ملحوظة 1: بموجب قانون حالة الطوارئ رقم 162 لسنة 1958، وقرار رئيس الجمهورية رقم 290 لسنة 2021 بمد حالة الطوارئ المعلنة بقرار رئيس الجمهورية رقم 174 لسنة 2021 في جميع أنحاء البلاد لمدة ثلاثة أشهر تبدأ من 24 /7 /2021، وبتفويض رئيس مجلس الوزراء في اختصاصات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في القانون المشار إليه، فقد صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1664 لسنة 2021 المنشور في الجريدة الرسمية، العدد 28 (مكرر) في 18 يوليو 2021، والذي تضمن إحالة الجريمة موضوع هذا النص إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، وذلك خلال فترة سريان قرار رئيس الجمهورية بمد حالة الطوارئ.
ملحوظة 2 : انتهت حالة الطوارئ بانتهاء المدة المنصوص عليها في قرار رئيس الجمهورية رقم 290 لسنة 2021 المشار إليه أعلاه، دون تمديد، وعليه يعود الاختصاص بنظر الجريمة موضوع هذه المادة إلى المحاكم العادية والقاضي الطبيعي، طالما لم تتم إحالة المتهم إلى محكمة أمن الدولة طوارئ قبل انتهاء الفترة المشار إليها.
(مركز الراية للدراسات القانونية)
المصلحة المحمية
أولا : تهدف المادة 87 عقوبات إلى حماية نظام الحكم من خطر الإنقلاب، ويتحدد هذا النظام وفقا لمعنيين أحدهما واسع والآخر ضيق. أما المعنى الواسع لنظام الحكم فيشمل الهيئات الحاكمة، أي القائمة على السلطات العامة في الدولة كما نظمها الدستور (التشريعية والقضائية والتنفيذية) كما يشمل أيضاً كيفية ممارسة هذه السلطات العامة وشكل الحكم، وينصرف المعنى الضيق لنظام الحكم إلى السلطة التنفيذية وحدها، وهي التي تقوم بتنفيذ القوانين وإدارة المرافق العامة، فما المعنى الذي تحميه المادة 87 المذكورة؟
إنه المعنى الواسع والذي يشمل كلاً من الهيئات التي تباشر سلطات الدولة، وكيفية ممارستها للسلطة، وشكل الحكم. ويتضح ذلك جلياً من النص على الدستور كعنصر في المصلحة المحمية، فحماية الدستور لا تكون بالإبقاء على نصوصه مطبوعة كانت أو منشورة، وإنما الإبقاء على النظم التي كفلها ونظمها، ولهذا فإنه من المقرر أن الدستور كما ينتهي بالأسلوب العادي عن طريق السلطة التي يحددها الدستور، فإنه ينتهي أيضا بأسلوب غير عادي عن طريق الثورة أو الإنقلاب، فبقاء الدستور لا يتسنى إلا بالإبقاء على نظام السلطات العامة التي حددها ورسم كيفية عملها، وكل إعتداء على هذا النظام هو اعتداء على الدستور ذاته، والخلاصة أن النص على الدستور كمحل للحماية يكشف عن إتساع الحماية للمعنى الواسع لنظام الحكم على النحو الذي بينها فيما تقدم.
وإذا كان القانون المصري قد حرص على ذكر النظام الجمهوري وشكل الحكومة، وهما من نظام الحكم (بالمعنى الواسع) فإن هذا الحرص قد جاء على سبيل الإيضاح والتخصيص، ويقصد بالنظام الجمهوري الشكل السياسي لنظام الحكم، أما شكل الحكومة فينصرف إلى طريق مباشرة الحكم، أي أسلوب ممارسة السلطة العامة، وهذا التخصيص لا يحول دون اتساع المعنى الأشكال الحكم الأخرى، وهي النظام الديمقراطي والإدارة المحلية أو الحكم المحلي.
ثانياً: تهدف المادة 87 عقوبات أيضا إلى حماية الدستور من خطر الإعتداء عليه بالقوة، ولا صعوبة إذا كان الإعتداء منصباً على الجزء الذي يتعلق بنظام الحكم، فقد رأينا فيما تقدم أن كل مساس بنظام الحكم الذي حدده الدستور هو إعتداء على الدستور ذاته. إنما تثور الدقة إذا انصب الإعتداء على نصوص الدستور الأخرى، مثل المواد التي تنظم الحقوق والواجبات العامة، والمقومات الأساسية للمجتمع، أو بيان الدين الرسمي واللغة الرسمية للدولة. وفي هذه الأحوال إذا انصبت المحاولة على تغيير هذه المعاني، فإنها تنصب على الدستور ذاته لأنه لا قيام للدستور بدون المعاني التي يكفلها.
وعادة ما تتم هذه المحاولة مقرونة بالاعتداء على نظام الحكم ذاته، مما لا يخلق صعوبة عملية . (الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة الكتاب الأول 2016، الصفحة: 256 )
هذه الجريمة جريمة شكلية لا مادية بمعنى أنه لايلزم لتوافرها أن ينتج سلوك الجاني حدثاً ضاراً هو بالذات قلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة كما لايلزم أن ينتج من السلوك ذاته ولو حدث خطر هو تعريض الدستور أو النظام الجمهوري أو شكل الحكومة لخطر القلب أو التغيير فلا يلزم لا الضرر ولا الخطر وإنما يكتفي أن يكون قلب أو تغيير الدستور أو النظام الجمهوري أو شكل الحكومة هدفاً يتجه سلوك الجاني مادياً إلى تحقيقه ولو لم يتحقق. ولو لم يمثل خطر تحققه.
أركان الجريمة :
يتوفر الركن المادي لهذه الجريمة عن طريق المحاولة بالقوة لقلب أو تغيير الدستور أو النظام الجمهوري أو شكل الحكومة ومن ثم فإن الركن المادي يتكون من عنصرين هما المحاولة واستعمال القوة وقيل في تعريف المحاولة بأنه إذا كان الشروع جريمة قائمة بذاتها كانت المحاولة شروعا في الشروع فبينما يتحقق الشروع بالبدء في تنفيذ الجريمة فإن المحاولة تتوافر بالفعل المؤدي حالا ومباشرة إلى هذا البدء في التنفيذ بحيث لو ترك الجاني لأول مرة لأدى البدء في تنفيذ الجريمة، ويجب في جميع الأحوال أن تتجاوز المحاولة مجرد التصميم أو الاتفاق أو التخطيط للجريمة بل يجب أن يصل الأمر إلى مباشرة بعض الأعمال المادية إلى تشف عن مزمع الجاني على تحقيق قصده وإن لم تصل هذه الأعمال إلى مرحلة البدء في تنفيذ الإنقلاب، وهنا لايكفي مجرد الأعمال التحضيرية بل يجب تجاوزها بحد يسير ولذلك فإن مجرد شراء السلاح هو مجرد عمل تحضيري أما توزيعه على المتآمرين فهو نوع من المحاولة، على ذلك فالمحاولة هي دون الشروع من الأعمال التي يقصد بها الوصول إلى الجريمة وإن لم تصل إلى البدء في التنفيذ.
ولابد أن تقترن المحاولة باستعمال القوة على أية صورة وبأي قدر فی محاولة لقب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة وعديدة هي صور استعمال القوة. ويلاحظ أن نجاح المحاولة في الإطاحة بالحكم بالقائم ليس مؤداه بالضرورة أن تؤول إلى أيدي أصحابها مقاليد الحكم الجديد فقد تثبت لسواهم ولو بفضل منهم وعندئذ يتعرضون للمحاكمة بالتطبيق للقانون النافذ كما لو كانت المحاولة لم تنجح وقد قدمت السوابق التاريخية الفرنسية أمثلة على ذلك.
وأما عن الركن المعنوي فإنه فضلاً عن توافر القصد العام يشترط لوقوع هذه الجريمة توافر قصد جنائي خاص هو نية الإنقلاب وعلة ذلك أن الركن المادي لهذه الجريمة يتم بفعل ينطبق عليه وصف المحاولة ولا يشترط فيه وقوع الإنقلاب فعلاً ومن ثم فإن واقعة الانقلاب تبدو عنصراً بعيد عن الركن المادي للجريمة ولذلك فإن انصراف قصد الجاني نحو تحقيق هذه الواقعة يعتبر قصداً جنائياً خاصاً وعلى ذلك فمن يحاول بالقوة الوصول إلى غرض آخر كالنهب أو السلب لا يسرى عليه وصف الجريمة التي نحن بصددها وإن كان يصدق على مسلکه وصف جريمة أخرى.
العقوبة :
كل من يحاول قلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة بالقوة منفرداً أو مع غيره ولو استخدم السلاح يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة مالم تكن له صفة مؤلف العصابة أو زعيمها أو تولى قيادة ما فيها إذ يعاقب في هذه الحالة بالإعدام إذا كانت العصابة مسلحة فإذا لم تكن العصابة مسلحة عوقب جميع أعضائها ومنهم مؤلفها وزعيمها والمتولى قيادة فيها بالسجن المؤبد بالسجن المشدد.
المراد بالعصابة في هذا الصدد كل جمعية منظمة يديرها ويتزعمها بعض أفرادها ولايشترط توافر عدد معين في هذه العصابة وكل ما يجب هو أن تكون العصابة مسلحة أي حاملة للأسلحة ولا يشترط أن يكون السلاح أى أيدى أفرادها بل يكفي أن يكون تحت تصرفهم ويكفي أيضاً أن تتوافر صفة التسليح بالنسبة إلى غالبية أعضائها ولو لم يحمل السلاح مؤلفها أو زعيمها أن من له قيادة فيها ولا يتوافر الظرف المشدد بالنسبة إلى جميع أعضاء العصابة وإنما يقتصر على مؤلفها أو زعيمها أو من تولى قيادة فيها ومؤلف العصابة هو الذي قام بتشكيلها أو إختيار أعضائها وقد يتعدد مؤلف العصابة الواحدة، وزعيم العصابة هو قائدها الذي يوجه العصابة ويديرها أما من تولى قيادة في العصابة فهو كل عضو أسند إليه مهمة رئاسية على غيره من أعضاء العصابة تعطية قدرا من سلطة التوجيه أو الإدارة أو الإشراف على أعمال العصابة أو أعضائها. (موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثاني، الصفحة : 77 )
بالتأمل في نموذج الجريمة، يتبين أنها جريمة شكلية لا مادية، بمعنى أنه لا يلزم لتوافرها أن ينتج سلوك الجاني حدثاً ضاراً هو بالذات قلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة، كما لا يلزم أن ينتج من السلوك ذاته ولو حدث خطر هو تعريض الدستور أو النظام الجمهوري أو شكل الحكومة لخطر القلب أو التغيير.
فلا يلزم لا الضرر ولا الخطر، وإنما يكفي أن يكون قلب أو تغيير الدستور أو النظام الجمهوري أو شكل الحكومة هدفا يتجه سلوك الجاني ماديا إلى تحقيقه ولو لم يتحقق، ولو لم يمثل خطر تحققه.
وفي الوقت ذاته، تعتبر الجريمة في فرضها الأول جريمة فاعل وحيد، أي لا يلزم لقيامها قانوناً أن يتعدد فاعليها.
ومع ذلك فإن الجريمة في الفرض الثاني المنصوص عليه في المادة عينها، تعتبر جريمة فاعل متعدد بالنسبة لمن ألف لإرتكابها عصابة أو تولى زعامتها أو تولى فيها قيادة ما.
الركن المادي للجريمة :
يتخذ السلوك المكون للجريمة مادياً صورة استعمال القوة على أية صورة وبأي قدر في محاولة لقلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة.
وعديدة هي صور إستعمال القوة، فمنها الضرب بالأيدي، ومنها اختطاف الأشخاص أو حبسهم بدون حق، ومنها إطلاق الأعيرة النارية.
ولكل من دستور الدولة ونظامها الجمهوري وشكل الحكومة مدلول خاص، فدستور الدولة هو قانونها الأساسي الأعلى الذي إرتضاه الشعب لتسير دولته على مقتضاه، ونظامها الجمهوري هو أن يوجد في قمتها رئيس منتخب وقابل للتغيير، لا ملك يؤول الحكم إليه بالميراث عن السلف، وشكل الحكومة هو مدى إسهام الشعب في إدارة شئونها والهيمنة على مسيرتها.
ودستور الدولة المصرية حالياً، هو الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية الصادر في 11 سبتمبر 1971 في أعقاب ثورة 15 مايو 1971 والمعدل بتاريخ 30 أبريل 1980.
والنظام الجمهوري للدولة هو نظامها منذ سقوط الملكية نتيجة لثورة 23 يوليو 1952 وشكل الحكومة هو الشكل الإشتراكي الديمقراطي.
على أنه يجب لتوافر الجريمة حدوث محاولة بالقوة للوصول إلى هدف من تلك الأهداف.
فإذا كانت هناك مؤامرة القيام بهذه المحاولة، أخذ أعضاؤها يتدارسون أسلوب إنجازها فضبطوا قبل أن يقوموا بالمحاولة فعلا، فإنه لا تتوافر الجريمة التي نحن بصددها وإنما جريمة أخرى هي الإتفاق الجنائي المنصوص عليه في المادة 96 عقوبات.
فلابد إذن من وقوع محاولة استخدمت القوة فيها، ولو باءت هذه المحاولة بالفشل.
ولما كان حدوث المحاولة بالقوة فعلاً مناط توافر الجريمة، فإنه لا يمكن تصور الشروع فيها، لأنه إما أن تقع المحاولة فتحقق الجريمة بذلك كاملة، وإما ألا تحدث فلا تقوم الجريمة التي نحن بصددها مهما توافرت جريمة ذات وصف آخر.
ومن البديهي أنه لو حدثت - بمناسبة المحاولة بالقوة - وقائع إصابة لشخص أو إتلاف الشيء تعددت الجريمة في حق الجاني تعدداً صورياً تبعاً لتعدد أوصافها، وصارت العبرة بالوصف الأشد.
وقد خيل للبعض أن توافر الجريمة يتوقف على فشل المحاولة إذ أنها حين تنجح وينقلب بالفعل الدستور أو النظام الجمهوري أو شكل الحكومة، يكون معنی ذلك أن أصحاب المحاولة الناجحة تؤول إليهم دفة الحكم.
ولكن هذا التصور في غير محله، لأن نجاح المحاولة في الإطاحة بالحكم القائم، ليس مؤداه بالضرورة أن تؤول إلى أيدي أصحابها مقاليد الحكم الجديد، فقد تثبت لسواهم ولو بفضل منهم، وعندئذ يتعرضون للمحاكمة بالتطبيق القانون النافذ كما لو كانت المحاولة لم تنجح.
الركن المعنوي للجريمة :
و لما كانت الجريمة عمدية، فإنه يجب لقيامها أن تنصرف إرادة الجاني أو الجناة إلى الركن المادي لها كما وصفه القانون .
فلا تكفي محاولة تستخدم فيها القوة حيث لا يثبت أن الغرض من هذه المحاولة هو قلب أو تغيير الدستور أو نظام الحكم أو شكل الحكومة، وهذا ما يستفاد من العبارة التي استخدمها نص التجريم إذ حدد مرتكب الجريمة بأنه من حاول بالقوة قلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة.
العقوبة :
كل من يحاول بالقوة قلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة، يعاقب بالسجن المؤبد أو المشدد سواء حدثت المحاولة بفعله هو أو بفعل عصابة كان هو عضو فيها على علم بالغرض منها.
فإن كان المتهم عضواً في العصابة التي ارتكبت الجريمة ومع ذلك قبض عليه بعيداً عن أماكن الاجتماع الثوري بلا مقاومة ولم يكن حاملاً سلاحاً، فإنه يعفى من العقاب طبقاً للمادة (100) عقوبات.
فشرط عقابه إذن أن يقبض عليه في مسرح الجريمة، أو أن يقبض عليه خارج مسرحها حاملاً سلاحاً أو تصدر عنه مقاومة.
وعند وقوع الجريمة من عصابة، يعاقب من ألفها ومن تولى زعامتها ومن تولى فيها قيادة ما بالإعدام.
وإنما يلزم الإستحقاق هذه العقوبة أن تكون العصابة مسلحة، أي أن يثبت من التحقيق وجود أسلحة في وكر لها أو لدى بعض من أعضائها، وإلا فتكون العقوبة المستحقة على الجاني السجن المؤبد أو المشدد إذا استخدمت القوة في المحاولة بدون أن تستخدم أسلحة، كما لو استخدم أسلوب المصارعة والملاكمة على أنه حين يستخدم السلاح في المحاولة، يعاقب بالإعدام من ألف العصابة ومن تولى زعامتها أو تولى فيها قيادة ما، وأما مستخدم السلاح بالذات فإنه إن لم يكن منطبقاً عليه وصفاً من هذه الأوصاف، يعاقب بالسجن المؤبد أو المشدد ما لم يكن قد حدث منه قتل مع سبق الإصرار، فتعدد الجريمة في حقه تعددا صوريا ويحكم عليه بعقاب الوصف الأشد.
ومفاد ما تقدم، أن عقوبة السجن المؤبد أو المشدد يستحقها من يحاول بالقوة منفردة، أو من يحاول بالقوة مع غيره، ولو استخدم السلاح، ما لم تكن له صفة مؤلف العصابة أو زعيمها أو متولي قيادة ما فيها إذ يعاقب في هذه الحالة بالإعدام، الكون العصابة مسلحة.
فإذا لم تكن العصابة مسلحة ، عوقب جميع أعضائها ومنهم مؤلفها وزعيمها والمتولي قيادة فيها بالسجن المؤبد أو المشدد. (الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثاني، الصفحة : 152)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة: 168
(مادة 316)
يعاقب بالسجن المؤبد أو المؤقت كل من شرع بالقوة في قلب أو تغيير دستور الدولة ، أو نظامها الجمهوري ، أو شكل الحكومة ، أو في الإستيلاء على الحكم .
ويعاقب بذات العقوبة من إعتدى بالقوة ، أو العنف ، أو التهديد ، أو أية وسيلة غير مشروعة على رئيس الجمهورية أو نائبه ، بحرمانه من سلطاته كلها أو بعضها ، أو بعزله ، أو بإجباره على التنازل عن منصبه ، أو بحمله على أداء عمل من إختصاصه قانوناً ، أو على الإمتناع عنه .
فإذا وقعت الجريمة من عصابة مسلحة ، يعاقب بالإعدام من ألف العصابة ، أو تولى زعامتها أو قيادة فيها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن ، الصفحة / 130
بُغَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا: أَيْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى، فَهُوَ بَاغٍ وَالْجَمْعُ بُغَاةٌ، وَبَغَى: سَعَى بِالْفَسَادِ، وَمِنْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ .
وَالْفُقَهَاءُ لاَ يَخْرُجُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلاَّ بِوَضْعِ بَعْضِ قُيُودٍ فِي التَّعْرِيفِ فَقَدْ عَرَّفُوا الْبُغَاةَ بِأَنَّهُمُ: الْخَارِجُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَاعَةِ الإْمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ شَوْكَةٌ.
وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ: الاِمْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ الَّذِي يَطْلُبُهُ الإْمَامُ، كَالزَّكَاةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ سِوَى الْبُغَاةِ اسْمُ (أَهْلِ الْعَدْلِ) وَهُمُ الثَّابِتُونَ عَلَى مُوَالاَةِ الإْمَامِ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَوَارِجُ:
- يَقُولُ الْجُرْجَانِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ . وَهُمْ فِي الأَْصْلِ كَانُوا فِي صَفِّ الإْمَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي الْقِتَالِ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ لَمَّا قَبِلَ التَّحْكِيمَ. قَالُوا: لِمَ تُحَكِّمْ وَأَنْتَ عَلَى حَقٍّ.
وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَلَى بَاطِلٍ بِقَبُولِهِ التَّحْكِيمَ، وَيُوجِبُونَ قِتَالَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَيَسْبُونَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ؛ لأِنَّهُمْ فِي نَظَرِهِمْ كُفَّارٌ .
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ بُغَاةٌ، وَلاَ يَرَوْنَ تَكْفِيرَهُمْ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ أَنَّ الإْمَامَ عَلِيًّا رضي الله عنه سُئِلَ عَنْهُمْ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا. قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً. قِيلَ فَمَا هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ، فَعَمُوا وَصَمُّوا، وَبَغَوْا عَلَيْنَا، وَقَاتَلُوا فَقَاتَلْنَاهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلاَثٌ: لاَ نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلاَ نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلاَ نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا . وَيَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ تَظَاهَرَ الْخَوَارِجُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَهُمْ عَلَى اخْتِلاَطٍ بِأَهْلِ الْعَدْلِ، جَازَ لِلإْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ .
وَتَفْصِيلُ الْكَلاَمِ فِي مُصْطَلَحِ (فِرَق).
ب - الْمُحَارِبُونَ:
- الْمُحَارِبُونَ: لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِرَابَةِ مَصْدَرُ حَرَبَ، وَحَرَبَهُ يَحْرُبُهُ: إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، وَالْحَارِبُ: الْغَاصِبُ النَّاهِبُ .
وَعَبَّرَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لأِخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمَارَّةَ مِنَ الْمُرُورِ، فَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ أَمْ وَاحِدٍ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِسِلاَحٍ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَصَا وَالْحَجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتُسَمَّى الْحِرَابَةُ بِالسَّرِقَةِ الْكُبْرَى.
أَمَّا كَوْنُهَا سَرِقَةً؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَأْخُذُ الْمَالَ خُفْيَةً عَنْ عَيْنِ الإْمَامِ الَّذِي عَلَيْهِ حِفْظُ الأْمْنِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا كُبْرَى؛ فَلأِنَّ ضَرَرَهُ يَعُمُّ، حَيْثُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِزَوَالِ الأْمْنِ .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ هُوَ أَنَّ الْبَغْيَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ تَأْوِيلٍ، أَمَّا الْحِرَابَةُ فَالْغَرَضُ مِنْهَا الإْفْسَادُ فِي الأْرْضِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبَغْيِ:
الْبَغْيُ حَرَامٌ، وَالْبُغَاةُ آثِمُونَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْبَغْيُ خُرُوجًا عَنِ الإْيمَانِ؛ لأِنَّ اللَّهَ سَمَّى الْبُغَاةَ مُؤْمِنِينَ فِي قوله تعالي : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) إِلَى أَنْ قَالَ: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ، وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ الإْمَامِ فِي قِتَالِهِمْ. وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَثْنَاءَ قِتَالِهِمْ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَيَسْقُطُ قِتَالُهُمْ إِذَا فَاءُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَيَقُولُ الصَّنْعَانِيُّ: إِذَا فَارَقَ أَحَدٌ الْجَمَاعَةَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ وَلاَ قَاتَلَهُمْ يُخَلَّى وَشَأْنَهُ؛ إِذْ مُجَرَّدُ الْخِلاَفِ عَلَى الإْمَامِ لاَ يُوجِبُ قِتَالَ الْمُخَالِفِ.
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لاِبْنِ مَسْعُودٍ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَتَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الأْمَّةِ؟ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ أَلاَّ يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ، وَلاَ يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ».
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ اسْمَ ذَمٍّ؛ لأِنَّ الْبُغَاةَ خَالَفُوا بِتَأْوِيلٍ جَائِزٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، فَلَهُمْ نَوْعُ عُذْرٍ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ الاِجْتِهَادِ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِمْ، وَمَا وَقَعَ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْعِصْيَانِ أَوِ الْفِسْقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لاَ أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلاِجْتِهَادِ، أَوْ لاَ تَأْوِيلَ لَهُ . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَطْعِيَّ الْبُطْلاَنِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْبُغَاةِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ فِعْلِهِمْ، أَوْ كَوْنُهُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً كَمَا يَلِي:
أ - الْبُغَاةُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، كَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ . وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَكَذَا إِنْ تَكَلَّمُوا بِالْخُرُوجِ لَكِنْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ بَعْدُ، فَلَيْسَ لِلإْمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ؛ لأِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِمَّنْ عَصَى الإْمَامَ لاَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، مِنْ أَنَّهُ مَكَثَ أَشْهُرًا لَمْ يُبَايِعِ الْخَلِيفَةَ ثُمَّ بَايَعَهُ. يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَ الْبُغَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ .
ب - إِنْ خَالَطَ الْبُغَاةَ أَهْلُ الْعَدْلِ، وَتَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ، دُونَ مُقَاتَلَتِهِمْ جَازَ لِلإْمَامِ تَعْزِيرُهُمْ؛ إِذِ التَّظَاهُرُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَنَشْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ دُونَ قِتَالٍ يُعْتَبَرُ مِنَ الصَّغَائِرِ .
ج - إِذَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامٍ، وَصَارُوا آمَنِينَ بِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ لِدَعْوَى الْحَقِّ وَالْوِلاَيَةِ. فَقَالُوا: الْحَقُّ مَعَنَا، وَيَدَّعُونَ الْوِلاَيَةَ، وَلَهُمْ تَأْوِيلٌ وَمَنَعَةٌ، فَهُمْ أَهْلُ بَغْيٍ، فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ مُنَاصَرَةُ الإْمَامِ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِنَ الْبُغَاةِ الْخَوَارِجُ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا خَرَجُوا عَلَى الإْمَامِ فَهُمْ فُسَّاقٌ .
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ:
يَتَحَقَّقُ الْبَغْيُ بِمَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُونَ عَلَى الإْمَامِ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لإِرَادَةِ خَلْعِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ. فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَكَانُوا حَرْبِيِّينَ لاَ بُغَاةً. وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلاَ طَلَبِ إِمْرَةٍ لَكَانُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ، وَلاَ يُخْشَى قِتَالُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ. وَلَوْ خَرَجُوا عَلَى الإْمَامِ بِحَقٍّ - كَدَفْعِ ظُلْمٍ - فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ، وَعَلَى الإْمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مَعُونَةُ الإْمَامِ عَلَيْهِمْ؛ لأِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ، وَلاَ أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْخَارِجَةَ؛ لأِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى خُرُوجِهِمْ، وَاتِّسَاعِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَ الْفِتْنَةَ.
وَأَمَّا مَنْ خَرَجُوا عَلَى الإْمَامِ بِمَنَعَةٍ، بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، مُسْتَحِلِّينَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، مِمَّا كَانَ قَطْعِيَّ التَّحْرِيمِ، كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ، فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ؛ لأِنَّ الْبَاغِيَ تَأْوِيلُهُ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَلَكِنَّ فَسَادَهُ هُوَ الأْظْهَرُ، وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي زَعْمِهِ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ .
ب - أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ وَصَارُوا بِهِ آمَنِينَ، وَالطُّرُقَاتُ بِهِ آمِنَةٌ؛ لأِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَكُونُ عَاجِزًا، أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَعَزْلُهُ، إِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ، وَإِلاَّ فَالصَّبْرُ أَوْلَى مِنَ التَّعَرُّضِ لإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
ج - أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْقَهْرِ. وَقِيلَ: بِالْمُقَاتَلَةِ؛ وَذَلِكَ لأِنَّ مَنْ يَعْصِي الإْمَامَ لاَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لاَ يَكُونُ مِنَ الْبُغَاةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الإْمَامِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْقَهْرِ لاَ يَكُونُ بَاغِيًا.
د - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ لِلْخَارِجِينَ مُطَاعٌ فِيهِمْ، يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا مَنْصُوبًا؛ إِذْ لاَ شَوْكَةَ لِمَنْ لاَ مُطَاعَ لَهُمْ.
وَقِيلَ: بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِمَامٌ مَنْصُوبٌ مِنْهُمْ .
هَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الْبَغْيِ انْفِرَادُهُمْ بِنَحْوِ بَلَدٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِمُقَاتَلَتِهِمْ .
الإْمَامُ الَّذِي يُعْتَبَرُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بَغْيًا:
- مَنِ اتَّفَقَ، الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ وَمَعُونَتُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ بِعَهْدِ إِمَامٍ قَبْلَهُ إِلَيْهِ؛ إِذِ الإْمَامُ يَصِيرُ إِمَامًا بِالْمُبَايَعَةِ أَوْ بِالاِسْتِخْلاَفِ مِمَّنْ قَبْلَهُ. وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الإْمَامِ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ وَتَابَعُوهُ، صَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ . وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ بَحْثُ (الإْمَامَةِ الْكُبْرَى).
أَمَارَاتُ الْبَغْيِ:
- إِذَا تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الإْمَامِ وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَأَظْهَرُوا الاِمْتِنَاعَ، وَكَانُوا مُتَحَيِّزِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِقَصْدِ الْقِتَالِ، لِخَلْعِ الإْمَامِ وَطَلَبِ الإْمْرَةِ لَهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يُبَرِّرُ فِي نَظَرِهِمْ مَسْلَكَهُمْ دُونَ الْمُقَاتَلَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.
وَيَنْبَغِي إِذَا مَا بَلَغَ الإْمَامَ أَمْرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلاَحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً؛ دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الإْمْكَانِ؛ لأِنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ أَنْ يَبْدَءُوهُ بِالْقِتَالِ، فَرُبَّمَا لاَ يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ، لِتَقَوِّي شَوْكَتِهِمْ وَتَكَثُّرِ جَمْعِهِمْ، خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إِلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ . وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلإْمَامِ لِمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، أَوْ لآِدَمِيٍّ كَزَكَاةٍ، وَكَأَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ مِمَّا جَبَوْهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَخَرَاجِ الأْرْضِ، مَعَ التَّحَيُّزِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْخُرُوجِ عَلَى الإْمَامِ عَلَى وَجْهِ الْمُغَالَبَةِ، وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ .
أَمَّا لَوْ أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ، كَتَكْفِيرِ فَاعِلِ الْكَبِيرَةِ وَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَاسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْتَكِبُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الْقِتَالَ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الإْمَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ أَمَارَةَ الْبَغْيِ، حَتَّى لَوِ امْتَازُوا بِمَوْضِعٍ يَتَجَمَّعُونَ فِيهِ، لَكِنْ إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ تَعَرَّضْنَا لَهُمْ إِلَى زَوَالِ الضَّرَرِ .
بَيْعُ السِّلاَحِ لأِهْلِ الْفِتْنَةِ:
- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلاَحِ لِلْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لأِنَّ هَذَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الإْعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ إِجَارَةٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ، وَقَدْ قَالَ الإْمَامُ أَحْمَدُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الْفِتْنَةِ».
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلاَحِ لَهُمْ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً؛ لأِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ)؛ وَلأِنَّ الْوَاجِبَ أَخْذُ سِلاَحِهِمْ بِمَا أَمْكَنَ، حَتَّى لاَ يَسْتَعْمِلُوهُ فِي الْفِتْنَةِ، فَمَنْعُ بَيْعِهِ لَهُمْ أَوْلَى.
وَالَّذِي يُكْرَهُ هُوَ بَيْعُ السِّلاَحِ نَفْسِهِ الْمُعَدِّ لِلاِسْتِعْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّ طَالِبَ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لاَ يُكْرَهُ الْبَيْعُ لَهُ؛ لأِنَّ الْغَلَبَةَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ لأِهْلِ الصَّلاَحِ، وَالأْحْكَامُ تُبْنَى عَلَى الْغَالِبِ.
وَأَمَّا مَا لاَ يُقَاتَلُ بِهِ إِلاَّ بِصَنْعَةٍ كَالْحَدِيدِ، فَلاَ يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لأِنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقَعُ بِعَيْنِ السِّلاَحِ، بِخِلاَفِ الْحَدِيدِ، وَقَاسُوهُ عَلَى الْخَشَبِ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَعَازِفُ، فَإِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لأِنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ مُنْكَرًا، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ الْمَحْظُورِ.
وَالْحَدِيدُ وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا بَيْعُهُ لأِهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأِهْلِ الْبَغْيِ؛ لأِنَّهُمْ لاَ يَتَفَرَّغُونَ لاِسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ سِلاَحًا؛ لأِنَّ فَسَادَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ جَمْعِهِمْ، بِخِلاَفِ أَهْلِ الْحَرْبِ .
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَقَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا .
وَاجِبُ الإْمَامِ نَحْوَ الْبُغَاةِ:
أ - قَبْلَ الْقِتَالِ:
10 - يَنْبَغِي لِلإْمَامِ أَنْ يَدْعُوَ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ رَجَاءَ الإْجَابَةِ، وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ، لَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِالتَّذْكِرَةِ؛ لأِنَّهُ تُرْجَى تَوْبَتُهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِظُلْمٍ مِنْهُ أَزَالَهُ، وَإِنْ ذَكَرُوا عِلَّةً يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا؛ لأِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَدَأَ الأْمْرَ بِالإْصْلاَحِ قَبْلَ الْقِتَالِ فَقَالَ: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) . وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لاَ قَتْلُهُمْ. فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ. وَلاَ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ . وَإِنْ طَلَبُوا الإْنْظَارَ - وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَصْدِهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الطَّاعَةِ - أَمْهَلَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: يُنْظِرُهُمْ إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ كَيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ .
وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى بَغْيِهِمْ، بَعْدَ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَمِينًا نَاصِحًا لِدَعْوَتِهِمْ، نَصَحَهُمْ نَدْبًا بِوَعْظٍ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَحَسَّنَ لَهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ الدِّينِ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ، فَإِنْ أَصَرُّوا آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ.
وَإِنْ قَاتَلَهُمْ بِلاَ دَعْوَةٍ جَازَ؛ لأِنَّ الدَّعْوَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ إِنْذَارُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ مَا لَمْ يُعَاجِلُوهُ .
وَكَوْنُ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ عَارِفًا فَطِنًا وَاجِبٌ، إِنْ بُعِثَ لِلْمُنَاظَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَةِ، وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبٌّ .
وَفَصَّلَ الْكَاسَانِيُّ فَقَالَ: إِنْ عَلِمَ الإْمَامُ أَنَّهُمْ يُجَهِّزُونَ السِّلاَحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ أَوَّلاً، فَإِنَّ الإْمَامَ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ حَرُورَاءَ، نَدَبَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ... وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لأِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ .
وَقَدْ أَسْنَدَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلاَفٍ، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ. قَالَ إِنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ. قُلْتُ: كَلاَّ. فَلَبِسْتُ ثِيَابِي، وَمَضَيْتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ.
وَقُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَصِهْرِهِ وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ. وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقُلْتُ: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَخَتَنِهِ. قَالُوا: ثَلاَثٌ. أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) وَأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ. وَأَنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلي الله عليه وسلم مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ هَذَا، تَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إِلَى الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إِلَى قَوْلِهِ ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَحَقُّ، أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ؟.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ أُمُّكُمْ؟ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ؛ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ:
هَذَا مَا قَضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي. يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»، فَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنَ النُّبُوَّةِ.
فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ، فَقُوتِلُوا .
وَيُصَرِّحُ الأْلُوسِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْقِتَالِ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَجِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَدَعْوَةِ الْبُغَاةِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الإْمَامِ .
ب - قِتَالُ الْبُغَاةِ:
إِذَا مَا دَعَا الإْمَامُ الْبُغَاةَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، وَكَشَفَ شُبْهَتَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا وَتَحَيَّزُوا مُجْتَمِعِينَ، وَكَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ. وَلَكِنْ هَلْ نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ، أَمْ لاَ نُقَاتِلُهُمْ إِلاَّ إِذَا أَظْهَرُوا الْمُغَالَبَةَ؟ هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:
الاِتِّجَاهُ الأْوَّلُ: جَوَازُ الْبَدْءِ بِالْقِتَالِ؛ لأِنَّهُ لَوِ انْتَظَرْنَا قِتَالَهُمْ رُبَّمَا لاَ يُمْكِنُ الدَّفْعُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ خُوَاهَرْ زَادَهْ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ النَّصَّ جَاءَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْبُدَاءَةِ مِنْهُمْ فِي قوله تعالي : ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) وَقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِدَاثُ الأْسْنَانِ سُفَهَاءُ الأْحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَلأِنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى عَلاَمَتِهِ، وَهِيَ هُنَا التَّحَيُّزُ وَالتَّهَيُّؤُ، فَلَوِ انْتَظَرْنَا حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ لَصَارَ ذَرِيعَةً لِتَقْوِيَتِهِمْ. فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الإْمَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ؛ وَلأِنَّهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى الإْمَامِ صَارُوا عُصَاةً فَجَازَ قِتَالُهُمْ، إِلَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ. وَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَوَارِجِ لَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ: حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى قِتَالِنَا. وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ، وَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؛ لأِنَّهُ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِأَهْوَنَ مِنْهُ .
وَإِلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ، جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِنْ أَبَوُا الرُّجُوعَ وَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ تَرَكَهُمْ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِتَالُهُمْ إِنْ كَانَ قَادِرًا؛ لإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: نَقَلَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لاَ يَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْكَاسَانِيُّ وَالْكَمَالُ. قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، لاَ لِشَرِّ شِرْكِهِمْ؛ لأِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَمَا لَمْ يَتَوَجَّهِ الشَّرُّ مِنْهُمْ لاَ يُقَاتِلُهُمُ الإْمَامُ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ قِتَالُ الْمُسْلِمِ إِلاَّ دَفْعًا، بِخِلاَفِ الْكَافِرِ؛ لأِنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ قَبِيحٌ . وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ لأِنَّ عَلِيًّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَلاَّ يَبْدَءُوا مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ، وَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ دُونَ الْقَتْلِ لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ. وَلاَ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ كَالصَّائِلِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: «الأْفْضَلُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْدَءُوهُ» أَيِ الْقِتَالَ .
الْمُعَاوَنَةُ فِي مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ:
- مَنْ دَعَاهُ الإْمَامُ إِلَى مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ افْتُرِضَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ؛ لأِنَّ طَاعَةَ الإْمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الإْمَامِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ ظُلْمَ الإْمَامِ بِمَا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ؛ إِذْ يَجِبُ مَعُونَتُهُمْ لإِنْصَافِهِمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ بَيْتَهُ. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِلِّ الْقِتَالِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ: «إِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ. أَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً، أَوْ لأِجْلِ الدُّنْيَا وَالْمُلْكِ. وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ ظَالِمًا، وَبَغَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ لِرَفْعِ الظُّلْمِ، وَطُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَجِبْ، فَلاَ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مُعَاوَنَةُ السُّلْطَانِ وَلاَ مُعَاوَنَةُ الْبُغَاةِ ؛ إِذْ غَيْرُ الْعَدْلِ لاَ تَجِبُ مُعَاوَنَتُهُ. قَالَ مَالِكٌ: دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا . وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَنْ خَرَجُوا عَلَى الإْمَامِ - وَلَوْ جَائِرًا - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِعَانَتُهُ مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهُمْ، حَتَّى تَبْطُلَ شَوْكَتُهُمْ .
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَعُونَةِ الإْمَامِ لِدَفْعِ الْبُغَاةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَعْطَى إِمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآْخَرِ» وَلأِنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ...» .
شُرُوطُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ:
إِذَا لَمْ يُجْدِ مَعَ الْبُغَاةِ النُّصْحُ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ الإْمَامِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا الاِسْتِتَابَةَ - إِنْ كَانُوا فِي قَبْضَةِ الإْمَامِ - وَرَأَوْا مُقَاتَلَتَنَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ . بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحُرُمَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، أَوْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، أَوْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الإْمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ. عَلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: الأْوْجَهُ وُجُوبُ قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا؛ لأِنَّ بِبَقَائِهِمْ - وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا ذُكِرَ - تَتَوَلَّدُ مَفَاسِدُ، قَدْ لاَ تُتَدَارَكُ مَا دَامُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ قَبْضَةِ الإْمَامِ وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ .
وَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ وَجَبَ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ؛ إِذْ يُشْتَرَطُ لِمُقَاتَلَتِهِمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْقِتَالُ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ .
كَيْفِيَّةُ قِتَالِ الْبُغَاةِ:
- الأْصْلُ أَنَّ قِتَالَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ دَرْءًا لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ، مَعَ عَدَمِ التَّأْثِيمِ؛ لأِنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ، وَلِذَا فَإِنَّ قِتَالَهُمْ يَفْتَرِقُ عَنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ بِأَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ لاَ قَتْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ مُدْبِرِهِمْ، وَلاَ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلاَ تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ، وَلاَ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَلاَ تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَلاَ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِمُشْرِكٍ، وَلاَ يُوَادِعُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَلاَ تُنْصَبُ عَلَيْهِمُ الْعَرَّادَاتُ (الْمَجَانِيقُ وَنَحْوُهَا)، وَلاَ تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ، وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ .
وَإِذَا تَحَيَّزَ الْبُغَاةُ إِلَى جِهَةٍ مُجْتَمَعِينَ، أَوْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ شَرِّهِمْ إِلاَّ بِالْقِتَالِ، حَلَّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ؛ إِذِ الْجِهَادُ مَعَهُمْ وَاجِبٌ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ شَرُّهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ. وَقَدْ قَاتَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَهْلَ حَرُورَاءَ بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَهُ «أَنَا أُقَاتِلُ عَلَى تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ، وَعَلِيٌّ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِهِ» وَالْقِتَالُ مَعَ التَّأْوِيلِ هُوَ الْقِتَالُ مَعَ الْبُغَاةِ، وَذَلِكَ كَقِتَالِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَانِعِي الزَّكَاةِ .
وَإِذَا قَاتَلَهُمْ الإْمَامُ فَهَزَمَهُمْ، وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأُمِنَ جَانِبُهُمْ، أَوْ تَرَكُوا الْقِتَالَ بِإِلْقَاءِ السِّلاَحِ أَوْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ بِالْعَجْزِ، لِجِرَاحٍ أَوْ أَسِيرٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، وَلاَ يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلاَ يَقْتُلُوا أَسِيرَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الأْمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ، وَلاَ تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، وَلاَ يُقْسَمُ لَهُ مَالٌ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه لاَ يُقْتَلُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ مُقْبِلٌ وَلاَ مُدْبِرٌ، وَلاَ يُفْتَحُ بَابٌ، وَلاَ يُسْتَحَلُّ فَرْجٌ وَلاَ مَالٌ بَلْ قَالَ لَهُمْ: مَنِ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ، أَيْ مَنْ عَرَفَ مِنَ الْبُغَاةِ مَتَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، وَقَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لاَ تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ ؛ وَلأِنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ وَالرَّدِّ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْقَتْلِ . وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلاَ نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلاَفًا؛ لأِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَلاَ يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ وُصُولِهَا لَهُمْ، فَإِنَّهُ لاَ يُقَاتَلُ مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لأِمْنِ غَائِلَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ قَرِيبَةٌ تُسْعِفُهُمْ عَادَةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ وَالإْجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ. أَوْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ فَالْمُتَّجَهُ أَنْ يُقَاتَلَ .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا أُمِنَ جَانِبُهُمْ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُتْبَعْ مُنْهَزِمُهُمْ، وَلَمْ يُذَفَّفْ عَلَى جَرِيحِهِمْ .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إِذَا تَرَكُوا الْقِتَالَ، بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلاَحِ، أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فِئَةٍ، أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ. وَسَاقَ ابْنُ قُدَامَةَ الآْثَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُدْبِرِ وَالإْجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ وَقَتْلِ الأْسِيرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ. ثُمَّ قَالَ: لأِنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَقَدْ حَصَلَ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ كَالصَّائِلِ، وَلاَ يُقْتَلُونَ لِمَا يُخَافُ فِي التَّالِي - إِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ - كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا - مُطْلَقًا - فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لأِهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَنْحَازُوا إِلَى الْفِئَةِ، فَيَمْتَنِعُوا بِهَا، فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الْقَتْلِ أَمَارَةُ قِتَالِهِمْ لاَ حَقِيقَتُهُ؛ وَلأِنَّ قَتْلَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ، لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لأِنَّهُ يَتَحَيَّزُ إِلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ. وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى تَأْوِيلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ .
الْمَرْأَةُ الْمُقَاتِلَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ:
- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْبُغَاةِ - إِنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ - فَإِنَّهَا تُحْبَسُ، وَلاَ تُقْتَلُ إِلاَّ فِي حَالِ مُقَاتَلَتِهَا، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ لِلْمَعْصِيَةِ، وَلِمَنْعِهَا مِنَ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ قِتَالُهُنَّ إِلاَّ بِالتَّحْرِيضِ وَالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنَّهُنَّ لاَ يُقْتَلْنَ .
أَمْوَالُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لاِغْتِنَامِهَا وَإِتْلاَفِهَا وَضَمَانِهَا:
- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْوَالَ الْبُغَاةِ لاَ تُغْنَمُ، وَلاَ تُقَسَّمُ، وَلاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِمْ. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَ الإْمَامُ أَمْوَالَهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا، فَيَرُدَّهَا إِلَيْهَا لاِنْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ؛ وَلأِنَّهَا لاَ اسْتِغْنَامَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ خَيْلٌ وَنَحْوُهَا - مِمَّا يُحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى إِنْفَاقٍ - كَانَ الأْفْضَلُ بَيْعَهُ وَحَبْسَ ثَمَنِهِ.
وَفِي ضَمَانِ إِتْلاَفِ مَالِهِمْ كَلاَمٌ. فَإِنَّ الْعَادِلَ إِذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ حَالَ الْقِتَالِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ أَوْ ضَرُورَتِهِ لاَ يَضْمَنُ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ إِلاَّ بِإِتْلاَفِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَالْخَيْلِ، فَيَجُوزُ عَقْرُ دَوَابِّهِمْ إِذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانُوا لاَ يَضْمَنُونَ الأْنْفُسَ فَالأْمْوَالُ أَوْلَى.
أَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْقِتَالِ وَضَرُورَتِهِ فَلاَ تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ، وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ؛ لأِنَّ الإْمَامَ إِذَا ظَفِرَ لَهُمْ بِمَالٍ حَالَ الْمُقَاتَلَةِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيْهِمْ، فَلاَ تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ؛ لأِنَّ مَوَارِيثَهُمْ قَائِمَةٌ، وَإِنَّمَا قُوتِلُوا بِمَا أَحْدَثُوا مِنَ الْبِدَعِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْحَدِّ يُقَامُ عَلَيْهِمْ .
وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ الضَّمَانَ بِمَا إِذَا كَانَ الإْتْلاَفُ خَارِجَ الْقِتَالِ بِقَصْدِ التَّشَفِّي وَالاِنْتِقَامِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لإِضْعَافِهِمْ أَوْ هَزِيمَتِهِمْ فَلاَ ضَمَانَ .
وَاسْتَظْهَرَ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ حَمْلَ الضَّمَانِ عَلَى مَا قَبْلَ تَحَيُّزِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، أَوْ بَعْدَ كَسْرِهِمْ وَتَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ .
مَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْعَدْلِ لِلْبُغَاةِ:
نَقَلَ الزَّيْلَعِيُّ عَنِ الْمَرْغِينَانِيِّ: أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لاَ يَضْمَنُ وَلاَ يَأْثَمُ؛ لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ.
وَفِي الْمُحِيطِ: إِذَا أَتْلَفَ مَالَ الْبَاغِي يُؤْخَذُ بِالضَّمَانِ؛ لأِنَّ مَالَ الْبَاغِي مَعْصُومٌ فِي حَقِّنَا، وَأَمْكَنَ إِلْزَامُ الضَّمَانِ، فَكَانَ فِي إِيجَابِهِ فَائِدَةٌ
مَا أَتْلَفَهُ الْبُغَاةُ لأِهْلِ الْعَدْلِ:
- إِذَا أَتْلَفَ أَهْلُ الْبَغْيِ لأِهْلِ الْعَدْلِ مَالاً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لأِنَّهُمْ طَائِفَةٌ مُتَأَوِّلَةٌ فَلاَ تَضْمَنُ كَأَهْلِ الْعَدْلِ؛ وَلأِنَّهُ ذُو مَنَعَةٍ فِي حَقِّنَا، وَأَمَّا الإْثْمُ فَإِنَّهُ لاَ مَنَعَةَ لَهُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ؛ وَلأِنَّ تَضْمِينَهُمْ يُفْضِي إِلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنِ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا، وَشَهِدَتْ عَلَى قَوْمِهَا بِالشِّرْكِ، وَلَحِقَتْ بِالْحَرُورِيَّةِ فَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ إِنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَهْلِهَا تَائِبَةً، قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الأْولَى ثَارَتْ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا - كَثِيرٌ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَلاَّ يُقِيمُوا عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فِي فَرْجٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلاَ قِصَاصًا فِي دَمٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلاَ يُرَدُّ مَالٌ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُرَدَّ إِلَى زَوْجِهَا، وَأَنْ يُحَدَّ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهَا.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ: يَضْمَنُونَ؛ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ تَدُونَ قَتَلاَنَا، وَلاَ نَدِي - مِنَ الدِّيَةِ - قَتْلاَكُمْ وَلأِنَّهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ مَعْصُومَةٌ أُتْلِفَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلاَ ضَرُورَةِ دَفْعِ مُبَاحٍ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَالَّتِي أُتْلِفَتْ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ .
وَإِذَا تَابَ الْبُغَاةُ وَرَجَعُوا أَخَذَ مِنْهُمْ مَا وُجِدَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَمَا اسْتَهْلَكُوهُ لَمْ يُتْبَعُوا بِهِ، وَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ؛ لأِنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ .
وَإِذَا قَتَلَ الْبَاغِي أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ يُقْتَلُ بِهِ؛ لأِنَّهُ قُتِلَ بِإِشْهَارِ السِّلاَحِ وَالسَّعْيِ فِي الأْرْضِ بِالْفَسَادِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَقِيلَ: لاَ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إِنْ شِئْتُ أَنْ أَعْفُوَ، وَإِنْ شِئْتُ اسْتَقَدْتُ .
التَّمْثِيلُ بِقَتْلَى الْبُغَاةِ:
- التَّمْثِيلُ بِقَتْلَى الْبُغَاةِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَرَامٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا نَقْلُ رُءُوسِهِمْ، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ أَخْذُ رُءُوسِهِمْ، فَيُطَافُ بِهَا فِي الآْفَاقِ؛ لأِنَّهُ مُثْلَةٌ. وَجَوَّزَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، إِذَا كَانَ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْ كَسْرُ شَوْكَةِ الْبُغَاةِ. وَجَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ رَفْعَ رُءُوسِ قَتْلَى الْبُغَاةِ فِي مَحَلِّ قَتْلِهِمْ .
أَسْرَى الْبُغَاةِ:
أَسْرَى الْبُغَاةِ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةً خَاصَّةً؛ لأِنَّ قِتَالَهُمْ كَانَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ شَرِّهِمْ، فَلاَ يُسْتَبَاحُ دَمُهُمْ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْقِتَالَ، وَلِذَا فَإِنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ اتِّفَاقًا، لِلتَّعْلِيلِ السَّابِقِ؛ وَلِذَا لاَ يُسْتَرَقُّونَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أَمْ لاَ اتِّفَاقًا؛ لأِنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ، وَلاَ تُسْبَى لَهُمْ نِسَاءٌ وَلاَ ذُرِّيَّةٌ .
أَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ أَيْضًا. غَيْرَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: إِنْ أُسِرَ مِنْهُمْ أَسِيرٌ وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْحَرْبُ لاَ يُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَلِلإْمَامِ قَتْلُهُ، إِذَا خَافَ مِنْهُ الضَّرَرَ .
وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا أُسِرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَقِيلَ: يُؤَدَّبُ وَلاَ يُقْتَلُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ؛ لأِنَّهُ بِالأْسْرِ صَارَ مَحْقُونَ الدَّمِ، وَقِيلَ: فِيهِ قِصَاصٌ. وَقِيلَ: لاَ قِصَاصَ فِيهِ؛ لأِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ قَتْلَهُ فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً . وَإِنْ كَانَ أَسِيرٌ بَالِغًا فَدَخَلَ فِي الطَّاعَةِ أَطْلَقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الطَّاعَةِ حَبَسَهُ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْحَرْبُ . وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يُحْبَسْ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُحْبَسُ لأِنَّ فِي حَبْسِهِ كَسْرًا لِقُلُوبِهِمْ . وَهَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَتْ لِلأْسِيرِ فِئَةٌ، فَالإْمَامُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ دَفْعًا لِشَرِّهِ بِقَدْرِ الإْمْكَانِ، وَيَحْكُمُ الإْمَامُ بِنَظَرِهِ فِيمَا هُوَ أَحْسَنُ فِي كَسْرِ الشَّوْكَةِ .
فِدَاءُ الأْسْرَى:
نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ فِدَاءِ أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِأُسَارَى الْبُغَاةِ، وَقَالُوا: إِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَسْرَى أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ لأَِهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ أَسَرَاهُمْ؛ لأِنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ مُفَادَاةَ الأَْسْرَى الَّذِينَ مَعَهُمْ وَحَبَسُوهُمْ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: احْتُمِلَ أَنْ يَجُوزَ لأِهْلِ الْعَدْلِ حَبْسُ مَنْ مَعَهُمْ لِيُتَوَصَّلُوا إِلَى تَخْلِيصِ أَسَرَاهُمْ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَلاَّ يَجُوزَ حَبْسُهُمْ، وَيُطْلَقُونَ؛ لأِنَّ الذَّنْبَ فِي حَبْسِ أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ لِغَيْرِهِمْ . وَتَفْصِيلُ الْكَلاَمِ عَنْ أَسْرَى الْبُغَاةِ فِي مُصْطَلَحِ (أَسْرَى).
مُوَادَعَةُ الْبُغَاةِ:
- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ الْبُغَاةِ عَلَى مَالٍ. فَإِنْ وَادَعَهُمُ الإْمَامُ عَلَى مَالٍ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ . وَلَوْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ - أَيْ الصُّلْحَ عَلَى تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ بِغَيْرِ مَالٍ - أُجِيبُوا إِلَيْهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا. فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُمُ الرُّجُوعُ إِلَى الطَّاعَةِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ أَمْهَلَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمُ الاِجْتِمَاعَ عَلَى قِتَالِهِ وَانْتِظَارِ مَدَدٍ، أَوْ لِيَأْخُذُوا الإْمَامَ عَلَى غِرَّةٍ عَاجَلَهُمْ وَلَمْ يُنْظِرْهُمْ .
وَإِذَا وَقَعَتِ الْمُوَادَعَةُ فَأَعْطَى كُلُّ فَرِيقٍ رَهْنًا عَلَى أَيِّهِمَا غَدَرَ يَقْتُلُ الآْخَرُونَ الرَّهْنَ، فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَقَتَلُوا الرَّهْنَ، لاَ يَحِلُّ لأِهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ الرَّهْنِ، بَلْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا؛ لأِنَّهُمْ صَارُوا آمِنِينَ بِالْمُوَادَعَةِ، أَوْ بِإِعْطَائِهِ الأْمَانَ لَهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا. وَالْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ لاَ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، لَكِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى فِئَتِهِمْ فَيَكُونُونَ لَهُمْ قُوَّةً تُغْرِيهِمْ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ.
- وَإِنْ بَذَلَ الْبُغَاةُ لأِهْلِ الْعَدْلِ رَهَائِنَ عَلَى إِنْظَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا لِذَلِكَ؛ لأِنَّ الرَّهَائِنَ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِغَدْرِ أَهْلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ مِنْهُمْ قَبِلَهُمُ الإْمَامُ، وَاسْتَظْهَرَ لأِهْلِ الْعَدْلِ. فَإِنْ أَطْلَقُوا أَسْرَى أَهْلِ الْعَدْلِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ أَطْلَقَ رَهَائِنَهُمْ. وَإِنْ قَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ رَهَائِنِهِمْ؛ لأِنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ بِقَتْلِ غَيْرِهِمْ؛ لأِنَّهُمْ صَارُوا آمِنِينَ. فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ خُلِّيَ الرَّهَائِنُ كَمَا تُخَلَّى الأَْسْرَى مِنْهُمْ .
مَنْ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنَ الْبُغَاةِ:
يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَصْلِ قَاعِدَةٍ: أَنَّ مَنْ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ - كَالنِّسَاءِ وَالشُّيُوخِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعُمْيَانِ - لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنَ الْبُغَاةِ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لأِنَّ قَتْلَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّ قِتَالِهِمْ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْقِتَالِ. وَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عَادَةً، فَلاَ يُقْتَلُونَ إِلاَّ إِذَا قَاتَلُوا وَلَوْ بِالتَّحْرِيضِ؛ لِوُجُودِ الْقِتَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَيُبَاحُ قَتْلُهُمْ إِلاَّ الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ. فَالأْصْلُ أَنَّهُمَا لاَ يَقْصِدَانِ الْقَتْلَ. فَيَحِلُّ قَتْلُهُمَا حَالَ الْقِتَالِ إِنْ قَاتَلاَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي تَخْيِيرِ الإْمَامِ بَيْنَ قَتْلِ أَسْرَى الْبُغَاةِ أَوْ حَبْسِهِمْ، يَرَوْنَ جَوَازَ قَتْلِ مَنْ قَاتَلَ أَوْ حَرَّضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَنَحْوِهِمْ، فَيُقْتَلُونَ حَالَ الْقِتَالِ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ. لَكِنْ لاَ يُقْتَلُ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِتَالِ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَالأَْسْرَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا قَتْلُهُمَا حَالَ الْحَرْبِ فَدَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَدَفْعِ الصَّائِلِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ حَضَرَ مَعَ الْبُغَاةِ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ قُوتِلُوا مُقْبِلِينَ، وَتُرِكُوا مُدْبِرِينَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الأْحْرَارِ وَالذُّكُورِ الْبَالِغِينَ؛ لأِنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ قَتْلَ إِنْسَانٍ جَازَ دَفْعُهُ وَقِتَالُهُ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبُغَاةَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِذُرِّيَّتِهِمْ تُرِكُوا، إِلاَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِمْ تَلَفُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ .
حُضُورُ مَنْ لاَ يُقَاتِلُ مِنَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ الْبُغَاةِ:
إِذَا حَضَرَ مَعَ الْبُغَاةِ مَنْ لاَ يُقَاتِلُ - بِرَغْمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِتَالِ - لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْصَدَ بِالْقَتْلِ؛ لأِنَّ الْقَصْدَ مِنْ قِتَالِهِمْ كَفُّهُمْ، وَهَذَا قَدْ كَفَّ نَفْسَهُ لقوله تعالي : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَلَ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْبَاغِي وَالصَّائِلِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ، فَمَنْ لاَ يُقَاتِلُ تَوَرُّعًا عَنْهُ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ - وَلاَ يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ لاَ يَحْتَاجُ لِدَفْعٍ فَلاَ يَحِلُّ دَمُهُ .
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ قَتْلُهُ؛ لأِنَّ عَلِيًّا نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ مُحَمَّدٍ السَّجَّادِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْمِلُ رَايَةَ أَبِيهِ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ وَأَنْشَدَ شِعْرًا، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلِيٌّ قَتْلَهُ؛ وَلأِنَّهُ صَارَ رِدْءًا لَهُمْ .
حُكْمُ قِتَالِ الْمَحَارِمِ مِنَ الْبُغَاةِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قَتْلِ الْعَادِلِ لِذِي رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَقَصَرَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى الأْبَوَيْنِ فَقَطْ. بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ قَتْلِ أَبَوَيْهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا الْقَاضِي. وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ، وَهُوَ الأْصَحُّ لقوله تعالي : ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وَلِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ «النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم كَفَّ أَبَا حُذَيْفَةَ ابْنَ عُتْبَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ» . وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ الْحِلِّ؛ لأِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالأْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ وَأَدِلَّةٌ.
يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مُبَاشَرَةً؛ إِذِ اجْتَمَعَ فِيهِ حُرْمَتَانِ: حُرْمَةُ الإْسْلاَمِ وَحُرْمَةُ الْقَرَابَةِ. وَإِذَا أَرَادَ الْبَاغِي قَتْلَ الْعَادِلِ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ؛ لأِنَّ الإْسْلاَمَ فِي الأْصْلِ عَاصِمٌ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...» وَالْبَاغِي مُسْلِمٌ، إِلاَّ أَنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، لاَ لِشِرْكِهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ يَحْصُلُ بِالدَّفْعِ وَالتَّسَبُّبِ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُرِهَ لِلرَّجُلِ قَتْلُ أَبِيهِ الْبَاغِي، وَمِثْلُ أَبِيهِ أُمُّهُ، بَلْ هِيَ أَوْلَى، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ، وَلاَ يُكْرَهُ قَتْلُ جَدِّهِ وَأَخِيهِ وَابْنِهِ . وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ أَخَاهُ وَقَرَابَتَهُ، فَأَمَّا الأْبُ وَحْدَهُ فَلاَ أُحِبُّ قَتْلَهُ عَمْدًا، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ جَوَازَ قَتْلِ الاِبْنِ الْبَاغِي، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يُقْصَدَ قَتْلُ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَمَا يُكْرَهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ قَاتَلَهُ لَمْ يُكْرَهْ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الأْصَحُّ كَرَاهَةُ قَتْلِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الْبَاغِي، وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْقَاضِي أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ؛ لأِنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ، فَأَشْبَهَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
إِرْثُ الْعَادِلِ مِنَ الْبَاغِي الَّذِي قَتَلَهُ وَالْعَكْسُ:
- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لأِبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا قَتَلَ قَرِيبَهُ الْبَاغِيَ وَرِثَهُ؛ لأِنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ، فَلَمْ يَمْنَعِ الْمِيرَاثَ كَالْقِصَاصِ؛ وَلأِنَّ قَتْلَ الْبَاغِي وَاجِبٌ، وَلاَ إِثْمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِقَتْلِهِ، وَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. فَكَذَا لاَ يُحْرَمُ مِنَ الإْرْثِ. وَكَذَا لَوْ قَتَلَ الْبَاغِي ذَا رَحِمِهِ الْعَادِلِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِمْ «وَمَوَارِيثُهُمْ قَائِمَةٌ ».
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ قَتَلَ الْبَاغِي قَرِيبَهُ الْعَادِلَ وَقَالَ: أَنَا عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلاَفًا لأِبِي يُوسُفَ. وَإِنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ وَأَنَا عَلَى الْبَاطِلِ لاَ يَرِثُ اتِّفَاقًا بَيْنَ الإْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ - أَبُو حَنِيفَةَ - بِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ مَنَعَةٌ، وَهُوَ إِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ، فَكَذَا لاَ يُوجِبُ الْحِرْمَانَ، كَمَا أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي اعْتِقَادِهِ هُوَ صَحِيحٌ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ لِعُمُومِ حَدِيثِ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَاغِي إِذَا قَتَلَ الْعَادِلَ ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَرِثُ قَاتِلٌ مِنْ مَقْتُولِهِ مُطْلَقًا .
مَا يَجُوزُ قِتَالُ الْبُغَاةِ بِهِ:
يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قِتَالُ الْبُغَاةِ - إِذَا تَحَصَّنُوا - بِكُلِّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ، بِالسَّيْفِ وَالرَّمْيِ بِالنَّبْلِ وَبِالْمَنْجَنِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ، وَقَطْعِ الْمِيرَةِ (الْمُؤَنِ) وَالْمَاءِ عَنْهُمْ، وَكَذَا إِذَا فَعَلَ الْبُغَاةُ مَعَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ؛ لأِنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ، فَيُقَاتَلُونَ بِكُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ نِسْوَةٌ أَوْ ذَرَارِيُّ، فَلاَ نَرْمِيهِمْ بِالنَّارِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ جَوَازِ قِتَالِهِمْ بِالنَّارِ وَالرَّمْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَلاَ بِكُلِّ عَظِيمٍ يَعُمُّ، كَالتَّغْرِيقِ وَإِرْسَالِ سُيُولٍ جَارِفَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ مُحَاصَرَتُهُمْ وَقَطْعُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَنْهُمْ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ قَاتَلُوا بِهِ، أَوْ أَحَاطُوا بِنَّا وَلَمْ يَنْدَفِعُوا إِلاَّ بِهِ، وَيَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِقَصْدِ الْخَلاَصِ مِنْهُمْ لاَ بِقَصْدِ قَتْلِهِمْ ؛ لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ لاَ يُقَاتِلُ، وَمَا يَعُمُّ إِتْلاَفُهُ يَقَعُ عَلَى مَنْ يُقَاتِلُ وَمَنْ لاَ يُقَاتِلُ.
مُقَاتَلَةُ الْبُغَاةِ بِسِلاَحِهِمُ الَّذِي فِي أَيْدِينَا:
يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قِتَالُهُمْ بِسِلاَحِهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَكُلِّ أَدَوَاتِ الْقِتَالِ الَّتِي اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا مِنْهُمْ، إِنِ احْتَاجَ أَهْلُ الْعَدْلِ إِلَى هَذَا؛ لأِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَسَّمَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ سِلاَحِ الْبُغَاةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَتْ قِسْمَةً لِلْحَاجَةِ لاَ لِلتَّمْلِيكِ؛ وَلأِنَّ لِلإْمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى .
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْقَاضِي أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، وَمَنَعَهُ فِي غَيْرِ قِتَالِهِمْ؛ لأِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ يَجُوزُ فِيهَا إِتْلاَفُ نُفُوسِهِمْ، وَحَبْسُ سِلاَحِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ، فَجَازَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ كَسِلاَحِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، فَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِحَدٍ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِمَّا اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ سِلاَحِ الْبُغَاةِ وَخَيْلِهِمْ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَيَلْزَمُ دَفْعُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَهُمْ، كَمُضْطَرٍّ لأِكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ ثَمَنُهُ وَلِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» وَلأِنَّ مَنْ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَالِهِ لَمْ يَجُزِ الاِنْتِفَاعُ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ وَمِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ وَلأِنَّ الإْسْلاَمَ عَصَمَ أَمْوَالَهُمْ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ قِتَالُهُمْ لِرَدِّهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَمَتَى انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، وَلاَ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِئَلاَّ يُقَاتِلُونَا بِهِ .
الاِسْتِعَانَةُ فِي قِتَالِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ:
- اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الاِسْتِعَانَةِ بِالْكُفَّارِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ؛ لأِنَّ الْقَصْدَ كَفُّهُمْ لاَ قَتْلُهُمْ، وَالْكُفَّارُ لاَ يَقْصِدُونَ إِلاَّ قَتْلَهُمْ، وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ الْقُدْرَةُ عَلَى كَفِّ هَؤُلاَءِ الْكُفَّارِ الْمُسْتَعَانِ بِهِمْ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ لَمْ يَجُزْ.
كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمَنْ يَرَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ (وَهُمْ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ) قَتْلَ الْبُغَاةِ وَهُمْ مُدْبِرُونَ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ، هُوَ الظَّاهِرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ الظَّاهِرَ فَلاَ بَأْسَ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالذِّمِّيِّينَ وَصِنْفٍ مِنَ الْبُغَاةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ؛ لأِنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ يُقَاتِلُونَ لإِعْزَازِ الدِّينِ، وَالاِسْتِعَانَةُ عَلَى الْبُغَاةِ بِهِمْ كَالاِسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِأَدَوَاتِ الْقِتَالِ .
قَتْلَى مَعَارِكِ الْبُغَاةِ وَحُكْمُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِمْ:
مَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ شَهِيدًا؛ لأِنَّهُ قُتِلَ فِي قِتَالٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) وَلاَ يُغَسَّلُ، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ شَهِيدُ مَعْرَكَةٍ أُمِرَ بِالْقِتَالِ فِيهَا، فَأَشْبَهَ شَهِيدَ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُغَسَّلُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الأْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» وَاسْتَثْنَى قَتِيلَ الْكُفَّارِ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الأْصْلِ .
أَمَّا قَتْلَى الْبُغَاةِ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» وَلأِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ، فَيُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ. وَمِثْلُهُ الْحَنَفِيَّةُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، أَمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ . وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمْ يُصَلِّ عَلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبُغَاةِ فِي حُكْمِ التَّغْسِيلِ وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلاَةِ .
تَقَاتُلُ أَهْلِ الْبَغْيِ:
إِنِ اقْتَتَلَ فَرِيقَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنْ قَدَرَ الإْمَامُ عَلَى قَهْرِهِمَا، لَمْ يُعَاوِنْ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لأِنَّ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَهْرِهِمَا، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى قِتَالِهِ، ضَمَّ إِلَى نَفْسِهِ أَقْرَبَهُمَا إِلَى الْحَقِّ. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا، وَلاَ يَقْصِدْ بِذَلِكَ مُعَاوَنَتَهُ عَلَى الآْخَرِ، بَلْ يَقْصِدُ الاِسْتِعَانَةَ بِهِ عَلَى الآْخَرِ، فَإِذَا انْهَزَمَ الآْخَرُ لَمْ يُقَاتِلِ الَّذِي ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى الطَّاعَةِ؛ لأِنَّهُ بِالاِسْتِعَانَةِ بِهِ حَصَلَ عَلَى الأْمَانِ، نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا رَجَعْنَا إِلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حُكْمُ هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَجَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ قَتَلَ بَاغٍ مِثْلَهُ عَمْدًا فِي عَسْكَرِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى الْبُغَاةِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِكَوْنِ الْمَقْتُولِ مُبَاحَ الدَّمِ؛ إِذْ لَوْ قَتَلَهُ الْعَادِلُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْبَاغِي الْقَاتِلِ دِيَةٌ وَلاَ قِصَاصٌ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ وَلأِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لإِمَامِ الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ، كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَقَالُوا: لَوْ غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ، فَقَاتَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا دِفَاعًا عَنْ ذَرَارِيِّهِمْ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: لَوْ قَتَلَ تَاجِرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ تَاجِرًا آخَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ، أَوْ قَتَلَ الأْسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَسِيرًا آخَرَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ؛ لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ وَانْعِدَامِ الْوِلاَيَةِ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لأِنَّ عَسْكَرَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حَقِّ انْقِطَاعِ الْوِلاَيَةِ وَدَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ .
اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِالْكُفَّارِ:
- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْحَرْبِيِّينَ وَأَمَّنُوهُمْ، أَوْ عَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً، لَمْ يُعْتَبَرِ الأْمَانُ بِالنِّسْبَةِ لَنَا إِنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ؛ لأِنَّ الأْمَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ إِلْزَامُ كَفِّهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَؤُلاَءِ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَصِحُّ الأْمَانُ لَهُمْ. وَلأِهْلِ الْعَدْلِ قِتَالُهُمْ، وَحُكْمُ أَسِيرِهِمْ فِي يَدِ أَهْلِ الْعَدْلِ حُكْمُ الأْسِيرِ الْحَرْبِيِّ .
أَمَّا مَا إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْمُسْتَأْمَنِينَ، فَمَتَى أَعَانُوهُمْ كَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ؛ لأِنَّهُمْ تَرَكُوا الشَّرْطَ، وَهُوَ كَفُّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَهْدُهُمْ مُؤَقَّتٌ بِخِلاَفِ الذِّمِّيِّينَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُكْرَهِينَ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ .
وَإِنِ اسْتَعَانُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَعَانُوهُمْ، وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ؛ لأِنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ فَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ؛ وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، فَيُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، وَيُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَيُسْتَرَقُّونَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ عَهْدُهُمْ؛ لأِنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لاَ يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ فِي الْكَفِّ عَنْ قَتْلِ أَسِيرِهِمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.
وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّفِقُونَ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَعُونَةَ الذِّمِّيِّينَ لِلْبُغَاةِ اسْتِجَابَةٌ لِطَلَبِهِمْ لاَ تَنْقُضُ عَهْدَ الذِّمَّةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلأْمَانِ. فَالَّذِينَ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الإْسْلاَمِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ .
وَإِنْ أَكْرَهَهُمُ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ لَمْ يُنْقَضْ عَهْدُهُمْ - قَوْلاً وَاحِدًا - وَيُقْبَلُ قَوْلُهُمْ؛ لأِنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ حُكْمَ الْبُغَاةِ، وَأَطْلَقُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَالْبُغَاةِ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ لأِهْلِ الْعَدْلِ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ؛ إِذْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ الْخَارِجِ مَعَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ اسْتِجَابَةً لِطَلَبِهِمْ: لاَ يَضْمَنُ نَفْسًا وَلاَ مَالاً .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ؛ إِذْ لاَ تَأْوِيلَ لَهُمْ .
إِعْطَاءُ الأْمَانِ لِلْبَاغِي مِنَ الْعَادِلِ:
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى شِقَاقًا مِنَ الْكَافِرِ الَّذِي يَجُوزُ إِعْطَاءُ الأْمَانِ لَهُ. فَكَذَا هَذَا، بَلْ هُوَ أَوْلَى وَأَحَقُّ؛ لأِنَّهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إِلَى مُنَاظَرَتِهِ لِيَتُوبَ، وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلٌّ الآْخَرَ. وَلَوْ دَخَلَ بَاغٍ بِأَمَانٍ، فَقَتَلَهُ عَادِلٌ عَمْدًا، لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ .
تَصَرُّفَاتُ إِمَامِ الْبُغَاةِ
إِذَا اسْتَوْلَى الْبُغَاةُ عَلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ، وَنَصَّبُوا لَهُمْ إِمَامًا، وَأَحْدَثَ الإْمَامُ تَصَرُّفَاتٍ بِاعْتِبَارِهِ حَاكِمًا، كَالْجِبَايَةِ مِنْ جَمْعِ الزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ وَإِقَامَةِ الْقُضَاةِ، فَهَلْ تَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَدْلِ؟ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - جِبَايَةُ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَالْعُشُورِ وَالْخَرَاجِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنَ الْبِلاَدِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا، مِنَ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَالْعُشُورِ وَالْخَرَاجِ، يُعْتَدُّ بِهِ؛ لأِنَّ مَا فَعَلُوهُ أَوْ أَخَذُوهُ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَوَجَبَ إِمْضَاؤُهُ، كَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِمَا يَسُوغُ الاِجْتِهَادُ فِيهِ، وَلاَ حَرَجَ عَلَى النَّاسِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَتَاهُ سَاعِي نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ دَفَعَ إِلَيْهِ زَكَاتَهُ، وَكَذَلِكَ سَلَمَةُ بْنُ الأْكْوَعِ.
وَلَيْسَ لإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا ظَهَرَ عَلَى هَذِهِ الْبِلاَدِ أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ بْنِ الأْكْوَعِ؛ وَلأِنَّ وِلاَيَةَ الأْخْذِ كَانَتْ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ، وَلَمْ يَحْمِهِمْ؛ وَلأِنَّ فِي تَرْكِ الاِحْتِسَابِ بِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلاَدِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ، فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ مَا أَخَذُوهُ، أَدَّى إِلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنْهُمْ عَنْ كُلِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الزَّكَاةَ الإْعَادَةُ؛ لأِنَّهُ أَخَذَهَا مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ .
وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ إِمَامُ أَهْلِ الْبَغْيِ صَرَفَ مَا أَخَذَهُ فِي مَصْرِفِهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِوُصُولِ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرَفَهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا دَفْعَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَقَالَ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ الْمَشَايِخُ: لاَ إِعَادَةَ عَلَى الأْرْبَابِ فِي الْخَرَاجِ؛ لأِنَّ الْبُغَاةَ مُقَاتِلَةٌ، وَهُمْ مَصْرِفُ الْخَرَاجِ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُشْرِ إِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، أَمَّا إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَقَدْ أَفْتَوْا بِالإْعَادَةِ، وَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الأْمْوَالِ كُلِّهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَادَ بَلَدُ الْبُغَاةِ إِلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، فَادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى أَهْلِ الْبَغْيِ قُبِلَ قَوْلُهُ. وَفِي اسْتِحْلاَفِهِ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لاَ يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ.
وَإِنِ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لأِنَّهَا عِوَضٌ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ إِذَا ادَّعَى دَفْعَ الأْجْرَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْتَمَلُ قَبُولُ قَوْلِهِمْ إِذَا مَضَى الْحَوْلُ؛ لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبُغَاةَ لاَ يَدَّعُونَ الْجِزْيَةَ لَهُمْ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ؛ لأِنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُمْ؛ وَلأِنَّهُ إِذَا مَضَى لِذَلِكَ سُنُونَ كَثِيرَةٌ شَقَّ عَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مُدَّعِيهِمْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَغْرِيمِهِمُ الْجِزْيَةَ مَرَّتَيْنِ.
وَإِنِ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لأِنَّهُ مُسْلِمٌ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ لِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: لاَ يُقْبَلُ؛ لأِنَّ الْخَرَاجَ ثَمَنٌ أَوْ أُجْرَةٌ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَالأْجْرَةِ فِي الإْجَارَةِ .
وَيَصِحُّ تَفْرِيقُهُمْ سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى جُنُودِهِمْ؛ لاِعْتِقَادِهِمُ التَّأْوِيلَ الْمُحْتَمَلَ، فَأَشْبَهَ الْحَكَمَ بِالاِجْتِهَادِ؛ وَلِمَا فِي عَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الإْضْرَارِ بِالرَّعِيَّةِ؛ وَلأِنَّ جُنْدَهُمْ مِنْ جُنْدِ الإْسْلاَمِ، وَرُعْبُ الْكُفَّارِ قَائِمٌ بِهِمْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الزَّكَاةُ مُعَجَّلَةً أَمْ لاَ، وَاسْتَمَرَّتْ شَوْكَتُهُمْ عَلَى وُجُوبِهَا أَمْ لاَ، وَقِيلَ: لاَ يُعْتَدُّ بِتَفْرِقَتِهِمْ لِئَلاَّ يَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَيْنَا وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ذِمِّيًّا فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ؛ لأِنَّهُ عِوَضٌ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ .
ب - قَضَاءُ الْبُغَاةِ وَحُكْمُ نَفَاذِهِ:
- لَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا فِيهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ صَحَّ اتِّفَاقًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ. أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى هَذَا الْبَلَدِ، فَرُفِعَتْ أَقْضِيَتُهُ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَذَ مِنْهَا مَا هُوَ عَدْلٌ، وَكَذَا مَا قَضَاهُ بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لأِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْبَاغِي مُتَأَوِّلاً، وَأَقَامَ قَاضِيًا، فَحَكَمَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ، وَلاَ تُتَصَفَّحُ أَحْكَامُهُ، بَلْ تُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَيَرْتَفِعُ بِهَا الْخِلاَفُ. قَالَ الْمَوَّاقُ: هَذَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. أَمَّا غَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ فَأَحْكَامُهُ تُتَعَقَّبُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يَجُوزُ قَضَاؤُهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ لَمْ تَنْفُذْ أَحْكَامُهُ؛ لأِنَّ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ الْعَدَالَةَ وَالاِجْتِهَادَ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلاَ مُجْتَهِدٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَسْتَبِيحُ ذَلِكَ نَفَذَ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لأِنَّ لَهُمْ تَأْوِيلاً يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، فَلَمْ يُنْقَضْ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَسُوغُ الاِجْتِهَادُ فِيهِ؛ وَلأِنَّهُ اخْتِلاَفٌ فِي الْفُرُوعِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَفْسُقْ كَاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا حَكَمَ بِمَا لاَ يُخَالِفُ إِجْمَاعًا نَفَذَ حُكْمُهُ، وَإِنْ خَالَفَ الإْجْمَاعَ نُقِضَ، وَإِنْ حَكَمَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ جَازَ حُكْمُهُ؛ لأِنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ قَبْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَنْفُذْ؛ لأِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلإْجْمَاعِ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِالضَّمَانِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلإْجْمَاعِ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ نَفَذَ حُكْمُهُ .
ج - كِتَابُ قَاضِي الْبُغَاةِ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ:
لاَ يَقْبَلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابَ قَاضِي الْبُغَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّهُمْ فَسَقَةٌ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ الْحُكْمُ بِكِتَابِهِمْ إِلَيْنَا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِي الأْصَحِّ، وَيُسْتَحَبُّ عَدَمُ تَنْفِيذِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، اسْتِخْفَافًا بِهِمْ حَيْثُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ. فَإِنْ قَبِلَهُ جَازَ؛ لأِنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، فَجَازَ الْحُكْمُ بِكِتَابِهِ، كَقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لأِنَّهُ حُكْمٌ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَهْلِهِ. بَلْ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ لِوَاحِدٍ مِنَّا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَالْمُتَّجَهُ وُجُوبُ التَّنْفِيذِ. وَقِيلَ: لاَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ كِتَابِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْلاَءٍ لِمَنْصِبِهِ .
وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقَاضِي الَّذِي يُقْبَلُ كِتَابُهُ: الْعَدَالَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ قِبَلِ الْوَالِي الْمُتَغَلِّبِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْكَافِرِ، رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مِمَّا يُفِيدُ جَوَازَ قَبُولِ كِتَابِ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ .
د - إِقَامَتُهُمْ لِلْحَدِّ، وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِمْ:
الْحَدُّ الَّذِي يُقِيمُهُ إِمَامُ أَهْلِ الْبَغْيِ يَقَعُ مَوْقِعَهُ، وَيَكُونُ مُجْزِئًا، وَلاَ يُعَادُ ثَانِيًا عَلَى الْمَحْدُودِ إِنْ كَانَ غَيْرَ قَتْلٍ، وَلاَ دِيَةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَتْلاً، لأِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَاتَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يُلْغِ مَا فَعَلُوهُ؛ لأِنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَوَجَبَ إِمْضَاؤُهُ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْقَاضِي الَّذِي أَقَامَهُ إِمَامُ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّتِي تَغَلَّبُوا عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنَ الْبُغَاةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَأَجْزَأَ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَكَانُوا امْتَنَعُوا بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجِبُ؛ إِذِ الْفِعْلُ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلاً لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ دَارِ الإْسْلاَمِ؛ لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَكَانِ وُقُوعِ الْجَرِيمَةِ وَقْتَ وُقُوعِهَا. وَلَوْ رَجَعَ إِلَى دَارِ الإْسْلاَمِ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَغَلَّبْنَا عَلَيْهِمْ لاَ يُقَامُ. وَلَوْ كَانُوا أَقَامُوهُ فَإِنَّهُ لاَ تَجِبْ إِعَادَتُهُ؛ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ أَصْلاً .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا ارْتَكَبُوا حَالَ امْتِنَاعِهِمْ مَا يُوجِبُ حَدًّا، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يَكُنْ أُقِيمَ الْحَدُّ - أُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ، وَلاَ تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ لِعُمُومِ الآْيَاتِ وَالأْخْبَارِ؛ وَلأِنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ الْعِبَادَةُ فِي أَوْقَاتِهَا تَجِبُ الْحُدُودُ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا كَدَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ وَلأِنَّهُ زَانٍ أَوْ سَارِقٌ لاَ شُبْهَةَ فِي زِنَاهُ وَسَرِقَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْعَدْلِ .
شَهَادَةُ الْبُغَاةِ:
الأْصْلُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ. فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الأْهْوَاءِ إِنْ كَانُوا عُدُولاً فِي أَهْوَائِهِمْ، إِلاَّ بَعْضَ الرَّافِضَةِ كَالْخَطَّابِيَّةِ، وَمَنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ تُكَفِّرُ، أَوْ كَانَ صَاحِبَ عَصَبِيَّةٍ، أَوْ فِيهِ مَجَانَةٌ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لاَ تُقْبَلُ لِكُفْرِهِ وَلِفِسْقِهِ .
وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبُغَاةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعِينَ، وَلاَ تُقْبَلُ إِذَا كَانُوا مُبْتَدِعِينَ وَالْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الأْدَاءِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبُغَاةِ لِتَأْوِيلِهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَشْهَدُونَ لِمُوَافِقِيهِمْ بِتَصْدِيقِهِمْ، فَلاَ تُقْبَلُ حِينَئِذٍ لِبَعْضِهِمْ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْبُغَاةُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، فَهُمْ كَالْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَدْلاً.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ يَفْسُقُونَ بِالْبَغْيِ وَخُرُوجِهِمْ عَلَى الإْمَامِ، وَلَكِنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لأِنَّ فِسْقَهُمْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ فَلاَ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ