذا كان الإْذْن مطْلقًا، وإلاّ اقْتصر التّصرّف على ما أذن به، وذلك كما في الْوكالة والْمضاربة.
وفي كلّ ذلك تفْصيلٌ ينْظر في مواضعه.
منْع حقّ التّصرّف:
36 - قدْ ينْشأ منْ بعْض الالْتزامات منْع حقّ التّصرّف، ومنْ أمْثلة ذلك:
الرّهْن، فلا يصحّ تصرّف الرّاهن في الْمرْهون ببيْعٍ أوْ غيْره، لأنّ الْمرْتهن أخذ الْعيْن بحقّه في الرّهْن، وهو التّوثّق باسْتيفاء ديْنه وقبض الْمرْهون. فالْمرْتهن بالنّسْبة إلى الرّهْن كغرماء الْمفْلس الْمحْجور عليْه.
(6) صيانة الأْنْفس والأْمْوال:
37 - الأْصْل أنّ الْمسْلم ملْتزمٌ بحكْم إسْلامه بالْمحافظة على دماء الْمسْلمين وأمْوالهمْ وأعْراضهمْ لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خطْبته يوْم النّحْر: « إنّ دماءكمْ وأمْوالكمْ حرامٌ كحرْمة يوْمكمْ هذا، في شهْركمْ هذا، في بلدكمْ هذا » .
أمّا بالنّسْبة لغيْر الْمسْلمين، فإنّ ممّا يصون دماءهمْ وأمْوالهم - الْتزام الْمسْلمين بذلك بسبب الْعقود الّتي تتمّ معهمْ، كعقْد الأْمان الْمؤقّت أو الدّائم. إذْ ثمرة الأْمان حرْمة قتْلهمْ واسْترْقاقهمْ وأخْذ أمْوالهمْ، ما داموا ملْتزمين بموجب عقْد الأْمان أوْ عقْد الذّمّة .
ومنْ صيانة الأْمْوال: الالْتزام بحفْظ الْوديعة بجعْلها في مكانٍ أمينٍ. وقدْ يجب الالْتزام بذلك حرْصًا على الأْمْوال، ولذلك يقول الْفقهاء: إنْ لمْ يكنْ منْ يصْلح لأخْذ الْوديعة غيْره وخاف إنْ لمْ يقْبلْ أنْ تهْلك - تعيّن عليْه قبولها، لأنّ حرْمة الْمال كحرْمة النّفْس، لما روى ابْن مسْعودٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « حرْمة مال الْمؤْمن كحرْمة دمه » . ولوْ خاف على دمه لوجب عليْه حفْظه، فكذلك إذا خاف على ماله .
ومنْ ذلك أخْذ اللّقطة واللّقيط، إذْ يجب الأْخْذ إذا خيف الضّياع، لأنّ حفْظ مال الْغيْر واجبٌ، قال ابْن رشْدٍ: يلْزم أنْ يؤْخذ اللّقيط ولا يتْرك، لأنّه إنْ ترك ضاع وهلك، لا خلاف بيْن أهْل الْعلْم في هذا، وإنّما اخْتلفوا في لقطة الْمال، وهذا الاخْتلاف إنّما هو إذا كانتْ بيْن قوْمٍ مأْمونين والإْمام عدْلٌ. أمّا إذا كانتْ بيْن قوْمٍ غيْر مأْمونين فأخْذها واجبٌ قوْلاً واحدًا .
7) الضّمان:
38 - الضّمان أثرٌ منْ آثار الالْتزام، وهو يكون بإتْلاف مال الْغيْر أو الاعْتداء عليْه بالْغصْب أو السّرقة أوْ بالتّعدّي في الاسْتعْمال الْمأْذون فيه في الْمسْتعار والْمسْتأْجر أوْ بالتّفْريط وترْك الْحفْظ كما في الْوديعة.
يقول الْكاسانيّ: تتغيّر صفة الْمسْتأْجر من الأْمانة إلى الضّمان بأشْياء منْها: ترْك الْحفْظ، لأنّ الأْجير لمّا قبض الْمسْتأْجر فقدْ الْتزم حفْظه، وترْك الْحفْظ الْملْتزم سببٌ لوجوب الضّمان، كالْمودع إذا ترك الْحفْظ حتّى ضاعت الْوديعة.
وكذلك يضْمن بالإْتْلاف والإْفْساد إذا كان الأْجير متعدّيًا فيه، إذ الاسْتعْمال الْمأْذون فيه مقيّدٌ بشرْط السّلامة .
ويقول السّيوطيّ: أسْباب الضّمان أرْبعةٌ:
الأْوّل: الْعقْد، ومنْ أمْثلته ضمان الْمبيع، والثّمن الْمعيّن قبْل الْقبْض، والْمسْلم فيه، والْمأْجور.
والثّاني: الْيد، مؤْتمنةً كانتْ كالْوديعة والشّركة والْوكالة والْمقارضة إذا حصل التّعدّي، أوْ غيْر مؤْتمنةٍ كالْغصْب والسّوْم والْعاريّة والشّراء فاسدًا.
والثّالث: الإْتْلاف للنّفْس أو الْمال.
والرّابع: الْحيْلولة .
ويقول ابْن رشْدٍ: الْموجب للضّمان إمّا الْمباشرة لأخْذ الْمال الْمغْصوب أوْ لإتْلافه، وإمّا الْمباشرة للسّبب الْمتْلف، وإمّا إثْبات الْيد عليْه .
وفي الْقواعد لابْن رجبٍ: أسْباب الضّمان ثلاثةٌ: عقْدٌ، ويدٌ، وإتْلافٌ . وفي كلّ ذلك خلافٌ وتفْصيلاتٌ وتفْريعاتٌ تنْظر في مواضعها.
حكْم الْوفاء بالالْتزام وما يتعلّق به:
39 - الأْصْل في الالْتزام أنّه يجب الْوفاء به امْتثالاً لقوله تعالى (يا أيّها الّذين آمنوا أوْفوا بالْعقود)
والْمراد بالْعقود كما يقول الْفقهاء: ما عقده الْمرْء على نفْسه منْ بيْعٍ وشراءٍ وإجارةٍ وكراءٍ ومناكحةٍ وطلاقٍ ومزارعةٍ ومصالحةٍ وتمْليكٍ وتخْييرٍ وعتْقٍ وتدْبيرٍ، وكذلك الْعهود والذّمم الّتي نعْقدها لأهْل الْحرْب وأهْل الذّمّة والْخوارج، وما عقده الإْنْسان على نفْسه للّه تعالى من الطّاعات كالْحجّ والصّيام والاعْتكاف والنّذْر والْيمين وما أشْبه ذلك، فيلْزم الْوفاء بها.
وقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم « الْمسْلمون على شروطهمْ » عامٌّ في إيجاب الْوفاء بجميع ما يشْرطه الإْنْسان على نفْسه، ما لمْ تقمْ دلالةٌ تخصّصه .
لكنّ هذا الْحكْم ليْس عامًّا في كلّ الالْتزامات، وذلك لتنوّع الالْتزامات بحسب اللّزوم وعدمه، وبيان ذلك فيما يأْتي:
(1) الالْتزامات الّتي يجب الْوفاء بها:
40 - أ - الالْتزامات الّتي تنْشأ بسبب الْعقود اللاّزمة بيْن الطّرفيْن، كالْبيْع والإْجارة والصّلْح وعقود الذّمّة، فهذه الالْتزامات متى تمّتْ صحيحةً لازمةً وجب الْوفاء بها ما لمْ يحْدثْ ما يقْتضي الْفسْخ، كالْهلاك والاسْتحْقاق والرّدّ بالْعيْب، وهذا شاملٌ للأْعْيان الْواجب تسْليمها، وللدّيون الّتي تكون في الذّمم كبدل الْقرْض وثمن الْمبيع والأْجْرة في الإْجارة أو الّتي تنْشأ نتيجة إنْفاذ مال الْغيْر على خلافٍ وتفْصيلٍ.
ب - الالْتزامات الّتي تنْشأ نتيجة التّعدّي بالْغصْب أو السّرقة أو الإْتْلاف أو التّفْريط.
ج - الأْمانات الّتي تكون عنْد الْملْتزم، سواءٌ أكانتْ بموجب عقْدٍ كالْوديعة، أمْ لمْ تكنْ كاللّقطة وكمنْ أطارت الرّيح ثوْبًا إلى داره.
د - نذْر الْقربات، وهو ما يلْتزم به الإْنْسان منْ قرباتٍ بدنيّةٍ أوْ ماليّةٍ طاعةً وتقرّبًا إلى اللّه سبْحانه وتعالى.
هـ - الالْتزامات التّكْليفيّة الشّرْعيّة، ومنْها النّفقات الْواجبة.
فهذه الالْتزامات لا خلاف في وجوب الْوفاء بها، منْجزةً إنْ كانتْ كذلك، وبعْد تحقّق الشّرْط الْمشْروع إنْ كانتْ معلّقةً، وعنْد دخول الْوقْت إنْ كانتْ مضافةً، وسواءٌ أكان الْوفاء لا يجب إلاّ بعْد الطّلب أمْ يجب بدونه.
ويتحقّق الْوفاء بالأْداء والتّسْليم أو الْقيام بالْعمل أو الإْبْراء أو الْمقاصّة وهكذا. ودليل الْوجوب الآْية السّابقة، وكذلك قوله تعالى وأوْفوا بعهْد اللّه إذا عاهدْتمْقوله تعالى ولْيوفوا نذورهم وقوله تعالى فلْيؤدّ الّذي اؤْتمن أمانته.
والتّخلّف عن الْوفاء بغيْر عذْرٍ يسْتوْجب الْعقوبة
الدّنْيويّة والأْخْرويّة، إذ الْعقوبة واجبةٌ لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم« ليّ الْواجد يحلّ عرْضه وعقوبته » فعقوبته حبْسه، وعرْضه أنْ يحلّ الْقوْل في عرْضه بالإْغْلاظ. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: « مطْل الْغنيّ ظلْمٌ » .
ولذلك يجْبر الْممْتنع عن الْوفاء بالضّرْب أو الْحبْس أو الْحجْر ومنْع التّصرّف في الْمال، أوْ بيْع مال الْملْتزم والْوفاء منْه. إلاّ إذا كان الْملْتزم معْسرًا فيجب إنْظاره لقوله تعالى (وإنْ كان ذو عسْرةٍ فنظرةٌ إلى ميْسرةٍ) .
41 - وما سبق إنّما هو في الْجمْلة، إذْ للْفقهاء في ذلك تفْصيلاتٌ وتفْريعاتٌ، ومنْ ذلك مثلاً:
اخْتلافهمْ في الإْجْبار على الْوفاء بالنّذْر الْمشْروع عنْد الامْتناع، فعنْد الْمالكيّة يقْضى بالنّذْر الْمطْلق إذا كان لمعيّنٍ، وإنْ كان لغيْر معيّنٍ يؤْمر بالْوفاء ولا يقْضى به على الْمشْهور، وقيل يقْضى به، وفيه الْخلاف أيْضًا عنْد الشّافعيّة. ومنْ ذلك أنّ أبا حنيفة لا يجيز الْحجْر في الدّيْن، لأنّ في الْحجْر إهْدار آدميّة الْمدين، بلْ لا يجيز للْحاكم التّصرّف في ماله، وإنّما يجْبره على بيْعه لوفاء ديْنه . وهكذا.
2 - الْتزاماتٌ يسْتحبّ الْوفاء بها ولا يجب:
42 - أ - الالْتزامات الّتي تنْشأ منْ عقود التّبرّعات كالْقرْض والْهبة والْعاريّة والْوصيّة.
ب - الالْتزام النّاشئ بالْوعْد، فهذه الالْتزامات يسْتحبّ الْوفاء بها، لأنّها من الْمعْروف الّذي ندب إليْه الشّارع، يقول اللّه تعالى: (وتعاونوا على الْبرّ والتّقْوى) ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « منْ نفّس عنْ مسْلمٍ كرْبةٍ منْ كرب الدّنْيا نفّس اللّه عنْه كرْبةً منْ كرب يوْم الْقيامة » ويقول: « تهادوا تحابّوا » .
لكنْ لا يجب الْوفاء بها، ففي الْوصيّة يجوز بالاتّفاق الرّجوع فيها ما دام الْموصي حيًّا.
وفي الْعاريّة والْقرْض يجوز الرّجوع بطلب الْمسْتعار وبدل الْقرْض في الْحال بعْد الْقبْض، وهذا عنْد غيْر الْمالكيّة، بلْ قال الْجمْهور: إنّ الْمقْرض إذا أجّل الْقرْض لا يلْزمه التّأْجيل، لأنّه لوْ لزم فيه الأْجل لمْ يبْق تبرّعًا.
أمّا الْمالكيّة فإنّ الْعاريّة والْقرْض إذا كانا مؤجّليْن فذلك لازمٌ إلى أنْ ينْقضي الأْجل، وإنْ كانا مطْلقيْن لزم الْبقاء فتْرةً ينْتفع بمثْله فيها، واسْتندوا إلى ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « ذكر رجلاً سأل بعْض بني إسْرائيل أنْ يسْلفه ألْف دينارٍ فدفعها إليْه إلى أجلٍ مسمًّى » . وقال ابْن عمر وعطاءٌ: إذا أجّله في الْقرْض جاز.
ويجوز الرّجوع في الْهبة قبْل الْقبْض عنْد الْجمْهور، فإذا تمّ الْقبْض فلا رجوع عنْد الشّافعيّة والْحنابلة إلاّ فيما وهب الْوالد لولده، وعنْد الْحنفيّة يجوز الرّجوع إنْ كانتْ لأجْنبيٍّ.
أمّا الْمالكيّة فلا رجوع عنْدهمْ في الْهبة قبْل الْقبْض وبعْده في الْجمْلة، إلاّ فيما يهبه الْوالد لولده.
وينْظر تفْصيل ذلك في مواضعه.
43 - والْوعْد كذلك يسْتحبّ الْوفاء به باتّفاقٍ.
يقول الْقرافيّ: منْ أدب الْعبْد مع ربّه إذا وعد ربّه بشيْءٍ لا يخْلفه إيّاه، لا سيّما إذا الْتزمه وصمّم عليْه، فأدب الْعبْد مع اللّه سبْحانه وتعالى بحسْن الْوفاء وتلقّي هذه الالْتزامات بالْقبول.
لكنّ الْوفاء به ليْس بواجبٍ في الْجمْلة، ففي الْبدائع: الْوعْد لا شيْء فيه وليْس بلازمٍ، وفي منْتهى الإْرادات: لا يلْزم الْوفاء بالْوعْد نصًّا، وفي نهاية الْمحْتاج: لوْ قال: أؤدّي الْمال أوْ أحْضر الشّخْص، فهو وعْدٌ لا يلْزم الْوفاء به، لأنّ الصّيغة غيْر مشْعرةٍ بالالْتزام.
إلاّ أنّه إذا كانتْ هناك حاجةٌ تسْتدْعي الْوفاء بالْوعْد فإنّه يجب الْوفاء به. فقدْ نقل ابْن عابدين عنْ جامع الْفصوليْن: لوْ ذكر الْبيْع بلا شرْطٍ، ثمّ ذكر الشّرْط على وجْه الْعدة، جاز الْبيْع ولزم الْوفاء بالْوعْد، إذ الْمواعيد قدْ تكون لازمةً فيجْعل لازمًا لحاجة النّاس.
والْمشْهور عنْد الْمالكيّة أنّ الْوعْد يلْزم ويقْضى به إذا دخل الْموْعود بسبب الْوعْد في شيْءٍ، قال سحْنونٌ: الّذي يلْزم من الْوعْد إذا قال: اهْدمْ دارك وأنا أسْلفك ما تبْني به، أو اخْرجْ إلى الْحجّ أو اشْتر سلْعةً أوْ تزوّجْ وأنا أسْلفك، لأنّك أدْخلْته بوعْدك في ذلك، أمّا مجرّد الْوعْد فلا يلْزم الْوفاء به، بل الْوفاء به منْ مكارم الأْخْلاق.
وقال الْقلْيوبيّ: قوْلهم الْوعْد لا يجب الْوفاء به مشْكلٌ، لمخالفته ظاهر الآْيات والسّنّة، ولأنّ خلْفه كذبٌ، وهو منْ خصال الْمنافقين .
الْتزاماتٌ يجوز الْوفاء بها ولا يجب:
44 - أ - الالْتزامات الّتي تنْشأ نتيجة الْعقود الْجائزة بيْن الطّرفيْن، كالْوكالة والشّركة والْقراض، فهذه يجوز لكلٍّ من الطّرفيْن فسْخها وعدم الالْتزام بمقْتضاها، هذا مع مراعاة ما يشْترطه بعْض الْفقهاء حين الْفسْخ منْ نضوض رأْس الْمال في الْمضاربة، وكتعلّق حقّ الْغيْر بالْوكالة .
- نَذْرُ الْمُبَاحِ: يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: نَذْرُ الْمُبَاحِ لاَ يَلْزَمُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الأْمَّةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: نَذْرُ الْمُبَاحِ، كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَطَلاَقِ الْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَهَذَا يَتَخَيَّرُ فِيهِ النَّاذِرُ بَيْنَ فِعْلِهِ فَيَبَرُّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
الْتِزَامَاتٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا:
45 - الاِلْتِزَامُ بِمَا لاَ يَلْزَمُ لاَ يَجِبُ فِيهِ الْوَفَاءُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْوَفَاءُ حَرَامًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْتِزَامًا بِمَعْصِيَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، فَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَقْتُلَ فُلاَنًا، فَإِنَّ هَذَا الاِلْتِزَامَ حَرَامٌ فِي ذَاتِهِ، وَأَيْضًا يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : « مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ » وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلاَفٌ (ر: نَذْر - كَفَّارَة).
ب - وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَمَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ، فَقَدْ عَصَى بِيَمِينِهِ. وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ . (ر: كَفَّارَة - أَيْمَان).
ج - الاِلْتِزَامُ الْمُعَلَّقُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ قَتَلْتُ فُلاَنًا أَوْ شَرِبْتُ الْخَمْرَ فَلَكَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ حَرَامٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ .
د - مَا كَانَ الاِلْتِزَامُ فِيهِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ غَيْرِ الْمُلْتَزَمِ، فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ حَقِّ اللَّهِ كَدَعْوَى حَدٍّ، وَلاَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا وَجَحَدَ الرَّجُلُ، فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، لأِنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ .
وَلَوْ بَاعَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ مُؤَجَّلاً لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّ الْقَبْضَ فِي الصَّرْفِ لِحَقِّ اللَّهِ.
هـ - الشُّرُوطُ الْبَاطِلَةُ لاَ يَجُوزُ الاِلْتِزَامُ بِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
46 - مَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَحَمَّلَ بِالْوَلَدِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَشَرَطَ عَلَيْهَا أَلاَّ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ (مُدَّةَ الرَّضَاعِ) أَيْ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهَا تَرْكَ النِّكَاحِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَلاَ اخْتِلاَفَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُهَا الْوَفَاءُ بِهِ، لأِنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِيهِ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ . وَالْخُلْعُ صَحِيحٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ بَاعَ حَائِطَهُ (حَدِيقَتَهُ) وَشَرَطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْجَائِحَةَ لاَ تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلاَ يَلْتَزِمُ بِهِ الْمُشْتَرِي.
وَفِي الْبَدَائِعِ لِلْكَاسَانِيِّ: لَوْ وَهَبَ دَارًا عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلاَنٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَتِ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ. وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَتَبْطُلُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ .
وَفِي الْمُهَذَّبِ: لَوْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ شَرْطًا فَاسِدًا بَطَلَ الشَّرْطُ، وَفِي الْقَرْضِ وَجْهَانِ . وَالأْمْثِلَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ. (ر: بَيْع - اشْتِرَاط).
وَفِي حَالَةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ يُسْتَثْنَى حَالَةُ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ. جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإْكْلِيلِ: يَجُوزُ لِلإْمَامِ مُهَادَنَةُ الْحَرْبِيِّينَ لِمَصْلَحَةٍ، إِنْ خَلَتِ الْمُهَادَنَةُ عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ، كَأَنْ كَانَتْ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ فَلاَ يَجُوزُ، لقوله تعالي : (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأْعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إِلاَّ لِضَرُورَةِ التَّخَلُّصِ مِنْهُمْ خَوْفَ اسْتِيلاَئِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ لَهُمْ، وَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الإْعْطَاءُ جَائِزًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا شَاوَرَ فِيهِ .
وَفِي الأْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إِعْطَاؤُهُ، كَالرِّبَا وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَالرِّشْوَةِ لِلْحَاكِمِ إِذَا بَذَلَهَا لِيَحْكُمَ لَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ فِي الرِّشْوَةِ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ لِفَكِّ أَسِيرٍ أَوْ لِمَنْ يَخَافُ هَجْوَهُ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ إِعْطَاءَ الرِّبَا لِلضَّرُورَةِ فَيَأْثَمَ الْمُقْرِضُ دُونَ الْمُقْتَرِضِ.
انْقضاء الالْتزام:
56 - الأْصْل أنّ الالْتزام ينْقضي بوفاء الْملْتزم وتنْفيذه ما الْتزم به منْ تسْليم عيْنٍ أوْ ديْنٍ، كتسْليم الْمبيع للْمشْتري، والثّمن للْبائع، والْمأْجور للْمسْتأْجر، والأْجْرة للْمؤجّر والْموْهوب للْمتّهب وبدل الْقرْض للْمقْرض وهكذا.
وينْقضي الالْتزام أيْضًا بالْقيام بالْعمل الْملْتزم به في إجارةٍ أو اسْتصْناعٍ أوْ مساقاةٍ أوْ وكالةٍ أوْ مضاربةٍ، وبانْقضاء الْمدّة في التّصرّف الْمقيّد بالزّمن كالإْجارة الْمحدّدة.
57 - وقدْ ينْقضي الالْتزام بغيْر هذا، ومنْ أمْثلة ذلك:
(1) إبْراء الدّائن للْمدين .
2 - الْفسْخ أو الْعزْل في الْعقود الْجائزة كالْوكالة والشّركة والْقراض والْوديعة، إلاّ إذا اقْتضى فسْخها ضررًا على الطّرف الآْخر.
يقول السّيوطيّ: الشّركة والْوكالة والْعاريّة والْوديعة والْقراض كلّها تنْفسخ بالْعزْل من الْمتعاقديْن أوْ أحدهما .
وفي الْمنْثور للزّرْكشيّ: الْعقود الْجائزة إذا اقْتضى فسْخها ضررًا على الطّرف الآْخر امْتنع وصارتْ لازمةً. ولهذا قال النّوويّ: للْوصيّ عزْل نفْسه إلاّ أنْ يتعيّن عليْه أوْ يغْلب على ظنّه تلف الْمال باسْتيلاء ظالمٍ.
ويجْري مثْله في الشّريك والْمقارض، وقدْ قالوا في الْعامل إذا فسخ الْقراض: عليْه التّقاضي والاسْتيفاء، لأنّ الدّيْن ملْكٌ ناقصٌ، وقدْ أخذه منْه كاملاً، فلْيردّه كما أخذه، وظاهر كلامهمْ أنّه لا ينْعزل حتّى ينضّ الْمال .
(3) الرّجوع في التّبرّعات قبْل الْقبْض كالْوصيّة والْهبة، وبعْد الْقبْض في الْعاريّة والْقرْض عنْد غيْر الْمالكيّة .
(4) الْمقاصّة في الدّيون .
(5) انْعدام الأْهْليّة في الْعقود الْجائزة كالْجنون والْموْت .
(6) الْفلس أوْ مرض الْموْت في التّبرّعات قبْل الْقبْض.
(7) عدم إمْكان التّنْفيذ، كهلاك الْمبيع قبْل الْقبْض.
يقول الْكاسانيّ: هلاك الْمبيع قبْل الْقبْض، إنْ هلك كلّه قبْل الْقبْض بآفةٍ سماويّةٍ انْفسخ الْبيْع، لأنّه لوْ بقي أوْجب مطالبة الْمشْتري بالثّمن، وإذا طالبه بالثّمن فهو يطالبه بتسْليم الْمبيع، وأنّه عاجزٌ عن التّسْليم فتمْتنع الْمطالبة أصْلاً، فلمْ يكنْ في
بقاء الْبيْع فائدةٌ فينْفسخ، وكذلك إذا هلك بفعْل الْمبيع بأنْ كان حيوانًا فقتل نفْسه، وكذا إذا هلك بفعْل الْبائع يبْطل الْبيْع ويسْقط الثّمن عن الْمشْتري عنْدنا.
وإنْ هلك بفعْل الْمشْتري لا ينْفسخ الْبيْع وعليْه الثّمن، لأنّه بالإْتْلاف صار قابضًا .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت
الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع عشر ، الصفحة / 134
تَوْثِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْثِيقُ لُغَةً: مَصْدَرُ وَثَّقَ الشَّيْءَ إِذَا أَحْكَمَهُ وَثَبَّتَهُ، وَثُلاَثِيُّهُ وَثُقَ. يُقَالُ وَثُقَ الشَّيْءُ وَثَاقَةً: قَوِيَ وَثَبَتَ وَصَارَ مُحْكَمًا.
وَالْوَثِيقَةُ مَا يُحْكَمُ بِهِ الأْمْرُ، وَالْوَثِيقَةُ: الصَّكُّ بِالدَّيْنِ أَوِ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَالْمُسْتَنَدُ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى وَالْجَمْعُ وَثَائِقُ. وَالْمُوَثِّقُ مَنْ يُوَثِّقُ الْعُقُودَ، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيلُ:
التَّزْكِيَةُ:
2 - التَّزْكِيَةُ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، يُقَالُ: زَكَّى فُلاَنٌ بَيِّنَتَهُ أَيْ مَدَحَهَا، وَتَزْكِيَةُ الرَّجُلِ نِسْبَتُهُ إِلَى الزَّكَاءِ وَهُوَ الصَّلاَحُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الإْخْبَارُ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ.
وَالتَّعْدِيلُ مِثْلُهُ وَهُوَ نِسْبَةُ الشَّاهِدِ إِلَى الْعَدَالَةِ
فَالتَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيلُ تَوْثِيقٌ لِلأْشْخَاصِ لِيُؤْخَذَ بِأَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّوْثِيقُ أَعَمُّ لأِنَّهُ يَشْمَلُ التَّزْكِيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِهِمَا.
الْبَيِّنَةُ:
3 - الْبَيِّنَةُ مِنْ بَانَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ، وَأَبَنْتُهُ: أَظْهَرْتُهُ، وَالْبَيِّنَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَسَمَّى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الإْشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّوْثِيقُ أَعَمُّ مِنَ الْبَيِّنَةِ لأِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْبَيِّنَةَ وَالرَّهْنَ وَالْكَفَالَةَ.
التَّسْجِيلُ:
4 - هُوَ الإْثْبَاتُ فِي السِّجِلِّ وَهُوَ كِتَابُ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ.
وَفِي الدُّرَرِ: الْمَحْضَرُ: مَا كُتِبَ فِيهِ مَا جَرَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ وَالْحُكْمِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الاِشْتِبَاهَ، وَالصَّكُّ: مَا كُتِبَ فِيهِ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ وَالإْقْرَارُ وَغَيْرُهَا. وَالْحُجَّةُ وَالْوَثِيقَةُ يَتَنَاوَلاَنِ الثَّلاَثَةَ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَحَاضِرُ: مَا يُكْتَبُ فِيهَا قِصَّةُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ عِنْدَ حُضُورِهِمَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا وَمَا أَظْهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حُجَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيذٍ وَلاَ حُكْمٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالسِّجِلاَّتُ: الْكُتُبُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَحَاضِرَ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَإِمْضَائِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّسْجِيلُ هُوَ إِثْبَاتُ الأْحْكَامِ الَّتِي يَص ْدُرُهَا الْقَاضِي وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. فَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْثِيقِ .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّوْثِيقِ:
5 - فِي التَّوْثِيقِ مَنْفَعَةٌ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: صِيَانَةُ الأْمْوَالِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِصِيَانَتِهَا وَنُهِينَا عَنْ إِضَاعَتِهَا.
وَالثَّانِي: قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الْوَثِيقَةَ تَصِيرُ حُكْمًا بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ وَيَرْجِعَانِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فَتَكُونُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ وَلاَ يَجْحَدُ أَحَدُهُمَا حَقَّ صَاحِبِهِ مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ الْوَثِيقَةُ وَتَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَنْفَضِحَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَالثَّالِثُ: التَّحَرُّزُ عَنِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ لأِنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ رُبَّمَا لاَ يَهْتَدِيَانِ إِلَى الأْسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لِيَتَحَرَّزَا عَنْهَا فَيَحْمِلُهُمَا الْكَاتِبُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا رَجَعَا إِلَيْهِ لِيَكْتُبَ.
وَالرَّابِعُ: رَفْعُ الاِرْتِيَابِ فَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ إِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ مِقْدَارُ الْبَدَلِ وَمِقْدَارُ الأْجَلِ فَإِذَا رَجَعَا إِلَى الْوَثِيقَةِ لاَ يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيبَةٌ .
وَهَذِهِ فَوَائِدُ التَّوْثِيقِ بِالتَّسْجِيلِ، وَهُنَاكَ تَوْثِيقٌ بِالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ لِحِفْظِ الْحَقِّ.
حُكْمُ التَّوْثِيقِ:
6 - تَوْثِيقُ التَّصَرُّفَاتِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لاِحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ خَشْيَةَ جَحْدِ الْحُقُوقِ أَوْ ضَيَاعِهَا.
وَالأْصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّوْثِيقِ مَا وَرَدَ مِنْ نُصُوصٍ، فَفِي مَسَائِلِ الدَّيْنِ جَاءَ قوله تعالي : ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأْخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهَ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) .
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأْمْرِ بِالْكِتَابَةِ وَالإْشْهَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
7 - الأْوَّلِ: أَنَّ الأْمْرَ لِلنَّدْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الأْمْرَ بِالْكِتَابَةِ وَالإْشْهَادِ فِي الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُدَايَنَاتِ لَمْ يَرِدْ إِلاَّ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الأْمْنَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِحَسَبِ الظَّنِّ وَالتَّوَهُّمِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ لاَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِحَقِّ الشَّرْعِ مَا قَالَ: ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) ، وَلاَ ثِقَةَ بِأَمْنِ الْعِبَادِ، إِنَّمَا الاِعْتِمَادُ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّرْعُ مَصْلَحَةً، فَالشَّهَادَةُ مَتَى شُرِعَتْ فِي النِّكَاحِ لَمْ تَسْقُطْ بِتَرَاضِيهِمَا وَأَمْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الأْمْرَ بِالْكِتَابَةِ وَالإْشْهَادِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ شُرِعَ لِلطُّمَأْنِينَةِ.
كَذَلِكَ جَاءَقوله تعالي : ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) عَقِبَ قَوْلِهِ: ( وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الرَّهْنَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الشَّهَادَةِ جَازَ تَرْكُ الإْشْهَادِ.
وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» . «وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيلَ وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا فَجَحَدَهُ الأْعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ» وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي ذَلِكَ، «وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإْشْهَادِ، وَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ الإْشْهَادِ»، «وَكَانَ الصَّحَابَةُرضوان الله عليهم يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الأْسْوَاقِ، فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإْشْهَادِ، وَلاَ نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمِ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم ».
وَقَدْ نَقَلَتِ الأْمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَالأْشْرِبَةِ وَالْبِيَاعَاتِ فِي أَمْصَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ مَعَ عِلْمِ فُقَهَائِهِمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الإْشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا تَرَكُوا النَّكِيرَ عَلَى تَارِكِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَدْبًا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُبَايَعَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَلَوْ وَجَبَ الإْشْهَادُ فِي كُلِّ مَا يَتَبَايَعُونَهُ أَمْضَى إِلَى الْحَرَجِ الْمَحْطُوطِ عَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .
فَآيَةُ الْمُدَايَنَاتِ الأْمْرُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ لِلإْرْشَادِ إِلَى حِفْظِ الأْمْوَالِ وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَمَرَ بِالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو أَيُّوبَ الأْنْصَارِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَجُمْهُورُ الأْمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
الثَّانِي: أَنَّ الأْمْرَ لِلْوُجُوبِ فَالإْشْهَادُ فَرْضٌ لاَزِمٌ يَعْصِي بِتَرْكِهِ لِظَاهِرِ الأْمْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ وَمَا فِيهَا نَسْخٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله تعالي عنهما إِذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ.
قَالَ بِذَلِكَ الضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ .
8 - وَقَدْ يَكُونُ التَّوْثِيقُ وَاجِبًا بِالاِتِّفَاقِ كَتَوْثِيقِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الإْشْهَادَ فِيهِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ أَمْ عِنْدَ الدُّخُولِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ - وَالأْصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» . فَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةً إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ .
9 - وَقَدْ يَكُونُ التَّوْثِيقُ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَذَلِكَ كَالإْشْهَادِ عَلَى الْعَطِيَّةِ لِلأَْوْلاَدِ إِنْ حَصَلَ فِيهَا تَفَاوُتٌ. إِذِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَكْرُوهًا وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمُ الآْخَرُ حَرَامًا . وَذَلِكَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: فَلاَ تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، وَفِي لَفْظٍ «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» .
10 - وَمَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي حُكْمِ تَوْثِيقِ الْمُعَامَلاَتِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَهُ. يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الإْشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الدَّيْنِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِكُلِّ مَنْ دَعَى إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوِ الْمُتَدَايِنَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ يُقْضَى لَهُ بِهِ عَلَيْهِ إِنْ أَبَاهُ؛ لأِنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لاَ يَأْتَمِنَهُ؛ وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لِغَيْرِهِ الإْشْهَادُ عَلَى الْبَيْعِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ؛ لأِنَّ رَبَّ السِّلْعَةِ لَمْ يَرْضَ بِائْتِمَانِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ حَقٌّ لِغَائِبٍ الإْشْهَادُ فِيهِ وَاجِبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّانِيَيْنِ : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فَأَمَرَ بِالإْشْهَادِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ اللِّعَانُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لاِنْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ .
طُرُقُ التَّوْثِيقِ:
11 - لِلتَّوْثِيقِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ بِعَقْدٍ - وَهُوَ مَا يُسَمَّى عُقُودُ التَّوْثِيقَاتِ - كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالْكِتَابَةِ وَالإْشْهَادِ وَحَقِّ الْحَبْسِ وَالاِحْتِبَاسِ.
وَمِنَ التَّوْثِيقَاتِ مَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِمَالٍ كَالرَّهْنِ وَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِذِمَّةٍ كَالْكَفَالَةِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْكِتَابَةُ:
12 - كِتَابَةُ الْمُعَامَلاَتِ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ وَسِيلَةٌ لِتَوْثِيقِهَا، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ: ( إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) وَقَدْ وَثَّقَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بِالْكِتَابَةِ فِي مُعَامَلاَتِهِ، فَبَاعَ وَكَتَبَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَثِيقَةُ التَّالِيَةُ:
هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَاءُ بْنُ خَالِدٍ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، لاَ دَاءَ، وَلاَ غَائِلَةَ، وَلاَ خِبْثَةَ، بَيْعُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ.
كَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بِالْكِتَابِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ عُمَّالَهُ مِنَ الأْمَانَةِ وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ . وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَالْمَقْصُودُ بِكِتَابَةِ التَّصَرُّفَاتِ هُوَ إِحْكَامُهَا بِاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا، وَالْفِقْهُ هُوَ الَّذِي رَسَمَ هَذِهِ الشُّرُوطَ، وَعَنْ طَرِيقِهِ يُعْرَفُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْوَثَائِقِ وَمَا يَبْطُلُ؛ إِذْ لَيْسَ لِلتَّوْثِيقِ أَرْكَانٌ وَشُرُوطٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْفِقْهِ، وَمَا يُكْتَبُ يُسَمَّى وَثِيقَةً.
لَكِنْ لَيْسَتْ كُلُّ وَثِيقَةٍ تُكْتَبُ بِتَصَرُّفٍ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمَّى وَثِيقَةً شَرْعًا، إِنَّمَا تُسَمَّى كَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ حَسَبَ الشُّرُوطِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ - فِيمَا يُسَمَّى بِعِلْمِ الشُّرُوطِ - وَمَا لِذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادٍ، وَصِحَّةٍ وَنَفَاذٍ، وَلُزُومٍ؛ لأِنَّ الأْحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالإْقْرَارَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَاتِّبَاعُ الشُّرُوطِ الَّتِي وَضَعَهَا الْفُقَهَاءُ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. وَالشَّهَادَةُ لاَ تُسْمَعُ إِلاَّ بِمَا فِيهِ . وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا) .
ب - الإْشْهَادُ:
13 - إِشْهَادُ الشُّهُودِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ وَسِيلَةٌ لِتَوْثِيقِهَا، وَاحْتِيَاطٌ لِلْمُتَعَامِلِينَ عِنْدَ التَّجَاحُدِ؛ إِذْ هِيَ إِخْبَارٌ لإِثْبَاتِ حَقٍّ - وَالْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي الأْحْكَامِ لأِنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَالْمُحْتَمَلُ لاَ يَكُونُ حُجَّةً مُلْزِمَةً؛ وَلأِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لاَ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْقَضَاءُ مُلْزِمٌ، فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ، فَالْقَضَاءُ أَوْلَى. لَكِنْ تُرِكَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ لِلأْحْكَامِ بِالْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ. مِنْ ذَلِكَ قوله تعالي : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) .
وَلَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الإْشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ فَقَالَ صلي الله عليه وسلم : «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قَالَ السَّرَخْسِيُّ: فِي ذَلِكَ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ؛ لأِنَّ الْمُنَازَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَى إِلْزَامِ الشُّهُودِ حَيْثُ جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً لإِيجَابِ الْقَضَاءِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ إِذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ.
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ؛ لأِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَادَةِ لِحُصُولِ التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
وَالْبَيِّنَاتُ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الْحُقُوقِ الْمَشْهُودِ فِيهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ الشَّهَادَةُ إِلاَّ بِمَا عَلِمَ وَقَطَعَ بِمَعْرِفَتِهِ لاَ بِمَا يَشُكُّ فِيهِ، وَلاَ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَعْرِفَتُهُ .
وَلِبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ يُنْظَرُ فِي (إِشْهَادٌ - شَهَادَةٌ).
ج - الرَّهْنُ:
14 - الرَّهْنُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّوْثِيقِ، إِذْ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الدَّائِنُ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَالأْصْلُ فِيهِقوله تعالي : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) .
قَالَ الْجَصَّاصُ: يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إِذَا عَدِمْتُمِ التَّوَثُّقَ بِالْكِتَابِ وَالإْشْهَادِ، فَالْوَثِيقَةُ بِرِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، فَأَقَامَ الرَّهْنَ فِي بَابِ التَّوَثُّقِ فِي الْحَالِ الَّتِي لاَ يَصِلُ (الدَّائِنُ) فِيهَا إِلَى التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالإْشْهَادِ مَقَامَهَا ».
وَلأِنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ عَنْ تَوَاءِ الْحَقِّ (أَيْ هَلاَكِهِ) بِالْجُحُودِ وَالإْنْكَارِ فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَبْسُ الْعَيْنِ الَّتِي وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا رَهْنًا. إِذِ التَّوْثِيقُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ يَمْلِكُ حَبْسَ الْعَيْنِ، فَيَحْمِلُ ذَلِكَ الْمَدِينَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فِي أَسْرَعِ الأْوْقَاتِ. وَبِالرَّهْنِ يُؤْمَنُ الْجُحُودُ وَالإْنْكَارُ. وَلِذَلِكَ إِذَا حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ كَانَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْقَاضِي، فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ وَيُنْصِفَهُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُجِبْهُ الرَّاهِنُ إِلَى ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ يَخْتَصُّ الرَّهْنُ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا قَابِلاً لِلْبَيْعِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّوْثِيقُ بِرَهْنِ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلأِنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ، فَإِذَا أَدَّى بَعْضَ الدَّيْنِ بَقِيَ الرَّهْنُ جَمِيعُهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ؛ لأِنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ.
وَقِيلَ: يَبْقَى مِنَ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنَ الْحَقِّ؛ لأِنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ .
هَذَا وَلِلرَّهْنِ شُرُوطٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْبُوضًا وَكَوْنُهُ بِدَيْنٍ لاَزِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (رَهْنٌ).
د - الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ:
15 - الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ قَدْ يُسْتَعْمَلاَنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الضَّمَانُ لِلدَّيْنِ وَالْكَفَالَةُ لِلنَّفْسِ، وَهُمَا مَشْرُوعَانِ لِلتَّوْثِيقِ. إِذْ فِيهِ ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الأْصِيلِ عَلَى وَجْهِ التَّوْثِيقِ، وَالأْصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأْكْوَعِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لاَ، فَتَأَخَّرَ فَقِيلَ: لِمَ لاَ تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: مَا تَنْفَعُهُ صَلاَتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ إِلاَّ إِنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ. فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم .
وَلأِنَّ الْكَفَالَةَ تُؤَمِّنُ الدَّائِنَ عَنِ التَّوَى بِإِفْلاَسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْدَمَ الْمَضْمُونُ أَوْ غَابَ أَنَّ الضَّامِنَ يَغْرَمُ الْمَالَ. وَإِذَا حَضَرَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ وَهُمَا مُوسِرَانِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لِلطَّالِبِ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لأِنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ فَمَلَكَ مُطَالَبَتَهُ كَالأْصِيلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ.
وَفِي قَوْلِهِ الآْخَرِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ مَعَ وُجُودِ الأْصِيلِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَةُ الأْصِيلِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ لِلتَّوَثُّقِ فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنَ الْكَفِيلِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الأْصِيلِ كَالرَّهْنِ .
هَذَا وَشُرُوطُ الضَّمَانِ وَمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ وَمَا يَصِحُّ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (كَفَالَةٌ وَضَمَانٌ).
هـ - حَقُّ الْحَبْسِ وَالاِحْتِبَاسِ:
16 - لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْثِيقِ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ وَالاِحْتِيَاطَ؛ لِذَلِكَ كَانَ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ أَنْ يَتَوَثَّقَ لِحَقِّهِ بِحَبْسِ مَا تَحْتَ يَدِهِ لاِسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ:
مِنْهَا: حَقُّ احْتِبَاسِ الْمَبِيعِ إِلَى قَبْضِ الثَّمَنِ - يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئَيْنِ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا فَلَهُ حَبْسُهُمَا إِلَى اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ بِالرَّهْنِ، وَلاَ بِالْكَفِيلِ، وَلاَ بِإِبْرَائِهِ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ حَتَّى يَسْتَوفِيَ الْبَاقِي.
وَيَنْظُرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعٌ وَحَبْسٌ).
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَنَافِعِ إِلَى أَنْ يَتَسَلَّمَ الأْجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ، وَكَذَلِكَ لِلصَّانِعِ حَقُّ حَبْسِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ إِذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ وَاسْتِصْنَاعٌ).
وَمِنْ ذَلِكَ حَبْسُ الْمَدِينِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَمَاطَلَ فِي الأْدَاءِ، وَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنَ الْقَاضِي حَبْسَهُ؛ وَلِلدَّائِنِ كَذَلِكَ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ؛ لأِنَّ لَهُ وِلاَيَةَ حَبْسِهِ .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (دَيْنٌ، أَدَاءٌ، وَفَاءٌ).
17 - هَذِهِ هِيَ أَشْهَرُ أَنْوَاعِ التَّوْثِيقِ، وَهُنَاكَ أُمُورٌ أُخْرَى يَكُونُ الْقِيَامُ بِهَا تَوْثِيقًا لِلْحَقِّ وَصِيَانَةً لَهُ. فَكِتَابَةُ الأْحْكَامِ فِي السِّجِلاَّتِ تُعْتَبَرُ تَوْثِيقًا لِهَذِهِ الأْحْكَامِ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْمُفْلِسِ تَوْثِيقٌ لِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ. وَهَكَذَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِفْلاَسٌ، حَجْرٌ، كِتَابَةٌ).
مَا يَدْخُلُهُ التَّوْثِيقُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
18 - كُلُّ تَصَرُّفٍ صَحِيحٍ مُسْتَوْفٍ لِشُرُوطِهِ يَدْخُلُهُ التَّوْثِيقُ إِذْ التَّوْثِيقُ يُؤَكِّدُ الْحُقُوقَ لأِصْحَابِهَا وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَالتَّجَاحُدِ يَقُولُ الْجَصَّاصُ فِي قوله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه) . فِي الآْيَةِ الأْمْرُ بِالإْشْهَادِ إِذَا صَحَّتِ الْمُدَايَنَةُ.
وقوله تعالس : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) : فِيهِ أَمْرٌ لِمَنْ تَوَلَّى كِتَابَةَ الْوَثَائِقِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكْتُبَهَا بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ.
وقوله تعالي : ( وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) قَالَ الْجَصَّاصُ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُدَايَنَاتِ الثَّابِتَةِ الْجَائِزَةِ لِكَيْ يَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ مَا قَصَدَ مِنْ تَصْحِيحِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْبَاطِلَةُ فَالأْصْلُ فِيهَا أَنَّ الإْقْدَامَ عَلَيْهَا حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهَا لاِرْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ، وَبِالتَّالِي يَكُونُ تَوْثِيقُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حَرَامًا؛ إِذْ وَسِيلَةُ الشَّيْءِ تَأْخُذُ حُكْمَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ مِنْ تَوْثِيقِ التَّصَرُّفَاتِ الْبَاطِلَةِ لأِنَّ هَا مَفْسُوخَةٌ شَرْعًا، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا كَمَا تَتَرَتَّبُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ .
كَذَلِكَ «أَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ يَشْهَدَ عَلَى - تَصَرُّفٍ جَائِرٍ فَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى هِبَةِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ ابْنَهُ النُّعْمَانَ لأِنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ بَشِيرًا رَدَّ عَطِيَّتَهُ.
وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْقَرْضُ الْفَاسِدُ إِذَا شُرِطَ فِيهِ رَهْنٌ فَدَفَعَهُ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمُقْتَرِضُ فَإِنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ فَاسِدًا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّهُ لِلرَّاهِنِ؛ لأِنَّ الرَّهْنَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ.
وَإِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ لاَ يَرِدُ إِلاَّ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ أَكْثَرُ مِنْ تَوْثِيقٍ، وَمِنْهَا مَا يُوَثَّقُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَطْ .
يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: مِنَ الْعُقُودِ مَا يَدْخُلُهُ الرَّهْنُ وَالْكَفِيلُ وَالشَّهَادَةُ، كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.
وَمِنْهُ مَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِالشَّهَادَةِ لاَ بِالرَّهْنِ وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ، جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِهَا، قَالَ: لأِنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ - وَكَذَلِكَ الْجَعَالَةُ، وَمِنْهُ الْمُسَابَقَةُ إِذَا اسْتَحَقَّ رَهْنَهَا جَازَ الرَّهْنُ وَالضَّمِينُ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَوْ لاَزِمٌ.
وَمِنْهُ مَا يَدْخُلُهُ الضَّمِينُ دُونَ الرَّهْنِ وَهُوَ ضَمَانُ الدَّرْكِ قَالَهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ .
بُطْلاَنُ التَّوْثِيقِ:
19 - يَبْطُلُ التَّوْثِيقُ بِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْهَا:
أ - إِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ ضِمْنَ تَصَرُّفٍ فَاسِدٍ، إِذْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ حَتَّى لاَ يَثْبُتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ .
ب - إِذَا فُقِدَتْ شُرُوطُ الْوَثَائِقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. فَفِي الشَّهَادَةِ مَثَلاً تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ وَشَهَادَةُ مَنْ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا مَضَرَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْمِدْيَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّ الدَّيْنِ .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (شَهَادَةٌ).
وَفِي الرَّهْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحَلًّا قَابِلاً لِلْبَيْعِ وَهُوَ - كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ - أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالاً مُطْلَقًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، فَلاَ يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلاَ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ، وَلاَ رَهْنُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلاَ رَهْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالإْحْرَامِ .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (رَهْنٌ).
وَفِي الْكَفَالَةِ يُشْتَرَطُ فِي الْكَفِيلِ أَوِ الضَّامِنِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ، فَيَبْطُلُ ضَمَانُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ - وَأَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعْلُومًا لأِنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ إِذَا كَانَ مَجْهُولاً لاَ يَحْصُلُ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ .
ج - إِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ مُخَالِفًا لأِمْرِ الشَّرْعِ فَإِذَا كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ حَبْسُهُ لقوله تعالي : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) .
كَذَلِكَ لاَ يُحْبَسُ الْوَالِدُ بِدَيْنِ الْوَلَدِلقوله تعالي : ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وَقَوْلُهُ: ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: يَبْطُلُ الضَّمَانُ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمَّلُ بِهِ فَاسِدًا كَمَا لَوْ كَانَ رِبًا كَمَا لَوْ قَالَ شَخْصٌ لآِخَرَ: ادْفَعْ لِهَذَا دِينَارًا فِي دِينَارَيْنِ لِشَهْرٍ، أَوِ ادْفَعْ لَهُ دَرَاهِمَ فِي دَنَانِيرَ إِلَى شَهْرٍ، وَأَنَا حَمِيلٌ بِذَلِكَ (أَيْ كَفِيلٌ) فَالْحَمَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلاَ يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ مُطْلَقًا.
وَكَبَيْعِ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لأِجَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ - عِنْدَ مَنْ يَرَى بُطْلاَنَهُ - فَإِذَا ضَمِنَ ذَلِكَ الثَّمَنَ إِنْسَانٌ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ، وَلاَ يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ.
وَكَمَا إِذَا كَانَتْ الْحَمَالَةُ بِجُعْلٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ. لأِنَّ شَرْطَ الْحَمَالَةِ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ، فَإِذَا كَانَتْ بِمُقَابِلٍ لاَ يُعْتَدُّ بِهَا .
د - إِذَا ضَاعَتْ وَثِيقَةُ الْحَقِّ فَصَالَحَ صَاحِبُهَا ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ فَلاَ قِيَامَ (مُطَالَبَةَ) لَهُ بِهَا جَاءَ فِي الدُّسُوقِيِّ: مَنِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ بِحَقٍّ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّك ثَابِتٌ إِنْ أَتَيْت بِالْوَثِيقَةِ الَّتِي فِيهَا الْحَقُّ، فَقَالَ الْمُدَّعِي: ضَاعَتْ مِنِّي فَصَالَحَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ بَعْدُ فَلاَ قِيَامَ لَهُ بِهَا، وَلاَ يُنْقَضُ الصُّلْحُ اتِّفَاقًا؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا صَالَحَ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِ .
انْتِهَاءُ التَّوْثِيقِ:
20 - يَنْتَهِي التَّوْثِيقُ بِانْتِهَاءِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - احْتِبَاسُ الْمَبِيعِ لأِجْلِ قَبْضِ الثَّمَنِ يَنْتَهِي بِأَدَاءِ الثَّمَنِ وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ.
وَاحْتِبَاسُ الْمَرْهُونِ يَنْقَضِي بِأَدَاءِ الدَّيْنِ وَيَجِبُ فِكَاكُ الرَّهْنِ وَتَسْلِيمُهُ لِلرَّاهِنِ.
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الاِحْتِبَاسِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِأَدَاءِ مَا كَانَ الاِحْتِبَاسُ لأِجْلِهِ .
ب - كَذَلِكَ يَنْتَهِي التَّوْثِيقُ بِإِبْرَاءِ الدَّائِنِ لِلْمَدِينِ وَبِحَوَالَةِ الْمَدِينِ لِلدَّائِنِ فِي الْجُمْلَةِ .
ج - بِالْفَسْخِ أَوْ بِالْعَزْلِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ الْوَدِيعَةِ إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي التَّوْثِيقِ .
د - بِبَيْعِ الْوَثِيقَةِ كَالْمَرْهُونِ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ .
هـ - بِالْمُقَاصَّةِ فِي الدُّيُونِ .
و - بِهَلاَكِ الْمَعْقُود عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ .
ز - مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
أَثَرُ التَّوْثِيقِ:
21 - أَهَمُّ أَثَرٍ لِلتَّوْثِيقِ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ لأَِرْبَابِهَا وَإِثْبَاتُهَا عِنْدَ التَّجَاحُدِ. وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الآْثَارِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - مَنْعُ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ، وَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفًا بَاطِلاً؛ لأِنَّهُ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ - تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْوَثِيقَةِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ .
ب - ثُبُوتُ وِلاَيَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِمَا عَلَى الأْصِيلِ، فَيُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَى الأْصِيلِ، وَيُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يُؤَخِّرُ الْكَفِيلُ إِلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إِحْضَارُهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ لِلْقَاضِي حَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ لَهُ .
ج - ثُبُوتُ وِلاَيَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ الأْصِيلَ إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى الْكَفِيلُ مَا عَلَى الأْصِيلِ .
د - بَيْعُ الْمَرْهُونِ فِي الرَّهْنِ إِذَا عَجَزَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ عَنْ وَفَائِهِ .
التَّوْثِيقُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ:
22 - يَقُولُ الْغَزَالِيُّ: الْمَقْبُولُ رِوَايَتُهُ: كُلُّ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ مُسْلِمٍ ضَابِطٍ فَلاَ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِمَا يُخَالِفُ هَذِهِ الشُّرُوطَ.
وَيَثْبُتُ ذَلِكَ إِمَّا بِالاِخْتِبَارِ أَوْ بِالتَّزْكِيَةِ.
وَالتَّزْكِيَةُ هِيَ إِخْبَارُ الْعَدْلِ بِالْعَدَالَةِ. وَالأْصْلُ فِي مَرَاتِبِهَا اصْطِلاَحُ الْمُزَكِّي فِي أَلْفَاظِ التَّزْكِيَةِ، وَالأْشْهَرُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَرْفَعَهَا فِي التَّعْدِيلِ: حُجَّةٌ وَثِقَةٌ، وَحَافِظٌ وَضَابِطٌ، وَهِيَ تَوْثِيقٌ لِلْعَدْلِ، ثُمَّ بَعْدَهَا ثَلاَثَةُ أَلْفَاظٍ.
مَأْمُونٌ، صَدُوقٌ، لاَ بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَهَا.. إِلَخْ.
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ تَوْثِيقًا: حُكْمُ الْحَاكِمِ وَعَمَلُ الْمُجْتَهِدِ بِرِوَايَتِهِ .
وَيُرْجَعُ إِلَى هَذَا فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَالْمُلْحَقِ الأْصُولِيِّ.