أركان الجريمة :
فضلاً عن الشرط المفترض المتعلق بصفة الجاني (موظف عام ومن في حكمه) تقع الجريمة بتوافر ركنين آخرين :
1- رکن مادی قوامه استجابة الموظف للرجاء أو التوصية أو الوساطة وقيامه بالعمل أو الامتناع أو بالإخلال.
2- قصد جنائی.
(أ) رجاء أو توصية أو وساطة.
(ب) الاستجابة وتمثل النشاط الإجرامي للجاني.
(أ) الرجاء أو الوساطة أو التوصية :
استهدف المشرع من النص على هذه الجريمة محاربة كل وسائل الإغراء درج نطاق الرشوة التي قد تؤثر في نفس الموظف فتنحرف به عن مقتضيات وظيفته وهي الرجاء والتوصية والوساطة.
- الرجاء : يتحقق الرجاء بواسطة صاحب المصلحة مباشرة باستعطاف الموظف أو استمالته أو دعوته في تزلف إلى قضاء الحاجة.
- الوساطة : أما الوساطة فتتحقق في صورة رجاء أو طلب يصدر عن وسيط لصاحب المصلحة لدى الموظف العام.
التوصية: أما التوصية فلا تعدو أن تكون إحدى صور الوساطة التي تصدر من شخص ذی نفوذ أو حيثية على الموظف فيتدخل عنده طالباً لا راجياً قضاء حاجة معينة غالباً ما تكون في صورة مكتوبة.
(ب) الاستجابة للرجاء أو الوساطة أو التوصية :
يتعين لوقوع الجريمة أن يستجيب المتهم فعلاً إلى الرجاء أو الوساطة أو التوصية بأداء عمل من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات وظيفته فإذا شرع الموظف في أمر من هذا القبيل ثم حالت ظروف معينة دون إتمامه اعتبرت الواقعة شروعاً ويتعين التمييز بين نوعين من الاستجابة الأولى استجابة تتعلق بعمل يدخل في حدود السلطة التقديرية للوظيفة وبالنسبة للنوع الأول إذا اختار الموظف أحد الحلول التي تدخل في حدود سلطته اعتبر مؤدياً لعمل من أعمال وظيفته. أما إذا استهدف الموظف من هذا الاختيار غاية لا تتعلق بالمصلحة العامة اعتبر منحرفاً في استعمال و يتعين عقابه طبقاً للمادة 105 مكرراً إذا هو قام بهذا الاختيار تحت تأثير رجاء أو وساطة أو توصية. أما في الحالة الثانية فإنه يتعين على الموظف أن يباشر حلاً واحداً معيناً دون غيره من الحلول ولا اعتبر مخالفاً للقانون وقد يتولى الموظف القيام بالعمل المطلوب منه بناء على رجاء ثم يتوقف في تنفيذ العمل لسبب لا دخل فيه وعندئذ عد شارعاً في الجناية ويعاقب بعقوبة الشروع للمادة 46 ع (مضافة إليها الغرامة المنصوص عليها في المادة 105 مكرراً).
أما المتقدم بالرجاء أو التوصية أو الوساطة فإنه يعد شريكاً للموظف في الجناية حالة تمامها فإذا لم يقبل منه الرجاء أو التوسط فلا يعد مرتكباً لجريمة إذ لا يوجد نص يقرر لهذه الحالة عقوبة خاصة كما هو الحال في عرض الرشوة .
وقد انتقد ذلك النص لأنه توسع توسعاً خطيراً في نطاق التجريم على الأخص في الحالة التي يكون فيها العمل مطابقاً للقانون وفي هذا قيل بأن الصياغة الواسعة لهذه الجريمة تدعو إلى التشدد في معنى رابطة السببية فلا يمكن اعتبار هذا الرابطة قائمة إلا إذا كان أداء الامتناع عنه أو الإخلال واجبات الوظيفة قد تحقق فقط بسبب الرجاء أو التوصية أو الوساطة بحيث لولا الرجاء ما كان يمكن للعمل أن يقع في الوقت الذي وقع فيه وبالشكل الذي وقع، وبالتالي فإن العمل المطابق للقانون والذي كان محلاً للرجاء يكون بمنأى من العقاب لأنه يصعب القول بتوافر رابطة السببية بين الرجاء وبين أدائه لأن الخضوع للقانون يصبح أيضاً سبباً من أسباب هذا الأداء على نحو تنتفي به رابطة السببية. ( موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثاني، الصفحة : 219 )
جريمة الإخلال بواجبات الوظيفة نتيجة الرجاء أو التوصية أو الوساطة :
تختلف هذه الجريمة عن جريمة الرشوة العادية في أمرين:
الأول: انعدام المقابل الذي يحصل عليه الموظف لقاء قيامه بالعمل أو الامتناع، وعلى ذلك فإن الإتجار بالعمل الوظيفي الذي هو جوهر جريمة الرشوة - غير متوافر في جريمة الرجاء أو التوصية أو الوساطة، لأن الاتجار يفترض أن يتلقی الموظف مقابلاً نظير ما يقوم به ولكن هنا تقوم رغم تخلف المقابل بالمعنى المقصود في الرشوة، لأن الإخلال بواجبات الوظيفة يتم نتيجة رجاء أو توصية أو وساطة.
الثاني: أن هذه الجريمة لا تقوم إلا إذا أدي الموظف العمل الوظيفي المطلوب فعلا فالجريمة لا تتحقق كاملة إلا إذا قام الموظف بعمل أو امتنع عن عمل أو أخل بواجبات وظيفته في أي صورة إذا أدى ما يطلب منه فعلاً، بينما رأينا أن الرشوة العادية تقوم سواء نفذ الموظف ما يطلب منه أو لم ينفذ، بل إن جريمة الرشوة تقوم ولو اتجه قصد الموظف إلى عدم القيام بالعمل الذي وعد به نظير المقابل الذي تلقاه من صاحب المصلحة.
وفي ضوء ذلك يمكن أن نقف على علة تجريم استجابة الموظف للرجاء أو التوصية أو الوساطة التي تكمن في خطورة هذا الفعل، مع عدم خضوعه لأحكام الرشوة، على الرغم مما يتضمنه من إخلال بواجبات الوظيفة، والحقيقة أن مسلك المشرع له ما يبرره، خاصة في مجتمعاتنا التي تلعب فيها صلات القربى وعلاقات الصداقة والمعرفة دوراً كبيراً في مجال الوظيفة العامة.
أركان جريمة الرجاء أو التوصية أو الوساطة:
1) الصفة الخاصة التي ينبغي توافرها في من يستجيب للرجاء أو التوصية أو الوساطة، وهي كونه موظفاً عاماً مختصاً على النحو الذي سبق تحديده بالنسبة لجريمة الرشوة .
2) الركن المادي : يتحقق الركن المادي لجريمة الرجاء أو التوصية أو الوساطة باستجابة الموظف لضمون الرجاء أو التوصية أو الوساطة ويكون ذلك بأداء العمل أو الامتناع أو الإخلال بناء على أمر من هذه الأمور الثلاثة، وهو ما يتطلب قيام رابطة سببية بين أداء العمل وصدور الرجاء أو التوصية أو الوساطة بقيام الموظف بالأداء الوظيفي هو بصريح النص " نتيجة " لرجاء أو توصية أو وساطة.
ويعني الرجاء الطلب المصحوب بالإلحاح أو الاستعطاف، أما التوصية فتعنى إبداء رغبة من يتقدم بها في أن يتصرف الموظف على نحو معين، وتعني الوساطة الطلب لحساب صاحب المصلحة، ويتحقق الجريمة بتوافر صورة من هذه الصور الثلاث فلا تقوم دون توافر إحداها ولو كان الموظف قد أدى العمل على الوجه الذي يحقق مصلحة صاحب الحاجة، دون تدخل من شخص آخر، مراعاة لصلة قرابة أو علاقة صداقة أو تقديراً للمكانة الاجتماعية لصاحب الحاجة وينبغي أن يقوم الموظف بالإستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة، بأن يؤدي العمل المطلوب منه فعلاً، فلا يكفي أن تتجه نيته إلى القيام به، فجريمة الإخلال بواجبات الوظيفة نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة لا تقع حسب النص إلا تامة، حيث يشترط لتحقيقها أن ينفذ الموظف ما طلب منه فعلاً، ونص المادة (105 مكرراً) من قانون العقوبات - والتي نحن بصددها - صريح في هذا المعنى، عندما قرر عقاب، كل موظفيه عمومی تقام" بعمل من أعمال وظيفته أو "امتنع" عن عمل من أعمال وظيفته أو "أخل" بواجباتها "نتيجة ..............
ولا يكفي أن يقوم الموظف بعمل أو إمتناع فيه إخلال بواجبات الوظيفية، وإنما ينبغي أن يكون ذلك نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة، حتى تتحقق هذه الجريمة، ويعني هذا اشتراط أن يكون بين أداء العمل أو الامتناع المخل بواجبات الوظيفة وبين الرجاء أو التوصية أو الوساطة رابطة سببية، أي أن يثبت أن القيام بالعمل أو الامتناع لم يكن إلا بناء على الرجاء أو التوصية أو الوساطة.
ويترتب على انتفاء رابطة السببية بين العمل وبين الرجاء أو التوصية أو الوساطة عدم قيام الركن المادي للجريمة وبالتالي إنتفاء المسئولية الجنائية، ويحدث هذا إذا ثبت أن قيام الموظف بالعمل كان تحت تأثير اعتبارات أخرى غير الرجاء أو التوصية أو الوساطة .
الركن المعنوي :
جريمة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة جريمة عمدية، يتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي والغرض لقيامها هو القصد العام، ويقوم هذا القصد بعلم الموظف بوجود وبمضمون الرجاء أو التوصية أو الوساطة، وعلمه بمخالفة العمل الذي قام بواجبات وظيفته، ويتطلب القصد الجنائي كذلك اتجاه إرادة الموظف إلى اتجاه إرادة الموظف إلى الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة بالقيام بالعمل أو الامتناع المخالف لواجبات الوظيفة.
عقوبة جريمة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة:
العقوبة التي حددها الشارع في المادة التي نحن بصددها هي السجن والغرامة التي تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه، والجمع بين السجن والغرامة وجوبي حيث لم ينص الشارع على إمكان تطبيق إحدى هاتين العقوبتين فقط .
ويلاحظ أن الغرامة المقررة لهذه الجريمة هي من الغرامات العادية التي تتعدد بتعدد المحكوم عليهم وليست غرامة نسبية إذ ينتفي المقابل في هذه الجريمة، وقد ترك المشروع عقوبة السجن بحديها الأدنى والأقصى، حتى يمكن القاضي من إعمال سلطته التقديرية وفقاً لظروف كل حالة وملابساتها، والواقع أن السلطة التقديرية الواسعة مطلوبة في هذه الجريمة أكثر من غيرها، وكانت تقتضي أن يترك المشرع للقاضي الخيار بين السجن والغرامة، وعلى كل حال فيجوز للقاضى إستعمال المادة (17) عقوبات لاستبدال عقوبة الحبس بعقوبة السجن. (الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثاني، الصفحة : 317)
فضلاً عن الشرط المفترض المتعلق بصفة الجاني من كونه موظفاً عاماً وسن في حكمه، تقع الجريمة بتوافر ركنين آخرين:
(1) رکن مادي قوامه استجابة الموظف للرجاء أو التوصية أو الوساطة وقيامه بالعمل أو الامتناع أو الإخلال بواجب وظيفته.
قصد جنائي.
الركن المادي:
يتوافر هذا الركن بتوافر عنصرين، هما:
(1) رجاء أو توصية أو وساطة، وتمثل محل النشاط الإجرامي للجاني.
(2) الاستجابة، وتمثل النشاط الإجرامي للجاني.
الرجاء أو الوساطة أو التوصية :
استهدف المشرع من النص على هذه الجريمة محاربة كل وسائل الإغراء خارج نطاق الرشوة التي قد تؤثر في نفس الموظف، فتنحرف به عن مقتضيات وظيفته، وهي الرجاء أو التوصية أو الوساطة .
الرجاء: يتحقق الرجاء بواسطة صاحب المصلحة مباشرة باستعطاف الموظف أو استمالته أو دعوته في تزلف إلى قضاء الحاجة .
الوساطة: أما الوساطة فتتحقق في صورة رجاء أو طلب أو أمر يؤديه الغير إلى صاحب المصلحة. ولا تعد نوعا من الوساطة مجرد إحالة الطلب إلى الموظف العام من نواب الشعب إذا تلقوه بحكم مواقعهم النيابية.
ويدق البحث في حالة الموظف الذي يخل بواجبات وظيفته أستجابة لأمر أو طلب صادر من يملك سلطة عليه، كأن يأمر مأمور القسم أحد الضباط بالامتناع عن تحرير محضر بجريمة أبلغ عنها. ووجه الدقة أنه بينما نصت المادة 120 عقوبات المقابلة للمادة 105 مكرراً على حالة التوسط لدى قاض أو محكمة بطريق الأمر أو الطلب بالإضافة إلى حالة التوسط بطريق الرجاء أو التوصية، فإن المادة 105 مكرراً قد خلت من النص على صورتي الأمر أو الطلب.
والواقع من الأمر أن نص المادة 120 عقوبات قد عرض لحالات الأمر أو الطلب أو الرجاء أو التوصية صورة من صور الوساطة، وأنه عند تفسير مدلول الوساطة في المادة 105 مكرراً - يجب الاستئناس بمدلولها في الجريمة المقابلة لها المنصوص عليها في المادة 120 عقوبات.
التوصية: أما التوصية فلا تعدو أن تكون إحدى صور الوساطة التي تصدر من شخص ذي نفوذ أو حيثية على الموظف، فيتدخل عنده طالباً لا راجياً - قضاء حاجة معينة، وغالباً ما تكون في صورة مكتوبة. ولا يعد من قبيل ذلك تركية الطلب ممن يشغلون مواقع الاتصال بالمواطنين بغير تمييز .
الإثبات: على المحكمة أن تستشف استجابة المتهم للرجاء أو التوصية أو الوساطة من جميع ظروف الدعوى وملابساتها، وأهما مدى الصلة بين الموظف وصاحب الحاجة.
الاستجابة للرجاء أو الوساطة أو التوصية:
يتعين لوقوع الجريمة أن يستجيب المتهم فعلاً إلى الرجاء أو الوساطة أو التوصية بأداء عمل من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات وظيفته، فإذا شرع الموظف في أمر من هذا القبيل ثم حالت ظروف معينة دون إتمامه اعتبرت الواقعة شروعاً.
وهنا يبدو بجلاء مظهر من مظاهر التفرقة بين هذه الجريمة وجريمة الرشوة، إذ لا يشترط لتوافر الجريمة الأخير أن ينفذ الموظف سبب طلبه الرشوة أو قبولها أو أخذها.
ويدق البحث إذا ما استجاب الموظف للرجاء أو الوساطة أو التوصية لأداء عمل من أعمال وظيفته، ذلك أن المصلحة العامة تقتضي من الموظف أن يؤدي أعمال وظيفته، فإذا هو قصر في ذلك ورجاه صاحب الشأن أو جاءه بواسطة أو توصية من أجل أن يؤدي واجبه، فاستجاب الموظف لذلك وأدى العمل المطلوب - لم يكن من المستساغ أن نعاقب مثل هذا الموظف، طالما أن الرجاء أو الوساطة أو التوصية قد بذلت لغرض مشروع، هو تنبيه الموظف إلى أداء واجبه. كما أن هذا الموظف من ناحية أخرى لم يتجر بوظيفته ولم يستغلها ولا محل لعقابه إذا هو التفت إلى عمله تحت وطأة الرجاء أو الوساطة أو التوصية، وإلا كان خيراً له أن يظل مقصراً في أداء عمله ضارباً صفحاً عن تنبيه صاحب الشأن أو رجائه حتى لا يورد نفسه موارد العقاب. ولذلك نرى وجوب التمييز بين نوعين من الاستجابة:
الأولى: استجابة تتعلق بعمل يدخل في حدود السلطة التقديرية للوظيفة.
الثانية: استجابة تتعلق بعمل يدخل في حدود السلطة المقيدة للوظيفة.
فقد يمنح القانون الموظف سلطة معينة تخوله مباشرة حل معين من عدة حلول معينة يستطيع القيام بإحداها كيفما شاء في حدود المصلحة العامة، وهو ما يسمى بالسلطة التقديرية. فإذا اختار الموظف أحد الحلول التي تدخل في السلطة المقيدة حيث يلزم القانون الموظف مباشرة عمل معين أو الامتناع عن مباشرته أو يلزمه عند مباشرة العمل بمراعاة طريقة معينة أو وقت معين، فإنه يتعين على الموظف أن يباشر حلاً واحداً معيناً دون غيره من الحلول، وإلا اعتبر مخالفاً للقانون. وفي هذه الحلة لا أهمية الأثر الرجاء أو الوساطة أو التوصية، ما دام العمل الذي أداه استجابة لذلك هو عمل مفروض قانوناً على الموظف، ومن ثم فلا تقع الجريمة.
وواقع الأمر أن فكرة الإخلال بواجبات الوظيفة تسيطر تماماً على المادة 105 مكرراً، سواء في صورة الامتناع عن العمل أو في صورة أداء عمل من الأعمال التي تدخل في حدود السلطة التقديرية حين يمارسها الموظف تحت وطأة الرجاء أو الوساطة أو التوصية انحرافاً في استعمالها. هذا بخلاف الحال إذا كان الموظف مقيداً بحل واحد فقط يمارسه في حدود السلطة المقيدة، فإنه لا أثر للرجاء أو الوساطة أو التوصية في الإتيان بهذا الحل. وقد أوضح مشروع قانون العقوبات هذه الفكرة في المادة 266 (المقابلة للمادة 105 مكرراً) إذ نصت على معاقبة الموظف العام الذي يخل بواجبات وظيفته استجابة لأمر أو وساطة.
الفاعل الأصلي والشريك :
يلاحظ أن الموظف الذي يخل بواجبات وظيفته استجابة للرجاء أو الوساطة أو التوصية هو الفاعل الأصلي في الجريمة المنصوص عليها في المادة 105 مكرراً. أما الراجي أو الوسيط أو الموصي فليس إلا شريكاً له في الجريمة بطريقة التحريض والاتفاق مني استجاب الموظف إلى رجائه أو توصيته فأخل بواجب وظيفته بناء على ذلك. ولا يجوز التحدي بأن المشرع قد أغفل النص على عقاب الراجي والوسيط والموصى، خلافاً لما اتبعه بشأن الراشي، ذلك أن نص المادة 107 مكرراً ليس إلا تطبيقاً للقواعد العامة، فإذا كان المشرع قد عني بذكر هذا التطبيق، فإنه لم يفعل ذلك على سبيل الاستثناء. إذا، فإن إغفال المشرع النص على عقاب الراجي والوسيط والموصى لا يعني إباحة أعمالهم، فضلاً عن أن الجريمة المذكورة لا تقوم قانوناً ما لم يسهم الراجي أو الوسيط أو الموصي في ارتكابها مع الموظف. وغني عن البيان أن صاحب المصلحة لا يعد شريكاً مع الموظف ما لم يصدر منه عمل إيجابي، هو الرجاء أو الوساطة أو التوصية، ولا يكفي مجرد علمه أن جهودا تبذل لمصلحته ما لم يثبت اتفاقه مع الموظف أو مع من يتوسط لمصلحته.
الركن المعنوي :
هذه جريمة عمدية، يتعين لوقوعها توافر القصد الجنائي العام، وهو اتجاه إرادة الجاني إلى القيام بالعمل أو الامتناع أو الإخلال بواجبات الوظيفة؛ استجابة للرجاء أو الوساطة أو التوصية مع علمه بذلك.
فلا يتوافر القصد إذا ادى الموظف عملاً من أعمال وظيفته أو امتنع عن هذا العمل أو أخل بواجبات وظيفته غير عالم بما يبذله صاحب الشأن من رجاء أو وساطة أو توصية. وقد قلنا إن جوهر الركن المادي في هذه الجريمة هو الإخلال بواجبات الوظيفة، ولذا يجب أن يعلم الموظف أن العمل الذي يؤديه ليس إلا إخلالا بواجبات وظيفته، فلا تقوم الجريمة إذا اعتقد الموظف أن العمل الذي أداه مطابق للقانون. وقد يدفع الموظف بأن الوساطة جاءت من رئيسه فاستجاب لها معتقداً أنها أمر صادر من رئيسه يتعين عليه إطاعته، إلا أنه لا طاعة لأحد في الإخلال بالقانون، فإذا حسنت نية الموظف واعتقد بصحة الأمر الصادر إليه، سواء كان جهل الموظف متعلقاً بالوقائع أو كان جهله متعلقاً بقانون غير قانون العقوبات كالقانون الإداري أو المالي - ينتفي قصده الجنائي.
ولما كانت جريمة الاستجابة للرجاء أو الوساطة أو التوصية هي من الجرائم العمدية التي لا يعاقب القانون على ارتكابها بطريق الخطأ غير العمدي، فإنه يكفي القبول هذا الدفاع أن يثب الموظف أنه كان يعتقد أن الطلب الصادر من رئيسه هو من قبيل الأمر، وأنه كان يعتقد مشروعيته. ولا يشترط أن يثبت أنه لم يعتقد بهذه المشروعية إلا بعد التثبت والتحري، وأن اعتقاده هذا قد بني على أسباب معقولة، ذلك أن هذا الشرط الأخير لا يترتب على تخلفه سوی مسئولية الموظف عن خطأ غير عمدي، وهذا ما لا يكفي لتوافر جريمة المادة 105 مكرراً التي لا تقع إلا بتوافر القصد الجنائي.
العقوبة :
ماهية العقوبة:
عاقب القانون على هذه الجريمة بالسجن وبغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه. ويلاحظ أن هذه الغرامة ليست إلا عقوبة تكميلية وجوبية، باعتبار أنه لا يحكم بها إلا بالإضافة إلى عقوبة السجن، إلا أنها ليست من قبيل الغرامة النسبية التي تقوم على فكرة التعويض المختلط بفكرة الجزاء، بل إن لها صبغة عقابية بحتة. ومن هذه الوجهة فإنه إذا ارتبطت هذه الجريمة بجريمة أخرى أشد، فإنه يتعين إدماج هذه الغرامة في عقوبة الجريمة الأشد وعدم الحكم بما بالإضافة إليها.
ولا يستفيد من باشر الرجاء أو الوساطة أو التوصية بالإعفاء من العقاب المنصوص عليه في المادة 107 مكرراً، بناء على ما أوردته هذه المادة من أن الراشي والوسيط يعاقبان بالعقوبات المقررة للمرتشي، مما يفيد أن نطاق هذا النص يقتصر على جريمة الرشوة وحدها دون غيرها. ولا يجوز التحدي بأن من قدم الوساطة للموظف هو بعينه الوسيط الذي أشارت إليه المادة 107 مكرراً المذكورة، طالما أن هذه المادة – كما بينا من قبل - تتحدث عن الوسيط في الرشوة، وهو غير من قدم الوساطة في المادة 105 مكرراً موضوع البحث. (الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة الكتاب الأول 2016، الصفحة: 383)
نص الشارع على الإخلال بواجبات , الوظيفة إلى جانب نصه على « أداء عمل من أعمال الوظيفة أو الإمتناع و عنه » كصورة ثالثة لما يتعهد الموظف المرتشي بالقيام به (المواد 104، و 104 مكرراً، 105، 105 مكرراً من قانون العقوبات) . والمتبادر إلى الأذهان أن الشارع يعني بالإخلال بواجبات الوظيفة أداء الموظف عملاً وظيفياً أو إمتناعه عنه مخالفاً بذلك القواعد القانونية أو التنظيمية التي تحكمه النشاط، ولكن هذا التفسير يجعل التعبير السابق مجرد تكرار لأداء العمل والامتناع عنه، فقد قدمنا أن القانون لا يميز بين كون ذلك حقاً أو غير حق؛ لذلك يتعين تنزيها - للشارع عن التكرار - أن تكون لهذا التعبير دلالته الخاصة : لا يشير الشارع بتعبير « الإخلال بواجبات الوظيفية » إلى عمل وظيفي محدد في ذاته أو في جنسه، وإنما يشير به إلى « أمانة الوظيفة » بصفة عامة، أي الواجبات العامة التي ينبغي أن يلتزمها الموظف في أدائه أعماله، وهي واجبات تستلهم من روح القواعد القانونية والتنظيمية التي تحكمها لا من النصوص التي أفرغت فيها، وتستلهم كذلك من المصلحة العامة التي ينبغي أن تكون الهدف الوحيد الذي تتجه إليه أعمال الوظيفة وتطبيقاً لذلك، فإن الرشوة تقوم، بل ويغلظ عقابها إذا ما تقاضى الموظف المقابل أو طلبه أو قبل الوعد به کی يجري في تصرفه على الوجه المخالف لهذه الواجبات، وإن لم يكن متعلقا بتصرف معین.
جريمة الرجاء أو التوصية أو الوساطة :
نص الشارع على هذه الجريمة في المادة 105 مكرراً من قانون العقوبات التي قضت بأن « كل موظف عمومي قام بعمل من أعمال وظيفته أو امتنع عن عمل من أعمال وظيفته أو أخل بواجباتها نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة يعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن مائتي جنيه و تزيد على خمسمائة جنيه ».
الفرق بين الرشوة وبين الرجاء أو التوصية أو الوساطة الفرق الأساسي بين الجريمتين أن الإتجار في العمل الوظيفي - وهو جوهر فكرة الرشوة - غير متوافر في جريمة الرجاء أو التوصية أو الوساطة : فالإتجار يفترض مقابلاً نظير العمل، وانصراف إرادة الموظف إلى تلقي هذا المقابل؛ ولكن جريمة الرجاء أو الوساطة تفترض تخلف المقابل إطلاقاً وتفترق هذه الجريمة عن الرشوة كذلك في أنها تتطلب قيام الموظف فعلاً بالعمل أو صدور الإمتناع أو الإخلال بواجبات الوظيفة عنه بالفعل، في حين أن الرشوة لا تتطلب ذلك، بل إنها لا تتطلب إتجاه إرادة الموظف إليه .
علة تجريد الرجاء أو التوصية أو الوساطة : علة التجريم أن تجابة الموظف إلى الرجاء أو التوصية أو الوساطة هو سبيل إلى الخروج حي القانون، إذ أن هذا الموظف لن يكون اهتمامه بإتباع القانون بمقدار
حرصه على إرضاء من كان الرجاء أو التوصية أو الوساطة لمصلحته، ثم إن هذا التصرف من جانب الموظف يعني التفرقة بين المواطنين تبعاً لقيام صلات القرابة أو الصداقة بينه وبينهم، ويعني ذلك في النهاية الحط من كرامته والإقلال من الثقة في الدولة التي لم تلتزم الحيادية والموضوعية في تصرفاتها.
أركان جريمة الرجاء أو الوساطة أو التوصية : يتعين أن تتوافر للشخص الذي يستجيب للرجاء أو التوصية أو الوساطة صفة الموظف المختص . ويقوم الركن المادي للجريمة بالإستجابة إلى الرجاء أو التوصية أو الوساطة، وأداء العمل الوظيفي بناء على ذلك . ويتعين أن يتوافر للجريمة في النهاية ركنها المعنوي .
وتتحدد صفة الموظف العام المختص وفقا لذات القواعد المقررة في الرشوة .
ويقوم الركن المادي على عناصر ثلاثة : الإستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة وأداء العمل الوظيفي فعلا، وقيام علاقة السببية بينهما. فالاستجابة يتمثل فيها المسلك الذي يقوم به الفعل الإجرامي، أما الرجاء أو الوساطة أو التوصية فذلك موضوعه وتعني الإستجابة « التجاوب » مع مضمون الرجاء أو الوساطة أو التوصية، ويفترض ذلك الإستماع في جدية ثم الوعد بتنفيذ ذلك المضمون والرجاء يعني الطلب المصحوب بالاستعطاف والإلحاح . والوساطة تعني الطلب لحساب الغير والتوصية تعني إبداء الرغبة في تصرف الموظف على نحو معين، وقد تصاغ في صورة الأمر إذا كانت علاقة الموصى بالموظف تسمح له بذلك . وغنى عن البيان أنه إذا لم يصدر رجاء أو وساطة أو توصية، وأدى الموظف العمل على الوجه الذي يحقق مصلحة صاحب الحاجة فلا قيام للجريمة .
ويتطلب الركن المادي أداء الموظف العمل الوظيفي فعلاً، فلا يكفي أن نيته كانت متجهة إلى ذلك، وقد استوت لدي الشارع صور هذا العمل (القيام بالعمل و الإمتناع عنه والإخلال بواجبات الوظيفة) . ولكنا نعتقد أنه لا قيام لهذه الجريمة إلا إذا كان العمل الذي قام به الموظف - بناء على الرجاء و التوصية أو الوساطة - مخالفا للقانون في المدلول الواسع لهذا التعبير فسواء مخالفة قاعدة قانونية أو لائحية أو مجرد تعليمات إدارية، وسواء مخالفة القانون من حيث الشكل أو الموضوع . أما إذا كان العمل مطابقاً القانون، فلا عقاب على الموظف، ولو كان قيامه به بناء على الرجاء أو الوساطة أو التوصية، وكان محتملاً أو محققاً أن يتصرف على غير هذا النحو إذا لم يكن ثمة رجاء أو وساطة أو توصية، وكان العمل على هذه الصورة محققاً مصلحة صاحب الحاجة . وعلى الرغم من أن الشارع لم يتطلب هذا الشرط صراحة، إلا أن المبادئ العامة في القانون تفرضه : ذلك أن أداء الموظف عمله على وجه مطابق للقانون ينبغي أن يفسر على أنه خضوع للقانون واحترام لأحكامه، فلا يجوز أن يلام من أجل ذلك . ومن تحية ثانية، فإنه عند الخضوع للقانون لا يكون مسموحاً للقاضي تحري بواعث هذا الخضوع، فالشارع لا يقحم نفسه في ضمائر الناس طالما كان سلوكهم في ظاهره مشروعاً . وفي النهاية، فإنه عند صدور الرجاء أو الوساطة أو التوصية ثم القيام بالعمل طبقاً للقانون، فثمة شك في أن يكون البعث إلى تصرف الموظف هو الحرص على إحترام القانون أو الإستجابة رجاء، وهذا الشك يتعين وفقاً للقواعد العامة تفسيره لمصلحة الموظف باعتباره المتهم، ويعني ذلك تغليب الإحتمال الأول.
ويتطلب الركن المادي لهذه الجريمة توافر علاقة السببية بين الرجاء أو الوساطة أو التوصية وبين أداء العمل الوظيفي المخالف للقانون : فإذا ثبت أن أداء هذا العمل كان بناء على إعتبارات لم يكن الرجاء أو الوساطة أو التوصية أجدها فلا قيام للجريمة، وأهم قرينة تثبت ذلك كون ذلك العمل في غير مصلحة صاحب الرجاء أو من كانت الوساطة أو التوصية لمصلحته .
ويتخذ الركن المعنوي لهذه الجريمة صورة القصد، وأهم عناصره علم الموظف بمضمون الرجاء أو الوساطة أو التوصية، وبمخالفة العمل الذي قام به القانون، واتجاه إرادته إلى الإستجابة للرجاء أو الوساطة أو التوصية، واتجاهها كذلك إلى القيام بالعمل المخالف للقانون الذي أداه .
عقوبة جريمة الرجاء أو الوساطة أو التوصية : حدد الشارع عقوبة هذه الجريمة بالسجن والغرامة التي لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه . وتوقع هذه العقوبة على الموظف باعتباره الفاعل، ولكنها توقع كذلك على من صدر عنه الرجاء أو الوساطة أو التوصية بإعتباره شريكاً، وتوقع كذلك على صاحب الحاجة إذا كان شخصاً آخر وتوافرت في حقه أركان الإشتراك .
وإذا صدر الرجاء أو الوساطة أو التوصية فلم يستجب له الموظف فلا عقاب، إذ تكييف الواقعة بالنسبة لصاحب الرجاء أو التوصية أو الوساطة أنها شروع في إشتراك .
وإذا عبر الموظف - بوسيلة ما - عن استجابته إلى الرجاء أو الوساطة أو التوصية وثبت اتجاه نيته إلى القيام بالعمل الوظيفي، ولكنه لم يستطع ذلك وقفت مسئوليته عند الشروع، وهو معاقب عليه دون نص باعتبار الجريمة جناية . (شرح قانون العقوبات، القسم الخاص الدكتور/ محمود نجيب حسني، الطبعة السابعة 2012 دار النهضة العربية، الصفحة: 37)
والمصلحة التي أراد المشرع حمايتها بالنص السابق هي حسن سير العمل والأداء الوظيفة العامة بحيث يكون الباعث على الأداء هو الصالح العام الذي من أجله أنشئت الوظيفة وليس البواعث الفردية المتأتية من الغير، ولذلك فإن الموظف الذي يستجيب للرجاء أو التوصية أو الوساطة يهدد مصلحة جهة الإدارة بالضرر إذا ما قام بالعمل المفروض، ويضر فعلاً بتلك المصلحة إذا ما امتنع عن أداء العمل الواجب أو أخل بواجبات وظيفته.
- الأركان المكونة للجريمة :
أولاً : أن يكون الفاعل موظفة عمومية :
يجب أن تتوافر صفة الموظف العام في الفاعل باعتبار أن تلك الجريمة من جرائم اليد الخاصة. ويعتبر موظفاً عمومياً في حكم تلك الجريمة كل من ينطبق عليه وصف من الأوصاف المذكورة بالمادة 111 عقوبات أو الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات الوظيفة، حتى ولو كان الرجاء أو التوصية أو الوساطة قد تمت في وقت سابق على اكتساب الصفة. ذلك أن الوساطة قد تمت في وقت سابق على اكتساب الصفة. ذلك أن الاستجابة هي السلوك الإجرامي المعاقب عليه ولذلك فإن العبرة بتوافر الصفة وقت الاستجابة.
ثانياً : الركن المادي:
يقوم الركن المادي للجريمة على سلوك من الموظف يتمثل في الاستجابة لرجاء أو توصية أو وساطة. وهذه الجريمة من الجرائم الثنائية التي تتطلب تعدداً في السلوك مع تعدد الأشخاص. والسلوك الذي يقع من الغير يجب أن يأخذ شكل الرجاء أو التوصية أو الوساطة، ويقابل هذا السلوك من قبل الموظف فعل الاستجابة.
- الرجاء التوصية - الوساطة :
يلزم لتوافر الجريمة في ركنها المادي أن يباشر الغير سلوكا يتمثل في الرجاء أو التوصية أو الوساطة. ويقصد بالرجاء حث الموظف على أداء العمل أو الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات وظيفته بإثارة الجانب العاطفي من شخصيته لكي يستجيب الطلب. ولذلك فإن الرجاء قد يقع من صاحب المصلحة كما يقع منا لغير. أما لتوصية فيقصد بها الطلب الموجه من لهم تأثير أو نفوذ على الموظف سواء أكان تأثيراً معنوياً أم بحكم شغل وظيفة معينة. أما الوساطة فهي التوسط لدى الموظف بالأمر أو لطلب الأداء العمل أو الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات الوظيفة لصالح شخص ثالث. والحقيقة هي أن التوصية نوع من الوساطة . وفي كلهما يؤدي الموظف أو يمتنع عنه أو يخل بواجبات الوظيفة الاعتبارات تتعلق بشخص صاحب التوصية أو الوساطة.
- الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة.
أن السلوك المكون للجريمة من قبل الموظف العام يتحقق بالاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة. ولا يكفي لتوافر الاستجابة قبول الموظف وإنما يلزم أن تتمثل الاستجابة في أداء العمل أو الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات الوظيفة. وبعبارة أخرى تتحقق الاستجابة بأداء الموظف موضوع الرجاء أو التوصية أو الوساطة.
غير أن العمل أو الامتناع عن أدائه أو الإخلال بواجبات الوظيفة من فين الموظف لا يكفى لتحقق الجريمة في ركنها المادي وإنما يلزم أن توافر علاقة سببية بين تحقيق موضوع الرجاء أو التوصية أو الوساطة من قبل الموظف وبين ذات الرجاء أو التوصية أو الوساطة. بمعنى أنه لولا الرجاء أو التوصية أو الوساطة ما كأن الموظف ليؤدى العمل الواجب أو يمتنع عن أدائه أو يخل بواجبات الوظيفة. وهذا هو السبب في أن المشرع ساوى بين أداء العمل وبين الامتناع عن أدائه أو الإخلال بواجبات الوظيفة. ذلك أن أداء العمل الوظيفي استجابة لبواعث خاصة وبعيدة عن الغاية أو الغرض الذي من أجله يكون الموظف ملزما بأدائه إنما يشكل إخلالاً بحسن سير الوظيفة العامة و يعوقها عن تحقيق الغرض منها، ومؤدى ذلك أن العمل أو الامتناع موضوع الرجاء أو التوصية أو الوساطة الفرض فيه انه غير مشروع سواء في شروطه الموضوعية والشكلية أو في بواعثه، وهذا ما يقرب بين هذه الجريمة وجريمة الرشوة. فالعمل الوظيفي في أدائه يجب أن يستمد بواعثه من الأغراض المتعلقة بالوظيفة العامة وأن يكون استجابة لها وليس استجابة لأغراض وبواعث خاصة. ولذلك فإن جريمة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة لا تتوافر في ركنها المادي إذا كان موضوعها منصبا على أداء عمل من أعمال الوظيفة مفروض على الموظف أداؤه دون أدنى سلطة تقديرية من جانبه . إذ أن الرجاء أو الوساطة أو التوصية في هذه الحالة تنصب على أداء عمل مشروع واجب الأداء. وفي هذه الحالة تختلف الجريمة التي نحن بصددها عن جريمة الرشوة والتي يمكن أن تتعلق بأداء عمل مشروع.
الركن المعنوي :
يقوم الركن المعنوي في جريمة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة على القصد الجنائي بعنصري العلم والإرادة.
ويتحقق العلم متى أحاط وعى الموظف بسلوك الغير المتمثل في الرجاء أو التوصية أو الوساطة. فإذا وقع الموظف في غلط في الوقائع بحيث اعتقد، على خلاف الواقع، بأن الطلب أو الأمر أو الوساطة هو من سلطة من قام به وأن عليه واجب التنفيذ، فإن القصد الجنائي ينتفي لانتفاء العلم بالعناصر المكونة للجريمة. ومعنى ذلك أنه يجب أن يعلم الموظف أن واجبه الوظيفي يحتم عليه عدم الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة.
أما الإرادة فتتوافر بإحاطتها بالسلوك الإجرامي المتمثل في الاستجابة وذلك بأداء العمل أو الامتناع أو الإخلال المكون الموضوع الرجاء أو التوصية أو الوساطة وكنتيجة لذلك، فإذا كان الموظف قد أدى العمل أو امتنع عنه أو أخل بواجبات وظيفته ولكن ليس بإرادة تحقيق الغرض من الرجاء أو التوصية أو الوساطة وإنما لسبب آخر خلافها، فإن القصد الجنائي ينتفى، كما لو كان الموظف قد قبل الرجاء أو التوصية أو الوساطة ووعد بإتمام العمل المطلوب، ولكن صدرت تعليمات أو أمر من رئيس تجب طاعته بحيث يصبح معه أداء العمل واجباً مفروضاً على الموظف فيؤديه استناداً إلى ما تقضى به واجبات الوظيفة.
ومن ناحية أخرى يجب أن يتوافر القصد الجنائي لدى المساهم الضروري والذي يحقق الرجاء أو التوصية أو الوساطة وذلك بالعلم بصفة الموظف وباتجاه الإدارة إلى فعل الرجاء أو التوصية أو الوساطة والى تحقيق العمل أو الامتناع أو الإخلال بواجبات الوظيفة عن طريق الموظف. ويجب أن يحيط علمه أيضاً بصفة الرجاء أو التوصية أو الوساطة. فإذا كان الجاني يعتقد أن طلبه إنما يستند إلى رابطة قانونية تربط بينه وبين صاحب المصلحة أو يستند إلى نصوص لائحية تخوله الإشراف أو التوجيه للموظف فإن القصد الجنائي ينتفى .
العقوبة المقررة للجريمة :
نص المشرع في المادة 105 مكرراً على عقوبة السجن والغرامة التي لا تقل عن مائتي جنيه، ولا تزيد على خمسمائة جنية، والسجن هو العقوبة الأصلية للجريمة . أما الغرامة فهي عقوبة تكميلية وجوبية. ولم يحدد المشرع حداً أقصى وأدني لعقوبة السجن بالنسبة لهذه الجريمة، ولذلك فإن الحد الأدنى والحد الأقصى يكون، وفقاً للمادة 16 من قانون العقوبات، من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة، و للمحكمة السلطة التقديرية في الحكم بعقوبة السجن المناسبة لظروف الواقعة بين الحدين سالفي الذكر. ويجوز للمحكمة النزول عن الحد الأدني بالتطبيق للمادة 17 من قانون العقوبات . أما الغرامة كعقوبة تكميلية وجوبية فقد حدها المشرع في أدناها بمائتي جنيه، وفي أقصاها خمسمائة جنيه، أيضا تبعا الظروف الواقعة وما تقدره المحكمة.
وقد نص المشرع على العقوبة السابقة بالنسبة للموظف، مرتكب الجريمة، ولم ينص المشرع على عقاب مرتكب الرجاء أو التوصية أو الوساطة على عكس ما فعل بالنسبة للراشي والوسيط في جريمة الرشوة. وغني عن البيان أن مرتكب الرجاء أو التوصية أو الوساطة يعتبر مساهماً في الجريمة وبالتالي يخضع في عقوبته للقاعدة العامة في عقاب الشريك بالعقوبة المقررة للجريمة المرتكبة من الفاعل الأصلي. ونرى أنه يتمتع أيضا بمانع العقاب المنصوص عليه في المادة 107 مكرراً والذي يسوى على جميع جرائم الرشوة وما في حكمها. (قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الأول، الصفحة: 198)
صفة الجاني:
اشتراط صفة الموظف العامة:
تطلب المشرع لوقوع جريمة الرشوة أن يكون الجاني موظفاً عاماً أو من في حكمه مختصاً بالعمل أو الامتناع المطلوب منه أو معتقداً خطأ أو زاعماً الاختصاص به. ويقتضي ذلك تحديد المقصود بالموظف العام، وتحديد الأشخاص الذين جعلهم المشرع في حكمه، ثم بيان اختصاص الموظف بالعمل أو الامتناع.
تحديد مدلول الموظف العام في جريمة الرشوة:
لا يقتصر المشرع الجنائي، في تحديده لمدلول الموظف العام في نطاق جريمة الرشوة، على المعنى الذي استقر عليه في فقه القانون الإداري، وإنما يمد نطاق هذا المدلول إلى أشخاص آخرين، حرصاً منه على تحقيق ما يستهدفه بتجريم الرشوة من حماية النزاهة الوظيفة العامة، وإبقاء على ثقة الناس في حيدة الدولة وعدالتها، وصيانة لنقاء العلاقة بين الدولة والأفراد من خلال ما تؤديه لهم بواسطة عمالها من خدمات.
وعلى ذلك يمتد معنى الموظف العام في جريمة الرشوة ليشمل الموظف العام الحقيقي في المدلول الإداري، ثم من اعتبرتهم المادة 111 عقوبات في حكم الموظف العام، بالإضافة إلى فئة ثالثة يثور التساؤل بصددها وهي فئة الموظف العام الفعلي.
الموظف العام في المدلول الإداري:
هو الشخص الذي يقوم بصفة قانونية بعمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة عن طريق الاستغلال المباشر ويعني هذا التعريف ضرورة توافر شروط ثلاثة لتحقق صفة الموظف العام :
1- أن يكون قد التحق بخدمة المرفق العام بصفة قانونية، أي عن طريق التعيين، فإذا لم يتوافر هذا الشرط لا تتحقق صفة الموظف العام، ولو كان المرشح للوظيفة قد استوفي شروط التعيين فيها، أو كان تعيينه باطلاً.
2- ويجب أن يقوم الشخص المعين بأداء عمل يتصف بالدوام والاستمرار، فيخرج من نطاق الموظف العام من عهد إليه بعمل عارض كمن يكلف بخدمة عامة.
3- وأخيراً يجب أن يقوم بالعمل في مرفق عام تديره الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة عن طريق الاستغلال المباشر، فيخرج من نطاق الموظف العام من يعمل في مرفق عام يدار عن طريق آخر غير طريق الاستغلال المباشر كطريق الإلتزام، ومن يعمل في مشروع خاص أياً كانت درجة اتصاله بالدولة.
إذا توافرت هذه الشروط تحققت صفة الموظف العام، يستوي بعد ذلك أن يكون مثبتاً أو غير مثبت، وأن يتقاضى عن عمله راتباً أو مكافأة أو أن يقوم به بغير مقابل، إذ لا يعتبر الراتب شرطاً من شروط الوظيفة العامة، وعلى ذلك يعتبر العمد، ومشايخ البلد، ومشايخ الحارة ومشايخ القسم من الموظفين العموميين .
ويستوي أن يكون خاضعاً للنظام القانوني العام لموظفي الدولة أو أن يكون خاضعا لنظام قانوني خاص بفئة معينة، كالنظام الخاص بأعضاء هيئة التدريس بالجامعات، وأعضاء الهيئات القضائية، أو بأفراد القوات المسلحة أو الشرطة كما يستوي أن يكون التعيين برضائه أو أن يكون مكلفاً بذلك وأن يكون متفرغاً للقيام بأعمال وظيفته أو أن يجمع بينها وبين عمل آخر.
الموظف الفعلي :
هو الشخص الذي يباشر عملاً وظيفياً دون أن تكون له صفة الموظف الحقيقي، إما لأنه لم يصدر قرار بتعيينه أو صدر بتعيينه قرار باطل، أو لأن إجراءات ممارسته للعمل الوظيفي لم تستوف بعد، أو لأنه وهو موظف حقیقی، فوض بمباشرة عمل لا يجيز القانون تفويضه في القيام به. ويثير وضع الموظف الفعلى التساؤل عما إذا كان يعتبر کالموظف الحقيقي فتسري عليه نصوص الرشوة؟ لما كان الهدف من تجريم الرشوة هو حماية نزاهة الوظيفة العامة، وصيانة ثقة الناس في الأعمال التي تقوم بها الدولة، فإنه يجب التمييز بين وضعين: إذا كان العيب الذي يشوب مباشرة الشخص للعمل الوظيفي يسيراً يصعب اكتشافه، كما هو الشأن بالنسبة لكاتب المحكمة الذي يباشر عمله دون حلف اليمين القانونية، أو كان العيب - على الرغم من أهميته - قد حجبته عن الناس مظاهر السلطة التي يباشرها الموظف الفعلى فأصبحوا يعتقدون أنه الممثل الحقيقي للدولة، في هاتين الحالتين تسري عليه نصوص الرشوة إذا توافرت أركان الجريمة.
أما إذا كان العيب الذي يشوب مباشرة الشخص للعمل الوظيفي من الوضوح بحيث يتبينه الناس فيدركون أنه لا يمثل سلطة الدولة وأنه لا يستطيع القيام بأعمال الوظيفة، فحينئذ لا يعتبر هذا الشخص موظفا فعليا، فإذا طلب أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية للقيام بعمل من أعمال هذه الوظيفة لا تطبق عليه نصوص الرشوة، لأن بعده عن الوظيفة واستقلاله الواضح عنها يجعل فعله غير ماس بنزاهتها وإن أمكن أن يسأل عن جريمة نصب إذا توافرت أركانها.
ويدخل في نطاق الموظف الفعلى فتطبق عليه نصوص الرشوة الشخص الذي يتصدى للقيام بأعمال السلطة العامة إذا اختفت هذه السلطة أو عجزت عن القيام بمهامها. مثال ذلك أن يحتل العدو أحد أقاليم الدولة ويختفي ممثلو الدولة من هذا الإقليم أو يعجزون عن أداء مهامهم فيضطلع أحد المواطنين بأعمالهم الوظيفية .
الاختصاص بالعمل :
يقصد باختصاص الموظف بالعمل أن يكون له سلطة القيام به قانوناً، ويتحقق ذلك إذا كان القانون يفرض عليه القيام به، أو كان يترك له تقرير ملاءمة القيام به أو الامتناع عن ذلك. والأعمال التي تدخل في اختصاص الموظف العام أو من في حكمه قد يحددها القانون مباشرة، وقد تحددها اللوائح بناء على تفويض القانون، كما قد يحددها قرار أو تكليف صحيح صادر من الرئيس المختص، سواء كان كتابياً أو شفهياً. وقد قضي تطبيقا لذلك بأنه: «يدخل في أعمال الوظيفة كل عمل يرد عليه تكليف صحيح صادر من الرؤساء، كما يكفي في صحة التكليف أن يصدر بأوامر شفهية، فإذا كان الحكم قد دلل تدليلاً سائغاً على أن عمل الساعي يقتضي التردد على المكان الذي تحفظ فيه ملفات الممولين للمعاونة في تصنيفها وأن يقوم بنقل الملفات بناء على طلب موظفي مأمورية الضرائب - وهم من رؤسائه - فإن التحدي بانعدام أحد أركان جريمة الرشوة يكون على غير أساس». نقض 20 يناير سنة 1959 مجموعة أحكام محكمة النقض س 10 رقم 15 ص 55 .
ولا يقدح في ذلك أن يكون هناك قرار وزاري ينظم توزيع العمل بين الموظفين، لأن ذلك إجراء تنظيمي لا يهدر حق رئيس الإدارة في تكليف موظف بعمل خاص في إدارة أخرى». نقض 9 يونية سنة 1969 مجموعة أحكام محكمة النقض س 20 رقم 173 ص 826 .
كذلك قد يرجع تحديد الاختصاص إلى العرف. نقض 7 أكتوبر سنة 1958 مجموعة أحكام محكمة النقض س 5 رقم 189 ص 779.
واختصاص الموظف بالعمل الوظيفي يعني أن يختص به نوعياً ومكانياً، فلا يكفي أن يكون الموظف مختصاً بعمل من نوع معين إذا كان نظام تعيينه لا يسمح له بمباشرته إلا في جهة معينة، إذ أن مباشرته لعمل من نفس نوع العمل الداخل في أعمال وظيفته خارج نطاق اختصاصه المكاني يعني أنه ليست لديه سلطة القيام بهذا العمل وبالتالي يكون غير مختص به. فإذا تلقى عطية مقابل القيام بعمل لا يدخل في اختصاصه المكاني لا تقع منه جريمة الرشوة طالما أنه لم يزعم اختصاصه به أو يعتقد ذلك.وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض بأنه «إذا كان الموظف غير مختص بإجراء عمل من الأعمال سواء أكان ذلك بسبب أن هذا العمل لا يدخل أصلاً في وظيفته أم بسبب أنه هو، بمقتضى نظام تعيينه، ليس له أن يقوم به في الجهة التي يباشر فيها، فإن حصوله على المال أو تقديم المال إليه للقيام به أو للامتناع عنه لا يمكن أن يعد رشوة».
وإذ تحدد الاختصاص بالعمل الوظيفي على هذا النحو فإنه يستوي بعد ذلك أن يكون الموظف هو المختص بالعمل كله أو أن يقتصر اختصاصه على جزء من العمل المطلوب يسمح بتنفيذ الغرض من الرشوة إذ القول بوجوب اختصاص الموظف بكل العمل دون أن يساهم فيه أحد غيره يجر - على حد تعبير محكمة النقض - «إلى إباحة الرشوة إذ المعلوم أن إدارة الأعمال تتطلب . الحسن سيرها توزیع كل مسألة على عدة عمال فيختص كل منهم بأداء جزء معين منها، وقد لا توجد مسألة واحدة بذاتها يتمها كلها موظف واحد، ولم يشترط القانون سوى أن يكون العمل من أعمال الوظيفة، وما دامت كلمة عمل جاءت مطلقة فهي لا تتقيد بقدر معين من العمل ولا بنوع خاص منه».
كذلك يعتبر الموظف مختصاً بالعمل ولو كان اختصاصه منحصراً في مجرد إبداء الرأي وقد قضى تطبيقاً لذلك بأن العمدة الذي يبدي رأياً بشأن تعيين شيخ بلد بناء على طلب اللجنة المختصة يعتبر قائماً بعمل من أعمال وظيفته، فإذا قبل عطية لإبداء رأيه لمصلحة شخص معين عد مرتكباً لجريمة الرشوة.
بل إن الموظف يعتبر مختصاً بالعمل ولو لم يكن داخلاً مباشرة في أعمال وظيفته، إذا كان العمل المطلوب أداؤه مقابل الرشوة له علاقة أو اتصال بأعمال الوظيفة يسمح بتنفيذ الغرض المقصود من الرشوة. نقض 3 مارس سنة 1917 المجموعة الرسمية س 18 رقم 51 ص 89.
الوقت الذي يجب أن تتوافر فيه الصفة والاختصاص:
العبرة في توافر صفة الموظف العام واختصاصه بالعمل هي بالوقت الذي يقع فيه الركن المادي لجريمة الرشوة، وهو وقت طلب العطية أو أخذها أو قبول الوعد بها. فإذا انتفت الصفة وقت وقوع الفعل لا يعتبر الفاعل مرتشياً. وإن أمكن أن تقع منه جريمة النصب بانتحال صفة غير صحيحة إذا ادعى أن له صفة الموظف وتوافرت باقی أركان هذه الجريمة. ويترتب على هذا التحديد أن الرشوة لا تقع من شخص ليست له صفة الموظف، إذا تقاضى مبلغاً لقاء القيام بعمل وظيفي ولو تحققت فيه هذه الصفة بعد ذلك إذ لا يتحقق حينئذ التعاصر المطلوب بين الركن المادي للرشوة وبين صفة الموظف العام. كذلك لا تقع الجريمة إذا قدم العطاء إلى موظف عام ليقوم بعمل لا يدخل في نطاق اختصاصه ولم يزعم الاختصاص به ولم يعتقد خطأ الاختصاص به، وإنما أخذ العطية استغلالاً لسذاجة صاحب الحاجة. والجريمة لا تقع في هذا الفرض ولو دخل العمل في اختصاصه بعد وقوع الفعل. ولا تقع جريمة الرشوة إذا وقع الفعل المادي المكون لها بعد أن زالت عن الموظف صفته بالعزل أو الاستقالة، أو إذا كانت الصفة قائمة ولكن كان العمل قد خرج عن نطاق اختصاصه ولم يزعم أنه لا يزال مختصاً به، أو يعتقد خطأ بذلك.
وإذا توافرت صفة الموظف العام واختصاصه بالعمل وقت ارتكاب الفعل فإن جريمة الرشوة تقع، ولا يؤثر في ذلك أن تزول عن المرتشي صفة الموظف والاختصاص الذي كان له، ولو كان من نتيجة ذلك استحالة تحقيق غرض الرشوة.
الركن المعنوي في جريمة الرشوة :
قصد المرتشي:
جريمة الرشوة جريمة عمدية يتخذ الركن المعنوي فيها صورة القصد الجنائي، وهو يتحقق بتوافر عنصري : العلم والإرادة.
العلم: يجب أن ينصرف علم الموظف إلى أركان الجريمة، فيجب أن يكون عالماً بأنه موظف وأن العمل المطلوب منه يدخل في نطاق اختصاصه حقيقة أو زعماً أو اعتقاداً مخالفاً للحقيقة، فإذا كان يجهل وقت قيامه بالنشاط الإجرامي أنه قد يصدر قرار بتعيينه، أو كان يجهل أن العمل المطلوب منه قد أصبح داخلاً في نطاق اختصاصه، ينتفي لديه القصد. كذلك يجب أن ينصرف علم الجاني إلى الفعل المكون الركن المادي للجريمة، فلا يكفى لقيام القصد الجنائي لديه أن يدخل العطية في حيازته دون علمه كما لو دسها صاحب الحاجة في جيبه أو في درج مكتبه دون أن يشعر. ويجب أن يكون الجاني عالما بأن العطية التي تقدم إليه هي مقابل العمل المطلوب، فإن جهل ذلك بأن كان معتقداً أنها قدمت لغرض بریء کسداد الدين على صاحب الحاجة لا يتوافر القصد الجنائي، ويظل غير متوافر ولو علم فيما بعد بالغرض الحقيقي العطية فقام بالعمل المطلوب .
الإرادة: يجب أن تتجه إرادة المرتشي إلى ارتكاب الفعل المكون الركن المادي للجريمة بأن يريد أخذ العطية أو قبول الوعد بها أو طلب الوعد أو العطية، وتنتفي هذه الإرادة إذا كان الراشي قد قدم العطية فتسلمها الموظف ثم ردها في الحال، كما تنتفي إذا كان الموظف قد تظاهر بتوافرها لديه بغية إتاحة السبيل للقبض على الراشي متلبساً بالجريمة.
هل يشترط قصد خاص في الرشوة؟
ذهب بعض الفقهاء إلى تطلب قصد خاص في جريمة الرشوة يتمثل في نية الاتجار بالوظيفة أو استغلالها، ونحن نرفض هذه الوجهة فالمشرع يكتفي لتحقق القصد بتوافر العلم لدى الموظف بأن العطية تقدم كثمن للاتجار بالوظيفة، يؤيد ذلك حرص المشرع على أن يؤكد هذا المعنى بتقريره معاقبة الموظف بعقوبة الرشوة حتى ولو كان يقصد عدم القيام بالعمل أو الامتناع عنه أو عدم الإخلال بواجبات الوظيفة، أي أن الجريمة تقع سواء توافرت أو لم تتوافر نية الاتجار في أعمال الوظيفة.
معاصرة القصد الجنائي للركن المادي:
من المقرر أن القصد لا يعتد به في القول بتوافر الجريمة إلا إذا كان معاصراً للنشاط الإجرامي المكون للركن المادي للجريمة، فتنتفى الجريمة إذا لم يكن القصد متوافراً بعنصريه وقت الأخذ أو القبول أو الطلب، ولا عبرة بتوافره في وقت لاحق على ذلك.
تختلف جريمة الرشوة عن جريمة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة اختلافاً أساسياً من حيث أن جوهر جريمة الرشوة، وهو الاتجار في الوظيفة العامة، غير متوافر في الجريمة محل البحث. فإذا قام الموظف العام بعمل من أعمال وظيفته أو امتنع عنه أو أخل بواجب من واجبات وظيفته استجابة لرجاء أو التوصية أو لوساطة لا تقع بفعله جريمة الرشوة، لأنه لم يحصل مقابل ذلك على عطية أو وعد بها.
ولما كان هذا الفعل - وإن لم يكن رشوة - يمثل نوعاً من العبث بأعمال الوظيفة فقد رأى المشرع تجريمه.
كذلك تتميز هذه الجريمة عن جريمة الرشوة من حيث أنها لا تتم إلا إذا قام الموظف بالعمل أو الامتناع المطلوب منه استجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة، بينما تقع جريمة الرشوة ولو لم يقم الموظف بالعمل المطلوب منه بل ولو اتجهت نيته إلى عدم القيام به.
- أركان الجريمة:
يتطلب المشرع، فضلاً عن صفة الجاني كموظف عام، تحقق الركنين المادي والمعنوي.
الركن المادي:
يتحقق الركن المادي باستجابة الموظف لرجاء أو توصية أو وساطة. والرجاء، هو الطلب المقترن بالاستعطاف والتوسل، ويصدر من صاحب الحاجة. أما الوساطة، فهي نقل رغبة الغير إلى الموظف في صورة طلب أو رجاء أو أمر، وهي صور ذكرها المشرع كوسائل للوساطة في مناسبة أخرى (انظر المادة 120 من قانون العقوبات). أما التوصية، فهي ص ورة من الوساطة يقوم بها في الغالب شخص له نفوذ على الموظف طالباً منه أداء عمل معين لمصلحة صاحب الحاجة، وتكون التوصية غالباً مكتوباة أما الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة فتعني تجاوب الموظف مع رغبة صاحب الحاجة، وقيامه بالعمل أو الامتناع أو الإخلال بواجبات الوظيفة نتيجة لذلك. فإذا قام الموظف بالعمل دون أن يوجد الرجاء أو التوصية أو الوساطة لا تقع منه الجريمة ولو كان قيامه بالعمل مراعاة لصلة قرابة أو علاقة صداقة أو تقديراً للمكانة الاجتماعية لصاحب الحاجة. كذلك لا تقع الجريمة على الرغم من وجود الرجاء أو التوصية أو الوساطة إذا كان الموظف قد قام بالعمل أو الامتناع أو الإخلال تحت تأثير اعتبارات أخرى.
وإذا كانت صورة الجريمة واضحة في حالة امتناع الموظف عن القيام بعمل من أعمال وظيفته أو الإخلال بواجباتها استجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة، فإن الغموض يحيط بها في حالة قيام الموظف بعمل تفرضه عليه واجبات الوظيفة تحت تأثير الرجاء أو التوصية أو الوساطة - فمن العسير قبول القول بأن الموظف يعتبر مرتكباً للجريمة إذا قام بأداء عمل تفرضه عليه واجبات وظيفته لمجرد أن هذا الأداء قد جاء معبرا عن استجابة الموظف الرجاء أو توصية أو وساطة. إذ لا يتصور أن يعاقب الموظف الذي يقوم بواجبه على نحو مطابق للقانون. هذا فضلاً عن أنه من المتعذر عملاً إثبات أن الموظف قد أدي عمله نتيجة للرجاء أو التوصية أو الوساطة. فإذا ثار الشك لدى القاضي في كون الموظف قد أدى عمله حرصاً على احترام القانون أو نتيجة للرجاء فإن هذا الشك يفسر لمصلحة الموظف المتهم ولذلك فإن من الأفضل أن يقصر المشرع نطاق التجريم على حالة الإخلال بواجبات الوظيفة ويدخل في نطاقها الامتناع عن العمل الذي تفرضه الوظيفة.
مما تقدم يتبين أن الركن المادي في هذه الجريمة لا يقوم إلا باجتماع الأمرين معاً: الرجاء أو التوصية أو الوساطة من ناحية. واستجابة الموظف العام التي تتخذ صورة أداء العمل أو الامتناع عن العمل أو الإخلال بواجبات وظيفته من ناحية أخرى، فإذا اقتصر الأمر على مجرد الرجاء أو التوصية أو الوساطة دون استجابة من الموظف؛ أو قيام الموظف بالعمل أو الامتناع أو الإخلال إرضاء لصاحب الحاجة دون أن يكون هناك عمل إيجابي من جانب الأخير، لا تقع الجريمة.
- الركن المعنوي:
يتخذ الركن المعنوي صورة القصد الجنائي العام الذي يتمثل في اتجاه إرادة الموظف إلى أداء العمل أو الامتناع أو الإخلال بواجبات وظيفته استجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة مع علمه بالرجاء أو التوصية أو الوساطة وبمخالفة العمل الذي يقوم به القانون.
- عقوبة الجريمة :
إذا تمت الجريمة بأداء الموظف لعمل من أعمال وظيفته أو امتناعه عن عمل من أعمالها أو إخلاله بواجباتها نتيجة للرجاء أو التوصية أو الوساطة، كانت عقوبتها السجن والغرامة التي لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه.
وإذا بدأ الموظف في تنفيذ العمل أو الامتناع أو الإخلال استجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة ولكنه لم يتمه لسبب خارج عن إرادته، فإن فعله يعتبر شروعاً في الجريمة فيعاقب عليه وفقاً للمادة 46 من قانون العقوبات لأن الجريمة جناية.
ولما كان من صدر منه الرجاء أو التوصية أو الوساطة يعتبر شريكاً بالتحريض في جريمة الموظف فإنه توقع عليه نفس العقوبة تطبيقاً للقواعد العامة في الإشتراك (م 41 ع).
أما إذا اقتصر الأمر على مجرد الرجاء أو التوصية أو الوساطة دون أن يقوم الموظف بأي عمل يعتبر استجابة لذلك، فإنه لا مسئولية على الموظف لأنه لم يرتكب الجريمة ولم يشرع في ارتكابها، كما أنه لا مسئولية على من صدر منه الرجاء أو التوصية أو الوساطة، إذ لا يتحقق الإشتراك إلا إذا وقعت الجريمة أو شرع فيها وكان الشروع معاقباً عليه. ( شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتورة/ فوزية عبد الستار، الطبعة الرابعة 2017 دار النهضة العربية، الصفحة: 16)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 282
الرِّشْوَةُ :
هِيَ جَرِيمَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِالْقُرْآنِ لقوله تعالي : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وَهِيَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنَ الرِّشْوَةِ. وَهِيَ كَذَلِكَ مُحَرَّمَةٌ بِالسُّنَّةِ لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ» . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 187 ، 189 ، 190
(مادة 365)
يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز عشر سنوات كل موظف عام قام بعمل من أعمال وظيفته، أو امتنع عن عمل من أعمالها ؛ إخلالاً بواجباتها نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة أو مراعاة لخاطر أو إستعمالاً لنفوذ .
(مادة 374)
يحكم على الجاني في جميع الأحوال المبينة في المواد السابقة بغرامة تساوي قيمة ما طلب أو قبل أو وعد به أو عرض، على ألا تقل عن مائتي جنيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني والعشرون ، الصفحة / 219
رِشْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
الرِّشْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ: الْجُعْلُ، وَمَا يُعْطَى لِقَضَاءِ مَصْلَحَةٍ، وَجَمْعُهَا رُشًا وَرِشًا.
قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الرِّشْوَةُ - بِالْكَسْرِ -: مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ لِلْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَحْكُمَ لَهُ، أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ.
وَقَالَ ابْنُ الأْثِيرِ: الرِّشْوَةُ: الْوُصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ بِالْمُصَانَعَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّشَاءِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الرِّشْوَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ رَشَا الْفَرْخُ إِذَا مَدَّ رَأْسَهُ إِلَى أُمِّهِ لِتَزُقَّهُ.
- وَرَاشَاهُ: حَابَاهُ، وَصَانَعَهُ، وَظَاهَرَهُ.
- وَارْتَشَى: أَخَذَ رِشْوَةً، وَيُقَالُ: ارْتَشَى مِنْهُ رِشْوَةً: أَيْ أَخَذَهَا.
- وَتَرَشَّاهُ: لاَيَنَهُ، كَمَا يُصَانَعُ الْحَاكِمُ بِالرِّشْوَةِ
- وَاسْتَرْشَى: طَلَبَ رِشْوَةً
- وَالرَّاشِي: مَنْ يُعْطِي الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى الْبَاطِلِ.
- وَالْمُرْتَشِي: الآْخِذُ
- وَالرَّائِشُ: الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا، وَيَسْتَنْقِصُ لِهَذَا.
وَقَدْ تُسَمَّى الرِّشْوَةُ الْبِرْطِيلَ وَجَمْعُهُ بَرَاطِيلُ.
قَالَ الْمُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرْطِيلِ بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ، هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ لاَ؟.
وَفِي الْمَثَلِ: الْبَرَاطِيلُ تَنْصُرُ الأْبَاطِيلَ،.
وَالرِّشْوَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُعْطَى لإِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ لإِحْقَاقِ بَاطِلٍ،.
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ قُيِّدَ بِمَا أُعْطِيَ لإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ، أَوْ إِبْطَالِ الْحَقِّ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُصَانَعَةُ:
الْمُصَانَعَةُ: أَنْ تَصْنَعَ لِغَيْرِكَ شَيْئًا لِيَصْنَعَ لَكَ آخَرَ مُقَابِلَهُ، وَكِنَايَةٌ عَنِ الرِّشْوَةِ، وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ صَانَعَ بِالْمَالِ لَمْ يَحْتَشِمْ مِنْ طَلَبِ الْحَاجَةِ.
ب - السُّحْتُ - بِضَمِّ السِّينِ:
أَصْلُهُ مِنَ السَّحْتِ - بِفَتْحِ السِّينِ - وَهُوَ الإْهْلاَكُ وَالاِسْتِئْصَالُ، وَالسُّحْتُ: الْحَرَامُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ كَسْبُهُ؛ لأِنَّهُ يَسْحَتُ الْبَرَكَةَ أَيْ: يُذْهِبُهَا.
وَسُمِّيَتِ الرِّشْوَةُ سُحْتًا،. وَقَدْ سَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ،.
لَكِنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، لأِنَّ السُّحْتَ كُلُّ حَرَامٍ لاَ يَحِلُّ كَسْبُهُ.
ج - الْهَدِيَّةُ:
مَا أَتْحَفْتَ بِهِ غَيْرَكَ، أَوْ مَا بَعَثْتَ بِهِ لِلرَّجُلِ عَلَى سَبِيلِ الإْكْرَامِ، وَالْجَمْعُ هَدَايَا وَهَدَاوَى - وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ -
يُقَالُ: أَهْدَيْتُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ).
قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْهَدِيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِاللُّطْفِ، الَّذِي يُهْدِي بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِهْدَى: الطَّبَقُ الَّذِي يُهْدَى عَلَيْهِ.
وَالْمِهْدَاءُ: مَنْ يُكْثِرُ إِهْدَاءَ الْهَدِيَّةِ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ الرِّشْوَةُ هِيَ: مَا يُعْطَى بَعْدَ الطَّلَبِ، وَالْهَدِيَّةُ قَبْلَهُ.
د - الْهِبَةُ:
الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ بِلاَ عِوَضٍ.
قَالَ ابْنُ الأْثِيرِ: الْهِبَةُ: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الأْعْوَاضِ وَالأْغْرَاضِ، فَإِذَا كَثُرَتْ سُمِّيَ صَاحِبُهَا وَهَّابًا.
وَاتَّهَبْتُ الْهِبَةَ: قَبِلْتُهَا، وَاسْتَوْهَبْتُهَا: سَأَلْتُهَا، وَتَوَاهَبُوا: وَهَبَ بَعْضُهُمُ الْبَعْضَ.
وَاصْطِلاَحًا: إِذَا أُطْلِقَتْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ حَالَ الْحَيَاةِ بِلاَ عِوَضٍ. وَقَدْ تَكُونُ بِعِوَضٍ فَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهِبَةِ، أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالاً لِلنَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْعِوَضِ ظَاهِرًا فِي الْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الرِّشْوَةِ يَنْتَظِرُ النَّفْعَ، وَهُوَ عِوَضٌ.
و - الصَّدَقَةُ:
مَا يُخْرِجُهُ الإْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنِ الصَّدَقَةُ فِي الأْصْلِ تُقَالُ لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ لِلْوَاجِبِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْوَاجِبُ صَدَقَةً، إِذَا تَحَرَّى صَاحِبُهَا الصِّدْقَ فِي فِعْلِهِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالصَّدَقَةِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ تُدْفَعُ طَلَبًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي حِينِ أَنَّ الرِّشْوَةَ تُدْفَعُ لِنَيْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ عَاجِلٍ.
أَحْكَامُ الرِّشْوَةِ:
الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَرِشْوَةُ الْمَسْئُولِ عَنْ عَمَلٍ حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)، قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرِّشْوَةُ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإْثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ «وَالرَّائِشَ».
وَيَحْرُمُ طَلَبُ الرِّشْوَةِ، وَبَذْلُهَا، وَقَبُولُهَا، كَمَا يَحْرُمُ عَمَلُ الْوَسِيطِ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي.
غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإْنْسَانِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - أَنْ يَدْفَعَ رِشْوَةً لِلْحُصُولِ عَلَى حَقٍّ، أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ أَوْ ضَرَرٍ، وَيَكُونُ الإْثْمُ عَلَى الْمُرْتَشِي دُونَ الرَّاشِي.
قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِالرِّشْوَةِ.
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِذَا عَجَزْتَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَاسْتَعَنْتَ عَلَى ذَلِكَ بِوَالٍ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَثِمَ دُونَكَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ زَوْجَةً يُسْتَبَاحُ فَرْجُهَا، بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْكَ؛ لأِنَّ مَفْسَدَةَ الْوَالِي أَخَفُّ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّنَا وَالْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعَانَتُكَ بِالأْجْنَادِ يَأْثَمُونَ وَلاَ تَأْثَمُ، وَكَذَلِكَ فِي غَصْبِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الْمُعِينِ عِصْيَانٌ لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ، وَالْجَحْدَ وَالْغَصْبَ عِصْيَانٌ وَمَفْسَدَةٌ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الاِسْتِعَانَةَ بِالْمَفْسَدَةِ - لاَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ - عَلَى دَرْءِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا، كَفِدَاءِ الأْسِيرِ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكُفَّارِ لِمَالِنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَفْسَدَةُ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَمَا لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ.
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَسِيرًا نَحْوَ كِسْرَةٍ وَتَمْرَةٍ، حُرِّمَتْ الاِسْتِعَانَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ لأِنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لاَ يُبَاحُ بِالْيَسِيرِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الأْثَرِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا بِدِينَارَيْنِ، حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ. وَقَالَ: إِنَّ الإْثْمَ عَلَى الْقَابِضِ دُونَ الدَّافِعِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِذَا خَافَ الظُّلْمَ.
أَقْسَامُ الرِّشْوَةِ:
قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الرِّشْوَةَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:
أ - الرِّشْوَةُ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالإْمَارَةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى الآْخِذِ وَالْمُعْطِي.
ب - ارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الآْخِذِ وَالْمُعْطِي، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَقٍّ؛ لأِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
ج - أَخْذُ الْمَالِ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الآْخِذِ فَقَطْ.
د - إِعْطَاءُ إِنْسَانٍ غَيْرِ مُوَظَّفٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ مَالاً لِيَقُومَ بِتَحْصِيلِ حَقِّهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ دَفْعُ ذَلِكَ وَأَخْذُهُ؛ لأِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَنَةُ الإْنْسَانِ لِلآْخَرِ بِدُونِ مَالٍ وَاجِبَةً، فَأَخْذُ الْمَالِ مُقَابِلَ الْمُعَاوَنَةِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِمَثَابَةِ أُجْرَةٍ.
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَشِي:
أ - الإْمَامُ وَالْوُلاَةُ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الأْكْبَرِ، وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَجُبَاةِ الأْمْوَالِ - وَيُقْصَدُ بِالْكَرَاهِيَةِ الْحُرْمَةُ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيلَ لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُهَا، فَقَالَ: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً، وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ؛ لأِنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لاَ لِوِلاَيَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْنَا لِوِلاَيَتِنَا.
يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (إِمَامَة فِقْرَة 28، 29).
ب - الْعُمَّالُ:
وَحُكْمُ الرِّشْوَةِ إِلَى الْعُمَّالِ (الْوُلاَةِ) كَحُكْمِ الرِّشْوَةِ إِلَى الإْمَامِ - كَمَا مَرَّ فِي كَلاَمِ ابْنِ حَبِيبٍ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «هَدَايَا الأْمَرَاءِ غُلُولٌ»،. وَلِحَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لأِنَّ تَعَزُّزَ الأْمِيرِ وَمَنَعَتَهُ بِالْجُنْدِ وَبِالْمُسْلِمِينَ لاَ بِنَفْسِهِ، فَكَانَتِ الْهَدِيَّةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ، فَإِذَا اسْتَبَدَّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً، بِخِلاَفِ هَدَايَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأِنَّ تَعَزُّزَهُ وَمَنَعَتَهُ كَانَتْ بِنَفْسِهِ لاَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتِ الْهَدِيَّةُ لَهُ لاَ لِلْمُسْلِمِينَ.
ج - الْقَاضِي:
وَالرِّشْوَةُ إِلَى الْقَاضِي حَرَامٌ بِالإْجْمَاعِ.
قَالَ الْجَصَّاصُ: وَلاَ خِلاَفَ فِي تَحْرِيمِ الرِّشَا عَلَى الأْحْكَامِ؛ لأِنَّهُ مِنَ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَاتَّفَقَتِ الأْمَّةُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي.
قَالَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ، وَيَحْرُمُ قَبُولُهُ هَدِيَّةً، وَاسْتِعَارَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْهَدِيَّةِ لأِنَّ الْمَنَافِعَ كَالأْعْيَانِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ وَنَحْوُهُ فَأُهْدِيَ لَهُ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لأِنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى الرِّشْوَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالأْوْلَى أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ، وَفِي الْفُنُونِ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.
وَهَدِيَّةُ الْقَاضِي فِيهَا تَفْصِيلٌ تُنْظَرُ فِي (هَدِيَّة، قَضَاء).
د - الْمُفْتِي:
يَحْرُمُ عَلَى الْمُفْتِي قَبُولُ رِشْوَةٍ مِنْ أَحَدٍ لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُ، وَلَهُ قَبُولُ هَدِيَّةٍ.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَا أُهْدِيَ لِلْمُفْتِي، إِنْ كَانَ يَنْشَطُ لِلْفُتْيَا أُهْدِيَ لَهُ أَمْ لاَ، فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَنْشَطُ إِذَا أُهْدِيَ لَهُ فَلاَ يَأْخُذُهَا، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ خُصُومَةٌ، وَالأْحْسَنُ أَنْ لاَ يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ صَاحِبِ الْفُتْيَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَيْشُونٍ وَكَانَ يَجْعَلُ ذَلِكَ رِشْوَةً.
هـ - الْمُدَرِّسُ:
إِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا لِعِلْمِهِ وَصَلاَحِهِ فَلاَ بَأْسَ بِقَبُولِهِ، وَإِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِوَاجِبِهِ فَالأْوْلَى عَدَمُ الأْخْذِ.
و - الشَّاهِدُ:
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّاهِدِ أَخْذُ الرِّشْوَةِ. وَإِذَا أَخَذَهَا سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (شَهَادَة).
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاشِي:
أ - الْحَاجُّ:
لاَ يَلْزَمُ الْحَجُّ مَعَ الْخَفَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً؛ لأِنَّهَا رِشْوَةٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَحَفِيدُهُ تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ قُدَامَةَ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَلَوْ كَانَ يَدْفَعُ خَفَارَةً إِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُكْرَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِلرَّصْدِيِّينَ؛ لأَنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَخْفِرُهُمْ بِأُجْرَةٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَمْنُهُمْ بِهِ، فَفِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الإْمَامُ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُهُ؛ لأِنَّهُ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ كَالرَّاحِلَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
ب - صَاحِبُ الأْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
يَجُوزُ لِصَاحِبِ الأْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَنْ يَرْشُوَ الْعَامِلَ الْقَابِضَ لِخَرَاجِهِ، وَيُهْدِيَ لَهُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ فِي خَرَاجِهِ؛ لأِنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إِلَى كَفِّ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْشُوَهُ أَوْ يُهْدِيَهُ لِيَدَعَ عَنْهُ خَرَاجًا؛ لأِنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ.
ج - الْقَاضِي:
مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَرْشُوَ لِتَحْصِيلِ الْقَضَاءِ، وَمَنْ تَقَبَّلَ
الْقَضَاءَ بِقِبَالَةٍ (عِوَضٍ)، وَأَعْطَى عَلَيْهِ الرِّشْوَةَ فَوِلاَيَتُهُ بَاطِلَةٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ – رحمه الله: لَوْ بَذَلَ مَالاً لِيَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُوَلَّ إِلاَّ بِمَالٍ هَلْ يَحِلُّ بَذْلُهُ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ بَذْلُهُ لِلْمَالِ كَمَا يَحِلُّ طَلَبُ الْقَضَاءِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ تَوَلِّي الْقَضَاءِ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِسُؤَالِهِمْ أَنْ يُوَلُّوهُ، فَإِذَا مَنَعَهُ السُّلْطَانُ أَثِمَ بِالْمَنْعِ؛ لأِنَّهُ مَنَعَ الأْوْلَى وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا مَنَعَهُ لَمْ يَبْقَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ دَفْعُ الرِّشْوَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ بَذْلُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي نَصْبِهِ قَاضِيًا، وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ،.
حُكْمُ الْقَاضِي:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ إِذَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِرِشْوَةٍ.
وَلَكِنْ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي.
قَالَ مُنْلاَ خُسْرَوْ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالرِّشْوَةِ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ أَوْ بَعْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلاَفٌ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
فَعَلَى قَوْلٍ: أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا أَوِ الَّتِي لَمْ يَرْتَشِ فِيهَا، وَبِأَخْذِ الرِّشْوَةِ لاَ يَبْطُلُ الْحُكْمُ؛ لأِنَّ حَاصِلَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ هُوَ فِسْقُ الْقَاضِي، وَبِمَا أَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي لاَ يُوجِبُ انْعِزَالَهُ فَوِلاَيَةُ الْقَاضِي بَاقِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ يَلْزَمُ نَفَاذُ قَضَائِهِ.
وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ: لاَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا، قَالَ قَاضِيخَانْ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ رِشْوَةً وَحَكَمَ فَحُكْمُهُ غَيْرُ نَافِذٍ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِحَقٍّ؛ لأِنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ قَدِ اسْتُؤْجِرَ لِلْحُكْمِ، وَالاِسْتِئْجَارُ لِلْحُكْمِ بَاطِلٌ؛ لأِنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي.
وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي حَكَمَ فِيهَا. وَهَذَا قَوْلُ الْخَصَّافِ وَالطَّحَاوِيِّ.
انْعِزَالُ الْقَاضِي:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ - وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْخَصَّافُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَبُولُهُ الرِّشْوَةَ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى الْحَاكِمُ انْعَزَلَ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُعْزَلْ، وَبَطَلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَمَذْهَبُ الآْخَرِينَ أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ بِذَلِكَ، بَلْ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الَّذِي وَلاَّهُ.
أَثَرُ الرِّشْوَةِ:
أ - فِي التَّعْزِيرِ:
هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَيَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ.
انْظُرْ: تَعْزِير.
ب - دَعْوَى الرِّشْوَةِ عَلَى الْقَاضِي:
لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ خَصْمًا افْتَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ ارْتَشَيْتَ وَنَحْوِهِ بِضَرْبٍ لاَ يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَحَبْسٍ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ افْتِيَاتُهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ.
ج - فِي الْحُكْمِ بِالرُّشْدِ:
صَرْفُ الْمَالِ فِي مُحَرَّمٍ كَرِشْوَةٍ عَدَمُ صَلاَحٍ لِلدِّينِ وَلِلْمَالِ، مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ بِرُشْدِ الصَّبِيِّ.
د - الْمَالُ الْمَأْخُوذُ:
إِنْ قَبِلَ الرِّشْوَةَ أَوِ الْهَدِيَّةَ حَيْثُ حَرُمَ الْقَبُولُ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى صَاحِبِهَا، كَمَقْبُوضٍ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقِيلَ تُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِخَبَرِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيمَنْ تَابَ عَنْ أَخْذِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ: إِنْ عَلِمَ صَاحِبَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ دَفَعَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.