loading
المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الرابع ، الصفحة : 407

القرض والدخل الدائم

المذكرة الإيضاحية :

نظرة عامة :

يجمع التقنين الحالى ما بين عاريتي الاستعمال والاستهلاك والدخل الدائم والدخل المرتب مدى الحياة في باب واحد ، والصلة ما بين هذه العقود أقرب إلى أن تكون لفظية ، وإلا فإن طبيعة كل عقد تنافر مع طبيعة العقد الآخر ، فعارية الاستعمال ترد على المنفعة ، أما عارية الاستهلاك فترد على الملكية .

وإذا كان الدخل الدائم عقداً محدداً ، فإن الدخل المرتب مدى الحياة عقد احتمالى ، والأولى أن يجمع عارية الاستهلاك والدخل الدائم مكان واحد، فكلاهما قرض ، وأن توضع عارية الاستعمال مكانها بين العقود التي ترد على المنفعة ، والدخل المرتب مدى الحياة مكانه بين العقود الاحتمالية ، وهذا ما فعل المشروع .

وقد رتبت نصوص القرض ترتيبا منطقياً لا نجده في التقنين الحالى ، فذكرت أولاً التزامات المقرض ، وهي نقل الملكية وتسليم الشيء وضمان الاستحقاق وضمان العيب ، وهذه هي الالتزامات التي تنشئها عادة العقود الناقلة للملكية ، رأيناها قبل ذلك في البيع والمقايضة واهية والشركة ، ثم ذكرت بعد ذلك التزامات المقترض ، وهي رد المثل ودفع الفوائد ، وذكرت أخيراً الوجوه التي ينتهي بها العقد .

ويختلف المشروع عن التقنين الحالي في مسائل أهمها ما يأتي :

1 - جعل المشروع القرض عقداً رضائياً ، وهو عيني في التقنين الحالي ، والعينية في القرض تقليد من التقاليد الرومانية البالية ، بقي بعد أن اختني ما يبرره .

2 - بين المشروع بوضوح أن القرض عقد ملزم للجانبين ، فهناك التزامات في ذمة المقترض تقابلها التزامات أخرى في ذمة المقرض.

3 - حذف المشروع نص المادة 478 من التقنين الحالي التي تحيل الى المادة 125 فيما يتعلق بالحد الأقصى للفائدة الاتفاقية ، إكتفاء بما ورد عن ذلك في الأحكام العامة للالتزامات .

4 - بين المشروع أسباب انقضاء القرض بيانا وافية ، وجدد في مسألة مهمة ، إذ أجاز انتهاء القرض بعد ستة أشهر من إعلان الدائن إذا اتفق فيه على سعر لفوائد يزيد على السعر القانوني .

5 - أغفل المشروع نصاً أورده التقنين الحالى خاصاً برد القيمة العددية للنقد أياً كان اختلاف أسعار المسكوكات اكتفاء بالنص العام الذي ورد في هذا الشأن .

بقي الدخل الدائم ، وقد أوجز فيه التقنين الحالي إيجازا مخلاً ، أما المشروع فقد عرف العقد، وبين أحكامه ، وأفاض بنوع خاص في أحكام الاستبدال به ، والاستبدال خصيصة رئيسية في هذا العقد .

مذكرة المشروع التمهيدي :

يفهم من هذا التعريف أن القرض عقد رضائي لا عيني ، فإن التسليم لم يذكر فيه على أنه ركن من أركان العقد ، بل ذكر في المادة التالية على أنه التزام في ذمية المقرض ، ويفهم من التعريف ، أيضاً أن القرض قد يرد على غير النقود ما دام المحل الذي يرد عليه شيئاً مثلياً ، سواء أكان مما يهلك بالاستعمال أم لا ( انظر التقنين اللبناني المادة 757 والتقنين الأرجنتيني المادة 2275 ) ، وإنما خصصت النقود بالذكر لأنها هي التي يغلب أن يرد القرض عليها . 

الأحكام

1- النص فى المادة 39 مكرراً المضافة بالقانون رقم 67 لسنة 1975 إلى المرسوم بقانون رقم 178 لسنة 1952 بشأن الإصلاح الزراعى ، يدل على أن المناط فى دخول المنازعات المتعلقة بالسلف الزراعية فى الاختصاص النوعى الاستثنائى للمحكمة الجزئية أن تكون المنازعة ناشئة عن علاقة مزارعة قائمة بين طرفيها ، وأن يكون مبنى الخلاف بينهما سوء استخدام هذه السلف من جانب طرف العقد الثابتة بيانات الحيازة باسمه ، فتقضى المحكمة بنقل بيانات الحيازة باسم الطرف الآخر فضلاً عن إلزام الطرف المسئول عن سوء الاستخدام وحده بكافة السلف التى أساء إستخدامها ولم يوجهها لخدمة الأرض المؤجرة ، ومن ثم يخرج من هذا الاختصاص الاستثنائى سائر المنازعات الأخرى المتعلقة بالسلف الزراعية أو العينية متى كان موضوعها ناشئاً عن سبب آخر غير عقد المزارعة للأراضى الزراعية ، وبحكم الاختصاص بها قواعد قانون المرافعات ، وذلك التزاماً بما هو مقرر فى قواعد الأصول الفقهية من أن الاستثناء لايقاس عليه ولايتوسع فى تفسيره .

(الطعن رقم 4707 لسنة 61 جلسة 1997/06/12 س 48 ع 2 ص 874 ق 170)

2- لما كان الثابت فى الأوراق أن المطعون ضدها الأولى أقامت الدعوى بطلب إلزام المطعون ضدهما الرابع والخامس ( الجمعية التعاونية الزراعية و وزير الزراعة بصفته ) أن يصرفا لها مستلزمات الإنتاج العينية والنقدية عن الأرض الزراعية التى تمتلكها وتحوزها ، ولم تؤسس تلك الدعوى على وجود عقد مزارعة بينها وبين الطاعن ، فإن الدعوى على هذا النحو لا تدخل فى الاختصاص الاستثنائى للمحكمة الجزئية الوارد حكمه فى المادة 39 مكرراً المشار إليها وتخضع لقواعد الاختصاص المقررة فى قانون المرافعات ، وإذ كانت طلبات المطعون ضدها الأولى آنفة البيان غير قابلة لتقدير قيمتها وفقاً للقواعد المنصوص عليها فى قانون المرافعات فإن قيمتها تعتبر زائدة على خمسمائة جنيه التزاما ًبحكم المادة 41 منه باعتبار يوم رفع الدعوى ، وذلك قبل التعديل الحاصل بالقانون رقم 23 لسنة 1992 ، ويكون الاختصاص بنظرها معقوداً تبعاً لذلك للمحكمة الابتدائية عملاً بنص المادة 47 من قانون المرافعات .

(الطعن رقم 4707 لسنة 61 جلسة 1997/06/12 س 48 ع 2 ص 874 ق 170)

3- لما كان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه بإعفاء المطعون ضده من الفوائد معولا فى ذلك على ما أورده الخبير فى تقريره من أن موافقة الطاعن الأول على القرض لم تنفذ إلا بتاريخ 1984/11/28 بعد صدور القانون رقم 14 لسنة 1981 المانع لتقاضى فوائد على القروض على القرض الخاص بالإسكان التعاونى للعاملين بوحدات القطاع العام فخلط بذلك بين انعقاد وتنفيذه رغم أن الثابت بالمستندات أن عقد القرض قد إنعقد بين الطاعنين بتلاقى الإيجاب والقبول فى 1980/8/9 قبل تاريخ العمل بالقانون المذكور وقد جره هذا الخلط إلى تطبيق هذا القانون بأثر رجعى دون نص خاص فيه على إعمال هذا الأثر بما يعيبه بمخالفة القانون والثابت بالأوراق والفساد فى الإستدلال .

(الطعن رقم 3103 لسنة 58 جلسة 1994/11/16 س 45 ع 2 ص 1383 ق 262)

4- مؤدى ما تقضى به المادة 558 من القانون المدنى من أن الإيجار عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الإنتفاع بشئ معين مدة معينة لقاء أجر معلوم ، لا يشترط أن يكون المؤجر مالكاً بما يعنى أن إيجار ملك الغير صحيح فى صدد العلاقة بين المؤجر والمستأجر وأنه ليس لهذا الأخير طلب فسخ الإيجار إلا إذا تعرض له المالك للعين المؤجرة ، وكان الطاعن لا يمارى فى أن الأطيان المشار إليها بهذا الوجه وردت ضمن القدر المؤجر فى عقد الإيجار ، وأنه مكن من الإنتفاع بها ولم يدع أن أحداً تعرض له فيها فإن عدم إطلاع المحكمة على عقد بيع صادر للمطعون عليه بشأن جزء من الأطيان المؤجرة لايجدى طالما لالزوم له فى الدعوى المطروحة .

(الطعن رقم 625 لسنة 42 جلسة 1977/11/02 س 28 ع 2 ص 1597 ق 276)

5- من الجائز أن يتخذ عقد القرض صور مختلفة غير صورته المألوفة من قبيل الخصم و فتح الإعتماد و خطابات الضمان بإعتبار أنه يجمع بينها كلها وصف التسهيلات الإئتمانية و يصدق عليها تعريف القرض بوجه عام الوارد فى المادة 538 من القانون المدنى .

(الطعن رقم 412 لسنة 35 جلسة 1969/12/30 س 20 ع 3 ص 1363 ق 212)

6- يشترط لقيام الشركة أن توجد لدى الشركاء نية المشاركة فى نشاط ذى تبعة وأن يساهم كل شريك فى هذه التبعة بمعنى أن يشارك فى الربح والخسارة معا ومن ثم فإن فيصل التفرقة بين الشركة والقرض هو ما انتواه المتعاقدان وتوافر نية المشاركة وعدم توافرها لديهما . وتعرف هذه النية من مسائل الواقع التى يستقل بتقديرها قاضى الموضوع ولامعقب عليه فى ذلك متى أقام رأيه على أسباب سائغة . وإذ أستند الحكم المطعون فيه فى نفى نية المشاركة لدى العاقدين واعتبار العقد المبرم بينهما عقد قرض وليس شركة ، إلى ما تضمنته بنود هذا العقد من إشتراط المطعون ضده الحصول فى نهاية مدة العقد على ما دفعه لتمويل العمليات التى يقوم بها الطاعن كاملا مهما كانت نتيجة هذه العمليات وعدم تحميله شيئا من الإلتزامات التى تترتب عليها فى ذمة الطاعن للغير وإشتراطه أيضا أن يقدم له الطاعن شهريا قدرا معينا من المبلغ المدفوع ، وكان مؤدى كل ذلك نفى قيام نية المشاركة وتكييف العقد بأنه قرض ، ذلك أن المبلغ الواجب دفعه شهريا مهما كانت نتيجة العمليات التى يجريها الطاعن من ربح أو خسارة وإن وصف فى العقد بأنه من أرباح الشركة لا يمكن أن تكون حقيقية كذلك إذ الربح لايكون مؤكدا ولا معروفا مقداره سلفا وإنما هذا المبلغ هو فائدة مستورة فى صورة ربح ، فإن النعى على الحكم الخطأ فى تكييف العقد يكون على غير أساس .

(الطعن رقم 67 لسنة 34 جلسة 1967/06/22 س 18 ع 2 ص 1331 ق 202)

7- نصت المادة 137 من القانون المدنى على أن كل إلتزام لم يذكر له سبب فى العقد يفترض أن له سبباً مشروعاً ، ما لم يقم الدليل على غير ذلك ويعتبر السبب المذكور فى العقد هو السبب الحقيقى حتى يقوم الدليل على ما يخالف ذلك فاذا قام الدليل على صورية السبب فعلى من يدعى أن للإلتزام سبباً آخر مشروعاً أن يثبت ما يدعيه ومؤدى ذلك أن القانون وضع قرينة قانونية يفترض بمقتضاها أن للعقد سبباً مشروعاً ولو لم يذكر هذا السبب ، فان ذكر فى العقد فانه يعتبر السبب الحقيقى الذى قبل المدين أن يلتزم من أجله فاذا إدعى المدين عدم مشروعية السبب ، فان عبء إثبات ذلك يقع على عاتقه ، أما إذا كان دفاعه مقصوراً على أن السبب المذكور بالعقد هو سبب صورى فعليه أن يقدم للمحكمة الدليل القانونى على هذه الصورية ، وبذلك ينتقل عبء إثبات أن للعقد سبباً آخر مشروعاً إلى عاتق المتمسك به . وإذن فمتى كان الطاعنان لم يقدما الدليل على صورية السبب المدون فى السندات موضوع الدعوى ، وكانت المحكمة قد رأت فى حدود سلطتها الموضوعية أن القرائن التى ساقها الطاعنان ليستدلا بها على عدم مشروعية سبب الدين غير جدية و غير كافية لإضعاف الدليل الذى قدمه المطعون عليه وهو إثبات قرضه بسندات إذنية ثابت بها أن قيمتها دفعت للمفلس أو لضامنه وأن هذه القرائن لا تبرر إجابة الطاعنين إلى طلب إحالة الدعوى على التحقيق فانها لا تكون قد خالفت مقتضى المادة 137 من القانون المدنى

(الطعن رقم 406 لسنة 21 جلسة 1953/04/02 س 4 ع 1 ص 842 ق 120)

8- أن علاقة البنك بالعميل الذى يقوم بإيداع مبالغ فى حسابه لدى البنك هى علاقة وديعة ناقصة تعتبر بمقتضى المادة 726 من القانون المدنى قرضاً ، و إذ يلتزم المقترض وفقاً لحكم المادة 538 من القانون المدنى بأن يرد للمقرض مثل ما إقترض ، فإن البنك يلتزم فى مواجهة عميله بأن يرد إليه مبلغاً نقدياً مساوياً لما قام بإيداعه فى حسابه لديه من مبالغ ، و إذا قام البنك بناء على أمر عميله بسحب شيك على بنك آخر و تسليمه مقابل كل أو بعض رصيده لديه كان ذلك بالنسبة للبنك وفاء بإلتزامه فى هذا الصدد قبل العميل .

(الطعن رقم 1894 لسنة 49 جلسة 1983/03/20 س 35 ع 1 ص 752 ق 143)

شرح خبراء القانون

تنص المادة 538 من التقنين المدني على ما يأتي :

القرض عقد يلتزم به المقرض أن ينقل إلى المقترض ملكية مبلغ من النقود أو أي شيء مثلي آخر ، على أن يرد إليه المقترض عند نهاية القرض شيئاً مثله في مقداره ونوعه وصفته ويخلص من النص المتقدم الذكر أن عقد القرض محله يكون دائماً شيئاً مثلياً ، وهو في الغالب نقود ، فينقل المقرض إلى المقترض ملكية الشيء المقترض ، على أن يسترده منه مثله في نهاية القرض ، وذلك دون مقابل أو بمقابل هو الفائدة ، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام في محل القرض .

ونقف الآن من عقد القرض عند الخصائص الآتية ، وهي خصائص يمكن استخلاصها من التعريف السالف الذكر :  عقد القرض عقد رضائي  وهو عقد ملزم للجانبين  وهو في الأصل عقد تبرع وقد يكون عقد معاوضة .

الفرض عقد رضائي : يظهر من تعريف الفرض كما أوردته المادة 538 مدني أن الفرض يتم بمجرد تلاقي الإيجاب والقبول ، أما نقل ملكية الشيء المقترض وتسليمه إلى المقترض فهذا التزام ينشئه عقد القرض في ذمة المقرض ، وليس ركناً في العقد ذاته .

ولم يكن الأمر كذلك في التقنين المدني السابق ، إذ كان القرض في هذا التقنين عقداً عينياً لا يتم إلا بتسليم الشيء المقترض إلى المقترض ونقل ملكيته إليه ( م 465 / 566  مدني سابق ) وكان التقنين المدني السابق يسير في ذلك على غرار التقنين المدني الفرنسي ، وكلا التقنين ورث عينية عقد القرض عن القانون الروماني دون مبرر ، فقد كانت هذه العينية مفهومة في القانون الروماني حيث كنت العقود في الأصل شكلية ، ثم استغنى عن الشكل بالتسليم في العقود العينية ومنها الفرض ولم يسلم القانون الروماني بأن التراضي وحده كاف لانعقاد العقد إلا في عدد محصور من سمى بالعقود الرضائية ، أما اليوم فقد أصبحت القاعدة أن التراضي كاف لانعقاد العقد ، فلم يعد هناك مقتض لإحلال التسليم محل الشكل ، إذ لم نعد في حاجة لا إلى الشكل ولا إلى التسليم ، وهذا هو اتجاه التقنينات الحديثة ، فإن تقنين الالتزامات السويسري ( م 321 و م 329 ) جعل القرض عقداً رضائياً ، وعلى نهجه سار التقنين المدني المصري الجديد .

وعينية عقد القرض في القانون الفرنسي ينتقدها الفقه بحق ، إذ هي كما قدمنا ليست إلا أثراً من آثار تقاليد القانون الروماني بقى بعد أن زال  مبرراً ، وكان يقيمها على أساس أن المقترض لا ينبغي أن يلتزم برد مثل الشيء المقترض إلا بعد أن يقبض الشيء ويمكن الرد على ذلك بأنه لا يوجد ما يمنع من أن يتم عقد القرض قبل أن يتولد في ذمة المقترض التزام برد المثل ، ثم يتولد هذا الالتزام بعد أن ينفذ المقرض التزامه بإعطاء الشيء إلى المقترض وهذا هو الذي يحدث في عقد الإيجار ، فإن المستأجر لا يلتزم برد العين المؤجرة إلا بعد أن ينفذ المؤجر التزامه بتسليمها إياه ، ومع ذلك يتم عقد الإيجار قبل هذا التسليم إذ هو عقد رضائي دون شك .

على أنه لا توجد أهمية عملية من القول بأن القرض عقد عيني لا يتم إلا بالتسليم ، ما دامت الرضائية هي الأصل في التعاقد ، ففي القانون الفرنسي يمكن أن يحل محل الفرض العيني وعد بالقرض رضائي ينتهي إلى ذات النتيجة التي ينتهي إليها القرض العيني ، وما على المتعاقدين إلا أن يتعاقدا على وعد بالقرض ، فيعد أحدهما الآخر أن يقرضه شيئاً ، ويتم الوعد في هذه الحالة بمجرد التراضي ، لأن الأصل في التعاقد الرضائية كما قدمنا ، وعند ذلك يستطيع الموعود له أن يجبر الواعد على تنفيذ وعده ، فيتسلم منه الشيء الموعود بقرضه ، فتصل بذلك عن طريق الوعد بالقرض إلى القرض الكامل .

 القرض عقد ملزم للجانبين : والقرض ينشئ التزامات متقابلة في جانب كل من المقرض والمقترض ، فهو إذن عقد ملزم للجانبين ، والالتزامات التي ينشئها في جانب المقرض هي أن ينقل ملكية الشيء المقترض ويسلمه إياه ، ولا يسترده منه إلا عند نهاية القرض ، ويضمن الاستحقاق والعيوب الخفية أما الالتزامات التي ينشئها في جانب المقترض فهي أن يرد المثل عند نهاية القرض وأن يدفع المصروفات ، وقد يدفع الفوائد مقابلاً للقرض ، وسيأتي تفصيل كل ذلك .

وليس القرض عقداً ملزماً للجانبين منذ أصبح عقداً رضائياً فحسب ، بل هو في نظرنا كان ملزماً للجانبين حتى لما كان عقداً عينياً في التقنين المدني السابق ، ذلك أن القرض وهو عقد عيني كان ينشئ التزاماً في ذمة المقرض ، لا بالتسليم فإن هذا كان ركناً لا التزاماً ، بل بالامتناع عن استرداد المثل قبل نهاية القرض .يؤكد ذلك ما ورد في الفقرة الأولي من المادة 539 مدني من أنه " يجب على المقرض أن يسلم الشيء موضوع العقد إلى المقترض ، ولا يجوز له أن يطالبه برد المثل إلا عند الانتهاء القرض " ، فالالتزام بتسليم الشيء إلى المقترض كان في التقنين المدني السابق ركناً لا التزاماً كما سبق القول ، أما الالتزام بالامتناع عن المطالبة يرد المثل إلا عند انتهاء القرض ، فهذا الالتزام قائم في ذمة المقرض سواء كان القرض عقداً رضائياً أو عقد عينياً ، ويتبين من ذلك أن القرض ، عندما كان عقداً عينياً ، كان ينشئ التزاماً في جانب المقرض ، وقد يكون من الالتزامات المقابلة له في جانب المقترض التزام بدفع فوائد مشترطة في العقد ، فإذا أخل المقترض بالتزامه من دفع الفوائد ، جاز للمقرض فسخ القرض واسترداد ما أقرض ، وهذا التحليل يفسر ما انعقد عليه الإجماع من أن قاعدة الفسخ تسري على عقد القرض ، فلا تكون  في حاجة إلى القول مع بعض الفقهاء أن قاعدة الفسخ تسري على العقود الملزمة لجانب واحد كما تسري على العقود الملزمة للجانبين ، ولا إلى مسايرة فقهاء آخرين في تسمية الفسخ في عقد القرض بالأقساط ، بل يبقى الفسخ على طبيعته مقصوراً على العقود الملزمة للجانبين ومنها عقد القرض حتى لو كان عقداً عينياً ، ونرى أن هذا التحليل لا يزال ضرورياً حتى بعد أن أصبح التسليم في عقد القرض التزاماً لا ركناً وأصبح القرض عقداً رضائياً ، وذلك أن المقرض إذا فسخ العقد في حالة إخلال المقترض بالتزامه من دفع الفوائد ، فإن المقرض لا يتحلل بذلك من الالتزامات بالتسليم ، بل من الالتزام بالامتناع عن المطالبة بالاسترداد إلى نهاية القرض.

القرض عقد تبرع في الأصل : والأصل في عقد القرض أن يكون تبرعاً ، إذ المقرض يخرج عن ملكية الشيء إلى المقترض ولا يسترد المثل إلا بعد مدة الزمن وذلك دون مقابل فهو متبرع ، على أنه إذا اشترط على المقترض دفع فوائد معينة في مقابل فهو متبرع على أنه إذا اشترط على المقترض دفع فوائد معينة في مقابل القرض ، أصبح القرض عقد معاوضة ولكن الفوائد لا تجب إلا إذا اشترطت ، إذ الأصل في القرض كما قدمنا أن يكون عقد تبرع ، وتقول المادة 542 في هذا المعنى : " على المقترض أن يدفع الفوائد المتفق عليها عند حلول مواعيد استحقاقها ، فإذا لم يكن هناك اتفاق على الفوائد اعتبر القرض بغير أجر " .

والأهلية التي يجب أن تتوافر في المقرض هي أهلية التصرف ، إذ هو ينقل ملكية الشيء المقترض ، وهذا إذا كان القرض بفائدة ، أما إذا كان بغير فائدة فهو تبرع ، ومن ثم يجب أن تتوافر في المقرض أهلية التبرع وإذا أقرض القاصر أو المحجور بغير فائدة كان القرض باطلاً لأنه ضار به ضرراً محضاً ، أما إذا أقرض بفائدة فإن القرض يكون قابلاً للإبطال لمصلحته  ويجوز للأب وللجد أن يقرضا مال القاصر بفائدة بإذن المحكمة ( م 9 من القانون الولاية على المال ) ، ولا يجوز للأب إقراض مال القاصر بغير فائدة إلا لأداء واجب إنساني أو عائلي وبإذن المحكمة ( م 5 من قانون الولاية على المال ) وكذلك الوصي والقيم لا يجوز لهما إقراض مال القاصر أو المحجور بفائدة إلا بإذن المحكمة ( م 39 م 78 من قانون الولاية على المال ) أما المقترض فتشترط فيه أهلية الإلتزام ، لأنه يلتزم برد المثل ، وذلك سواء كان القرض بفائدة أو بغير فائدة ، فلا يجوز للقاصر ولا للمحجور أن يقترضا ولو بغير فائدة وحتى لو كان القاصر مأذوناً له في إدارة أعماله ، ويكون العقد في هذه الحالة قابلاً للابطال ويجوز للاب ان يقترض باسم القاصر بغير إذن المحكمة ( م 4 من قانون الولاية على المال ) ، ويجوز كذلك للوصى والقيم أن يقترضا بأسم القاصر او المحجوز بإذن المحكمة ( م 39 و م 78 من قانون الولاية على المال ).

قدمنا أن القرض في الأصل عقد تبرع ، فلا تجب فوائد على المقترض ، حتى لو كان القرض تجارياً ، إلا إذا كان هناك اتفاق على ذلك بينه وبين المقرض وتقول المادة 542 مدني صراحة في هذا المعنى : " …فإذا لم يكن هناك اتفاق على فوائد اعتبر القرض بغير أجر " .

 على أنه إذا لم يتفق الطرفان على فوائد للقرض ، فإن ذلك لا يمنع من أنه إذا حل ميعاد رد القرض وتأخر المقترض في الرد ، استحقت عليه فوائد تأخيرية بالسعر القانوني - 4% في القروض المدنية و 5% في القروض التجارية – وفقاً للقواعد المقررة في الفوائد التأخيرية ، فتسري هذه الفوائد من تاريخ المطالبة القضائية بها ، دون حاجة إلى أن يثبت المقرض ضرراً لحقه من التأخير ( م 226 و م 228 مدني ) ، وقد سبق أن بينا شروط استحقاق الفوائد التأخيرية عند الكلام في نظرية الإلتزام فنحيل هنا على ما أوردناه هناك .

وبالرغم من أن القرض في الأصل عقد تبرع وأن الفوائد لا تدب إلا إذا اتفق عليها الطرفان ، فإن في الغالب في العمل أن يشترط المقرض على المقترض دفع فوائد بسعر معين ، ويثبت هذا الشرط وفقاً للقواعد العامة في الإثبات ، ففي القروض التجارية ، وكذلك في القروض المدنية إذا لم يزد مجموع الفوائد على عشرة جنيهات ، يجوز الإثبات بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن ، وفي غير ذلك تجب الكتابة أو ما يقوم مقامها . (الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفي الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ الخامس، الصفحة/  525)

يتم القرض بمجرد تلاقي الإيجاب والقبول هو من العقود الرضائية ، أما تسليم الشيء فهو التزام ينشئه العقد وليس ركناً فيه ومن ثم فالغرض ليس عقداً عينياً لا يتم الا بالتسليم خلافاً لما كان عليه القانون السابق، ومثله الوعد بالقرض ، فيستطيع الموعود له أن يجبر الواعد على تنفيذ وعده فيتسلم منه الشيء الموعود بقرضه، وهو عقد ملزم للجانبين فيلتزم المقرض بنقل ملكية الشيء إلى المقترض ويسلمه إياه ولا يسترده منه إلا عند نهاية القرض ، ويلتزم المقترض برد المثل عند نهاية القرض ، وأن يدفع المصروفات والفوائد اذا اشترطت ، وإذا أخل المقترض بدفع الفوائد جاز للمقرض فسخ القرض واسترداد ما أقرض ، والأصل في عقد القرض التبرع ولكنه ينقلب إلى عقد معارضة إذا اشترطت فوائد ، وأركان عقد القرض هي أركان سائر العقود : التراضي والمحل والسبب .

الإثبات :

يخضع القرض في إثباته للقواعد العامة في الإثبات .

صور القرض :

يتخذ القرض صوراً مختلفة فقد يكون سندات وتكون الشركة المصدرة مقترضة والمكتتب مقرضاً ، أو كمبيالة أو سند تحت الأذن أو لحامله وقد يكون فتح اعتماد في مصر بمبلغ معين فيكون العميل مقترضاً المبلغ حده الأقصى الاعتماد المفتوح ، وقد يكون ايداع نقود في مصرف أو مكتب بريد ويكون العميل هو المقرض وتلك وديعة ناقصة لورودها على نقود وتعتبر قرضاً .

وللمحكمة تكييف التصرف بما يتفق وحقيقة إرادة المتعاقدين دون أن تتقيد في ذلك بما أطلقاه على تصرفهما .

القرض والمقاولة :

القرض عقد يلتزم به المقرض أن ينقل الى المقترض ملكية مبلغ من النقود على أن يرده المقترض عند نهاية القرض ، بينما المقاولة عقد يتعهد بمقتضاه المقاول أن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء أجر .

إقراض مال الغير :

يكون إقراض ملك الغير صحيحاً فيما بين المتعاقدين ولكنه قابل للفسخ بناءً على طلب المقترض .

نقل الملكية :

يلتزم المقرض بنقل ملكية الشيء إلى المقترض متى كان شيئاً مثلياً كغلال ، فإن كان غير معين بالذات التزم بإفرازه ومتى تم الإفراز انتقلت الملكية في الحال ولو قبل التسليم، فإن لم يتم الافراز أجبر المقرض على ذلك عيناً كما يجوز للمقترض أن يحصل من السوق على كمية مماثلة ومن نفس النوع والجودة على نفقة المقرض . (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ السابع الصفحة/351)

ويتضح من هذا التعريف أن عقد القرض محله يكون دائماً شيئاً مثلياً وهو في الغالب نقود ، فينقل المقرض إلى المقترض ملكية الشيء المقرض ، على أن يسترد منه مثله في نهاية القرض، وذلك دون مقابل أو بمقابل هو الفائدة .

ومن الجائز أن يتخذ القرض صوراً مختلفة غير صورته المألوفة في عمليات البنوك مثل الخصم وفتح الاعتماد وخطابات الضمان، بإعتبار أنه يجمع بينها كلها وصف التسهيلات الإئتمانية .

خصائص عقد القرض :

أولاً : القرض عقد رضائي :

عقد القرض عقد رضائي، يتم بالإيجاب والقبول . 

أما تسليم الشيء محل القرض فهو مجرد التزام من الالتزامات التي تترتب على العقد، يقع على عاتق المقرض .

وفي هذا يختلف التقنين المدني الجديد عن التقنين المدني القديم إذ كان عقد القرض في ظله عقداً عينياً ، يعتبر التسليم فيه ركناً لا ينعقد بدونه .

ثانياً : عقد القرض عقد ملزم للجانبين :

عقد القرض من العقود الملزمة للجانبين، فيلتزم المقرض بتسليم الشيء المقترض ونقل ملكيته إلى المقترض، ولا يسترده منه إلا عند نهاية القرض ، ويضمن الاستحقاق والعيوب الخفية ، كما يلتزم المقترض برد مثل الشيء المقترض عند نهاية القرض ، مضافاً إليه الفائدة إذا كان متفقاً على فائدة - وبرد المصروفات .

ثالثاً : القرض من عقود التبرع :

الأصل في القرض أن يكون بغير مقابل، فيعتبر بذلك من عقود التبرع. ولكن المجانية ليست قوام العقد وإن اتفقت مع طبيعته فليس ثمة ما يمنع المقرض من آن يحصل على فائدة فيكون العقد معاوضة .

وفي هذا تنص المادة 542 مدني على أن : "على المقترض أن يدفع الفوائد المتفق عليها عند حلول مواعيد استحقاقها ، فإذا لم يكن هناك اتفاق على الفوائد اعتبر القرض بغير أجر". 

عقد القرض كسائر العقود الأخرى له أركان ثلاثة هي :

توافق الإيجاب والقبول :

عقد القرض عقد رضائي يكفي لانعقاده توافق الإيجاب والقبول من المقرض والمقترض ، وليس هناك أحكام خاصة بالتراضي في عقد القرض، وإنما تسري عليه القواعد العامة .

غير أن القرض قد يتخذ صوراً مختلفة عن هذه الصورة المعتادة ومثل ذلك ما يأتي.

1 - أن يصدر شخص معنوي خاص أو شخص معنوي عام سندات، فهذه القروض يعقدها الشخص المعنوي مع المقرضين، ومن اكتتب في هذه السندات في مقرض للشخص المعنوي بقيمة ما اكتتب به.

2 - تحرير كمبيالة أو سند تحت الإذن أو لحامله ، فهذه الأوراق قد تكون قروت يعقدها من حررها وهو المقترض لمصلحة من حررت له وهو المقرض.

3 - فتح اعتماد في مصرف لعميل ، فالعميل يكون مقترضاً من المصرف مبلغاً حده الأقصى هو الاعتماد المفتوح.

4- تعجيل مصرف مبلغاً من النقود لعميل لقاء أوراق مالية مودعة في المصرف، فالمصرف يكون قد أقرض العميل هذا المبلغ الذي عجله في مقابل رهن الأوراق المالية المودعة في المصرف .

يلتزم المقرض بنقل ملكية الشيء المقترض إلى المقترض ومن ثم يجب أن يكون المقرض مالكاً يمكنه نقل ملكية الشيء المقترض .

ولم يرد نص في شأن إقراض مال الغير، كما ورد في شأن في بيع ملك الغير 466، 467 مدنی)، وهبة ملك الغير (م 491 مدنی).

وقد ذهب رأي إلى أنه يجب تطبيق حكم القواعد العامة في إقراض مال الغير، وهذه تقضي بأن عقد القرض - وهو عقد ملزم للجانبين - يكون قابلاً للفسخ بناءً على طلب المقترض إذا لم يفي المقرض بالتزامه بنقل ملكية الشيء المقترض ، فإذا أقرض شخص آخر كمية من الغلال ولم يكن يملكها فإن القرض يقع صحيحاً ، ولكن المقرض يعجز عن نقل ملكية الغلال إلى المقترض حتى ولو تسلمها هذا ، فتبقى الغلال في يد المقترض غير مملوكة له ، ويجوز للمالك الحقيقي أن يستردها منه ، وسواء استردها المالك الحقيقي أو لم يستردها ، فإن المقترض يستطيع أن يطلب فسخ القرض لعجز المقرض عن الوفاء بالتزامه ، وأن يطالب المقرض بالتعويض في الحدود التي يجب فيها على المقرض ضمان الاستحقاق.

بينما ذهب رأي آخر إلى قياس إقراض مال الغير على بيع ملك الغير فيكون قابلاً للإبطال ، ولكن لمالك الشيء المقترض أن يرفع دعوى الاستحقاق على المقترض لأخذ ماله من يده ، من غير حاجة إلى طلب بطلان القرض .

والرأي الأول يتفق واتجاه محكمة النقض في إيجار ملك الغير ، وهو لم يرد بشأنه نص في القانون - كالشأن في إقراض مال الغير - فقد ذهبت إلى أن إيجار ملك الغير صحيح في صدد العلاقة بين المؤجر المستأجر وأنه ليس لهذا الأخير طلب فسخ الإيجار إلا إذا تعرض له المالك للعين المؤجرة .

غير أن هذا الإيجار لا ينفذ في حق المالك الحقيقي لأنه أجنبي عن الإيجار ، وله أن يتجاهل حصوله تماماً وأن يطلب استرداد الشيء المؤجر من المستأجر إذا كان قد تسلمه.

ثانياً : المحل والسبب

(أ) - المحل :

يجب أن يتوافر في الشيء المقترض الشروط العامة التي يجب توافرها في المحل طبقاً للقواعد العامة ، بأن يكون الشيء المقترض موجوداً معيناً أو قابلاً للتعيين ، غير مخالف للنظام العام أو الآداب.

ويكون موضوع القرض في الغالب مما يهلك بالاستعمال ، سواء كان مادياً کالمأكولات أو الحبوب أو مدنياً كالنقود ، ولكن ليس ذلك حتما فقد يقع القرض على منقولات لا تهلك بالاستعمال ، فالعبرة كما ذكرنا سلفاً بقصد العاقدين. فيجوز أن يقترض صاحب مكتبة من صاحب مكتبة أخرى نسخة من كتاب ليبيعها إلى عميل ، على أن يرد مثلها إلى المقترض ، ولكن نسخة الكتاب هنا قد أعدت للإستهلاك، فأصبحت قابلة للإستهلاك لا بالنسبة إلى طبيعتها بل بالنسبة إلى الغرض الذي أعدت له .

(ب) – السبب :

السبب طبقاً للنظرية الحديثة ، هو الباعث الدافع إلى التعاقد ويجب أن يكون السبب مشروعا غير مخالف للنظام العام أو الآداب ، ويفترض هذا السبب إذا لم يذكر في العقد ، كما يفترض أنه هو السبب الحقيقى وأنه سبب مشروع وذلك حتى يثبت العكس أي أن على من يدعى العكس أن يثبته .

وبالترتيب على ذلك يقع القرض باطلاً إذا كان القصد منه تأسيس سبب الدعوى أو إذا كان القصد منه إقامة علاقة غير مشروعة مع سيده وكان المقترض يعلم أو من المقروض عليه أن يعلم بذلك . 

ثالثاً : شروط الصحة

الأهلية وعيوب الرضا

(أ) - الأهلية :

(1) - أهلية المقرض :

إذا كان القرض بغير فائدة، وجب أن تتوافر في المقرض أهلية التبرع لأنه ينقل ملكية الشيء دون مقابل .

أما إذا كان القرض بفائدة فإنه يجب أن تتوافر في المقرض أهلية التصرف ، وعلى ذلك يكون القرض الذي يعقده ناقص الأهلية بدون فائدة باطلاً لأنه ضار به ضرراً محضاً ويكون القرض الذي يعقده بفائدة قابلاً للإبطال لأنه تصرف دائر بين النفع والضرر .

ويجوز للوصي والقيم إقراض مال القاصر أو المحجور بفائدة بإذن المحكمة (م 39 ، 78 من المرسوم بقانون المشار إليه).

(2) - أهلية المقترض :

يشترط في المقترض أن يكون أهلاً للتصرف سواء كان القرض بفائدة أو بدون فائدة ، إذ يترتب على القرض انتقال مال إليه في مقابل رد مثله . 

وبالتالي لا يجوز لناقص الأهلية أو من في حكمه أن يقترض حتى ولو كان مأذوناً في إدارة أمواله وكان له بالتالي أن يلتزم في حدود أعمال الإدارة ، وإلا كان القرض قابلاً للإبطال .

وللأب أن يقترض بأسم القاصر بغير إذن المحكمة لأن المشرع أجاز له التصرف في مال القاصر دون أن يحتم عليه الحصول على إذن من المحكمة للاقتراض. ( من المرسوم بقانون رقم 119 لسنة 1952).

أما الجد فيقترض باسم القاصر ولكن بإذن المحكمة (م 15 من المرسوم بقانون المشار إليه).

وللوصي والقيم أن يقترضا بأسم القاصر أو المحجور عليه بإذن المحكمة  م 39 ، م 78 من المرسوم بقانون المشار إليه.

(ب) - عيوب الإرادة

تطبيق القواعد العامة :

عيوب الإرادة في عقد القرض، هي ذات عيوب الإرادة في العقود الأخرى والمقررة في القواعد العامة ، وهي الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال  .

ويرى البعض أن أحكام الفوائد تغني عن الاستغلال في عقد القرض ، إذ لا يجوز للمقرض أن يشترط فائدة تزيد على الحد الأقصى الذي يسمح به القانون وهو 7% .

المقصود برد المثل : 

أوجب النص على المقترض أن يرد إلى المقرض عند نهاية القرض شيئاً مثل الشيء الذي اقترضه في مقداره ونوعه وصفته ، ويكون القدر في المثليات بالوزن أو بالكيل أو بالعداد أو بالمقاس فيجب أن يكون ما يرد إلى المقرض بمقدار الأصل المقترض ، على أن ذلك لا يؤخذ على إطلاقه ، فقد يتفق العاقدان على أن المقترض يرد أقل مما أخذ ، وفي هذه الحالة يعتبر الفرق هبة من المقرض للمقترض ، كما إذا أقرض شخص آخر مائة جنيه على أن يرد إليه ثمانين جنيهاً فقط ، وقد يتفقان على أن المقترض يرد أكثر مما أخذ ، والفرق يكون في هذه الحالة ربحاً أو فائدة للمقرض، وذلك لا يمنع من صحة عقد القرض ، لأن القرض قد يكون بمقابل في حالة الاتفاق .

على أنه إذا كان ما يرد أكثر مما أقرض فإن العقد قد يكون قرضاً ربویاً يسرى فى شأنه .

وإذا كان الشيء المقترض أشياء مثلية يجب أن يرد شيء من نوع الشيء المقترض وصفته ، فإذا ورد القرض على قدر معين من القطن من نوع محدد ، ورتبة معينة ، التزم المقترض برد قدر مساو له من القطن ، من مثل النوع ونفس المرتبة .

و إذا اتفق الطرفان على أن ما يرد يكون شيئاً من نوع آخر، كأن يسلم قمح على أن يرد بدله فول، فلا يكون العقد قرضاً ، بل مقايضة أو يكون بيعاً إذا كان المقابل نقوداً .

ويصح لغير المدين أن يقوم بالوفاء بالقرض، سواء أكان متعلقاً بمبلغ من النقود أم بشيء آخر غيره، لأنه لا مصلحة للدائن في كون المتعهد هو الذي يقوم بالوفاء بنفسه، وكل مصلحته هي أن يحصل على دينه، ويجوز لذلك الغير أن يجبر الدائن على تسلم الدين ولو بغير علم المدين أو بدون رضائه بالقيد الوارد بالنص  .

بمقتضى القواعد العامة يكون الوفاء للدائن أو لنائبه، سواء كان نائباً قانونياً كالولي أو الوصي أو القيم أو نائباً اتفاقياً (الوكيل) (م 332 مدنی)، وإذا كان الوفاء لشخص غير الدائن أو نائبه ، فلا تبرأ ذمة المدين إلا إذا أقر الدائن هذا الوفاء أو عادت عليه منفعة منه ، وبقدر هذه المنفعة ، أو تم الوفاء بحسن نية لشخص كان الدين في حيازته (م 333 مدنی).

يرد مثل الشيء محل القرض إلى المعرض على ما نصت عليه المادة 539 مدنی "عند انتهاء القرض "، وعلى ذلك فالرد يرتبط حتما بانتهاء القرض.

لم يرد نص في عقد القرض يحدد المكان الذي يرد فيه القرض، وكان المشروع التمهيدي للتقنين المدني يتضمن نصا برقم (726) ينص في فقرتيه الأولى والثانية على أن :

1 - على المقترض أن يرد المثل في المكان والزمان المتفق عليهما.

2 - فإذا لم يتفق على المكان، كان الرد واجبا في موطن المقترض".

وقد اقترح في لجنة المراجعة حذف هذا النص لأن أحكامه مستفادة من القواعد العامة فوافقت اللجنة على ذلك .

والقواعد العامة المشار إليها هي ما نصت عليه المادة 347 مدني بقولها : 

" 1 - إذا ادارات كان محل الالتزام شيئاً معيناً بالذات وجب تسليمه في المكان الذي كان موجوداً فيه وقت نشوء الالتزام ، ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك .

2 - أما في الالتزامات الأخرى فيكون الوفاء في المكان الذي يوجد فيه موطن ها المدين وقت الوفاء ، أو في المكان الذي يوجد فيه مركز أعمال المدين إذا كان الالتزام متعلقاً بهذه الأعمال ".

بما وعلى ذلك إذا لم يحدد الاتفاق بين الطرفين مكان رد مثل الشيء المقترض ، كان الوفاء في موطن المقترض وقت الوفاء . 

 مصاريف الرد :

تكون نفقات الوفاء على المدين ، إلا إذا وجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك ، وعلى ذلك إذا خلا عقد القرض من اتفاق على من يلزم بمصاريف الرد تكون مصاريف الرد على المقترض .

غير أن المقرض هو الذي يتحمل مصاريف سعيه إلى موطن المقترض لاستلام مثل الشيء المقترض .

إذ لم يقم المقترض برد الشيء المقترض عند انتهاء القرض جاز للمقرض أن يطالب المقترض برد الشيء محل القرض ، كما أن له طلب القضاء بفسخ العقد مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض هناك بعض الحالات يستحيل فيها على المقترض رد مثل الشيء المقترض ، ومثل ذلك أن يقرض بائع كتب بائعاً آخر كتباً لبيعها على شرط أن يرد كتباً أخرى مثلها من نفس الطبعة بعد زمن معين، فإذ بالطبعة قد نفدت بأكملها ، ففي هذه الحالة يلزم المقترض برد قيمة القرض باعتبار الزمان والمكان الواجب حصول الأداء فيهما .

وإن وجدت الاستحالة وقت الاستحقاق ، ثم زالت بعد ذلك فيلتزم المقترض برد مقدار القرض عيناً وفقاً للقواعد العامة .

وإذا زادت قيمة القرض بعد إعذار المقترض وجب أن يحصل الرد باعتبار القيمة الزائدة . (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ السادس ، الصفحة/ 410) 

الفقة الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني، الصفحة /   25

أمّا عقْد الْقرْض فهو عقْدٌ لا يصْدر إلاّ مؤقّتًا، وذلك لأنّه عقْد تبرّعٍ ابْتداءً، ومعاوضةٍ انْتهاءً، أوْ دفْع مالٍ إرْفاقًا لمنْ ينْتفع به ويردّ بدله. والانْتفاع به يكون بمضيّ فتْرةٍ ينْتفع فيها الْمقْترض بمال الْقرْض، وذلك باسْتهْلاك عيْنه؛ لأنّه لوْ كان الانْتفاع به مع بقاء عيْنه كان إعارةً لا قرْضًا، ثمّ يردّ مثْله إذا كان مثْليًّا وقيمته إذا كان قيميًّا.

وقد اخْتلف الْفقهاء في الْمدّة الّتي يلْزم فيها هذا الْعقْد:

فيرى الْمالكيّة أنّه عقْدٌ لازمٌ في حقّ الطّرفيْن طوال الْمدّة الْمشْترطة في الْعقْد، فإنْ لمْ يكن اشْتراطٌ فللْمدّة الّتي اعْتيد اقْتراض مثْله لها، ويرى الْحنابلة أنّ عقْد الْقرْض عقْدٌ لازمٌ بالْقبْض في حقّ الْمقْرض، جائزٌ في حقّ الْمقْترض، ويثْبت الْعوض عن الْقرْض في ذمّة الْمقْترض حالًّا، وإنْ أجّله؛ لأنّه عقْدٌ منع فيه من التّفاضل، فمنْع الأْجل فيه، كالصّرْف، إذ الْحالّ لا يتأجّلبالتّأْجيل، وهو عدة تبرّعٍ لا يلْزم الْوفاء به. قال أحْمد: الْقرْض حالٌّ، وينْبغي أنْ يفي بوعْده، ويحْرم الإْلْزام بتأْجيل الْقرْض؛ لأنّه إلْزامٌ بما لا يلْزم.

ويرى الْحنفيّة والشّافعيّة أنّ الْقرْض عقْد إرْفاقٍ جائزٍ في حقّ الطّرفيْن، وذلك لأنّ الْملْك في الْقرْض غيْر تامٍّ؛ لأنّه يجوز لكلّ واحدٍ منْهما أنْ ينْفرد بالْفسْخ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  العاشر   ، الصفحة /  85

التَّبْعِيضُ فِي الْقَرْضِ:

25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الإْقْرَاضِ.

نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ قَوْلَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الإْقْرَاضُ بَعْدَ إِفْرَازِهِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَرْضَ الْمُشَاعِ جَائِزٌ بِالإْجْمَاعِ.

وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي إِيفَاءِ الْقَرْضِ كَأَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُوفِيَهُ أَنْقَصَ مِمَّا أَقْرَضَهُ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا أَمْ لاَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لأِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأِنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي الْمِثْلَ، فَشَرْطُ النُّقْصَانِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ، فَلَمْ يَجُزْ كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ.

وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ؛ لأِنَّ الْقَرْضَ جُعِلَ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْتَقْرِضِ، وَشَرْطُ النُّقْصَانِ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ  .

26 - وَأَمَّا تَعْجِيلُ بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ قِبَلِ الْمَدِينِ فِي مُقَابِلِ تَنَازُلِ الْغَرِيمِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ إِنْ تَنَازَلَ الْمَقْرُوضُ بِلاَ شَرْطٍ مَلْفُوظٍ أَوْ مَلْحُوظٍ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والعشرون  ، الصفحة /  103 

الْقَرْضُ:

5 - الْقَرْضُ عَقْدٌ مَخْصُوصٌ يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ . وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا اسْمُ «دَيْنٍ» فَيُقَالُ: دَانَ فُلاَنٌ يَدِينُ دَيْنًا: اسْتَقْرَضَ. وَدِنْتُ الرَّجُلَ: أَقْرَضْتُهُ . وَالْقَرْضُ أَخَصُّ مِنَ الدَّيْنِ.

 الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني  والعشرون  ، الصفحة /  49

رِبًا

التَّعْرِيفُ:

1 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الأْشْهَرِ، وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو رَبْوًا، وَرُبُوًّا وَرِبَاءً.

وَأَلِفُ الرِّبَا بَدَلٌ عَنْ وَاوٍ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: رِبَوِيٌّ، وَيُثَنَّى بِالْوَاوِ عَلَى الأَْصْلِ فَيُقَالُ: رِبَوَانِ، وَقَدْ يُقَالُ: رِبَيَانِ - بِالْيَاءِ - لِلإْمَالَةِ السَّائِغَةِ فِيهِ مِنْ أَجْلِ الْكَسْرَةِ.

وَالأْصْلُ فِي مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ إِذَا زَادَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِيالصَّدَقَاتِ ). وَأَرْبَى الرَّجُلُ: عَامَلَ بِالرِّبَا أَوْ دَخَلَ فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى» وَالإْجْبَاءُ: بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ.

وَيُقَالُ: الرِّبَا وَالرَّمَا وَالرَّمَاءُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ  رضي الله تعالي عنه قَوْلُهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَا، يَعْنِي الرِّبَا.

وَالرُّبْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ - اسْمٌ مِنَ الرِّبَا، وَالرُّبِّيَّةُ: الرِّبَاءُ، وَفِي الْحَدِيثِ «عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فِي صُلْحِ أَهْلِ نَجْرَانَ: أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ رُبِّيَّةٌ وَلاَ دَمٌ».

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَكَذَا رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالدِّمَاءَ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَ بِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كُلَّ رِبًا كَانَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ رُءُوسَ الأْمْوَالِ فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهَا.

وَالرِّبَا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:

عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأِحَدِ  الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُلِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَفَاضُلٌ فِي أَشْيَاءَ، وَنَسْءٌ فِي أَشْيَاءَ، مُخْتَصٌّ بِأَشْيَاءَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا - أَيْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا - نَصًّا فِي الْبَعْضِ، وَقِيَاسًا فِي الْبَاقِي مِنْهَا.

وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا عَلَى حِدَةٍ.

الأْلْفَاظُ  ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْبَيْعُ:

2 - الْبَيْعُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَاعَ، وَالأَْصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا لأِنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ.

وَالْبَيْعُ مِنَ الأْضْدَادِ مِثْلُ الشِّرَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَفْظُ بَائِعٍ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ بَاذِلُ السِّلْعَةِ، وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ فَيُقَالُ: بَيْعٌ جَيِّدٌ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ ).

وَالْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ حَلاَلٌ، وَالرِّبَا حَرَامٌ.

ب - الْعَرَايَا:

3 - الْعَرِيَّةُ لُغَةً: النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا غَيْرَهُ لِيَأْكُلَ ثَمَرَتَهَا فَيَعْرُوهَا أَيْ يَأْتِيهَا، أَوْ هِيَ النَّخْلَةُ الَّتِي أُكِلَ مَا عَلَيْهَا، وَالْجَمْعُ عَرَايَا، وَيُقَالُ: اسْتَعْرَى النَّاسُ أَيْ: أَكَلُوا الرُّطَبَ.

وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْعَرَايَا بِأَنَّهُ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ فِي الأْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِتَقْدِيرِ الْجَفَافِ بِمِثْلِهِ.

وَيَذْهَبُ آخَرُونَ فِي تَعْرِيفِ بَيْعِ الْعَرَايَا وَحُكْمِهِ مَذَاهِبَ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَعْرِيَةٌ) (وَبَيْعُ الْعَرَايَا) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ  9/ 91.

وَبَيْعُ الْعَرَايَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَفِيهِ مَا فِي الْمُزَابَنَةِ مِنَ الرِّبَا أَوْ شُبْهَتِهِ، لَكِنَّهُ أُجِيزَ بِالنَّصِّ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا»،، وَفِي لَفْظٍ: «عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ» وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ: «النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا».

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4 - الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَلَمْ يُؤْذِنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَاصِيًا بِالْحَرْبِ سِوَى آكِلِ الرِّبَا، وَمَنِ اسْتَحَلَّهُ فَقَدْ كَفَرَ - لإِنْكَارِهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ، أَمَّا مَنْ تَعَامَلَ بِالرِّبَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الرِّبَا لَمْ يَحِلَّ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لقوله تعالي: ( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) يَعْنِي فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ.

وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ).

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ  : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُالشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ).

5 - قَالَ السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لآِكِلِ الرِّبَا خَمْسًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ:

إِحْدَاهَا: التَّخَبُّطُ.. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُالشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ).

الثَّانِيَةُ: الْمَحْقُ.. قَالَ تَعَالَى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ) وَالْمُرَادُ الْهَلاَكُ وَالاِسْتِئْصَالُ، وَقِيلَ: ذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالاِسْتِمْتَاعِ حَتَّى لاَ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلاَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ.

الثَّالِثَةُ: الْحَرْبُ.. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ).

الرَّابِعَةُ: الْكُفْرُ.. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وَقَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّبَا : ( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) أَيْ: كَفَّارٍ بِاسْتِحْلاَلِ الرِّبَا، أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْلِ الرِّبَا.

الْخَامِسَةُ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ. قَالَ تَعَالَى : ( وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).

وَكَذَلِكَ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًامُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ( أَضْعَافًامُضَاعَفَةً ) لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِهِ، بَلْ لِمُرَاعَاةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ كَانَ الرَّجُلُ يُرْبِي إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الأْجَلُ  قَالَ لِلْمَدِينِ: زِدْنِي فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَكَ فِي الأْجَلِ، فَيَفْعَلُ، وَهَكَذَا عِنْدَ مَحَلِّ كُلِّ أَجَلٍ، فَيَسْتَغْرِقُ بِالشَّيْءِ الطَّفِيفِ مَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتِ الآْيَةُ.

6 - وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ مِنَ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:

مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ »

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ».

وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله تعالي عنهما  قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ».

وَأَجْمَعَتِ الأْمَّةُ عَلَى أَصْلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا.

وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ مَسَائِلِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ وَتَفْسِيرِ شَرَائِطِهِ.

7 - هَذَا، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْرِضُ أَوْ يَقْتَرِضُ أَوْ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي أَنْ يَبْدَأَ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمُعَامَلاَتِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهَا، حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً وَبَعِيدَةً عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُهُ إِثْمٌ وَخَطِيئَةٌ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ الأْحْكَامَ قَدْ يَقَعُ فِي الرِّبَا دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الإْرْبَاءَ، بَلْ قَدْ يَخُوضُ فِي الرِّبَا وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ تَرَدَّى فِي الْحَرَامِ وَسَقَطَ فِي النَّارِ، وَجَهْلُهُ لاَ يُعْفِيهِ مِنَ الإْثْمِ وَلاَ يُنَجِّيهِ مِنَ النَّارِ؛ لأِنَّ  الْجَهْلَ وَالْقَصْدَ لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الرِّبَا، فَالرِّبَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ - مِنَ الْمُكَلَّفِ - مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ جَلَّ جَلاَلُهُ بِهِ الْمُرَابِينَ، يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلاَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ.

وَقَدْ أُثِرَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ مِنَ الاِتِّجَارِ قَبْلَ تَعَلُّمِ مَا يَصُونُ الْمُعَامَلاَتِ التِّجَارِيَّةَ مِنَ التَّخَبُّطِ فِي الرِّبَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله تعالي عنه: لاَ يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ فَقِهَ، وَإِلاَّ أَكَلَ الرِّبَا، وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله تعالي عنه: مَنِ اتَّجَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ ثُمَّ ارْتَطَمَ، أَيْ: وَقَعَ وَارْتَبَكَ وَنَشِبَ.

وَقَدْ حَرَصَ الشَّارِعُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا؛ لأِنَّ  مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَكُلُّ ذَرِيعَةٍ إِلَى الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله تعالي عنه قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْمُخَابَرَةُ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأْرْضِ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الأْرْضِ، وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فِي الْحَقْلِ بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الأْرْضِ، إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الأْشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا؛ لأِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ الْجَفَافِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْجَهْلُ بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا وَالْوَسَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَتَفَاوَتَ نَظَرُهُمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.

8 - وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَلِ الأَْبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رضي الله تعالي عنه: ثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنَ الرِّبَا، يَعْنِي - كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا، وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالي عنه قَالَ: مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ، وَعَنْهُ رضي الله تعالي عنه قَالَ: ثَلاَثٌ لأَنْ  يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلاَلَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلاَفَةُ.

حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا:

9 - أَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا حِكَمًا تَشْرِيعِيَّةً:

مِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الإْنْسَانِ  مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ؛ لأِنَّ  مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً تَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَمَالُ الْمُسْلِمِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالَ صلي الله عليه وسلم: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» وَإِبْقَاءُ الْمَالِ فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَتَمْكِينُهُ مِنْ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ، فَقَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لاَ يَحْصُلُ، وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ مُتَيَقَّنٌ، وَتَفْوِيتُ الْمُتَيَقَّنِ لأِجْلِ الْمَوْهُومِ لاَ يَخْلُو مِنْ ضَرَرٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الاِشْتِغَالِ بِالْمَكَاسِبِ؛ لأِنَّ  صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إِذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيلِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ، فَلاَ يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الشَّاقَّةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ الَّتِي لاَ تَنْتَظِمُ إِلاَّ بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ؛ لأِنَّ  الرِّبَا إِذَا حُرِّمَ طَابَتِ النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَلَوْ حَلَّ الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَيُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإْحْسَانِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ... فَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ، حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنْهُ لأَِخِيهِ، فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا...

10 - وَأَمَّا الأْصْنَافُ السِّتَّةُ الَّتِي حُرِّمَ فِيهَا الرِّبَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله تعالي عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآْخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ».

11 - أَمَّا هَذِهِ الأْصْنَافُ فَقَدْ أَجْمَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا حَيْثُ قَالَ: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِي الأْثْمَانِ - أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - بِجِنْسِهَا لأِنَّ  ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأْثْمَانِ، وَمَنَعُوا التِّجَارَةَ فِي الأْقْوَاتِ - أَيِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ - بِجِنْسِهَا لأِنَّ  ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأْقْوَاتِ.

وَفَصَّلَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هِيَ الثَّمَنِيَّةُ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ تَقْوِيمُ الأْمْوَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لاَ يَرْتَفِعُ وَلاَ يَنْخَفِضُ، إِذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ، بَلِ الْجَمِيعُ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الأْشْيَاءُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُقَوَّمُ هُوَ بِغَيْرِهِ، إِذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلاَتُ النَّاسِ وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ... فَالأْثْمَانُ لاَ تُقْصَدُ لأِعْيَانِهَا، بَلْ يُقْصَدُ التَّوَصُّلُ بِهَا إِلَى السِّلَعِ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لأِعْيَانِهَا فَسَدَ أَمْرُ النَّاسِ.

وَأَضَافَ: وَأَمَّا الأْصْنَافُ الأْرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ فَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى غَيْرِهَا؛ لأِنَّ هَا أَقْوَاتُ الْعَالَمِ، فَمِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَمُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَالًّا مُتَفَاضِلاً وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا، وَجُوِّزَ لَهُمُ التَّفَاضُلُ مَعَ اخْتِلاَفِ أَجْنَاسِهَا.

فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسِرُّ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ بَيْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ إِلاَّ إِذَا رَبِحَ، وَحِينَئِذٍ تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِبَيْعِهَا حَالَّةً لِطَمَعِهِ فِي الرِّبْحِ، فَيَعِزُّ الطَّعَامُ عَلَى الْمُحْتَاجِ وَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ الشَّارِعِ بِهِمْ وَحِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِيهَا كَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِي الأْثْمَانِ؛ إِذْ لَوْ جَوَّزَ لَهُمُ النَّسَاءَ فِيهَا لَدَخَلَهَا «إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ» فَيَصِيرُ الصَّاعُ الْوَاحِدُ لَوْ أُخِذَ قُفْزَانًا كَثِيرَةً، فَفُطِمُوا عَنِ النَّسَاءِ، ثُمَّ فُطِمُوا عَنْ بَيْعِهَا مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، إِذْ تَجُرُّهُمْ حَلاَوَةُ الرِّبْحِ وَظَفَرُ الْكَسْبِ إِلَى التِّجَارَةِ فِيهَا نَسَاءً وَهُوَ عَيْنُ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْجِنْسَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ فَإِنَّ حَقَائِقَهُمَا وَصِفَاتِهِمَا وَمَقَاصِدَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَفِي إِلْزَامِهِمُ الْمُسَاوَاةَ فِي بَيْعِهَا إِضْرَارٌ بِهِمْ، وَلاَ يَفْعَلُونَهُ، وَفِي تَجْوِيزِ النَّسَاءِ بَيْنَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى «إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ» فَكَانَ مِنْ تَمَامِ رِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ أَنْ قَصَرَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شَاءُوا، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمُبَادَلَةُ، وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمْ مَفْسَدَةُ «إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ» وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا بِيعَتْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ نَسَاءً فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْهُ لأَضَرَّ بِهِمْ، وَلاَمْتَنَعَ السَّلَمُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِيمَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالشَّرِيعَةُ لاَ تَأْتِي بِهَذَا، وَلَيْسَ بِهِمْ حَاجَةٌ فِي بَيْعِ هَذِهِ الأْصْنَافِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى مَفْسَدَةِ الرِّبَا، فَأُبِيحَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ وَلَيْسَ بِذَرِيعَةٍ إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُنِعُوا مِمَّا لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُتَذَرَّعُ بِهِ غَالِبًا إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ.

أَقْسَامُ الرِّبَا:

رِبَا الْبَيْعِ (رِبَا الْفَضْلِ):

12 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الأْعْيَانِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالَّذِي عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفِهِ وَتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ فِي الْبُيُوعِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَنْوَاعِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ نَوْعَانِ:

1 - رِبَا الْفَضْلِ.. وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأِحَدِ  الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ.

2 - رِبَا النَّسِيئَةِ... وَهُوَ: فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الأْجَلِ، وَفَضْلُ الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رِبَا الْبَيْعِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:

1 - رِبَا الْفَضْلِ.. وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ.

2 - رِبَا الْيَدِ.. وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ.

3 - رِبَا النَّسَاءِ.. وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَجَلٍ وَلَوْ قَصِيرًا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ.

وَزَادَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ رِبَا الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ جَرُّ نَفْعٍ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى رِبَا الْفَضْلِ، وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: إِنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَعَلَّلَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا جُعِلَ رِبَا الْقَرْضِ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ - يَعْنِي الْبَيْعَ -؛ لأِنَّهُ لَمَّا شَرَطَ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُ بَاعَ مَا أَقْرَضَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ فَهُوَ مِنْهُ حُكْمًا.

رِبَا النَّسِيئَةِ:

13 - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ نَظِيرَ الأْجَلِ أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا رِبَا النَّسِيئَةِ مِنْ أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ - لأِنَّ  الزِّيَادَةَ فِيهِ مُقَابِلُ الأْجَلِ أَيًّا كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا.

وَسُمِّيَ رِبَا الْقُرْآنِ؛ لأِنَّهُ حُرِّمَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ).

ثُمَّ أَكَّدَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ تَحْرِيمَهُ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى.

ثُمَّ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

وَسُمِّيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، لأِنَّ  تَعَامُلَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالرِّبَا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِهِ كَمَا قَالَ الْجَصَّاصُ.

وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَتَفْعَلُهُ إِنَّمَا كَانَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ.

وَسُمِّيَ أَيْضًا الرِّبَا الْجَلِيَّ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْجَلِيُّ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَهُ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا مُؤَلَّفَةً..

14 - وَرِبَا الْفَضْلِ يَكُونُ بِالتَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا إِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا، أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَيُسَمَّى رِبَا الْفَضْلِ لِفَضْلِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَإِطْلاَقُ التَّفَاضُلِ عَلَى الْفَضْلِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الآْخَرِ.

وَيُسَمَّى رِبَا النَّقْدِ فِي مُقَابَلَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ:

وَيُسَمَّى الرِّبَا الْخَفِيَّ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لأِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الأَْوَّلِ قَصْدًا، وَتَحْرِيمُ الثَّانِي لأِنَّهُ وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ» وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ - وَلاَ يُفْعَلُ هَذَا إِلاَّ لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إِمَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ، وَإِمَّا فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّلِ فِيهَا إِلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهَذَا ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا، فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ.

أَثَرُ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ:

15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يُخَالِطُهُ الرِّبَا مَفْسُوخٌ لاَ يَجُوزُ بِحَالٍ، وَأَنَّ مَنْ أَرْبَى يُنْقَضُ عَقْدُهُ وَيُرَدُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً؛ لأِنَّهُ فَعَلَ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْفَسَادَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله تعالي عنه قَالَ: «جَاءَ بِلاَلٌ - رضي الله تعالي عنه - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ بِلاَلٌ: مِنْ تَمْرٍ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٍ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» فَقَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم: «أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» أَيْ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ لاَ مَا يُشْبِهُهُ، وَقَوْلُهُ: «فَهُوَ رَدٌّ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ صَفْقَةِ الرِّبَا وَأَنَّهَا لاَ تَصِحُّ بِوَجْهٍ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ».

وَقَالَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالإْبْطَالُ.

وَفَصَّلَ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: مَنْ بَاعَ بَيْعًا أَرْبَى فِيهِ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لِلرِّبَا فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ إِنْ لَمْ يُعْذَرْ بِجَهْلٍ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا كَانَ قَائِمًا، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَمَرَ السَّعْدَيْنِ أَنْ يَبِيعَا آنِيَةً مِنَ الْمَغَانِمِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَبَاعَا كُلَّ ثَلاَثَةٍ بِأَرْبَعَةٍ عَيْنًا، أَوْ كُلَّ أَرْبَعَةٍ بِثَلاَثَةٍ عَيْنًا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا».

فَإِنْ فَاتَ الْبَيْعُ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ قَبَضَ الرِّبَا أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ رَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرْبَى ثُمَّ تَابَ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَ مِنَ الرِّبَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَلَهُ رِبًا، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ فَهُوَ لَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ  : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضِ الرِّبَا فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا أَعْلَمُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: اشْتِرَاطُ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي الْمُعَامَلاَتِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، فَيُمْلَكُ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِالْقَبْضِ، وَلاَ يُمْلَكُ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ بِالْقَبْضِ، يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: الْفَسَادُ وَالْبُطْلاَنُ فِي الْعِبَادَاتِ سِيَّانِ، أَمَّا فِي الْمُعَامَلاَتِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُ الْمُعَامَلَةِ عَلَيْهَا فَهُوَ الْبُطْلاَنُ، وَإِنْ تَرَتَّبَ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبَ التَّفَاسُخِ شَرْعًا فَهُوَ الْفَسَادُ، وَإِلاَّ فَهُوَ الصِّحَّةُ.

وَالْبَيْعُ الرِّبَوِيُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَحُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِوَضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَيَجِبُ رَدُّهُ لَوْ قَائِمًا، وَرَدُّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ لَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الرِّبَوِيَّةِ لَوْ قَائِمَةً، لاَ رَدُّ ضَمَانِهَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ، حَقَّ الْعَبْدِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا وَمِثْلِهِ لَوْ هَالِكًا، وَحَقَّ الشَّرْعِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لِنَقْضِ الْعَقْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَبَعْدَ الاِسْتِهْلاَكِ لاَ يَتَأَتَّى رَدُّ عَيْنِهِ فَتَعَيَّنَ رَدُّ الْمِثْلِ وَهُوَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إِنَّ رَدَّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا فِيمَا لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الزَّائِدِ، أَمَّا لَوْ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَزَادَهُ دَانِقًا هِبَةً مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ.

الْخِلاَفُ فِي رِبَا الْفَضْلِ:

16 - أَطْبَقَتِ الأْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا اجْتَمَعَ التَّفَاضُلُ مَعَ النَّسَاءِ، وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ نَقْدًا فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَدِيمٌ: صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم إِبَاحَتُهُ، وَكَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَعَ رُجُوعِهِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم، وَفِيهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله تعالي عنه شَيْءٌ مُحْتَمَلٌ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَفُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ وَعُرْوَةَ.

انْقِرَاضُ الْخِلاَفِ فِي رِبَا الْفَضْلِ وَدَعْوَى الإْجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ:

17 - نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الأْمْصَارِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالأْوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، وَلاَ بُرٍّ بِبُرٍّ، وَلاَ شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ، وَلاَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ، وَلاَ مِلْحٍ بِمِلْحٍ، مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ نَسِيئَةً، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرْبَى وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، قَالَ: وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَجَمَاعَةٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ.

وَنَاقَشَ السُّبْكِيُّ دَعْوَى الإْجْمَاعِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ، وَانْتَهَى إِلَى الْقَوْلِ: فَعَلَى هَذَا امْتَنَعَ دَعْوَى الإْجْمَاعِ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَكِنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَغْنُونَ عَنِ الإْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَضَافِرَةِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الإْجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ خَفِيَّةٍ سَنَدُهَا قِيَاسٌ أَوِ اسْتِنْبَاطٌ دَقِيقٌ.

الأْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ:

18 - رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ

مِنْهَا: مَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ».

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالي عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِوَرِقٍ، فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِذَهَبٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ، وَالصَّرْفُ هَاءَ وَهَاءَ».

وَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِثْلُ هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِلَ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّسِيئَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْإِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) وَكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ، قَالَ: قِيلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: «لاَ رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ» الرِّبَا الأَْغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: لاَ عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الأْكْمَلِ لاَ نَفْيُ الأْصْلِ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ أُسَامَةَ عَامٌّ؛ لأِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ رِبَا الْفَضْلِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الأْجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ أَمْ لاَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهَا مُطْلَقًا، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِمَنْطُوقِهَا.

الأْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا:

19 - الأْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا سِتَّةٌ وَهِيَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَتَمِّهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ السَّابِقُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا، فَلاَ يَجُوزُ مِنْهُمَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالأْوْزَاعِيِّ وَمُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَأَضَافَ مَالِكٌ إِلَيْهِمَا السُّلْتَ.

وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لاَ يَجْرِي إِلاَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلاَ يَجْرِي فِي الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ تَقَارَبَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ».

وَخَالَفَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: كُلُّ شَيْئَيْنِ يَتَقَارَبُ الاِنْتِفَاعُ بِهِمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ مُتَفَاضِلاً، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالزَّبِيبِ، لأِنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ.

الاِخْتِلاَفُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأْجْنَاسِ:

20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الأْحَادِيثِ، هَلْ يَحْرُمُ الرِّبَا فِيهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ أَمْ لاَ يَحْرُمُ؟.

فَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ، بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي الأْجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لأِنَّ  ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهَا بِعِلَّةٍ، فَيَثْبُتُ فِي كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ؛ لأِنَّ  الْقِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَتُسْتَخْرَجُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَثْبُتُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وُجِدَتْ عِلَّتُهُ فِيهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ رَوَيَا حَدِيثَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْعْيَانِ السِّتَّةِ وَفِي آخِرِهِ «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى سَائِرِ الأْمْوَالِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلاَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الرَّمَا» أَيِ الرِّبَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الصَّاعِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الصَّاعِ، كَمَا يُقَالُ خُذْ هَذَا الصَّاعَ أَيْ مَا فِيهِ، وَوَهَبْتُ لِفُلاَنٍ صَاعًا أَيْ مِنَ الطَّعَامِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأْنْصَارِيَّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرَ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «لاَ تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ».

يَعْنِي مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الآْثَارِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنَ الأْشْيَاءِ السِّتَّةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَالَ الرِّبَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ حُكْمَ الرِّبَا فِي الأْشْيَاءِ السِّتَّةِ.

وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلاَتِ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كُنَّا فِي الْمَدِينَةِ نَبِيعُ الأْوْسَاقَ وَنَبْتَاعُهَا» وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِمَّا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَهِيَ الأْجْنَاسُ الْمَذْكُورَةُ.

وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ قَصَرُوا التَّحْرِيمَ عَلَى الأْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا، وَقَالُوا إِنَّ التَّحْرِيمَ لاَ يَجْرِي فِي غَيْرِهَا بَلْ إِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الإْبَاحَةِ، وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ:  

أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ مِنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَالأْقْوَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَكِيلاَتِ أَوْ فِي كُلِّ الْمَطْعُومَاتِ لَقَالَ: لاَ تَبِيعُوا الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ مُتَفَاضِلاً أَوْ: لاَ تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلاً، فَإِنَّ هَذَا الْكَلاَمَ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَعَدَّ الأْرْبَعَةَ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا. وَأَنَّ التَّعْدِيَةَ مِنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ لاَ تُمْكِنُ إِلاَّ بِوَاسِطَةِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ عِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ.

عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا:

21 - اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّحْرِيمِ يَتَعَدَّى إِلَى مَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ، وَأَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الأْجْنَاسِ الأْرْبَعَةِ الأْخْرَى وَاحِدَةٌ.. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ.

22 - فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلَّةُ: الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ، وَقَدْ عُرِفَ الْجِنْسُ بِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» وَعُرِفَ الْقَدْرُ بِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «مِثْلاً بِمِثْلٍ» وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْلَ فِيمَا يُكَالُ وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ»،، وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «لاَ تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ»،، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَكِيلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلأِنَّ  الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إِمَّا إِجْمَاعًا (أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) أَوْ؛ لأِنَّ  التَّسَاوِيَ حَقِيقَةً لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِمَا، وَجَعْلُ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ إِجْمَاعًا أَوْ هُوَ مُعَرِّفٌ لِلتَّسَاوِي حَقِيقَةً أَوْلَى مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلاَ يُعْرَفُ التَّسَاوِي حَقِيقَةً فِيهِ؛ وَلأِنَّ  التَّسَاوِيَ وَالْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «مِثْلاً بِمِثْلٍ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «سَوَاءً بِسَوَاءٍ» أَوْ صِيَانَةً لأِمْوَالِ النَّاسِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى أَتَمُّ، وَذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لأِنَّ  الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُوجِبُهَا مَعْنًى، فَكَانَ أَوْلَى.

23 - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَقِيلَ: غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَقِيلَ: مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مَا ذُكِرَ؛ لأِنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعِ الرِّبَا فِيهَا لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى قِلَّتِهَا فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ.

وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الطَّعَامِ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُ الأْكْثَرِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالاِقْتِيَاتُ مَعْنَاهُ قِيَامُ بِنْيَةِ الآْدَمِيِّ بِهِ - أَيْ حِفْظُهَا وَصِيَانَتُهَا - بِحَيْثُ لاَ تَفْسُدُ بِالاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ إِصْلاَحُ الْقُوتِ كَمِلْحٍ وَتَوَابِلَ، وَمَعْنَى الاِدِّخَارِ عَدَمُ فَسَادِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى الأْجَلِ الْمُبْتَغَى مِنْهُ عَادَةً، وَلاَ حَدَّ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الاِدِّخَارُ مُعْتَادًا، وَلاَ عِبْرَةَ بِالاِدِّخَارِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ.

وَإِنَّمَا كَانَ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ لِخَزْنِ النَّاسِ لَهُ حِرْصًا عَلَى طَلَبِ وُفُورِ الرِّبْحِ فِيهِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.

وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مُجَرَّدُ الطَّعْمِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي، فَتَدْخُلُ الْفَاكِهَةُ وَالْخُضَرُ كَبِطِّيخٍ وَقِثَّاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

24 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الأْثْمَانِ غَالِبًا - كَمَا نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِجِنْسِيَّةِ الأْثْمَانِ غَالِبًا أَوْ بِجَوْهَرِيَّةِ الأْثْمَانِ غَالِبًا، وَهَذِهِ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لاَ تَتَعَدَّاهُمَا إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا، فَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِيهِمَا لَيْسَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الأْمْوَالِ؛ لأِنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الأْمْوَالِ؛ لأِنَّ  كُلَّ شَيْئَيْنِ جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا لاَ يَجُوزُ إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَلَمَّا جَازَ إِسْلاَمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأْمْوَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لِمَعْنًى لاَ يَتَعَدَّاهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الأْثْمَانِ.

وَذُكِرَ لَفْظُ «غَالِبًا» فِي بَيَانِ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلاِحْتِرَازِ مِنَ الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ فَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأْثْمَانِ غَالِبًا، وَيَدْخُلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا الأْوَانِي وَالتِّبْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا، قَالَ: وَكُلُّهُ قَرِيبٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الأْشْيَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ؛ لأِنَّ  الأْوَانِيَ وَالتِّبْرَ وَالْحُلِيَّ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُومُ بِهَا، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِيهِمَا بِعَيْنِهِمَا لاَ لِعِلَّةٍ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.

وَمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَالْغَزْلِ وَغَيْرِهَا.. لاَ رِبَا فِيهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَمُؤَجَّلاً.

وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الأْرْبَعَةِ وَهِيَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالدَّلِيلُ مَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ» فَقَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَطْعُومِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُشْتَقِّ مُعَلَّلٌ بِمَا مِنْهُ الاِشْتِقَاقُ كَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ الْمُعَلَّقَيْنِ بِالسَّارِقِ وَالزَّانِي. وَلأِنَّ  الْحَبَّ مَا دَامَ مَطْعُومًا يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا زُرِعَ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَطْعُومًا لَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا انْعَقَدَ الْحَبُّ وَصَارَ مَطْعُومًا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مَطْعُومًا، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا يُطْعَمُ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الأْرْبَعَةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ مَكِيلَةٌ أَوْ مَطْعُومَةٌ مَوْزُونَةٌ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يَحْرُمُ الرِّبَا إِلاَّ فِي مَطْعُومٍ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ.

وَالْجَدِيدُ هُوَ الأْظْهَرُ، وَتَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ وَالأْصْحَابِ عَلَيْهِ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَطْعُومِ مَا قُصِدَ لِطَعْمِ الآْدَمِيِّ غَالِبًا، بِأَنْ يَكُونَ أَظْهَرُ مَقَاصِدِهِ الطَّعْمَ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ إِلاَّ نَادِرًا، وَالطَّعْمُ يَكُونُ اقْتِيَاتًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا، وَالثَّلاَثَةُ تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ، فَإِنَّهُ نُصَّ فِيهِ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا التَّقَوُّتُ، فَأُلْحِقَ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالأْرْزِ وَالذُّرَةِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّأَدُّمُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى الْمِلْحِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الإْصْلاَحُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُصْطَكَى وَالسَّقَمُونْيَا وَالزَّنْجَبِيلِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا يُصْلِحُ الْغِذَاءَ وَمَا يُصْلِحُ الْبَدَنَ، فَالأْغْذِيَةُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَالأْدْوِيَةُ لِرَدِّ الصِّحَّةِ.

25 - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: أَشْهَرُهَا أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ جِنْسٍ، وَفِي الأْجْنَاسِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَكِيلاَتِ جِنْسٍ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا لاَ يَتَأَتَّى كَيْلُهُ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَيْلِ، وَلاَ يَتَأَتَّى وَزْنُهُ كَمَا دُونَ الأْرْزَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا، مَطْعُومًا كَانَ الْمَكِيلُ أَوِ الْمَوْزُونُ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَالُ وَلاَ يُوزَنُ كَالْمَعْدُودَاتِ مِنَ التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ وَخِيَارَةٍ وَبِطِّيخَةٍ بِمِثْلِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأِنَّهُ لَيْسَ مَكِيلاً وَلاَ مَوْزُونًا، لَكِنْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَقَالَ: لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لأِنَّهُ مَطْعُومٌ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا لاَ يُوزَنُ عُرْفًا لِصِنَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ غَيْرَ الْمَعْمُولِ مِنَ النَّقْدَيْنِ كَالْمَعْمُولِ مِنَ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ، كَالْخَوَاتِمِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الأْثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ» وَلأِنَّ  الطَّعْمَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهِ قِوَامُ الأْبْدَانِ، وَالثَّمَنِيَّةَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهَا قِوَامُ الأْمْوَالِ، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِمَا؛ وَلأِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الأْثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ لأِنَّ  أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا الْفَضْلِ يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَالُ وَلاَ يُوزَنُ، كَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْخَوْخِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، لأِنَّ  لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأْصْنَافِ أَثَرًا، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ حَذْفُهُ؛ وَلأِنَّ  الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لاَ مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ.

وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لاَ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ لِعَدَمِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالأْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَتَقْيِيدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالآْخَرِ، «فَنَهْيُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ» يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ عَنِ التَّفَاضُلِ فِيهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا كَالأْرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، أَوْ أُدْمًا كَالْقُطْنِيَّاتِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ، أَوْ تَدَاوِيًا كَالإْهْلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا، فَإِنَّ الْكُلَّ فِي بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ.

مِنْ أَحْكَامِ الرِّبَا:

26 - إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مَالٍ مِنَ الأْمْوَالِ، فَإِنْ بِيعَ بِجِنْسِهِ حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَفِيمَا عَدَاهُ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْعِلَّةِ.

وَفِيمَا يَلِي مُجْمَلُ أَحْكَامِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.

27 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، فَإِنْ وُجِدَا حُرِّمَ الْفَضْلُ وَالنَّسَاءُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ، وَلاَ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزٍ مِنْهُ وَأَحَدُهُمَا نَسَاءٌ، وَإِنْ عُدِمَا - أَيِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ - حَلَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَيِ الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، أَوِ الْجِنْسُ وَحْدَهُ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِهَرَوِيٍّ مِثْلِهِ حَلَّ الْفَضْلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ. قَالُوا: أَمَّا إِذَا وُجِدَ الْمِعْيَارُ وَعُدِمَ الْجِنْسُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَلِقَوْلِهِ عليه السلام «إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، وَيُرْوَى النَّوْعَانِ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْجِنْسِيَّةُ وَعُدِمَ الْمِعْيَارُ كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ، فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّلِ وَلَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ التَّعْجِيلُ رِبًا؛ لأِنَّهُ فَضْلٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ.

وَيَحْرُمُ بَيْعُ كَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَنَسِيئَةً وَلَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَجِصٍّ كَيْلِيٍّ أَوْ حَدِيدٍ وَزْنِيٍّ، وَيَحِلُّ بَيْعُ ذَلِكَ مُتَمَاثِلاً لاَ مُتَفَاضِلاً وَبِلاَ مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُقَدِّرِ الْمِعْيَارَ بِالذَّرَّةِ وَبِمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الصَّاعِ، وَكَذَرَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ فَرَأَى تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ.

وَجَيِّدُ مَالِ الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ»؛ وَلأِنَّ  فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ فَيَلْغُو، وَاسْتَثْنَوْا مَسَائِلَ لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِهْدَارُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ، وَهِيَ: مَالُ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ وَالْمَرِيضِ فَلاَ يُبَاعُ الْجَيِّدُ مِنْهُ بِالرَّدِيءِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الرَّدِيءِ بِالْجَيِّدِ وَالْقُلْبِ وَالْمَرْهُونِ إِذَا انْكَسَرَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِخِلاَفِ جِنْسِهِ.

وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَكَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ النَّصِّ وَأَشَارَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ، وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ؛ لأِنَّ  النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشَّيْءِ أَوِ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلاَّ؛ لأِنَّ  الْعَادَةَ إِذْ ذَاكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَتَبَدَّلَ الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ صلي الله عليه وسلم بِالْعَكْسِ لَوَرَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لَهُ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ فِي حَيَاتِهِ لَنَصَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوَانٍ وَلَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَبَيْعُ قُطْنٍ بِغَزْلِ قُطْنٍ فِي الأْصَحِّ، وَبَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ مُتَمَاثِلاً كَيْلاً، وَبَيْعُ لُحُومٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَبَنُ بَقَرٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْبُرِّ بِدَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ، وَلاَ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ.

وَلاَ رِبَا بَيْنَ مُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ عِنَانٍ إِذَا تَبَايَعَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.

28 - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَلاَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلاً إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَالطَّعَامُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْقُطْنِيَّةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ أَوْ إِدَامٍ لاَ يَجُوزُ الْجِنْسُ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَلاَ يَجُوزُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلاَفِهِ، كَانَ مِمَّا يُدَّخَرُ أَوْ لاَ يُدَّخَرُ.

وَلاَ بَأْسَ بِالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَمَا لاَ يُدَّخَرُ مُتَفَاضِلاً وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ وَسَائِرِ الإِْدَامِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ الْمَاءَ وَحْدَهُ، وَمَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالطَّعَامِ فَلاَ بَأْسَ بِالتَّفَاضُلِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ إِلاَّ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَيَحْرُمُ، وَالزَّبِيبُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَالتَّمْرُ كُلُّهُ صِنْفٌ، وَالْقُطْنِيَّةُ أَجْنَاسٌ فِي الْبُيُوعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ ذَوَاتِ الأْرْبَعِ مِنَ الأْنْعَامِ كَالإْبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ كَالْغَزَالِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ دَوَابِّ الْمَاءِ كُلُّهَا جِنْسٌ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ لُحُومِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ شَحْمٍ فَهُوَ كَلَحْمِهِ، وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ ذَوَاتِ الأْرْبَعِ الإْنْسِيِّ مِنْهُ وَالْوَحْشِيِّ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ جُبْنُهُ وَسَمْنُهُ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جِنْسٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلاَثَةِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلاً لاَ مُتَفَاضِلاً.

29 - وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بِيعَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ إِنْ كَانَا جِنْسًا اشْتُرِطَ الْحُلُولُ وَالْمُمَاثَلَةُ وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، أَوْ جِنْسَيْنِ كَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ جَازَ التَّفَاضُلُ وَاشْتُرِطَ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَدَقِيقُ الأْصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ وَخَلُّهَا وَدُهْنُهَا أَجْنَاسٌ؛ لأِنَّ هَا فُرُوعُ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأُعْطِيَتْ حُكْمَ أُصُولِهَا، وَاللُّحُومُ وَالأْلْبَانُ كَذَلِكَ فِي الأْظْهَرِ. وَالنَّقْدُ بِالنَّقْدِ كَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.

وَالْمُمَاثَلَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، وَالْمُعْتَبَرُ غَالِبُ عَادَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَمَا جُهِلَ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْبَيْعِ، وَقِيلَ: الْكَيْلُ، وَقِيلَ: الْوَزْنُ، وَقِيلَ: يُتَخَيَّرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ اعْتُبِرَ.

وَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَقْتَ الْجَفَافِ؛ لأِنَّهُ «صلي الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ» أَشَارَ صلي الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «أَيَنْقُصُ» إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ وَإِلاَّ فَالنُّقْصَانُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا إِبْقَاؤُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يَتَأَتَّى ادِّخَارُهُ عَلَيْهَا كَالتَّمْرِ بِنَوَاهُ، فَلاَ يُبَاعُ رُطَبٌ بِرُطَبٍ وَلاَ بِتَمْرٍ، وَلاَ عِنَبٌ بِعِنَبٍ وَلاَ بِزَبِيبٍ، لِلْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ وَقْتَ الْجَفَافِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَمَا لاَ جَفَافَ لَهُ كَالْقِثَّاءِ وَالْعِنَبِ الَّذِي لاَ يَتَزَبَّبُ لاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَصْلاً قِيَاسًا عَلَى الرُّطَبِ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ تَكْفِي مُمَاثَلَتُهُ رُطَبًا؛ لأِنَّ  مُعْظَمَ مَنَافِعِهِ فِي رُطُوبَتِهِ فَكَانَ كَاللَّبَنِ فَيُبَاعُ وَزْنًا وَإِنْ أَمْكَنَ كَيْلُهُ.

وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالتَّمْرِ الْمَعْقِلِيِّ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَهُمَا جِنْسَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم ذَكَرَ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ فِيهَا التَّفَاضُلَ إِذَا بِيعَ كُلٌّ مِنْهَا بِمَا وَافَقَهُ فِي الاِسْمِ وَأَبَاحَ فِيهِ التَّفَاضُلَ إِذَا بِيعَ بِمَا خَالَفَهُ فِي الاِسْمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ فَهُمَا جِنْسٌ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ فَهُمَا جِنْسَانِ.

30 - وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: كُلُّ مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ مِنْ جَمِيعِ الأْشْيَاءِ فَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ إِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً، وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ عُبَادَةَ السَّابِقُ، وَمَا كَانَ مِمَّا لاَ يُكَالُ وَلاَ يُوزَنُ فَجَائِزٌ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ - وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرُّطَبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ إِلاَّ الْعَرَايَا، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الرُّطُبِ بِمِثْلِهِ فَيَجُوزُ مَعَ التَّمَاثُلِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَيْبَسُ كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَلاَ يُبَاعُ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا وَلاَ مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيْلاً، وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إِلَى الْعُرْفِ بِالْحِجَازِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ».

وَمَا لاَ عُرْفَ فِيهِ بِالْحِجَازِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدَهُمَا: يُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ الأْشْيَاءِ شَبَهًا بِالْحِجَازِ.

وَالثَّانِيَ: يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا، وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ فُرُوعِهَا:  

السَّوِيقُ، وَالدَّقِيقُ فِي الصَّحِيحِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالدَّقِيقِ، فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِ فُرُوعِهَا بِبَعْضٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ بِنَوْعِهِ مُتَسَاوِيًا، فَأَمَّا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ. وَالأْصَحُّ أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ، وَفِي اللَّبَنِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.

وَالثَّانِيَةُ: هُوَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ كَاللَّحْمِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي جَوَازَهُ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ كَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَسَائِرِ الأْدْهَانِ بِأُصُولِهَا وَالْعَصِيرِ بِأَصْلِهِ.

وَبَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُعْتَصَرَاتِ بِجِنْسِهِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلاً، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَكَيْفَ شَاءَ؛ لأِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا بِالْكَيْلِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مَطْبُوخَيْنِ أَمْ نِيئَيْنِ، أَمَّا بَيْعُ النِّيءِ بِالْمَطْبُوخِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلاَ يَجُوزُ.

مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا:

31 - مَسَائِلُ الرِّبَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَالْعِلَّةُ هِيَ  الأْصْلُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَسَائِلِ الرِّبَا.

أَوْ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعَهُ مُنْتَشِرَةٌ، وَالَّذِي يَرْبِطُ لَكَ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا. وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ وَمُخْتَارَاتٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ:

الْمُحَاقَلَةُ:

32 - بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ صَافِيَةٍ مِنَ التِّبْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ جَهْلِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ ) (وَمُحَاقَلَةٌ).

الْمُزَابَنَةُ:

33 - بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ ).

الْعِينَةُ:

34 - بَيْعُ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ، إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ شِرَاؤُهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - لأِنَّهُ مِنَ الرِّبَا أَوْ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ ).

بَيْعُ الأْعْيَانِ غَيْرِ الرِّبَوِيَّةِ:

35 - الأْعْيَانُ الرِّبَوِيَّةُ نَوْعَانِ:

أ - الأْعْيَانُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي حَدِيثَيْ عُبَادَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله تعالي عنهما .

ب - الأْعْيَانُ الَّتِي تَحَقَّقَتْ فِيهَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِلَّةِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا عَدَا هَذِهِ الأْعْيَانَ  الرِّبَوِيَّةَ بِنَوْعَيْهَا لاَ يَحْرُمُ فِيهَا الرِّبَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَنَسِيئَةً، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ؛ لِمَا رَوَى «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ أُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتِ الإْبِلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَى قِلاَصِ الصَّدَقَةِ، فَكُنْتُ آخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ». وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالي عنه أَنَّهُ بَاعَ جَمَلاً إِلَى أَجَلٍ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا، وَبَاعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالي عنهما  بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ، وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله تعالي عنهما  رَاحِلَةً بِأَرْبَعِ رَوَاحِلَ وَرَوَاحِلُهُ بِالرَّبَذَةِ، وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رضي الله تعالي عنه بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا وَقَالَ: آتِيَكَ بِالآْخَرِ غَدًا.

وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، بَيْعَ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، كَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ - مَرْفُوعًا - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً».

وَلأِنَّ  الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، فَحُرِّمَ النَّسَاءُ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُتَصَوَّرُ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالطَّعَامِ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ التَّمَلُّكَاتِ، وَذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ:

أ - التَّفَاضُلُ.

ب - النَّسِيئَةُ.

ج - اتِّفَاقُ الأْغْرَاضِ وَالْمَنَافِعِ.

كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، وَبَيْعِ فَرَسٍ لِلرُّكُوبِ بِفَرَسَيْنِ لِلرُّكُوبِ إِلَى أَجَلٍ.

فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لِلرُّكُوبِ دُونَ الآْخَرِ جَازَ؛ لاِخْتِلاَفِ الْمَنَافِعِ.

بَيْعُ الْعَيْنِ بِالتِّبْرِ، وَالْمَصْنُوعِ بِغَيْرِهِ:

36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عَيْنَ الذَّهَبِ، وَتِبْرَهُ، وَالصَّحِيحَ، وَالْمَكْسُورَ مِنْهُ، سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الْمِقْدَارِ وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُلِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ مِثْقَالُ ذَهَبٍ عَيْنٍ بِمِثْقَالٍ وَشَيْءٍ مِنْ تِبْرٍ غَيْرِ مَضْرُوبٍ، وَكَذَلِكَ حَرَّمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَضْرُوبِ مِنَ الْفِضَّةِ وَغَيْرِ الْمَضْرُوبِ مِنْهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا».

وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ، فِي التَّاجِرِ يَحْفِزُهُ الْخُرُوجُ وَبِهِ حَاجَةٌ إِلَى دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةٍ، فَيَأْتِي دَارَ الضَّرْبِ بِفِضَّتِهِ أَوْ ذَهَبِهِ فَيَقُولُ لِلضَّرَّابِ: خُذْ فِضَّتِي هَذِهِ أَوْ ذَهَبِي وَخُذْ قَدْرَ عَمَلِ يَدِكَ وَادْفَعْ إِلَيَّ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً فِي ذَهَبِي أَوْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً فِي فِضَّتِي هَذِهِ لأِنِّي  مَحْفُوزٌ لِلْخُرُوجِ وَأَخَافُ أَنْ يَفُوتَنِي مَنْ أَخْرُجُ مَعَهُ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ التَّاجِرِ وَإِنَّ مَالِكًا قَدْ خَفَّفَ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْحُجَّةُ فِيهِ لِمَالِكٍ بَيِّنَةٌ.

قَالَ الأْبْهَرِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّفْقِ لِطَلَبِ التِّجَارَةِ وَلِئَلاَّ يَفُوتَ السُّوقُ وَلَيْسَ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِيَ مِمَّنْ يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ وَيَبْتَغِيهِ.

وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ؛ وَلأِنَّ  لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً بِدَلِيلِ حَالَةِ الإْتْلاَفِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَمَّ قِيمَةَ الصِّنَاعَةِ إِلَى الذَّهَبِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَالَ لِصَانِعٍ: اصْنَعْ لِي خَاتَمًا وَزْنَ دِرْهَمٍ، وَأُعْطِيكَ مِثْلَ وَزْنِهِ وَأُجْرَتَكَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لِلصَّائِغِ أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَاتَمِ وَالثَّانِي أُجْرَةً لَهُ.

الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:

37 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الإْسْلاَمِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الإْسْلاَمِ كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ جَرَى بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ، وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا الْمُسْلِمُ بِأَمَانٍ أَمْ بِغَيْرِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ؛ وَلأِنَّ  مَا كَانَ رِبًا فِي دَارِ الإْسْلاَمِ كَانَ رِبًا مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ مُسْلِمَانِ مُهَاجِرَانِ وَكَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ مُسْلِمٌ وَحَرْبِيٌّ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ؛ وَلأِنَّ  مَا حُرِّمَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ حُرِّمَ هُنَاكَ كَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي؛ وَلأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ فَلَمْ يَصِحَّ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ هُنَاكَ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْرُمُ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرَا مِنْهَا؛ لأِنَّ  مَالَهُمْ مُبَاحٌ إِلاَّ أَنَّهُ بِالأْمَانِ حُرِّمَ التَّعَرُّضُ لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ حَلَّ أَخْذُ مَالِهِمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، بِخِلاَفِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لأِنَّ  مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِالأْمَانِ.

مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ:

38 - إِذَا جَمَعَ الْبَيْعُ رِبَوِيًّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَاخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَبِيعِ مِنْهُمَا بِأَنِ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى جِنْسَيْنِ رِبَوِيَّيْنِ اشْتَمَلَ الآْخَرُ عَلَيْهِمَا، كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ مِنْ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَكَذَا لَوِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَطْ كَمُدٍّ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوِ اشْتَمَلاَ جَمِيعُهُمَا عَلَى جِنْسٍ رِبَوِيٍّ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُ رِبَوِيٍّ فِيهِمَا كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ، أَوِ اخْتَلَفَ نَوْعُ الْمَبِيعِ كَصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عَنْ قِيمَةِ الصِّحَاحِ بِهِمَا أَيْ بِصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا أَيْ بِصِحَاحٍ فَقَطْ أَوْ بِمُكَسَّرَةٍ فَقَطْ... إِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسْأَلَةِ «مُدِّ عَجْوَةٍ». وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله تعالي عنه قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ تُبَاعُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لاَ تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَلَ».

وَاسْتَدَلَّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ قَضِيَّةَ اشْتِمَالِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي الآْخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَالتَّوْزِيعُ يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأِنَّهُ إِذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْمُفَاضَلَةُ، أَوْ مِثْلَهُ فَالْمُمَاثَلَةُ مَجْهُولَةٌ

وَلِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِتَحَقُّقِ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْأَلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأِنَّ  الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْفَسَادِ فَيُجْعَلُ الرِّبَوِيُّ فِي مُقَابَلَةِ قَدْرِهِ مِنَ الرِّبَوِيِّ الآْخَرِ وَيُجْعَلُ الزَّائِدُ فِي مُقَابَلَةِ مَا زَادَ عَنِ الْقَدْرِ الْمُمَاثِلِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني والثلاثون ، الصفحة / 281

الْقَرْضُ:

36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْقَرْضِ لِنَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ، إلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ .

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُقْرِضِ، وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلأِنَّ  الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ: فَلأِنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَالِ الْمُسْتَقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ، لأِنَّ  غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إنَّمَا هِيَ بَذْلُ مَنَافِعِ الْمَالِ الْمُقْرَضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ مَجَّانًا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي الْحَالِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا كَانَ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِلُ الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ، لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ بِالتَّصَرُّفِ.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَصِيرُ مَالاً مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ .

(وَالثَّالِثُ) لأِبِي  يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُلُّ عَمَلٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإْعْتَاقِ وَالإْتْلاَفِ، وَلاَ يَكْفِي الرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ وَالإْجَارَةُ  وَطَحْنُ الْحِنْطَةِ وَخَبْزُ الدَّقِيقِ وَذَبْحُ الشَّاةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .

وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا إذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُقْرَضَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ ضَمَانُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُقْرِضِ، وَيَكُونُ هَلاَكُهَا فِي عُهْدَتِهِ، لأِنَّهَا  لَمْ تَزَلْ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا الْمُقْتَرِضُ بَعْدُ، فَلاَ تَنْشَغِلُ ذِمَّتُهُ بِعِوَضِهَا أَصْلاً، بَيْنَمَا يَكُونُ ضَمَانُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمُقْتَرِضِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ تَبِعَةَ هَلاَكِهَا، وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا لأِنَّهَا  هَلَكَتْ فِي مِلْكِهِ.

كَمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، فِيمَا إذَا اسْتَقْرَضَ شَخْصٌ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى ذَلِكَ الْكُرَّ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُقْرِضِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لأِنَّ  الْمُقْتَرِضَ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْقَبْضِ، فَيَصِيرُ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ التَّالِي مُشْتَرِيًا مِلْكَ نَفْسِهِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الآْخَرِ فَالْكُرُّ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُقْرِضِ، وَيَصِيرُ الْمُسْتَقْرِضُ مُشْتَرِيًا مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ .

الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي صِحَّتِهَا:

(أَوَّلاً) الصَّرْفُ:

39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الصَّرْفِ التَّقَابُضُ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ  قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ  فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» .

وَبِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما  أَنَّهُ قَالَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآْخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ، إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ أَيِ الرِّبَا .

لِهَذَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُتَصَارِفَيْنِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ وَأَرَادَا الاِفْتِرَاقَ، لَزِمَهُمَا دِيَانَةً أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ كَيْ لاَ يَأْثَمَا بِتَأْخِيرِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، لأِنَّ  الشَّارِعَ نَهَى عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَفِي التَّفَاسُخِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ، فَلاَ تَلْزَمُهُمَا شُرُوطُهُ .

لَكِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأْصْلِ  الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ - هُوَ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لِصِحَّةِ الصَّرْفِ - مَا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ غَلَبَةً، أَيْ بِمَا يُغْلَبَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، كَنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ أَوْ سَرِقَةٍ مِنَ الصَّرَّافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ:

وَقَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ بِحَيْلُولَةِ سَيْلٍ أَوْ نَارٍ أَوْ عَدُوٍّ قَبْلَ التَّقَابُضِ  وَقَالُوا بِعَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

(ثَانِيًا) بَيْعُ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا:

40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا الْحُلُولُ وَانْتِفَاءُ النَّسِيئَةِ، وَكَذَا إذَا بِيعَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، وَكَانَ الْمَالاَنِ الرِّبَوِيَّانِ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا وَالآْخَرُ مُثَمَّنًا، كَبَيْعِ الْمَوْزُونَاتِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ  فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ هَذَا عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ وَانْتِفَاءِ النَّسِيئَةِ، اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ لأِنَّ  النَّهْيَ عَنِ النَّسِيئَةِ ثَبَتَ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا، وَتَحْرِيمُ النَّسَاءِ وَوُجُوبُ التَّقَابُضِ مُتَلاَزِمَانِ، إذْ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّارِعُ انْتِفَاءَ الأْجَلِ  فِي بَيْعِ جَمِيعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ، وَيَكُونُ تَأْجِيلُ التَّقَابُضِ فِي بَعْضِهَا جَائِزًا، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ صلي الله عليه وسلم: «يَدًا بِيَدٍ وَهَاءَ وَهَاءَ» فِي شَأْنِ بَيْعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ السِّتَّةِ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ فِيهَا جَمِيعًا .

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ إلاَّ فِي الصَّرْفِ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ - كَبَيْعِ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ حِنْطَةٍ - فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ التَّعْيِينُ دُونَ التَّقَابُضِ، لأِنَّ  الْبَدَلَ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ يَتَعَيَّنُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَتَمَكَّنُ مُشْتَرِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّعَيُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الْبَدَلِ فِي الصَّرْفِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ، إذِ الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي تَعْيِينِهِ، حَيْثُ إنَّ الأْثْمَانَ  لاَ تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً إلاَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ تَبْدِيلُهَا بِمِثْلِهَا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا .

(ثَالِثًا) السَّلَمُ:

41 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الاِفْتِرَاقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمَا أَوْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ أَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ «مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ»، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ.

(ر: سَلَمٌ ف 16 – 19).

(رَابِعًا) إجَارَةُ الذِّمَّةِ:

42 - قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الإْجَارَةَ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا إلَى قِسْمَيْنِ: إجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ.

أ - فَالإْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ: يَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْعَيْنِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ سَيَّارَةً مُعَيَّنَةً، أَوِ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإْجَارَةِ  لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ الأْجْرَةِ  فِي الْمَجْلِسِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ لُزُومِهِ أَوِ انْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْمَنَافِعِ فِيهِ، وَذَلِكَ لأِنَّ  إجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا - إذِ الإْجَارَةُ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ مَعْلُومٍ - وَبَيْعُ الْعَيْنِ يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ الإْجَارَةُ.

ب - أَمَّا الإْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ: فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْلِ بِأَنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ بِنَاءَ جِدَارٍ صِفَتُهُ كَذَا، فَقَبِلَ الْمُؤَجَّرُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِ الأْجْرَةِ  فِيهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(الأْوَّلُ): لِلْحَنَفِيَّةِ، فَالأْصْلُ  عِنْدَهُمْ أَنَّ الأْجْرَ  لاَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَلاَ يُمْلَكُ، فَلاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِهِ، بَلْ بِتَعْجِيلِهِ أَوْ شَرْطِهِ فِي الإْجَارَةِ الْمُنَجَّزَةِ أَوِ الاِسْتِيفَاءِ لِلْمَنْفَعَةِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُ الأْجْرِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الإْجَارَةِ ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يُمْلَكُ الأْجْرُ  بِالْعَقْدِ، لأِنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَشَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلاً لِلْمُبْدَلِ، وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا حَالاً لاَ يَلْزَمُ بَدَلُهَا حَالاً، إلاَّ إذَا شَرَطَهُ وَلَوْ حُكْمًا، بِأَنْ عَجَّلَهُ لأِنَّهُ صَارَ مُلْتَزِمًا لَهُ بِنَفْسِهِ وَأَبْطَلَ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْعَقْدُ .

(وَالثَّانِي): لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ تَعْجِيلُ الأْجْرَةِ ، لاِسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ تَعْمِيرَ الذِّمَّتَيْنِ وَبَيْعَ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلاَّ إذَا شَرَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا لَوْ رَكِبَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّابَّةَ الْمَوْصُوفَةَ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَكَانِ الْمُشْتَرَطِ أَنْ تَحْمِلَهُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ عِنْدَئِذٍ تَأْخِيرُ الأْجْرَةِ ، لاِنْتِفَاءِ بَيْعِ الْمُؤَخَّرِ بِالْمُؤَخَّرِ، حَيْثُ إنَّ قَبْضَ أَوَائِلِ الْمَنْفَعَةِ كَقَبْضِ أَوَاخِرِهَا، فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنَ التَّأْخِيرِ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي حُكْمِ تَعْجِيلِ الأْجْرَةِ  تَأْخِيرَهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، لأِنَّ  مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، كَمَا فِي السَّلَمِ  وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ عَقْدِهَا بِلَفْظِ الإْجَارَةِ  أَوِ السَّلَمِ.

(وَالثَّالِثُ): لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ قَبْضُ الْمُؤَجِّرِ الأْجْرَةَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، كَمَا اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتِ الإْجَارَةُ، لأِنَّ  إجَارَةَ الذِّمَّةِ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ، فَكَانَتْ كَالسَّلَمِ فِي الأْعْيَانِ ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الإْجَارَةِ  أَوِ السَّلَمِ .

(وَالرَّابِعُ): لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ إذَا جَرَتْ بِلَفْظِ «سَلَمٍ» أَوْ «سَلَفٍ» - كَأَسْلَمْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ فِي مَنْفَعَةِ دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَكَانِ كَذَا، أَوْ فِي مَنْفَعَةِ آدَمِيٍّ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا لِبِنَاءِ حَائِطٍ صِفَتُهُ كَذَا مَثَلاً - وَقَبِلَ الْمُؤَجِّرُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَئِذٍ تَسْلِيمُ الأْجْرَةِ  فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لأِنَّهَا  بِذَلِكَ تَكُونُ سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَضْ قَبْلَ تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ لآَلَ الأْمْرُ  إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَمَّا إذَا لَمْ تَجْرِ إجَارَةُ الذِّمَّةِ بِلَفْظِ «سَلَمٍ» وَلاَ «سَلَفٍ»، فَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْجِيلُ الأْجْرَةِ  فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأِنَّهَا  لاَ تَكُونُ سَلَمًا، فَلاَ يَلْزَمُ فِيهَا شَرْطُهُ .

(خَامِسًا) الْمُضَارَبَةُ:

43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْعَامِلِ، لأِنَّ  الْمُضَارَبَةَ انْعَقَدَتْ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالْعَمَلُ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ إلاَّ بَعْدَ خُرُوجِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ إلَى الْعَامِلِ  وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اشْتِرَاطَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ حَالَ الْعَقْدِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَقِلَّ الْعَامِلُ بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ  وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بِيَدِهِ لِيُوَفِّيَ مِنْهُ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِلُ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْضُ الْعَامِلِ لِرَأْسِ الْمَالِ  قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِيَدِ رَبِّهِ، لأِنَّ  مَوْرِدَ الْعَقْدِ الْعَمَلُ .

(سَادِسًا) الْمُزَارَعَةُ:

44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمُ الأْرْضِ  إلَى الْعَامِلِ مُخْلاَةً، أَيْ أَنْ تُوجَدَ التَّخْلِيَةُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ  بَيْنَ أَرْضِهِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ، حَتَّى لَوْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الأْرْضِ  أَوْ شُرِطَ عَمَلُهُمَا مَعًا، فَلاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ).

(سَابِعًا) الْمُسَاقَاةُ:

45 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ تَسْلِيمُ الأْشْجَارِ  إلَى الْعَامِلِ، فَلَوْ شُرِطَ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتُهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُولِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الشَّجَرِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُسَاقَاةٌ)

الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِهَا:

وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

(أَوَّلاً) الْهِبَةُ:

46 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِلُزُومِ الْهِبَةِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ، وَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ الرُّجُوعُ فِيهَا، فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَزِمَتْ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لِلأْبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ لِسَائِرِ الأْصُولِ  عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ .

غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ قَبْضِهَا.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إنْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، لأِنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلاَ تَبْطُلُ الْهِبَةُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الإْقْبَاضِ  أَوِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.

وَاسْتَدَلَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ «قَالَ لأِمِّ  سَلَمَةَ: إنِّي أَهْدَيْتُ إلَى النَّجَاشِيِّ أُوَاقًا مِنْ مِسْكٍ، وَإِنِّي لاَ أَرَاهُ إلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلاَ أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلاَّ سَتُرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ فَهُوَ لَكِ أَمْ لَكُمْ»  وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي.. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»  فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ الإْمْضَاءَ، وَالإْمْضَاءُ  هُوَ الإْقْبَاضُ .

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ إلاَّ إذَا كَانَتْ لأِصُولِ الْوَاهِبِ أَوْ فُرُوعِهِ أَوْ لأِخِيهِ  أَوْ لأِخْتِهِ  أَوْ أَوْلاَدِهِمَا أَوْ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ أَوْ كَانَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ هِبَتِهِ فِي غَيْرِ الْحَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ بِرِضَا الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لِلْحَاكِمِ فَيَفْسَخَ الْهِبَةَ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَنْعَقِدُ بِالإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ، لَكِنَّهَا لاَ تَتِمُّ وَلاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَيُجْبَرُ الْوَاهِبُ عَلَى إقْبَاضِهَا مَا دَامَ الْعَاقِدَانِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتِ الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِيرَاثًا، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلاَ تَبْطُلُ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْوَاهِبِ بِهَا، لأِنَّهَا  صَارَتْ حَقًّا لِمُوَرِّثِهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ .

(ثَانِيًا) الْوَقْفُ:

47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَقَوْلُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ - إلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، بَلْ يَلْزَمُ وَيَتِمُّ بِدُونِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُسَبِّلَ ثَمَرَةَ أَرْضِهِ وَيَحْبِسَ أَصْلَهَا»  وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ أَحَدٍ يَحُوزُهَا دُونَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِحَبْسِ الأْصْلِ  وَتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقْبِضَهُ أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لأَمَرَهُ  بِهِ  وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ آلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَجَعَلَهَا بَعْدَهُ إلَى حَفْصَةَ رضي الله عنها ، وَوَلِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَلِيَتْ صَدَقَتَهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأْنْصَارِ  أَنَّهُ وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ  وَبِقِيَاسِ الْوَقْفِ عَلَى الْعِتْقِ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارَهُ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَهَا، وَلاَ يَمْلِكُ مِنْ رَقَبَتِهَا شَيْئًا، لأِنَّ  الْوَاقِفَ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَمَا أَنَّ الْعِتْقَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَلاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْلِ  فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْلِ، وَلأِنَّ نَا لَوْ أَوْجَبْنَا الْقَبْضَ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَابِضَ يَقْبِضُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْوَقْفِ، فَيَكُونُ قَبْضُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً .

(وَالثَّانِي) لاِبْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ بِقَبْضِهِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيهَا فَمَا فَوْقَ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَصَدُّقٌ بِالْمَنَافِعِ، وَالْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ لاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ لِلُزُومِهِ.

(وَالثَّالِثُ) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ أَوْ مَرِضَ أَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْقُوفِ بَطَلَ الْوَقْفُ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ وَالطَّاحُونِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَبَيْنَ النَّاسِ .

(ثَالِثًا) الْقَرْضُ:

48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ الْقَرْضِ أَوْ لُزُومِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الأْوَّلُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُقْتَرِضُ، بَلْ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ .

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ.

وَالثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ .

(رَابِعًا) الرَّهْنُ:

49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ أَوْ يُسَلِّمَهُ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)  حَيْثُ إنَّ الْمَصْدَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ يُرَادُ بِهِ الأْمْرُ ، وَالأْمْرُ  بِالشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ شَرْطًا فِيهِ، إذِ الْمَشْرُوعُ بِصِفَةٍ لاَ يُوجَدُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلأِنَّ  الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ إذْ لاَ يَسْتَوْجِبُ الرَّاهِنُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا، وَلِهَذَا لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإْمْضَاءِ  بِعَدَمِ الرُّجُوعِ، وَالإْمْضَاءُ  يَكُونُ بِالْقَبْضِ.

وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ الرِّهَانَ بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا، وَلَوْ لَزِمَتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لاَ يَتِمُّ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالإْقْبَاضِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ.

قَالُوا: أَمَّا لُزُومُهُ بِالْعَقْدِ، فَلأِنَّ  قوله تعالي (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) أَثْبَتَهَا رِهَانًا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا إلْزَامُ الرَّاهِنِ بِالإْقْبَاضِ، فَلأِنَّ  قوله تعالي (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)  دَلِيلٌ عَلَى إلْزَامِ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ لِلْمُرْتَهِنِ وَفَاءً بِالْعَقْدِ .

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الرَّهْنِ وَلاَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ وَلاَ لُزُومِهِ بَلْ يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ .

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: لاَ يَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالأْخْرَى: يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ .

اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ:

50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، فَلَوِ اسْتَرْجَعَهُ الرَّاهِنُ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ صَحَّ، لأِنَّهُ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي ابْتِدَائِهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطِ اسْتِدَامَتُهُ كَالْهِبَةِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ الْحَقُّ فِي اسْتِرْدَادِهِ مَتَى شَاءَ  وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُولُ: (يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ  ).

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ كِرَاءٍ بَطَلَ الرَّهْنُ، لأِنَّ  الْمَعْنَى الَّذِي لأِجْلِهِ  اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمَرْهُونِ فِي الاِبْتِدَاءِ هُوَ أَنْ تَحْصُلَ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ، فَكَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطًا فِيهِ .

(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ غَيْرِهِ زَالَ لُزُومُ الرَّهْنِ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَبْضٌ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عَادَ فَرَدَّهُ إلَيْهِ عَادَ اللُّزُومُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ، وَلاَ يُحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ، لأِنَّ  الْعَقْدَ الأْوَّلَ  لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَاخَى الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِنْ أُزِيلَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَإِبَاقِ الْعَبْدِ وَضَيَاعِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ، فَلُزُومُ الْعَقْدِ بَاقٍ، لأِنَّ  يَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَزُلْ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّهْنَ يُرَادُ لِلْوَثِيقَةِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَإِذَا لَمْ يَدُمْ فِي يَدِهِ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَانَ بَقَاءُ اللُّزُومِ مَنُوطًا بِدَوَامِ الْقَبْضِ .

آثَارُ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ:

51 - أَهَمُّ آثَارِ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ هُوَ انْتِقَالُ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ إلَى الْقَابِضِ، وَتَسَلُّطُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَوُجُوبُ بَذْلِ عِوَضِهِ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

الأْثَرُ  الأْوَّلُ: انْتِقَالُ الضَّمَانِ إلَى الْقَابِضِ:

52 - الْمُرَادُ بِالضَّمَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَى الْقَابِضِ: هُوَ تَحَمُّلُهُ لِتَبَعَةِ الْهَلاَكِ أَوِ النُّقْصَانِ أَوِ التَّعْيِيبِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَى الْمَقْبُوضِ فِي أَحَدِ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَهِيَ هُنَا: الْبَيْعُ وَالإْجَارَةُ  وَالْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ فِيمَا يَخُصُّ الصَّدَاقَ.

أَوَّلاً - ضَمَانُ الْمَبِيعِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ:

53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَهَلْ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، بِحَيْثُ لاَ يَنْتَقِلُ ضَمَانُهُ إلَى الْمُشْتَرِي إلاَّ بِالْقَبْضِ، أَمْ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْعَقْدِ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَبَضَهُ انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَيْهِ بِالْقَبْضِ، لأِنَّ  مُوجَبَ الْعَقْدِ انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إلْزَامَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَفَاءً بِالْعَقْدِ، لأِنَّ  الْمِلْكَ لاَ يَثْبُتُ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلاَ يَتَهَيَّأُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إلاَّ بِالتَّسْلِيمِ، فَكَانَ إيجَابُ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِ لَهُ ضَرُورَةً.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنَ الْمَبِيعَاتِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَبَيْنَ مَا لاَ يَكُونُ فِيهِ، بِحَيْثُ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي اعْتِبَارِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلاَتِ وَالتَّفْرِيعَاتِ فِي حَالَةِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، وَهُوَ الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلاً، فَلاَ يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ كُلَّهُ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْضُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْدَهُ، وَالْهَلاَكُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ، أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ ف 31 وَمَا بَعْدَهَا).

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيْعُ الأْعْيَانِ  الْمَمْلُوكَةِ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ قَبْلَ قَبْضِهَا:

62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ مَا مُلِكَ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالأْجْرَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ إذَا كَانَ مَنْقُولاً مُعَيَّنًا، وَكُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعُقُودَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَاوَضَةٌ، وَغَيْرُ مُعَاوَضَةٍ.

فَمَا مُلِكَ بِعَقْدٍ لَيْسَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ كَالْقَرْضِ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ مُطْلَقًا، وَمَا مُلِكَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ مُلِكَ بِمَا يَخْتَصُّ بِالْمُغَابَنَةِ وَالْمُكَايَسَةِ، كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ إنْ كَانَ طَعَامًا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، كَيْ لاَ يُفْضِيَ إلَى بَيْعِ الْعِينَةِ، وَإِنْ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ قَصْدِ الرِّفْقِ وَالْمُغَابَنَةِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُغَابَنَةِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا يَخْتَصُّ بِقَصْدِ الْمُغَابَنَةِ .

وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأْعْيَانَ  الْمُسْتَحَقَّةَ لِلإْنْسَانِ عِنْدَ غَيْرِهِ ضَرْبَانِ: أَمَانَةٌ وَمَضْمُونَةٌ، فَالأْمَانَةُ  يَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، لأِنَّ  مِلْكَهُ فِيهَا تَامٌّ.

وَالْمَضْمُونُ نَوْعَانِ:

(الأْوَّلُ) الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْيَدِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِيهِ.

(وَالثَّانِي) الْمَضْمُونُ بِعِوَضٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ .

وَالرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ - كَأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي إجَارَةٍ، وَعِوَضٍ مُعَيَّنٍ فِي صُلْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَكَذَا مَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ - كَعِوَضِ خُلْعٍ وَعِتْقٍ وَكَمَهْرٍ وَمُصَالَحٍ بِهِ عَنْ دَمِ عَمْدٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ - فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا احْتَاجَ لِتَوْفِيَةٍ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا كُلُّ مَا مُلِكَ بِإِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، لأِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَمِلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ، وَلاَ يُتَوَهَّمُ غَرَرُ الْفَسْخِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ قَبْضُهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِهِ، كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، لأِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثالث والثلاثون ، الصفحة / 111

قَرْض

التَّعْرِيفُ:

1 - الْقَرْضُ  فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ قَرَضَ الشَّيْءَ يَقْرِضُهُ: إِذَا قَطَعَهُ.

وَالْقَرْضُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإْقْرَاضِ. يُقَالُ: قَرَضْتُ الشَّيْءَ بِالْمِقْرَاضِ، وَالْقَرْضُ: مَا تُعْطِيهِ الإْنْسَانَ  مِنْ مَالِكَ لِتُقْضَاهُ، وَكَأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ قَطَعْتَهُ مِنْ مَالِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا يَتَقَارَضَانِ الثَّنَاءَ، إِذَا أَثْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ ثَنَاءً، كَقَرْضِ الْمَالِ .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَالٍ إِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ .

قَالُوا: وَيُسَمَّى نَفْسُ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ قَرْضًا، وَالدَّافِعُ لِلْمَالِ مُقْرِضًا، وَالآْخِذُ: مُقْتَرِضًا وَمُسْتَقْرِضًا وَيُسَمَّى الْمَالُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمُقْتَرِضُ إِلَى الْمُقْرِضِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ: بَدَلَ الْقَرْضِ، وَأَخْذُ الْمَالِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ: اقْتِرَاضًا.

وَالْقَرْضُ بِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْقَرْضُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فَجَعَلُوا لَهُ قَسِيمًا سَمَّوْهُ: الْقَرْضَ الْحُكْمِيَّ، وَوَضَعُوا لَهُ أَحْكَامًا تَخُصُّهُ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى اللَّقِيطِ الْمُحْتَاجِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، إِذَا لَمْ يَكُونَا فُقَرَاءَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ، وَبِمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِعْطَاءِ مَالٍ لِغَرَضِ الآْمِرِ.

كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ أَوْ فِدَاءِ أَسِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ  

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - السَّلَفُ:

2 - مِنْ مَعَانِي السَّلَفِ الْقَرْضُ. يُقَالُ تَسَلَّفَ وَاسْتَسْلَفَ: أَيِ اسْتَقْرَضَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسْلَفْتُهُ: أَيْ أَقْرَضْتُهُ، وَيَأْتِي السَّلَفُ أَيْضًا بِمَعْنَى السَّلَمِ. يُقَالُ: سَلَّفَ وَأَسْلَفَ بِمَعْنَى سَلَّمَ وَأَسْلَمَ .

وَالسَّلَفُ أَعَمُّ مِنَ الْقَرْضِ.

ب - الْقِرَاضُ:

3 - وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ نَقْدًا لِيَتَّجِرَ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَتَشَارَطَانِهِ. قَالَ الأْزْهَرِيُّ:» وَأَصْلُ الْقِرَاضِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَطَعَ لِلْعَامِلِ فِيهِ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ، وَقَطَعَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا.. وَخُصَّتْ شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ بِالْقِرَاضِ؛ لأِنَّ  لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرِّبْحِ شَيْئًا مَقْرُوضًا، أَيْ مَقْطُوعًا لاَ يَتَعَدَّاهُ .

(ر: مُضَارَبَة).

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعَ الْمَالِ إِلَى الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ وَفِي الْقِرَاضِ عَلَى وَجْهِ الأْمَانَةِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ:

4 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ .

أَمَّا الْكِتَابُ، فَبِالآْيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الإْقْرَاضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)  وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهَا أَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الأْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالإْنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْمَالِ الْمُقْرَضِ، وَشَبَّهَ الْجَزَاءَ الْمُضَاعَفَ عَلَى ذَلِكَ بِبَدَلِ الْقَرْضِ، وَسَمَّى أَعْمَالَ الْبِرِّ قَرْضًا؛ لأِنَّ  الْمُحْسِنَ بَذَلَهَا لِيَأْخُذَ عِوَضَهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ أَقْرَضَ شَيْئًا لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ .

وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَفِعْلُهُ صلي الله عليه وسلم  حَيْثُ رَوَى أَبُو رَافِعٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» .

ثُمَّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الأْجْرِ  الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلاَّ كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً» .

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقَرْضِ:

5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الأْصْلَ  فِي الْقَرْضِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ لِلْمُقْتَرِضِ، وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ النَّدْبُ  لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»  لَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ أَوِ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْحُرْمَةُ أَوِ الإْبَاحَةُ، بِحَسَبِ مَا يُلاَبِسُهُ أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ، إِذْ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.

وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ مُضْطَرًّا وَالْمُقْرِضُ مَلِيئًا كَانَ إِقْرَاضُهُ وَاجِبًا، وَإِنْ عَلِمَ الْمُقْرِضُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا بِحَسَبِ الْحَالِ، وَلَوِ اقْتَرَضَ تَاجِرٌ لاَ لِحَاجَةٍ، بَلْ لِيَزِيدَ فِي تِجَارَتِهِ طَمَعًا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ مِنْهُ، كَانَ إِقْرَاضُهُ مُبَاحًا، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةٍ، لِيَكُونَ مَطْلُوبًا شَرْعًا .

6 - أَمَّا فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ، فَالأْصْلُ فِيهِ الإْبَاحَةُ، وَذَلِكَ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْوَفَاءَ، بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُرْتَجًى، وَعَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ مِنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ، مَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا - فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ فِي حَقِّهِ لِدَفْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ - أَوْ كَانَ الْمُقْرِضُ عَالِمًا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ وَأَعْطَاهُ، فَلاَ يَحْرُمُ؛ لأِنَّ  الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِإِعْطَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ  قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فَعُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِفَقِيرٍ إِظْهَارُ الْغِنَى عِنْدَ الاِقْتِرَاضِ؛ لأِنَّ  فِيهِ تَغْرِيرًا لِلْمُقْرِضِ  وَقَالَ أَيْضًا: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَرِضُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ لِنَحْوِ صَلاَحِهِ، وَهُوَ بَاطِنًا بِخِلاَفِ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الاِقْتِرَاضُ أَيْضًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

تَوْثِيقُ الْقَرْضِ:

7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَالإْشْهَادَ عَلَيْهِ مَنْدُوبَانِ وَلَيْسَا وَاجِبَيْنِ مُطْلَقًا، وَالأْمْرُ  بِهِمَا فِي الآْيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى الأْوْثَقِ وَالأْحْوَطِ، وَلاَ يُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ  قَالَ الإْمَامُ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا أَمَرَ إِذَا لَمْ يَجِدُوا كَاتِبًا بِالرَّهْنِ، ثُمَّ أَبَاحَ تَرْكَ الرَّهْنِ وَقَالَ: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)  فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الأْمْرَ الأْوَّلَ  دَلاَلَةٌ عَلَى الْحَظِّ، لاَ فَرْضٌ فِيهِ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْثِيق ف 7).

أَرْكَانُ الْقَرْضِ:

8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ عَقْدِ الْقَرْضِ ثَلاَثَةٌ:

1 - الصِّيغَةُ (وَهِيَ الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ).

2 - الْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ).

3 - الْمَحَلُّ (وَهُوَ الْمَالُ الْمُقْرَضُ).

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ الدَّالَّيْنِ عَلَى اتِّفَاقِ الإْرَادَتَيْنِ وَتَوَافُقِهِمَا عَلَى إِنْشَاءِ هَذَا الْعَقْدِ.

الرُّكْنُ الأْوَّلُ: الصِّيغَةُ (الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ):

9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي صِحَّةِ الإْيجَابِ  بِلَفْظِ الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ وَبِكُلِّ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا، كَأَقْرَضْتُكَ وَأَسْلَفْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ قَرْضًا أَوْ سَلَفًا، وَمَلَّكْتُكَ هَذَا عَلَى أَنْ تَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَخُذْ هَذَا فَاصْرِفْهُ فِي حَوَائِجِكَ وَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.. أَوْ تُوجَدُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إِرَادَةِ الْقَرْضِ، كَأَنْ سَأَلَهُ قَرْضًا فَأَعْطَاهُ.. وَكَذَا صِحَّةُ الْقَبُولِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِمَا أَوْجَبَهُ الأْوَّلُ، مِثْلُ: اسْتَقْرَضْتُ أَوْ قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى  قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأْنْصَارِيُّ:   وَظَاهِرٌ أَنَّ الاِلْتِمَاسَ مِنَ الْمُقْرِضِ، كَاقْتَرِضْ مِنِّي، يَقُومُ مَقَامَ الإْيجَابِ ، وَمِنَ الْمُقْتَرِضِ، كَأَقْرِضْنِي، يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ .

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَطَعَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الإْيجَابُ  وَلاَ الْقَبُولُ، بَلْ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي كَذَا، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولاً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَالَ، صَحَّ الْقَرْضُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ ثَبَتَ الْقَرْضُ .

وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ قَوْلِهِمْ - فِي الأْصَحِّ  - بِاشْتِرَاطِ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ لِصِحَّةِ الْقَرْضِ، كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، اسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا سَمَّوْهُ بِـ «الْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ»، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ الصِّيغَةَ أَصْلاً  قَالَ الرَّمْلِيُّ: أَمَّا الْقَرْضُ الْحُكْمِيُّ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ صِيغَةٌ، كَإِطْعَامِ جَائِعٍ، وَكِسْوَةِ عَارٍ، وَإِنْفَاقٍ عَلَى لَقِيطٍ، وَمِنْهُ أَمْرُ غَيْرِهِ بِإِعْطَاءِ مَا لَهُ غَرَضٌ فِيهِ، كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ .

وَاتَّفَقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ، لَكِنْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الإْيجَابُ  فَقَطْ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ لاَ يُقْرِضُ فُلاَنًا فَأَقْرَضَهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ، لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأْخْرَى: يَحْنَثُ  قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الإْقْرَاضَ إِعَارَةٌ وَالْقَبُولَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الإْعَارَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ الْمُسْتَقْرِضِ، فَلِهَذَا اخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، فَكَانَ الْقَبُولُ رُكْنًا فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .

وَفَرَّعَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ لاِنْعِقَادِ الْقَرْضِ، مَا لَوْ قَالَ الْمُقْرِضُ لِلْمُسْتَقْرِضِ: أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا، وَقَبِلَ، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الأَْلْفَ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ جَازَ؛ لأِنَّ  الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَصَدَ الإْيجَابَ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُعِيدَ لَفْظَ الْقَرْضِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي (عَقْد ف 5 - 27).

الرُّكْنُ الثَّانِي:

الْعَاقِدَانِ (الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ):

(أ) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَرْضِ:

10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْرِضِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، أَيْ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً رَشِيدًا  قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لأِنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ، كَالصَّدَقَةِ  وَقَدْ أَكَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: لأِنَّ  الْقَرْضَ لِلْمَالِ تَبَرُّعٌ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ، فَكَانَ تَبَرُّعًا لِلْحَالِ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ مِمَّنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّبَرُّعُ .

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقَرْضِ شَائِبَةَ تَبَرُّعٍ، لاَ أَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الإْرْفَاقِ وَالتَّبَرُّعِ، فَقَالَ صَاحِبُ «أَسْنَى الْمَطَالِبِ» «لأِنَّ  الْقَرْضَ فِيهِ شَائِبَةُ التَّبَرُّعِ، وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً مَحْضَةً لَجَازَ لِلْوَلِيِّ - غَيْرِ الْقَاضِي قَرْضُ مَالِ مُوَلِّيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلاَشْتُرِطَ فِي قَرْضِ الرِّبَوِيِّ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَجَازَ فِي غَيْرِهِ شَرْطُ الأَْجَلِ، وَاللَّوَازِمُ بَاطِلَةٌ ».

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُقْرِضِ لِلتَّبَرُّعِ تَسْتَلْزِمُ اخْتِيَارَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضٌ مِنْ مُكْرَهٍ، قَالُوا: وَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الإْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا إِذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الإْقْرَاضُ لِنَحْوِ اضْطِرَارٍ فَإِنَّ إِقْرَاضَهُ مَعَ الإْكْرَاهِ يَكُونُ صَحِيحًا .

وَفَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فِي الْمُقْرَضِ عَدَمَ صِحَّةِ إِقْرَاضِ الأْبِ وَالْوَصِيِّ لِمَالِ الصَّغِيرِ  وَفَرَّعَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ قَرْضِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ لِمَالَيْهِمَا  أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْوَلِيِّ مَالَ مُوَلِّيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ، أَمَّا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُمْ إِقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ - خِلاَفًا لِلسُّبْكِيِّ - بِشَرْطِ يَسَارِ الْمُقْتَرِضِ وَأَمَانَتِهِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ إِنْ سَلَّمَ مِنْهَا مَالَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ  وَالإْشْهَادِ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ رَهْنًا إِنْ رَأَى ذَلِكَ .

(ب) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ:

11 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ أَهْلِيَّةُ الْمُعَامَلَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ  وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُقْتَرِضِ تَمَتُّعُهُ بِالذِّمَّةِ؛ لأِنَّ  الدَّيْنَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ فِي الذِّمَمِ، ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ عَدَمَ صِحَّةِ الاِقْتِرَاضِ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ ذِمَمٍ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ عِنْدَهُمْ  أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى شُرُوطٍ خَاصَّةٍ لِلْمُقْتَرِضِ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ فُرُوعِهِمُ الْفِقْهِيَّةِ اشْتِرَاطُهُمْ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً، وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إِذَا اسْتَقْرَضَ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالاِتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً فَلِلْمُقْرِضِ اسْتِرْدَادُهَا  وَهَذَا الْحُكْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ اقْتِرَاضِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ، وَجَاءَ فِي جَامِعِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلأْسْرُوشَنِيِّ: اسْتِقْرَاضُ الأْبِ لاِبْنِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ، وَكَذَا اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ لِلصَّغِيرِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي رَهْنِ «الْهِدَايَةِ»: وَلَوِ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ؛ لأِنَّ  الاِسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ، وَالرَّهْنُ يَقَعُ إِيفَاءً لِلْحَقِّ، فَيَجُوزُ .

الاِقْتِرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَالْوَقْفِ:

12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإْمَامِ الاِسْتِقْرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَقْتَ الأْزَمَاتِ وَعِنْدَ النَّوَائِبِ وَالْمُلِمَّاتِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ الأْوَّلُونَ مِنِ اسْتِسْلاَفِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَاتِ وَاسْتِعْجَالِهِ الزَّكَوَاتِ، فَلَسْتُ أُنْكِرُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أُجَوِّزُ الاِسْتِقْرَاضَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْحَالِ وَانْقِطَاعِ الأْمْوَالِ، وَمَصِيرُ الأْمْرِ إِلَى مُنْتَهًى يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ اسْتِيعَابُ الْحَوَادِثِ لِمَا يَتَجَدَّدُ فِي الاِسْتِقْبَالِ .

غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ:

(أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِيرَادٌ مُرْتَجًى لِبَيْتِ الْمَالِ لِيُوَفَّى مِنْهُ الْقَرْضُ، قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَالاِسْتِقْرَاضُ فِي الأْزَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُرْجَى لِبَيْتِ الْمَالِ دَخْلٌ يُنْتَظَرُ أَوْ يُرْتَجَى .

(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الاِسْتِقْرَاضُ مِنْ أَجْلِ الْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ ثَابِتٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِتَأْخِيرِهِ دَيْنًا لاَزِمًا عَلَيْهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لاَ يُسْتَقْرَضُ لَهُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى: لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ حَقَّانِ ضَاقَ عَنْهُمَا وَاتَّسَعَ لأِحَدِهِمَا ، صُرِفَ فِيمَا يَصِيرُ مِنْهُمَا دَيْنًا فِيهِ، وَلَوْ ضَاقَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَانَ لِوَلِيِّ الأْمْرِ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ وَالْفَسَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مَا يَصْرِفُهُ فِي الدُّيُونِ دُونَ الإْرْفَاقِ  وَكَانَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْوُلاَةِ مَأْخُوذًا بِقَضَائِهِ إِذَا اتَّسَعَ لَهُ بَيْتُ الْمَالِ .

(وَالثَّالِثُ) أَنْ يُعِيدَ الإْمَامُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ مَا اقْتَطَعَهُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَذَوِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا وَضَعُوهُ فِي حَرَامٍ، وَتَبْقَى الْحَاجَةُ إِلَى الاِسْتِقْرَاضِ قَائِمَةً، قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: لَمَّا عَزَمَ السُّلْطَانُ قُطُزُ عَلَى الْمَسِيرِ مِنْ مِصْرَ لِمُحَارَبَةِ التَّتَارِ، وَقَدْ دَهَمُوا الْبِلاَدَ، جَمَعَ الْعَسَاكِرَ، فَضَاقَتْ يَدُهُ عَنْ نَفَقَاتِهِمْ، فَاسْتَفْتَى الإْمَامَ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارِ، فَقَالَ لَهُ الْعِزُّ: إِذَا أَحْضَرْتَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ حَرِيمِكَ، وَأَحْضَرَ الأْمَرَاءُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ الْحَرَامِ اتِّخَاذُهُ، وَضَرَبْتَهُ سِكَّةً وَنَقْدًا، وَفَرَّقْتَهُ فِي الْجَيْشِ وَلَمْ يَقُمْ بِكِفَايَتِهِمْ، ذَلِكَ الْوَقْتَ اطْلُبِ الْقَرْضَ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلاَ .

هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَاضِ الإْمَامِ  عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، أَمَّا اسْتِقْرَاضُهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ اللَّقِيطِ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ نَفَقَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ - بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَوْ كَانَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ - اقْتَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مِقْدَارَ نَفَقَتِهِ .

13 - أَمَّا الاِسْتِقْرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِدَاعِي الْمَصْلَحَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّيْنَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ وَبِهَذِهِ الْجِهَاتِ، كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْوَفَاءُ مِنْ مَالِهِ، بَلْ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ وَمَا يَحْدُثُ لِبَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يُقَالُ: لاَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ رَأْسًا  أَيْ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ.

غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ الاِقْتِرَاضِ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ، إِلاَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ - كَتَعْمِيرٍ وَشِرَاءِ بَذْرٍ وَلَيْسَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ قَائِمَةٌ بِيَدِ الْمُتَوَلِّي - فَيَجُوزُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ:

الأْوَّلُ: إِذْنُ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْهُ، وَلأِنَّ  وِلاَيَتَهُ أَعَمُّ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَيَسْتَدِينُ النَّاظِرُ بِنَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ لاَ تَتَيَسَّرَ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالصَّرْفِ مِنْ أُجْرَتِهَا .

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ بِلاَ إِذْنِ حَاكِمٍ لِمَصْلَحَةٍ - كَمَا إِذَا قَامَتْ حَاجَةٌ لِتَعْمِيرِهِ، وَلاَ يُوجَدُ غَلَّةٌ لِلْوَقْفِ يُمْكِنُ الصَّرْفُ مِنْهَا عَلَى عِمَارَتِهِ - لأِنَّ  النَّاظِرَ مُؤْتَمَنٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ، فَالإِْذْنُ وَالاِئْتِمَانُ ثَابِتَانِ لَهُ .

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِنْ شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْحَاكِمُ، قَالُوا: فَلَوِ اقْتَرَضَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي وَلاَ شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَقْفِ بِمَا صَرَفَهُ لِتَعَدِّيهِ فِيهِ .

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَلُّ (الْمَالُ الْمُقْرَضُ):

لِلْمَالِ الْمُقْرَضِ شُرُوطٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ عَلَى مَا يَلِي:

الشَّرْطُ الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ:

14 - وَالْمِثْلِيَّاتُ: هِيَ الأْمْوَالُ الَّتِي لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالنُّقُودِ وَسَائِرِ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يَصِحُّ قَرْضُ الْمِثْلِيَّاتِ وَحْدَهَا، أَمَّا الْقِيَمِيَّاتُ الَّتِي تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُهَا .

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّهُ لاَ سَبِيلَ إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَلاَ إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْقِيمَةِ؛ لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لاِخْتِلاَفِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلاَفِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهِ رَدَّ الْمِثْلِ، فَيَخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ  وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يَصِحُّ الْقَرْضُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ؛ لأِنَّ  الْقَرْضَ إِعَارَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى تَصِحَّ بِلَفْظِهَا، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ  إِلَى جَوَازِ قَرْضِ الْمِثْلِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ وَسَّعُوا دَائِرَةَ مَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، فَقَالُوا: يَصِحُّ إِقْرَاضُ كُلِّ مَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ - حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بَكْرًا  وَقِيسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، أَمَّا مَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَهُوَ مَا لاَ يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ - كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا - فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ .

ثُمَّ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قَرْضِ مَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ جَوَازَ قَرْضِ الْخُبْزِ وَزْنًا لِلْحَاجَةِ وَالْمُسَامَحَةِ .

وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ قَرْضِ كُلِّ عَيْنٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ أَمْ لاَ .

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا:

15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ  إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي مُسْتَنَدِ الْمَنْعِ وَمَنْشَئِهِ.

فَأَسَاسُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ  وَالْمَنَافِعُ لاَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً فِي مَذْهَبِهِمْ؛ لأِنَّ  الْمَالَ عِنْدَهُمْ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ طَبْعُ الإْنْسَانِ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلإْحْرَازِ وَالاِدِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ الَّذِي يَنْتَهِي، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ الْمَنَافِعِ مَحَلًّا لِعَقْدِ الْقَرْضِ.

وَأَمَّا مُسْتَنَدُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ  أَيْ فِي الْعُرْفِ وَعَادَةِ النَّاسِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَنَافِعِ، مِثْلُ أَنْ يَحْصُدَ مَعَهُ يَوْمًا، وَيَحْصُدَ مَعَهُ الآْخَرُ يَوْمًا، أَوْ يُسْكِنَهُ دَارًا لِيُسْكِنَهُ الآْخَرُ بَدَلَهَا، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأْمْثَالِ، حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الأْخْرَى الْقِيمَةُ، وَيَتَوَجَّهُ فِي الْمُتَقَوِّمِ أَنَّهُ يَجُوزُ رَدُّ الْمِثْلِ بِتَرَاضِيهِمَا .

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي بَابِ الْقَرْضِ كَوْنَ مَحَلِّ الْقَرْضِ عَيْنًا، وَلَكِنَّهُمْ أَقَامُوا ضَابِطًا لِمَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ صَحَّ إِقْرَاضُهُ، وَفِي بَابِ السَّلَمِ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَنَافِعِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الأْعْيَانِ   وَعَلَى ذَلِكَ يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:

16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ مَحَلِّ الْقَرْضِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْمُقْتَرِضُ مِنْ رَدِّ الْبَدَلِ الْمُمَاثِلِ لِلْمُقْرِضِ، وَهَذِهِ الْمَعْلُومِيَّةُ تَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ: مَعْرِفَةَ الْقَدْرِ، وَمَعْرِفَةَ الْوَصْفِ  جَاءَ فِي «أَسْنَى الْمَطَالِبِ»: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإْقْرَاضِ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لِيَتَأَتَّى أَدَاؤُهُ، فَلَوْ أَقْرَضَهُ كَفًّا مِنْ دَرَاهِمَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أَقْرَضَهُ عَلَى أَنْ يُسْتَبَانَ مِقْدَارُهُ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ صَحَّ .

وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عِلَّةَ هَذَا الاِشْتِرَاطِ، فَقَالَ: «وَإِذَا اقْتَرَضَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لأِنَّ  الْقَرْضَ فِيهَا يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْمِثْلُ لَمْ يُمْكِنِ الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اقْتَرَضَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ أَوْ صَنْجَةٍ بِعَيْنِهَا غَيْرِ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لأِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ تَلَفَ ذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرُ رَدُّ الْمِثْلِ، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ».

وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ مَحَلِّ الْقَرْضِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مَا سَمَّوْهُ بِالْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ  كَقَوْلِهِ: «عَمِّرْ دَارِي» وَنَحْوِهِ، فَلَمْ يُوجِبُوا مَعْرِفَتَهُ لِصِحَّةِ الْقَرْضِ .

أَحْكَامُ الْقَرْضِ:

أ - (مِنْ حَيْثُ أَثَرُهُ):

17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِ الْقَرْضِ، وَهُوَ نَقْلُ مِلْكِيَّةِ مَحَلِّهِ مِنَ الْمُقْرِضِ إِلَى الْمُقْتَرِضِ، هَلْ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ، أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ، أَمْ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَصَرُّفِ الْمُقْتَرِضِ فِيهِ أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ.؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) لِلْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ : وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ  قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: غَيْرَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْقَرْضِ غَيْرُ تَامٍّ لأِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:

أ - بِأَنَّ مَأْخَذَ الاِسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ  الْقَرْضَ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ.

ب - وَبِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْقَرْضِ، وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ.

ج - وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلأِنَّ  الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ: فَلأِنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَالِ الْمُقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ؛ لأِنَّ  غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إِنَّمَا هِيَ بَذْلُ مَنَافِعِ الْمَالِ الْمُقْرَضِ لِلْمُقْتَرِضِ مَجَّانًا؛ لأِنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي الْحَالِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا كَانَ حُكْمُهُ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِلُ الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ بِالتَّصَرُّفِ، وَلاَ بِالاِسْتِهْلاَكِ.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْقَرْضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَصِيرُ مَالاً مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ  وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّوْكَانِيُّ وَرَجَّحَهُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمَنَاطُ فِي نَقْلِ مِلْكِيَّةِ الأْمْوَالِ مِنْ بَعْضِ الْعِبَادِ إِلَى بَعْضٍ .

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلأْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ قِبَلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُلُّ عَمَلٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإْعْتَاقِ وَالإْتْلاَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ  قَالُوا: لأِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مَحْضٍ، إِذْ يَجِبُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَلَيْسَ عَلَى حَقَائِقِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ بَدَلِهِ .

(وَالرَّابِعُ) لأِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرْضَ لاَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ مَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الإْقْرَاضَ إِعَارَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ الأْجَلُ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَلَزِمَ فِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلأِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ الأْبُ وَالْوَصِيُّ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ، وَهَؤُلاَءِ يَمْلِكُونَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الإْقْرَاضَ إِعَارَةٌ، فَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا الْمُقْتَرِضُ .

ب - مِنْ حَيْثُ مُوجِبُهُ:

18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ تَنْشَغِلُ ذِمَّتُهُ بِبَذْلِ الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ بِمُجَرَّدِ تَمَلُّكِهِ لِمَحَلِّ الْقَرْضِ، وَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا بِرَدِّ الْبَدَلِ إِلَيْهِ أَمَّا صِفَةُ الْبَدَلِ، وَمَكَانُ رَدِّهِ، وَزَمَانُهُ، فَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

صِفَةُ بَدَلِ الْقَرْضِ:

19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ أَدَاؤُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ  وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ   وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الَّذِي اقْتَرَضَهُ إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا؛ لأِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى حَقِّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، أَوْ بِمِثْلِهِ صُورَةً  لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  «أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَرَدَّ رُبَاعِيًّا، وَقَالَ: إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» ، وَلأِنَّ  مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْقَرْضِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ مِثْلٌ.

قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: وَمِنْ لاَزِمِ اعْتِبَارِ الْمِثْلِ الصُّورِيِّ اعْتِبَارُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَزِيدُ بِهَا الْقِيمَةُ، فَيَرُدُّ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا، حَتَّى لاَ يَفُوتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .

وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ بِمُجَرَّدِ تَمَلُّكِهِ لِلْعَيْنِ الْمُقْتَرَضَةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا لاَ عَيْنُهَا وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَأْخُذَ مَحَلَّ الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُسْتَقْرِضِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ  وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَسْكُوكَاتِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، فَرَخُصَتْ أَسْعَارُهَا أَوْ غَلَتْ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَلاَ عِبْرَةَ بِرُخْصِهَا وَغَلاَئِهَا، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدُّ مِثْلِ مَا اقْتَرَضَهُ بِأَنِ اسْتَهْلَكَهَا ثُمَّ انْقَطَعَتْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى الاِنْتِظَارِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مِثْلُهَا، وَلاَ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهَا، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ لأِنَّ  مَبْنَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ بِوُجُوبِ الْمِثْلِ مُطْلَقًا دُونَ الْقِيمَةِ هُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْقَرْضِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ فِي الْمِثْلِيَّاتِ .

وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْقَرْضِ مِثْلِيًّا مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا لاَ يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ، وَقَالُوا:

(أ) إِنْ كَانَ مَحَلُّ الْقَرْضِ مِثْلِيًّا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ، فَيَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ مِثْلُهُ، وَلَوْ أَرَادَ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ فَيُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى قَبُولِهِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ عَيْنُهُ بِعَيْبٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ أَوْ لاَ، لأِنَّهُ رَدَّهُ عَلَى صِفَةِ حَقِّهِ، فَلَزِمَ قَبُولُهُ كَالسَّلَمِ، وَلَوْ تَغَيَّرَ حَالُهَا بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَرْدُودِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ دُونَ حَقِّهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَدَاءُ مِثْلِهِ .

وَفِي الْحَالَيْنِ إِذَا رَدَّ الْمُقْتَرِضُ الْمِثْلَ وَجَبَ عَلَى الْمُقْرِضِ قَبُولُهُ، سَوَاءٌ رَخُصَ سِعْرُهُ أَوْ غَلاَ أَوْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَذَلِكَ لأِنَّ  الْمِثْلَ يُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَالإْتْلاَفِ بِمِثْلِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، فَإِنْ أَعْوَزَ الْمِثْلُ - أَيْ تَعَذَّرَ - فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ إِعْوَازِهِ؛ لأِنَّهُ يَوْمَ ثُبُوتِ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ.

(ب) وَإِنْ كَانَ مَحَلُّ الْقَرْضِ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلاَ مَوْزُونٍ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا قَوْلاً وَاحِدًا؛ لأِنَّ  قِيمَتَهَا تَتَغَيَّرُ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الرَّاغِبِ وَكَثْرَتِهِ.

أَمَّا مَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ كَالْمَذْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ وَالْحَيَوَانِ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَرْضِ لأِنَّهَا تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ صُورَةً؛ لأِنَّ  النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَرَدَّ مِثْلَهُ .

20 - وَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ بَدَلِ الْقَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمِثْلُ أَوِ الْقِيمَةُ لِمَحَلِّ الْقَرْضِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ فِي الْوَصْفِ، أَوِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْقَدْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ لَوْ قَضَى دَائِنَهُ بِبَدَلٍ خَيْرٍ مِنْهُ فِي الْقَدْرِ أَوِ الصِّفَةِ، أَوْ دُونَهُ، بِرِضَاهُمَا جَازَ مَا دَامَ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ أَوْ مُوَاطَأَةٍ  وَذَلِكَ لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا، فَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَالَ: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ؛ وَلأِنَّهُ لَمْ تُجْعَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ، وَلاَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَلاَ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَحَلَّتْ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَرْضٌ، بَلْ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَرُدَّ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُهُ .

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَ الْمُقْتَرِضُ فِي الْكَمِّ وَالْعَدَدِ إِلاَّ فِي الْيَسِيرِ جِدًّا، وَقَالَ: إِنَّمَا الإْحْسَانُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَجْوَدَ عَيْنًا وَأَرْفَعَ صِفَةً، وَأَمَّا أَنْ يَزِيدَهُ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ فَلاَ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ حِينَ السَّلَفِ .

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْفَضْلِ فِي الْقَرْضِ مُطْلَقًا، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّ الْمُقْرِضَ يَأْخُذُ مِثْلَ قَرْضِهِ، وَلاَ يَأْخُذُ فَضْلاً؛ لِئَلاَّ يَكُونَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً .

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِذَا قَضَى الدَّيْنَ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلاَ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَنْقَصَ مِمَّا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَبِلَ جَازَ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ خِلاَفَ الْجِنْسِ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ .

مَكَانُ رَدِّ الْبَدَلِ:

21 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الأْصْلَ  فِي الْقَرْضِ وُجُوبُ رَدِّ بَدَلِهِ فِي نَفْسِ الْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا، وَأَنَّ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْوَفَاءُ بِهِ حَيْثُ قَبَضَهُ، إِذْ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهِ .

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُقْرِضَ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَشَّمَ مَشَقَّةً لِرَدِّ قَرْضِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لإِِحْسَانِهِ .

لَكِنْ لَوْ بَذَلَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، أَوْ طَالَبَهُ الْمُقْرِضُ بِهِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ حَمْلَ لَهُ وَلاَ مُؤْنَةَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مُقْرِضَهَا أَخْذُهَا بِغَيْرِ مَحَلِّ الْقَرْضِ، إِذْ لاَ كُلْفَةَ فِي حَمْلِهَا وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ .

وَأَمَّا مَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْرِضَ لاَ يَلْزَمُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْكُلْفَةِ، إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الْمُقْرِضُ بِأَخْذِهِ جَازَ وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مَخُوفًا .

وَلَوِ الْتَقَى الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ، وَقِيمَةُ مَحَلِّ الْقَرْضِ فِي الْبَلْدَتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ، فَطَلَبَ الْمُقْرِضُ أَخْذَهُ مِنْهُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ أَدَاؤُهَا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ بَلَدِ الْقَرْضِ لأِنَّهُ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَكُونُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَرْضِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَوْمَ الْخُصُومَةِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَسْتَوْثِقُ لِلْمُقْرِضِ مِنَ الْمَطْلُوبِ بِكَفِيلٍ حَتَّى يُوفِيَهُ مِثْلَهُ حَيْثُ أَقْرَضَهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ لَقِيَ الْمُقْرِضُ الْمُقْتَرِضَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ فَطَالَبَهُ بِالْقَضَاءِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَزِمَ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي اقْتَرَضَهُ فِيهِ، وَلَوِ اصْطَلَحَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي الْبَلَدِ الآْخَرِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا إِنْ كَانَ بَعْدَ  حُلُولِ الأْجَلِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حُلُولِهِ لَمْ يَلْزَمْ .

زَمَانُ رَدِّ الْبَدَلِ:

22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ رَدِّ الْبَدَلِ فِي الْقَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ يَثْبُتُ حَالًّا فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلِلْمُقْتَرِضِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ فِي الْحَالِ مُطْلَقًا، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ؛ وَلأِنَّ  الْقَرْضَ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، فَكَانَ حَالًّا، كَالإْتْلاَفِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأْصْلِ  أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهُ تَفَارِيقَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا جُمْلَةً، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأِنَّ  الْجَمِيعَ حَالٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بُيُوعًا مُتَفَرِّقَةً حَالَّةَ الثَّمَنِ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِثَمَنِهَا جُمْلَةً .

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لاِبْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَدَلَ لاَ يَثْبُتُ حَالًّا فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: لَوِ اقْتَرَضَ مُطْلَقًا - مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ - فَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْبَدَلِ لِمُقْرِضِهِ إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهِ، وَيُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى إِبْقَائِهِ عِنْدَهُ إِلَى قَدْرِ مَا يُرَى فِي الْعَادَةِ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ .

الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فِي الْقَرْضِ:

الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فِي الْقَرْضِ أَنْوَاعٌ: فَمِنْهَا الْمَشْرُوعُ، وَمِنْهَا الْمَمْنُوعُ، مِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - اشْتِرَاطُ تَوْثِيقِ دَيْنِ الْقَرْضِ:

23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ الإْقْرَاضِ بِشَرْطِ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ وَإِشْهَادٍ أَوْ أَحَدِهَا؛ لأِنَّ  هَذِهِ الأْمُورَ تَوْثِيقَاتٌ لاَ مَنَافِعُ زَائِدَةٌ لِلْمُقْرِضِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» ؛ وَلأِنَّ  مَا جَازَ فِعْلُهُ جَازَ شَرْطُهُ؛ وَلأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ .

ب - اشْتِرَاطُ الْوَفَاءِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ:

24 - يَدْخُلُ هَذَا الاِشْتِرَاطُ فِي بَابِ السَّفْتَجَةِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ .

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (سَفْتَجَة ف 3).

ج - اشْتِرَاطُ الْوَفَاءِ بِأَنْقَصَ

25 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ عَلَى الْمُقْرِضِ أَنْقَصَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى فَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ وَعَدَمِ لُزُومِهِ، وَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ؟

لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ  الْمَنْهِيَّ عَنْهُ جَرُّ الْمُقْرِضِ النَّفْعَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَاهُنَا لاَ نَفْعَ لَهُ فِي الشَّرْطِ، بَلِ النَّفْعُ لِلْمُقْتَرِضِ، فَكَأَنَّ الْمُقْرِضَ زَادَ فِي الْمُسَامَحَةِ وَالإْرْفَاقِ، وَوَعَدَهُ وَعْدًا حَسَنًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْفَسَادُ؛ لِمُنَافَاتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ .

د - اشْتِرَاطُ الأْجَلِ:

26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الأْجَلِ وَلُزُومِهِ فِي الْقَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالأْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ تَأْجِيلُ الْقَرْضِ، وَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، وَلِلْمُقْرِضِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ قَبْلَ حُلُولِ الأْجَلِ؛ لأِنَّ  الآْجَالَ فِي الْقُرُوضِ بَاطِلَةٌ  قَالَ الإْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ .

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْلِهِمْ بِعَدَمِ لُزُومِ الأْجَلِ فِي الْقَرْضِ أَرْبَعَ مَسَائِلَ: إِذَا كَانَ مَجْحُودًا بِأَنْ صَالَحَ الْمُقْرِضُ الْمُقْتَرِضَ الْجَاحِدَ لِلْقَرْضِ عَلَى مَبْلَغٍ إِلَى أَجَلٍ فَيَلْزَمُ الأْجَلُ، أَوْ حَكَمَ مَالِكِيٌّ بِلُزُومِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ، أَوْ أَحَالَهُ عَلَى آخَرَ فَأَجَّلَهُ الْمُقْرِضُ أَوْ أَحَالَهُ عَلَى مَدْيُونٍ مُؤَجَّلٍ دَيْنُهُ، لأِنَّ  الْحَوَالَةَ مُبْرِئَةٌ، وَالرَّابِعَةُ الْوَصِيَّةُ، بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلاَنًا إِلَى سَنَةٍ .

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ اشْتِرَاطِ الأْجَلِ فِي الْقَرْضِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مُنِعَ فِيهِ التَّفَاضُلُ، فَمُنِعَ فِيهِ الأْجَلُ كَالصَّرْفِ، إِذِ الْحَالُّ لاَ يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ، وَبِأَنَّهُ وَعْدٌ، وَالْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ غَيْرُ لاَزِمٍ  وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَأْجِيلِهِ بِأَنَّهُ إِعَارَةٌ وَصِلَةٌ فِي الاِبْتِدَاءِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظِ الإْعَارَةِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ، وَمُعَاوَضَةٌ فِي الاِنْتِهَاءِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الاِبْتِدَاءِ لاَ يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ، كَمَا فِي الإْعَارَةِ، إِذْ لاَ جَبْرَ فِي التَّبَرُّعِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الاِنْتِهَاءِ لاَ يَصِحُّ، لأِنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً، وَهُوَ رِبًا .

وَمَعَ اتِّفَاقِ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الأْجَلِ فِي الْقَرْضِ فَاسِدٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ لِلْمُقْرِضِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ هَلْ يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَمْ لاَ؟

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقَرْضُ صَحِيحٌ.

وَالأْجَلُ بَاطِلٌ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شُرِطَ فِي الْقَرْضِ أَجَلٌ نُظِرَ:

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ غَرَضٌ فِي التَّأْجِيلِ (أَيْ مَنْفَعَةٌ لَهُ) لَغَا الشَّرْطُ، وَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّهُ زَادَ فِي الإْرْفَاقِ بِجَرِّهِ الْمَنْفَعَةَ لِلْمُقْتَرِضِ فِيهِ، وَيُنْدَبُ لَهُ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمُقْرِضِ فِيهِ غَرَضٌ، بِأَنْ كَانَ زَمَنَ نَهْبٍ، وَالْمُسْتَقْرِضُ مَلِيءٌ، فَوَجْهَانِ:

أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُفْسِدُ الْقَرْضَ؛ لأِنَّ  فِيهِ جَرَّ مَنْفَعَةٍ لِلْمُقْرِضِ .

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ صِحَّةُ التَّأْجِيلِ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا اشْتُرِطَ الأْجَلُ فِي الْقَرْضِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ رَدُّ الْبَدَلِ قَبْلَ حُلُولِ الأْجَلِ الْمُعَيَّنِ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» .  

ثُمَّ فَرَّعَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا: أَنَّهُ لَوْ رَغِبَ الْمُقْتَرِضُ تَعْجِيلَهُ لِرَبِّهِ قَبْلَ أَجَلِهِ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ؛ لأِنَّ  الْحَقَّ فِي الأْجَلِ لِلْمُقْتَرِضِ فَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ، وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، عَيْنًا كَانَ الْبَدَلُ أَوْ عَرْضًا، أَوْ كَانَ نَفْسَ الْمَالِ الْمُقْتَرَضِ .

هـ - اشْتِرَاطُ رَدِّ مَحَلِّ الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ:

27 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدَّ مَحَلِّ الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ؛ لأِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَفِعَ الْمُقْتَرِضُ بِاسْتِهْلاَكِهِ وَرَدِّ بَدَلِهِ، فَاشْتِرَاطُ رَدِّهِ بِعَيْنِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، بَلْ يَبْقَى صَحِيحًا .

اشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ لِلْمُقْرِضِ:

28- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْقَرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ، بِأَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ بِأَنْ يَزِيدَهُ هَدِيَّةً مِنْ مَالٍ آخَرَ، أَوْ كَانَتْ فِي الصِّفَةِ، بِأَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ، وَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ الرِّبَا .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكُلُّ زِيَادَةٍ فِي سَلَفٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسَلِّفُ فَهِيَ رِبًا، وَلَوْ كَانَتْ قَبْضَةً مِنْ عَلَفٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ إِنْ كَانَ بِشَرْطٍ  وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَلِّفَ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِفِ زِيَادَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ رِبًا .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ مِنَ «النَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا»  أَيْ لِلْمُقْرِضِ.

وَبِأَنَّ مَوْضُوعَ عَقْدِ الْقَرْضِ الإْرْفَاقُ وَالْقُرْبَةُ، فَإِذَا شَرَطَ الْمُقْرِضُ فِيهِ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ خَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِهِ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ؛ لأِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَرْضًا لِلزِّيَادَةِ لاَ لِلإْرْفَاقِ وَالْقُرْبَةِ؛ وَلأِنَّ  الزِّيَادَةَ الْمَشْرُوطَةَ تُشْبِهُ الرِّبَا؛ لأِنَّهَا فَضْلٌ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا وَاجِبٌ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَمِثْلُ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْمُقْرِضِ أَيَّ عَمَلٍ يَجُرُّ إِلَيْهِ نَفْعًا، كَأَنْ يُسْكِنَهُ الْمُقْتَرِضُ دَارَهُ مَجَّانًا، أَوْ يُعِيرَهُ دَابَّتَهُ، أَوْ يَعْمَلَ لَهُ كَذَا، أَوْ يَنْتَفِعَ بِرَهْنِهِ.. إِلَخْ .

وَلاَ يَخْفَى أَنَّ السَّلَفَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا وَجَبَ فَسْخُهُ، وَيُرْجَعُ إِلَى الْمِثْلِ فِي ذَوَاتِ الأْمْثَالِ، وَإِلَى الْقِيمَةِ فِي غَيْرِهَا .

الْهَدِيَّةُ لِلْمُقْرِضِ ذَرِيعَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ:

29 - اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ لِلْمُقْرِضِ قَبْلَ الْوَفَاءِ بِالْقَرْضِ عَلَى أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا): لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهَدِيَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقَرْضُ لِمُقْرِضِهِ، لَكِنَّ الأَْفْضَلَ أَنْ يَتَوَرَّعَ الْمُقْرِضُ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِيهِ لأِجْلِ الْقَرْضِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ لاَ لأِجْلِ الْقَرْضِ، بَلْ لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَتَوَرَّعُ عَنِ الْقَبُولِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مَعْرُوفًا بِالْجُودِ وَالسَّخَاءِ، كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ  فَالْحَالَةُ حَالَةُ الإْشْكَالِ، فَيَتَوَرَّعُ عَنْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْدَى لاَ لأِجْلِ الدَّيْنِ .

(وَالثَّانِي): لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِلْمُقْتَرِضِ أَنْ يُهْدِيَ الدَّائِنَ رَجَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ بِدَيْنِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الدَّائِنِ قَبُولُهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَ الْمَدِينِ ذَلِكَ، لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّأْخِيرِ مُقَابِلَ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ قَائِمَةً وَجَبَ رَدُّهَا، وَإِنْ فَاتَتْ بِمُفَوِّتٍ وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَقِيمَتِهَا يَوْمَ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْمَدِينُ ذَلِكَ وَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، فَلَهُ أَنْ يُهْدِيَ دَائِنَهُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَكِنْ يُكْرَهُ لِذِي الدَّيْنِ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنْ تَحَقَّقَ صِحَّةَ نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، لِئَلاَّ يَكُونَ ذَرِيعَةً لاِسْتِجَازَةِ ذَلِكَ حَيْثُ لاَ يَجُوزُ .

ثُمَّ أَوْضَحَ الْمَالِكِيَّةُ ضَابِطَ الْجَوَازِ حَيْثُ صَحَّتِ النِّيَّةُ وَانْتَفَى الْقَصْدُ الْمَحْظُورُ فَقَالُوا: إِنَّ هَدِيَّةَ الْمِدْيَانِ حَرَامٌ إِلاَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ مِثْلُ الْهَدِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْمُدَايَنَةِ، وَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لأِجْلِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْرُمُ حِينَئِذٍ حَالَةَ الْمُدَايَنَةِ، وَإِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ مُوجِبٌ لِلْهَدِيَّةِ بَعْدَ الْمُدَايَنَةِ، مِنْ صِهَارَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْرُمُ أَيْضًا .

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُ هَدِيَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ بِلاَ شَرْطٍ وَلَوْ فِي الرِّبَوِيِّ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَوْلَى قَبْلَ رَدِّ الْبَدَلِ .

(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِذَا أَهْدَى لِمُقْرِضِهِ هَدِيَّةً قَبْلَ الْوَفَاءِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُقْرِضُ احْتِسَابَهَا مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ مُكَافَأَتَهُ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ، إِلاَّ إِذَا جَرَتْ عَادَةٌ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَرْضِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً بِهِ جَازَ أَمَّا إِذَا أَهْدَاهُ بَعْدَ الْوَفَاءِ - بِلاَ شَرْطٍ وَلاَ مُوَاطَأَةٍ - فَهُوَ جَائِزٌ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ وَلاَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَلاَ إِلَى اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرْضٌ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلاَ يَرْكَبْهَا وَلاَ يَقْبَلْهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ»  وَمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَسْلَفَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ ثَمَرَةِ أَرْضِهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَتَاهُ أُبَيٌّ، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَةً، وَأَنَّهُ لاَ حَاجَةَ لَنَا، فَبِمَ مَنَعْتَ هَدِيَّتَنَا؟ ثُمَّ أَهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَبِلَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَكَانَ رَدُّ عُمَرَ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَدِيَّتُهُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْقَرْضِ قَبِلَهَا، وَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ . وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَّمٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لأِبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: إِنَّكَ فِي أَرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَإِنَّهُ رِبًا .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَكُلُّ ذَلِكَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ .

وَعَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِجَوَازِ الْهَدِيَّةِ غَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ مِنَ الْمُقْتَرِضِ إِلَى الْمُقْرِضِ .

ز - اشْتِرَاطُ عَقْدٍ آخَرَ فِي الْقَرْضِ:

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ صُوَرًا مُتَعَدِّدَةً لاِشْتِرَاطِ عَقْدٍ آخَرَ - كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُسَاقَاةٍ وَقَرْضٍ آخَرَ - فِي عَقْدِ الْقَرْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا فِي الْحُكْمِ، نَظَرًا لِتَفَاوُتِ مُنَافَاتِهَا لِمُقْتَضَى عَقْدِ الْقَرْضِ، وَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ التَّالِيَةِ:

أ - الصُّورَةُ الأْولَى:

30 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يُقْرِضَهُ مَالاً آخَرَ، بِأَنْ قَالَ الْمُقْرِضُ لِلْمُقْتَرِضِ: أَقْرَضْتُكَ كَذَا بِشَرْطِ أَنْ أُقْرِضَكَ غَيْرَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَرْضِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ لاَغٍ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ.

قَالُوا: لأِنَّهُ وَعْدٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَهَبَهُ غَيْرَهُ .

ب - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:

31 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ قَرْضٌ آخَرُ مِنَ الْمُقْتَرِضِ لِمُقْرِضِهِ فِي مُقَابِلِ الْقَرْضِ الأْوَّلِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِأَسْلِفْنِي أُسُلِفْكَ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ، وَعَلَى فَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا ؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي مَذْهَبِهِمْ .

وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ حَوْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ كَرَاهَةُ الْقَرْضِ مَعَ ذَلِكَ الشَّرْطِ .

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْخُلاَصَةِ الْقَرْضُ بِالشَّرْطِ حَرَامٌ وَالشَّرْطُ لَغْوٌ .

ج - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ:

32 - إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَبِيعَهُ الْمُقْرِضُ شَيْئًا، أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ، أَوْ يُؤَجِّرَهُ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الاِشْتِرَاطِ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  قَالَ: «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ» .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَحَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى الرِّبْحِ فِي السَّلَفِ بِأَخْذِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَالتَّوَسُّلِ إِلَى ذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوِ الإْجَارَةِ  كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ   وَقَالَ: وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْبَيْعُ؛ فَلأِنَّهُ إِذَا أَقْرَضَهُ مِائَةً إِلَى سَنَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ بِمِائَةٍ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْبَيْعَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ، وَلَوْلاَ هَذَا الْبَيْعُ لَمَا أَقْرَضَهُ، وَلَوْلاَ عَقْدُ الْقَرْضِ لَمَا اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ  ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا .

وَلأِنَّ هُمَا جَعَلاَ رِفْقَ الْقَرْضِ ثَمَنًا، وَالشَّرْطُ لَغْوٌ، فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ بَعْضُ الثَّمَنِ، وَيَصِيرُ الْبَاقِي مَجْهُولاً، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ عَلَى أَنْ يُحَابِيَهُ فِي الثَّمَنِ، فَيَدْخُلُ الثَّمَنُ فِي حَدِّ الْجَهَالَةِ .

وَلأِنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَارَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الآْخَرُ دَارَهُ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَارَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَتِهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارَ الْمُقْرِضِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهَا كَانَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ .

وَلأِنَّ  الْقَرْضَ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عُقُودِ الْبِرِّ وَالْمُكَارَمَةِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِوَضٌ، فَإِنْ قَارَنَ الْقَرْضَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الْعِوَضِ، فَخَرَجَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، فَبَطَلَ وَبَطَلَ مَا قَارَنَهُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَرْضُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ فَهُوَ غَيْرُ لاَزِمٍ لِلْمُقْرِضِ، وَالْبَيْعُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ - كَالإْجَارَةِ   وَالنِّكَاحِ - لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لِتَنَافِي حُكْمَيْهِمَا .

33 - وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ شِرَاءُ الْمُقْتَرِضِ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنَ الْمُقْرِضِ بِثَمَنٍ غَالٍ لِحَاجَتِهِ لِلْقَرْضِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ وَيُكْرَهُ، وَقَدْ عَلَّقَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: أَيْ يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَهَذَا لَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ بَعْدَ الْقَرْضِ، لِمَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْعُ مَشْرُوطًا فِي الْقَرْضِ، وَلَكِنِ اشْتَرَى الْمُسْتَقْرِضُ مِنَ الْمُقْرِضِ بَعْدَ الْقَرْضِ مَتَاعًا بِثَمَنٍ غَالٍ.

فَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ الْخَصَّافُ: مَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ: إِنَّهُ حَرَامٌ؛ لأِنَّهُ يَقُولُ لَوْ لَمْ أَكُنِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ طَالَبَنِي بِالْقَرْضِ فِي الْحَالِ، وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: مَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهَذَا إِذَا تَقَدَّمَ الإْقْرَاضُ عَلَى الْبَيْعِ.

فَإِنْ تَقَدَّمَ الْبَيْعُ - بِأَنْ بَاعَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ الْمُعَامَلَةُ مِنَ الطَّالِبِ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا، ثُمَّ أَقْرَضَهُ سِتِّينَ دِينَارًا أُخْرَى، حَتَّى صَارَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِائَةُ دِينَارٍ، وَحَصَلَ لِلْمُسْتَقْرِضِ ثَمَانُونَ دِينَارًا - ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ إِمَامِ بَلْخٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، إِذْ لَوْلاَهُ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْمُسْتَقْرِضُ غَلاَءَ الثَّمَنِ، وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، لأِنَّ  الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ، فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا، فَكَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْقَرْضِ، وَكَانَ شَمْسُ الأْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِقَوْلِ الْخَصَّافِ وَابْنِ سَلَمَةَ، وَيَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِقَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، بَلْ هَذَا بَيْعٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَهِيَ الْقَرْضُ .

ح - اشْتِرَاطُ الْجُعْلِ عَلَى الاِقْتِرَاضِ بِالْجَاهِ:

34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنِ اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِهِ بِجَاهِهِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ جُعْلاً ثَمَنًا لِجَاهِهِ أَمْ لاَ؟

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْتَرِضْ لِي مِائَةً وَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ فَهُوَ جَعَالَةٌ .

وَقَالَ الإْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ بِجَاهِهِ لإِخْوَانِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يَعْنِي إِذَا كَانَ مَنْ يُقْتَرَضُ لَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَفَاءِ، لِكَوْنِهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ الْمُقْرِضِ وَإِضْرَارًا بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْوَفَاءِ فَلاَ يُكْرَهُ؛ لِكَوْنِهِ إِعَانَةً لَهُ وَتَفْرِيجًا لِكُرْبَتِهِ .

وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا اسْتَقْرَضَ الإْنْسَانُ  لِغَيْرِهِ بِجَاهِهِ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَهُ أَخْذُ جُعْلٍ مِنْهُ مُقَابِلَ اقْتِرَاضِهِ لَهُ بِجَاهِهِ، بِخِلاَفِ أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى كَفَالَتِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ  قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ قَالَ: اقْتَرِضْ لِي مِنْ فُلاَنٍ مِائَةً، وَلَكَ عَشَرَةٌ، فَلاَ بَأْسَ، وَلَوْ قَالَ: اكْفُلْ عَنِّي وَلَكَ أَلْفٌ لَمْ يَجُزْ، وَذَلِكَ لأِنَّ  قَوْلَهُ اقْتَرِضْ لِي وَلَكَ عَشَرَةٌ جَعَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَجَازَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: ابْنِ لِي هَذَا الْحَائِطَ وَلَكَ عَشَرَةٌ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، فَإِذَا أَدَّاهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ مِثْلُهُ، فَصَارَ كَالْقَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا صَارَ الْقَرْضُ جَارًّا لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجُزْ .

وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي ثَمَنِ الْجَاهِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا، وَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ بِإِطْلاَقٍ، وَمِنْ مُفَصِّلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْجَاهِ يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَتَعَبٍ وَسَفَرٍ، فَأَخَذَ مِثْلَ أَجْرِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِلاَّ حَرُمَ، قَالَ التَّسَوُّلِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ .

 


الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / السادس والثلاوثون  ، الصفحة /  112

عَقْدُ الْقَرْضِ :

5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ فِي الأْمْوَالِ  الْمِثْلِيَّةِ لأِنَّ  الْقَرْضَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمِثْلِ وَهَذَا مُيَسَّرٌ فِي الأْمْوَالِ  الْمِثْلِيَّةِ مِنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَكَذَا الْعَدَدِيَّاتُ وَالْمَذْرُوعَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ الَّتِي يُمْكِنُ ضَبْطُهَا . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَرْضِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، إِلَى جَوَازِ قَرْضِ كُلِّ مَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ مِنْ عَرَضٍ وَحَيَوَانٍ وَمِثْلِيٍّ وَذَلِكَ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الأْثَرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا» أَيْ ثَنِيًّا مِنَ الإْبِلِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ وَلاَ مَكِيلٍ.

وَاسْتَثْنَى الْجُمْهُورُ مِنْ جَوَازِ قَرْضِ كُلِّ مَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ الْجَارِيَةَ الَّتِي تَحِلُّ لِلْمُقْتَرِضِ، فَلاَ يَصِحُّ قَرْضُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى إِعَارَةِ الْجَوَارِي لِلْوَطْءِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.

أَمَّا مَا لاَ يُسْلَمُ فِيهِ، فَلاَ يَجُوزُ إِقْرَاضُهُ عِنْدَهُمْ لأِنَّ  مَا لاَ يَنْضَبِطُ أَوْ يَنْدُرُ وُجُودُهُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ رَدُّ مِثْلِهِ .

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْقَرْضُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ، كَحَيَوَانٍ وَحَطَبٍ وَعَقَارٍ وَكُلِّ مُتَفَاوِتٍ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى عَقْدِ الْقَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْقَرْضُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ .

وَنُقِلَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ عَارِيَّةٌ، أَيْ أَنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنَ الأْمْوَالِ  غَيْرِ الْمِثْلِيَّةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَارِيَّةِ فَيَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَرْضٌ ف 14).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والأربعون ، الصفحة / 192

إِقْرَاضُ النُّقُودِ:

40 - يَجُوزُ إِقْرَاضُ النُّقُودِ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَهَبِيَّةً أَوْ فِضِّيَّةً أَوْ فُلُوسًا.

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ يَرُدَّ صِحَاحًا عَنْ مُكَسَّرَةٍ. فَإِنْ رَدَّ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه :«خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»  قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَلَوْ نَوَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَوْ لِمَنْ عُرِفَ بِالرَّدِّ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْحُرْمَةِ .

وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأْشْبَاهِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَعُرِفَ ذَلِكَ عَنْهُ فَلاَ يَحْرُمُ إِقْرَاضُهُ عَلَى الأْصَحِّ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ .

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (قَرْض ف 24 وَمَا بَعْدَهَا).

 


___________________________________________________________________

كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله )محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية(بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية  1891 افرنجيه

(مادة 686)
القرض هو أن يدفع شخص لآخر عيناً معلومة من الأعيان المثلية التي تستهلك بالانتفاع بها ليرد مثلها.

( مادة 688)

 يصح القرض في الأعيان المثلية وهي التي لا تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلف به قيمتها كالمكیلات والموزونات والمعدودات المتقاربة.

( مادة 689)

لا يصح القرض في القيميات وهي التي تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلف به قيمتها.

( مادة 692)

 يجب على المستقرض رد مثل الأعيان المقترضة قدراً وصفاً.

( مادة 698)

 اذا استقرض عدة أشخاص مبلغاً من النقود واستولاه أحدهم بأمرهم من المقرض فليس له أن يطلب من القابض سوی حصته.

( مادة 699)

اذا استقرض صبي محجور عليه شيئأ فاستهلكه الصبي فعليه ضمانه فإن تلف الشيء نفسه فلا ضمان عليه وإن كانت عينه باقية فللمقرض استردادها.

المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الرابع ، الصفحة : 186

مذكرة المشروع التمهيدي :

1 - صيغت النصوص (466 – 468) المتعلقة ببيع ملك الغير في المشروع بحيث تنتفي وجوه اللبس التي أثيرت بالنسبة لنصوص التقنين الحالي ، وذلك فيما يأتي :

(1) نص المشروع صراحة (م 632 فقرة أولى ) على أن بطلان بيع ملك الغير بطلان تقرر لمصلحة المشتري دون غيره، والبطلان هنا خاص أنشأه النص ( قارن المشروع الفرنسي الإيطالي م 334 حيث بني البطلان على الغلط ) . ويلاحظ أن البطلان لا يكون إلا إذا كان المبيع شيئاً معيناً بالذات، وقد صرح المشروع بذلك ( Hنظر أيضاً التقنين اللبناني م 385 فقرة أولى ).

(2) ميز المشروع تمييزاً دقيقاً بين حكم بيع ملك الغير فيما بين المتعاقدين، وهو البطلان، وحكمه بالنسبة للمالك الحقيقي، وهو عدم سريان العقد في حقه حتى لو أجاز المشترى (م 632 فقرة 2 من المشروع).

(3) ميز المشروع تمييزاً دقيقاً كذلك بين إجازة المشتري، وهذه أثرها مقصور على تصحيح العقد، وإجازة المالك الحقيقي، وأثرها لا يترتب عليه تصحيح العقد وحده، بل كذلك سريانه، في حق هذا المالك (م 633 فقرة 1 من المشروع )، ويضيف المشروع (633 فقرة 2) أن انتقال ملكية المبيع إلى البائع بعد صدور العقد يصحح البطلان، فتنتقل الملكية من البائع إلى المشتري .

(4) حسم المشروع خلافاً فيما يتعلق بحكم بيع ملك الغير إذا كان العقد لم يسجل، فذكر أن البيع باطل قبل التسجيل و بعده (م 632 فقرة أولى )، ولا يجوز القول بغير ذلك ، فإن التسجيل لا يبطل عقداً صحيحاً ولا يصحح عقداً باطلاً .

(5) أزال المشروع غموضاً فيما يتعلق بحق المشترى حسن النية في التعويض إذا حكم بإبطال البيع، فذكر صراحة أن هذا الحق يثبت له حتى لو كان البائع حسن النية (م 634 من المشروع)، وليس في هذا الحكم إلا تطبيق تشریعی لقاعدة الخطأ عند تكوين العقد.

هذا ولم ير المشروع محلاً لإيراد حكم المادة 330 من التقنين المختلط، وهي الخاصة بتعهد شخص ينقل ملكية شيء معين، لأنها مجرد تطبيق للمبادىء العامة، وقد أغفلها التقنين الأهلي من قبل .

2 - وتلاحظ الصلة الوثيقة بين بيع ملك الغير وضمان الاستحقاق، فإن الاستحقاق، إذا كان كلياً، كان هذا هو بيع ملك الغير، إذ يكون قد اتضح أن البائع قد باع شيئاً ملوكاً لأجنبي، ولذلك تكون أحكام ضمان الاستحقاق مكملة لأحكام بيع ملك الغير، ويترتب على ذلك أن المشتري، في بيع ملك الغير، يكون بالخيار، إذا استحق المبيع في يده، بين فسخ البيع أو إبطاله أو الرجوع بضمان الاستحقاق، ويلاحظ أنه إذا اختار الفسخ فليس له أن يطالب البائع حسن النية بتعويض يستطيع أن يطالبه به لو اختار إبطال العقد.

المشروع في لجنة المراجعة :

تليت المادة 632 من المشروع .

واقترح معالي السنهوري باشا إبدال عبارة (ولم يسجل العقد)، الواردة في نهاية الفقرة الأولى بعبارة (سجل العقد أو لم يسجل) لأن أحكام الفقه اختلفت في حكم بيع ملك الغير فرئى الاحتياط بالنص عليه صراحة، فوافقت اللجنة وأصبح النص النهائي ما يأتي :

1 - إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات وهو لا يملكه جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع، ويكون الأمر كذلك ولو وقع البيع على عقار سجل العقد أو لم يسجل .

2 - وفي كل حال لايسرى هذا البيع في حق المالك للعين المبيعة حتى لو أجاز المشتري العقد .

وأصبح رقمها 493 في المشروع النهائي .

المشروع في مجلس النواب

وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 493.

المشروع في مجلس الشيوخ

مناقشات لجنة القانون المدني :

وافقت اللجنة على المادة مع تغيير كلمتي "حتى لو" إلى "ولو"، في الفقرة الثانية وأصبح رقها 466 .

مناقشات المجلس :

وافق المجلس على المادة كما أقرتها اللجنة . 

الأحكام

1- مؤدى نص المادة 466 والفقرة الأولى من المادة 467 من القانون المدني أن بيع ملك الغير تصرف قابل للإبطال لمصلحة المشترى وحده ، وإذا لم يقره المالك الحقيقي يكون غير نافذ في حقه ولا تنتقل منه الملكية إلى المشترى ولو أجاز الأخير البيع فانقلب صحيحًا ، ويترتب على ذلك أنه إذا سلم البائع المبيع إلى المشترى فإن المالك يستطيع أن يرجع على المشترى بدعوى الاستحقاق ، وأن يرجع على البائع بدعوى التعويض  .

( الطعن رقم 7220 لسنة 86 ق - جلسة 13 / 10 / 2019 )

2 ـ تنص المادة 466 من القانون المدنى فى فقرتها الأولى على أنه " إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات لا يملكه جاز للمشترى أن يطلب إبطال العقد " و بفقرتها الثانية على أنه " و فى كل حال لا يسرى هذا البيع فى حق المالك للعين المبيعة و لو أجاز المشترى العقد " و إذ كان بيع الوارث الظاهر هو بيع لملك الغير و كانت عبارة النص واضحة فى عدم سريان بيع ملك الغير فى حق المالك ، فإنه لا يجوز الخروج عن صريح النص بدعوى إستقرار المعاملات ، يؤكد هذا النظر أن القانون عندما أراد حماية الأوضاع الظاهرة وضع لها نصوصاً إستثنائية يقتصر تطبيقها على الحالات التى وردت فيها ، فقد نص القانون المدنى فى المادة 244 على أنه " إذا أبرم عقد صورى فلدائنى المتعاقدين و للخلف الخاص ، متى كانوا حسنى النية أن يتمسكوا بالعقد الصورى كما أن لهم أن يتمسكوا بالعقد المستتر و يثبتوا بجميع الوسائل صورية العقد الذى أضر بهم ، و إذا تعارضت مصالح ذوى الشأن فتمسك بعضهم بالعقد الظاهر و يمسك آخرون بالعقد المستتر ، و كانت الأفضلية للأولين " و بالمادة 333 على أنه " إذا كان الوفاء لشخص غير الدائن أو نائبة ، فلا تبرأ ذمة المدين إلا إذا أقر الدائن هذا الوفاء أوعدت عليه منفعة منه ، و بقدر هذه المنفعة ، أو تم الوفاء بحسن نية لشخص كان الدين فى حيازته " و فى المادة 1034 على أنه " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذى تقرر إبطال سند ملكيتة أو فسخة أو إلغائه أو زواله لأى سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية فى الوقت الذى أبرم فيه العقد " . إذ كان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه على أن بيع الوارث الظاهر صحيح نافذ فى حق الوارث الحقيقى , فإنه يكون قد خالف القانون .

(الطعن رقم 401 لسنة 43 جلسة 1979/03/29 س 30 ع 1 ص 980 ق 181)

3 ـ إذ كان الحكم المطعون فيه قد خلص فى أسباب قضائه برفض طلب الطاعنين محو التسجيل موضوع العقد المشهر برقم 2758 لسنة 2003 شهر عقارى إمبابة إلى أن الشركة البائعة فى العقد المسجل " المطعون ضدها الرابعة " كان قد سبق لها ، وأن باعت الأرض للمدعين " الطاعنين " بعقود عرفية لم تسجل ثم باعتها للبنك المطعون ضده الأول بناء على العقد المسجل سالف الإشارة إليه الأمر الذى يستفاد منه أن العقود الابتدائية الصادرة لصالحهم من الشركة البائعة وهى مجرد عقود عرفية لا ترتب سوى التزامات شخصية معها وتكون الأفضلية عند التزاحم مع عقد شراء البنك المطعون ضده الأول والمشترى من ذات الشركة للعقد المسجل وحده وهو العقد الصادر لصالح الأخير ، كما خلص الحكم رداً على ما أثير من نعى ببطلان العقد سالف الإشارة إليه باعتباره بيعاً لملك الغير ، ذلك أن المشترى فى العقد المسجل هو بنك القاهرة وهو وحده صاحب الحق فى دعوى الإبطال الواردة فى المادة 466 من القانون المدنى ، وكانت الملكية ثابتة بالفعل للشركة البائعة له ، وإن كانت قد تصرفت سابقاً بالبيع للطاعنين الأول والثانى إلا أن عقودهما عرفية لا يعتد بها بما لا يجوز التمسك بهذا البطلان إلا للمالك الحقيقى وهو المشترى بموجب العقد المسجل سالف البيان .

(الطعن رقم 13544 لسنة 81 جلسة 2013/12/26)

4 ـ لئن كان من المقرر عملاً بالمادة 466 من القانون المدنى أنه إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات وهو لا يملكه ، جاز للمشترى أن يطلب إبطال البيع ، ولا يسرى هذا البيع فى حق المالك للعين المبيعة ، إلا أنه إذا أقر المالك البيع سرى العقد فى حقه وانقلب صحيحاً فى حق المشترى على ما تقضى به الفقرة الأولى من المادة 467 من ذات القانون .

(الطعن رقم 725 لسنة 72 جلسة 2003/03/12 س 54 ع 1 ص 462 ق 81)

5 ـ الفقرة الأولى من المادة 466 من القانون المدنى تنص على أنه إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات لا يملكه جاز للمشترى أن يطلب إبطال البيع ، و أن المادة 485 من القانون المدنى تنص على أنه يسرى على المقايضة أحكام البيع بالقدر الذى تسمح به طبيعة المقايضة و يعتبر كل من المتقايضين بائعاً للشىء الذى قايض به و مشترياً للشىء الذى قايض عليه ، كما حددت الفقرة الأولى من المادة 140 من القانون المدنى مدة سقوط الحق فى الإبطال فى حالات حددتها على سبيل الحصر و هى حالات نقص الأهلية و الغلط و التدليس و الإكراه بثلاث سنوات أما فى غير هذه الحالات فإن مدة تقادم الحق فى إبطال العقد وعلى ما إستقر عليه قضاء هذه المحكمة لا تتم إلا بمضى خمسة عشر سنة من تاريخ إبرام العقد.

(الطعن رقم 841 لسنة 51 جلسة 1985/06/30 س 36 ع 2 ص 922 ق 191)

6 ـ تنص المادة 466 من القانون المدنى فى فقرتها الأولى على أنه " إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات و هو لا يملكه جاز للمشترى أن يطلب إبطال العقد " ، كما تقضى الفقرة الثانية بعدم سريان هذا البيع فى حق المالك للعين المبيعة ، و إذ كان الطاعن قد أقام دعواه أمام محكمة أول درجة طالباً الحكم بإبطال عقد البيع الصادر من المطعون عليه الأول إلى المطعون عليهما الثانى و الثالث إستناداً إلى أن الأطيان المبيعة ملك الطاعن دون البائع و تمسك الطاعن فى صحيفة دعواه بنص المادة المذكورة بفقرتيها ، فإن التكييف القانونى السليم للدعوى هو أنها أقيمت بطلب الحكم بعدم سريان العقد محل النزاع فى حق الطاعن ، و إذ كيف الحكم المطعون فيه الدعوى بأنها دعوى إبطال عقد البيع و ذهب إلى أن طلب عدم سريان البيع بالنسبة للطاعن هو طلب جديد لا يقبل فى الإستئناف لعدم تقديمه إلى محكمة الدرجة الأولى فإنه يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون .

(الطعن رقم 120 لسنة 39 جلسة 1977/11/10 س 28 ع 2 ص 1659 ق 285)

7 ـ الفقرة الأولى من المادة 466 من القانون المدني تنص على أن "إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات وهو لا يملكه جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع......." وتنص الفقرة الأولى من المادة 140 من القانون ذاته على أن "يسقط الحق فى إبطال العقد إذا لم يتمسك به صاحبه خلال ثلاث سنوات"، مما مؤداه أن للمشتري - وخلفه العام من بعده - طلب إبطال عقد البيع إذا تبين أن البائع له لا يملك المبيع وتسقط الدعوى بهذا الطلب بإنقضاء ثلاث سنوات من وقت علم المشتري أو خلفه بأن البائع لا يملك المبيع.

(الطعن رقم 2383 لسنة 67 جلسة 1999/06/08 س 50 ع 2 ص 803 ق 158)

8 ـ التملك بالتقادم الخمسى يستلزم أن يكون السبب الصحيح الذى يستند إليه الحائز سنداً صادراً من غير مالك فإذا كان الحكم المطعون فيه قد إنتهى إلى أن المساحة الزائدة فى أرض الطاعنين لا يشملها عقد البيع الصادر إليهم من البائع لهم فلا يمكن إعتبار هذا العقد سبباً صحيحاً بالنسبة لهذه المساحة وإنما يعتبر الطاعنون غاصبين لها ولا يستفيدون من التقادم الخمسى .

(الطعن رقم 319 لسنة 33 جلسة 1967/05/18 س 18 ع 2 ص 1030 ق 154)

9 ـ بطلان بيع ملك الغير مقرر لصالح المشترى فيما لم بستعمله بالفعل بقى عقد البيع قائماً منتجاً لآثاره تثبت فيه الشفعة ثبوتاً فى كل بيع تم مستوفياً لأركانه و لو حمل سبباً لبطلانه و يحل فيه الشفيع محل المشفوع منه فى جميع حقوقه و إلتزاماته لا يملك تعديله أو تبعيض محله ، و لو تبين أن المبيع كله أو بعضه مملوك للغير مما محله الرجوع على البائع لا تفريق الصفقة . و لما كان ذلك ، و كان الحكم المطعون فيه قد قضى بالأحقية فى الشفعة مقصورة على بعض المبيع و حمل قضاءه على ما أنبأ به من أن البائعة لا تملك مما بيع غير مساحة ..... و أن البيع فيما خلا ذلك قد وقع على ما يملكه الغير مما هو غير جائز إلا بأجازته ، و لم يجزه . فلا تجوز الشفعة فيه فإنه يكون قد خالف القانون و أخطأ فى تطبيقه .

(الطعن رقم 961 لسنة 47 جلسة 1979/01/10 س30 ع 1 ص 173 ق 43)

10 ـ لئن كان صحيحاً أن تسجيل عقد البيع لا ينقل الملكية إلى المشترى إلا إذا كان البائع مالكاً لما باعه إلا أن بيع ملك الغير قابل للإبطال لمصلحة المشترى وحده و لا يسرى فى حق المالك الحقيقى و لهذا المالك أن يقر البيع فى أى وقت فيسرى عندئذ فى حقه و ينقلب صحيحاً فى حق المشترى . كما ينقلب العقد صحيحاً فى حق المشترى إذا آلت ملكية المبيع إلى البائع بعد صدور العقد . فإذا كان الطاعنون - ورثة المشترى فى عقد بيع ملك الغير - قد طلبوا ثبوت ملكيتهم إستنادا إلى هذا العقد المسجل فإنهم يكونون بذلك قد أجازوا العقد و لا يكون بعد لغير المالك الحقيقى أن يعترض على هذا البيع و يطلب عدم سريانه فى حقه و من ثم فلا يكفى لعدم إجابة الطاعنين إلى طلبهم أن يثبت المدعى عليهم المنازعون لهم أن البائع لمورث الطاعنين غير مالك لما بأعه بل يجب أن يثبتوا أيضا أنهم هم أو البائع لهم الملاك لهذا البيع إذ لو كان المالك سواهم لما قبلت منهم هذه المنازعة .

(الطعن رقم 189 لسنة 33 جلسة1968/04/18 س 19 ع 2 ص 780 ق 113)

11 ـ لما كان عقد البيع يرتب فى ذمة البائع التزاما بنقل ملكية المبيع إلى المشترى وكان بيع ملك الغير لا يؤدى لذلك لأن فاقد الشئ لا يعطيه فقد أجاز المشرع فى المادة1/466من القانون المدنى للمشترى دون غيره طلب إبطال هذا البيع من غير أن ينتظر حتى يتعرض له المالك الحقيقى فعلا برفع دعوى الضمان على البائع إلا أن هذا الحق للمشترى لا ينهض له ما يبرره إذا ما أقر المالك الحقيقى البيع حيث يترتب عليه نقل الملكية منه إلى المشترى وكذلك فى حالة صيرورة البائع مالكا للمبيع بعد العقد وهو ما قننته المادة467من القانون المدنى بفقرتها إذ فى هاتين الحالتين زال العائق الذى كان يحول دون نقل الملكية إلى المشترى بهذا البيع، مما ينبنى عليه كذلك أنه إذا أصبح انتقال الملكية إلى البائع ممكنا فإن إبطال البيع فى هذه الحالة يتعارض مع المبدأ القاضى بتحريم التعسف فى استعمال حق الإبطال إذ لم يعد للمشترى مصلحة بعد ذلك فى التمسك بالإبطال.

(الطعن رقم 3552 لسنة 58 جلسة 1996/04/18 س 47 ع 1 ص 674 ق 126)

12 ـ متى كان الحكم المطعون فيه قد بنى قضاءه برد ما دفعه المطعون عليهما من ثمن الأطيان المبيعة لهما من الطاعن الذي آلت إليه بمقتضى عقد مقايضة بينه وبين المتصرف [الخاضع لأحكام قانون الإصلاح الزراعي] وببطلان عقد البيع بدعوى وقوعه على ملك الغير، تأسيساً على أنه لم يثبت أن المتصرف الصادر منه عقد البدل للبائع قد اختار هذه الأطيان ضمن ما اختاره من أملاكه دون أن يتثبت الحكم من أن هذه الأطيان قد استولى عليها من جهة الإصلاح الزراعي، وكان ما استند إليه الحكم لا يفيد بذاته أن القدر المتبادل عليه الذي بيع للمطعون عليهما يدخل فيما استولى عليه، فإن الحكم يكون قد خالف القانون وشابه قصور مما يستوجب نقضه.

(الطعن رقم 325 لسنة 26 جلسة 1962/05/03 س 13 ع 1 ص 565 ق 85)

13 ـ  لئن كان بيع الشريك المشتاع لقدر مفرز من نصيبه لا ينفذ فى حق باقى الشركاء بل يظل معلقاً على نتيجة القسمة ، إلا أنه يعتبر صحيحاً و نافذاً فى حق الشريك البائع و منتجاً لآثاره القانونية على نفس المحل المفرز المتصرف فيه قبل القسمة أما بعد القسمة فإستقرار التصرف على ذات المحل رهين بوقوعه فى نصيب الشريك البائع فإن وقع فى غير نصيبه ورد التصرف على الجزء الذى يقع فى نصيبه نتيجة للقسمة . و ينبنى على ذلك أنه إذا سجل المشترى لقدر مفرز من الشريك المشتاع عقد شرائه ، إنتقلت إليه ملكية هذا القدر المفرز فى مواجهة البائع له فى فترة ما قبل القسمة بحيث يمتنع على البائع التصرف فى هذا القدر إلى الغير ، فإن تصرف فيه كان بائعاً لملك الغير فلا يسرى هذا البيع فى حق المالك الحقيقى و هو المشترى الأول الذى إنتقلت إليه ملكية هذا القدر من وقت تسجيل عقد شرائه .

(الطعن رقم 182 لسنة 40 جلسة 1975/02/17 س 26 ع 1 ص 402 ق 83)

14 ـ بطلان بيع ملك الغير - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - مقرر لمصلحة المشترى ، و له دون غيره أن يطلب إبطال العقد ، كما له أن يجيزه ، و إذا طالب البائع بتنفيذ إلتزاماته يعد هذا إجازة منه للعقد ، و لما كان الطاعن رغم علمه بعدم ملكية المطعون عليهم و مورثهم من قبلهم لقطعة الأرض الثانية طلب رفض دعوى فسخ العقد بالنسبة لهذه الأرض ، فيكون قد أجاز العقد و يحق مطالبته بتنفيذ إلتزاماته الناشئة عنه .

(الطعن رقم 1972 لسنة 49 جلسة 1983/04/20 س 34 ع 1 ص 1022 ق 204)

15 ـ لا يمثل البائع المشترى منه فيما يقوم على العقار المبيع من نزاع بعد تسجيل عقد البيع ومن ثم فالحكم الصادر ضد بالبائع بإعتباره غير مالك للعين المبيعة لا يعتبر حجة على المشترى الذى سجل عقد شرائه قبل صدور هذا الحكم ولم يختصم فى الدعوى .

(الطعن رقم 330 لسنة 30 جلسة 1965/10/28 س 16 ع 3 ص 929 ق 147)

16 ـ اذا كانت الواقعة التي لا نزاع فيها بين طرفي الخصوم هي أن المدعى عليه تبادل فى أطيان مع المدعية (مصلحة الأملاك) فأعطاها فيما أعطى أرضاً تبين لها وقت التسليم أنه كان قد تصرف فيها بالبيع منذ ثلاث سنوات سابقة على البدل، فهذه الواقعة هي بيع من غير مالك. وإذن فدعوى المطالبة بقيمة الأطيان الناقصة يجب أن يكون أساسها التضمين عن بيع ملك الغير. ولكن إذا كان المفهوم من الحكم أنه قد اعتبر الدعوى من أحوال الاستحقاق فطبق فيها المادة 312 مدني وقضى بإلزام المدعى عليه بقيمة ما نقص من مقابل البدل فإن هذا الحكم يكون خاطئاً فى السبب القانوني الذي بنى عليه. إلا أن هذا الخطأ لا يقبل الطعن به ما دامت النتيجة التي انتهى إليها الحكم صحيحة، إذ أن المادة الواجبة التطبيق (وهى المادة 265) تنص على إلزام البائع بالتضمينات، وهذه لا يمكن أن تكون أقل من الثمن المدفوع وقت التعاقد.

(الطعن رقم 45 لسنة 9 جلسة 1940/03/14 س ع ع 3 ص 133 ق 43)

17 ـ إنه و إن كان لا يجوز طلب إبطال بيع ملك الغير إلا للمشترى دون البائع له إلا أن المالك الحقيقى يكفيه أن يتمسك بعدم نفاذ هذا التصرف فى حقه أصلاً إذا كان العقد قد سجل أما إذا كانت الملكية مازالت باقية للمالك الحقيقى لعدم تسجيل عقد البيع فإنه يكفيه أن يطلب طرد المشترى من غيره لأن يده تكون غير مستندة إلى تصرف نافذ فى مواجهته و أن يطلب الريع عن المدة التى وضع المشترى فيها يده على ملك غير البائع له . إذ كان ذلك ، و كان هذا هو عين ما طلبه الطاعنون فى الدعوى فإن الحكم المطعون فيه إذ رفض طلباتهم على أساس أنه كان يتعين عليهم أن يطلبوا الحكم بإسترداد العقار أولاً دون أن يتصدى لبحث عناصر دعواهم و ما إذا كانت ملكيتهم للقدر المطالب بطرد المطعون ضده منه و بريعه ثابتة من عدمه فإنه يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون و شابه قصور فى التسبيب .

(الطعن رقم 98 لسنة 46 جلسة 1979/01/24 س 30 ع 1 ص 363 ق 71)

18 ـ عقد بيع ملك الغير - إلى أن يتقرر بطلانه بناء على طلب المشترى - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - يبقى قائماً منتجاً لآثاره بحيث يكون للمشترى أن يطالب البائع بتنفيذ ما يترتب على العقد بمجرد إنعقاده و قبل تسجيله من حقوق و إلتزامات شخصية ، و تنتقل هذه الحقوق و تلك الإلتزامات من كل من الطرفين إلى وارثه ، فيلتزم وارث البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشترى أو إلى وارثه ، كما يلتزم بضمان عدم التعرض للمشترى فى الإنتفاع بالمبيع أو منازعته فيه .... و هذا البيع ينقلب صحيحاً فى حق - المشترى - بأيلولة ملكية المبيع إلى - البائع أو ورثته - بعد صدور العقد عملاً بنص الفقرة الثانية من المادة 467 من القانون المدنى.

(الطعن رقم 1618 لسنة 50 جلسة 1985/12/25 س 36 ع 2 ص 1192 ق 245)

19 ـ من المقرر تطبيقاً لنص المادتين 466، 467 من القانون المدني أن بيع ملك الغير غير نافذ فى حق المالك الحقيقي الذي لم يجزه وأن بطلانه مقرر لمصلحة المشترى وحده فلا يكون لغيره أن يطلب إبطاله وطالما لم يطلب البطلان صاحب الحق فيه فإن عقد البيع يبقى قائماً منتجاً لآثارة بين طرفيه بل ينقلب العقد صحيحاً فى حق المشترى إذا آلت ملكيه المبيع إلى البائع. بعد صدور العقد ومن ثم فإن من مقتضى تمسك المشترين بقيام العقد فى بيع ملك الغير يظل العقد صحيحاً منتجاً لآثارة القانونية بين المتعاقدين ومن بينها التزام البائع بضمان عدم التعرض وهو التزام أبدى لا يسقط عنه فلا يقبل من هذا البائع إذا ما تملك البيع بطريق الإرث بعد إبرام العقد أن يطلب فى مواجهة المشترى بثبوت هذه الملكية وتسليمه المبيع لما فى ذلك من مناقضة وإخلال بالتزامه بالضمان.

(الطعن رقم 1920 لسنة 55 جلسة 1988/06/16 س 39 ع 2 ص 1051 ق 174)

20 ـ إذ كان الحكم المطعون فيه قد انتهى إلى خطأ الطاعنين الأول والثانى بما أورده بمدوناته " فإذا كان ما تقدم وقام المستأنف عليه الأول – الطاعن الأول – بمخالفة شروط ترخيص بناء هذه الأرض حال كون المستأنفة – المطعون ضدها – آنذاك تعمل بالخارج بالمملكة السعودية مما دعا قلم التنظيم بحى أول طنطا إلى تحرير محضر بتلك المخالفة برقم ..... قضى فيها بحبس كل منهما ثلاثة أشهر مع الشغل ، وحين استأنفت هذا القضاء قضى ببراءتها مما أسند إليها ، ثم قام بعد ذلك باغتصاب كامل العقار وتصرف فيه بالبيع لشقيقه المستأنف عليه الثانى – الطاعن الثانى – فحرر له عقداً بذلك مؤرخاً 1/4/1995 فاستحصل الأخير بشأنه على حكم بصحة توقيع المستأنف عليه الأول – الطاعن الأول – كبائع بالدعوى رقم .... لسنة 1995 كلى مدنى طنطا حيث مثل بجلسة 30/4/1995 وأقر قضائياً بصحة توقيعه على عقد بيعه لكامل العقار لشقيقه المستأنف عليه الثانى – الطاعن الثانى - فباع بذلك ملك غيره على خلاف الواقع ، ثم تمادى فى مسلسل اغتصابه لحق المستأنفة – المطعون ضدها – ومنعها من الانتفاع بملكها مما دعاها إلى تحرير محضر بتلك الواقعة تحت رقم .... لسنة 1998 إدارى قسم أول طنطا وقد صدر قرار النيابة بتمكينها من الانتفاع وحيازة العقار فكان ذلك مجتمعاً من المستأنف عليه الأول والثانى – الطاعنين – خطأ يوجب مسئوليتهما عما ينشأ عنه من أضرار أصابت المستأنفة ." وإذ كانت هذه الأفعال التى ساقها الحكم المطعون فيه بمدوناته على النحو سالف البيان تمثل بحق خطأ فى جانب الطاعن الأول إلا أنها لا تعد كذلك بالنسبة للطاعن الثانى ، ولا ينال من ذلك قيام الأخير بشراء نصيب المطعون ضدها فى عقار النزاع من شقيقه الطاعن الأول ، ذلك أن شراء ملك الغير لا يعد بمجرده خطأ يستوجب التعويض عنه ، لما كان ما تقدم فإن الحكم المطعون فيه قد نسب إلى الطاعن الثانى خطأ لم يستظهر مصدره فيكون مشوباً بالقصور .

(الطعن رقم 1529 لسنة 70 جلسة 2004/01/27 س 55 ع 1 ص 156 ق 30)

21 ـ إذا ضمن الكفيل للمشترى نقل ملكية العين التى اشتراها ثم تملك الضامن هذه العين بعقد صادراً له من بائعها فإنه يكون للمشترى بمقتضى هذا الضمان أن يطالب الضامن بهذه العين بعد أن آلت إليه ملكيتها لأته متى صحت الكفالة لا تبرا ذمة الكفيل المتضامن من التزامه نحو الدائن إلا بانقضاء هذا الالتزام بإحدى وسائل الانقضاء التى حددها القانون ومن ثم لا يقبل من الكفيل أن يواجه الدائن بما ينطوى على إنكار حقه فى اقتضاء الوفاء منه بحجة أنه أصبح شخصياً المالك للشيء محل الالتزام دون المدين الأصلى سواء كان هذا الإنكار صريحاً فى صورة دفع لدعوى الدائن التى يطالبه فيها بالوفاء أو ضمناً فى صورة دعوى يرفعها هذا الكفيل ضد الدائن بثبوت ملكيته لهذا الشيء بما يعنى معارضة حق الدائن، إذ أن من التزم بالضمان امتنع عليه التعرض ومن يضمن نقل الملكية لغيره لا يجوز له أن يدعيها لنفسه.

(الطعن رقم 5083 لسنة 63 جلسة 1995/01/29 س 46 ع 1 ص 270 ق 53)

شرح خبراء القانون

ما يخرج من منطقة بيع ملك الغير : فبيع ملك للغير لا بد أن يكون بيعاً لعين معينة بالذات ليست مملوكة للبائع، فيخرج إذن من منطقة بيع الغير العقود الآتية :

أولاً - بيع الشيء غير المعين بالذات وبيع الشيء المستقبل : فإذا باع شخص مائة أردب من القمح، وكذلك إذا باع شخص شيئاً لم يوجد بعد ولكنه سيوجد في المستقبل، لم يكن هذا بيعاً لملك الغير، ولو أن البائع وقت أن باع لم يكن مالكاً للمبيع، ذلك أن المبيع لم يعين بذاته، فلا يمكن أن يقال إن البائع مالك له أو غير مالك، ولا يقال لك إلا عندما يتعين بالذات . أما في هذه المرحلة ، والمبيع لميتعين بالذات ، فإن البائع يقتصر على الالتزام بنقل ملكية المبيع وهو قابل للتعيين . وعلى البائع تعيينه إذا كان موجوداً ، أو إيجاده إذا كان لم يوجد ، ثم ينقل ملكيته للمشتري.

ثانياً – تعهد الشخص عن مالك الشيء بأن المالك يبيع الشيء لشخص آخر : فهذا ليس بيع ملك الغير لأن المتعاقد لا يبيع ملك غيره، وإنما هو تعهد عن المالك في أن يبيع، فيكون تعهداً عن الغير، وقد بسطنا أحكام هذا الضرب من التعاقد في الجزء الأول من الوسيط . 

ثالثاً - بيع الشيء المعين بالذات غير المملوك للبائع إذا علق البائع البيع على شرط أن يملك المبيع   : فالبائع هنا لم يلتزم بنقل ملكية المبيع التزاماً باتاً، بل علق التزامه على شرط واقف هو أن يملك المبيع، وليس هذا بيع ملك الغير، فالبائع والمشتري متفقان على أن البيع ليس ببات، بل هو معلق على شرط، فإذا تحقق هذا الشرط، وأصبح البائع مالكاً للمبيع، انتقلت الملكية إلى المشتري وإذا لم يتحقق الشرط سقط البيع.   .

رابعاً - بيع الشيء المعين بالذات المملوك للبائع تحت شرط : فهنا البائع لم يبع ملك غيره ، بل باع ملك نفسه وإن كان هذا الملك غير بات، فهو إما ملك معلق على شرط واقف فيتوقف وجوده على تحقق الشرط، وإما ملك معلق على شرط فاسخ فيزول إذا تحقق الشرط، وفي كلتا الحالتين ينتقل الملك بوصفه إلى المشتري، فيكون هذا مالكاً للمبيع تحت شرط واقف أو تحت شرط فاسخ، فإذا تحقق الشرط الواقف أو لم يتحقق الشرط الفاسخ أصبحت ملكية المشتري باتة، وتختلف هذه الصورة عن الصورة السابقة في أن البيع هنا بات وملكية المبيع هي المعلقة على شرط ، أما في الصورة السابقة فالبيع هو المعلق على شرط وملكية المبيع باتة.

خامساً – بيع الشيء الشائع : فهنا يبيع الشخص شيئاً يملكه على الشيوع مع شركاء آخرين، فلا يظهر في البداية أنه يبيع ملك غيره، ولكن يتوقف الأمر على نتيجة القسمة ، فإن وقع هذا الشيء كله في حصة البائع اعتبر أنه قد باع ملكه ، وإن لم يقع في حصته اعتبر بائعاً لملك الغير.

سادساً - بيع الوارث الظاهر : وهذا إذا كان في حقيقته بيعاً لملك الغير لأن الوارث الظاهر لا يملك المبيع ، إلا أن هناك اعتبارات ترجع إلى الاستقرار الواجب للتعامل تجعل بيع الوارث الظاهر صحيحاً نافذاً في حق الوارث الحقيقي، ومن ثم يتملك المشتري المبيع ، فلا يعود في حاجة إلى الحماية التي أولاها القانون للمشتري في بيع ملك الغير.

فيبقى بعد كل ذلك، في منطقة بيع ملك الغير، بيع الشخص لعين معينة بالذات غير مملوكة له إذا قصد بالبيع نقل الملكية في الحال، ويستوي أن يكون البائع عالماً بأنه لا يملك المبيع أو يعتقد أنه يملكه، كما يستوي أن يكون البيع مساومة أو بيعاً قضائياً، ويستوي في البيع القضائي أن يكون بيعاً جبرياً أو بيعاً اختيارياً.

وبيع ملك الغير، على هذا التحديد، يقع كثيراً في العمل، فالأب قد يبيع ملك ولده، لا باعتباره نائباً عنه، بل باعتباره أصيلاً عن نفسه، والزوج قد يبيع ملك زوجته، والوارث قد يبيع عيناً ليست في التركة، أو في التركة ولكنها لم تقع في حصته، والشريك في الشيوع قد يبيع كل العين الشائعة وهو لا يملك إلا حصته فيها، وواضع اليد على ملك غيره قد يبيع هذا الملك، وكثيراً ما يبيع الناس أموال الغائبين أو أموال الدولة الخاصة، فهذه كلها تعتبر بيوعاً لملك الغير.

وبيع ملك الغير قابل للإبطال.

بيع عقار الغير قابل للإبطال بعد التسجيل وقبله : ويلاحظ  أن بيع العقار لا يزال من طبيعته نقل الملكية، سواء سجل أو لم يسجل، فلم يغير قانون التسجيل، ولا قانون الشهر بعده، من طبيعة عقد البيع، ونصوص هذين القانونين صريحة في هذا المعنى، فتنص المادة الأولى من قانون التسجيل على أن " جميع العقود الصادرة بين الأحياء بعوض أو بغير عوض التي من شأنها إنشاء ملكية . . . يجب شهرها بواسطة تسجيلها "، وتنص المادة التاسعة من قانون الشهر على أن " جميع التصرفات التي من شأنها إنشاء حق من الحقوق العينية العقارية الأصلية . . يجب شهرها بطريق التسجيل "، فبيع العقار قبل أن يسجل لا يزال من شأنه – أو من طبيعته – نقل الملكية، إذ ينشئ التزاماً بنقلها في جانب البائع، فبيع عقار الغير إذن لا يزال منافياً لطبيعة عقد البيع، ومن ثم فعلة البطلان في البيع غير المسجل موجودة، والنص على البطلان عام شامل لا يميز بين البيع المسجل والبيع غير المسجل، بل إن التقنين المدني الجديد جاء حاسماً في هذا الصدد، فنص صراحة على جواز أن يطلب المشتري إبطال بيع عقار الغير ولو لم يسجل البيع ، إذ يقول في نهاية الفقرة الأولى من المادة 466 : " ويكون الأمر كذلك (أي يجوز للمشتري طلب إبطال البيع) ولو وقع البيع على عقار، سجل العقد أو لم يسجل "، وما دامت علة البطلان موجدة، وما دام النص المنشئ للبطلان عاماً يشمل العقد المسجل والعقد غير المسجل، وجب القول إن بيع عقار الغير يكون قابلاً للإبطال قبل تسجيله ، ويبقى بطبيعة الحال قابلاً للإبطال بعد التسجيل.

ولا يمكن القول بأن بيع عقار الغير صحيح قبل التسجيل، قابل للإبطال بعده، فإن التسجيل لا يبطل عقداً صحيحاً ولا يصح عقداً صحيحاً ولا يصح عقداً باطلاً، فلو كان بيع عقار الغير صحيحاً قبل التسجيل فإنه ينبغي أن يستمر صحيحاً بعده، ولما كان بيع عقار الغير قابلاً للإبطال قبل التسجيل، فإنه يجب أن يستمر قابلاً للإبطال بعد التسجيل .

كذلك لا يمكن القول بأن بيع ملك الغير حتى يكون باطلاً يجب أن يكون المقصود بالبيع نقل الملكية في الحال ، والبيع غير المسجل لا ينقل الملكية في الحال، فبيع عقار الغير صحيح قبل التسجيل، ويبقى صحيحاً بعد التسجيل لأن التسجيل آل يبطل عقداً صحيحاً، ذلك أنه يجوز أن يقصد المتعاقدان نقل الملكية في الحال، ولكنها لا تنتقل فعلاً لسبب لا يرجع إلى إرادتهما، ففي حالة البيع غير المسجل لا يزال المتعاقدان يقصدان نقل الملكية في الحال، ولكن يحول دون ذلك ضرورة التسجيل وهو وضع اقتضاه القانون لا إرادة المتعاقدين، فتبقى علة البطلان - وهي قصد نقل الملكية في الحال - متوافرة في بيع عقار الغير قبل التسجيل، فيكون هذا البيع باطلاً للإبطال، وقد ورد نص التقنين المدني الجديد (م 1/466) صريحاً في هذا المعنى.

أحكام هذا البيع : (أولاً) فيما بين المتعاقدين (ثانياً) بالنسبة إلى المالك الحقيقي.

أولاً – فيما بين المتعاقدين :

المشتري وحده هو الذي يجوز له طلب إبطال البيع : لما كان بيع ملك الغير قابلاً للإبطال لمصلحة المشتري، فالمشتري وحده هو الذي يجوز له طلب إبطال البيع (م 466 / 1 مدني)، وله أن يتمسك بإبطال البيع، إما في صورة دعوى إبطال يرفعها على البائع ليسترد منه الثمن أو ليستبق ضمان الاستحقاق، وإما في صورة دفع يدفع به دعوى البائع إذا طالبه هذا بالثمن.

وفي الحالة الثانية، إذا كان المشتري يجهل أن البائع لا يملك في الشيوع، فقد وقع في غلط جوهري متعلق بالعين المبيعة، إذا كان يعتقد أنها مملوكة للبائع دون شريك، فيكون البيع في حصة الشريك البائع بيعاً مشوباً بغلط جوهري، وفي حصص سائر الشركاء بيع ملك الغير، ومن ثم يكون قابلاً للإبطال في كل المبيع، ويجوز إذن للمشتري، قبل القسمة، طلب إبطال البيع، لا في حصص الشركاء الآخرين فحسب، بل أيضاً في حصة الشريك البائع، وهذا ما تنص عليه صراحة العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية من المادة 826 مدني ، إذ تقول : " وللمتصرف إليه، إذا كان يجهل أن المتصرف لا يملك العين المتصرف فيها مفرزة، الحق في إبطال التصرف "، ولكن إذا حصلت القسمة قبل أن يطلب المشتري إبطال البيع ، فوقع الجزء المفرز المبيع في نصيب البائع، اعتبر أنه مالك له وقت البيع بفضل الأثر الكاشف للقسمة، فخلصت ملكيته للمشتري، وانقلب البيع صحيحاً، فلم يعد للمشتري الحق في طلب إبطال البيع، وإذا كان بيع ملك الغير ينقلب صحيحاً بصيرورة البائع مالكاً للمبيع بعد البيع، فأولى أن ينقلب البيع في الحالة التي نحن بصددها صحيحاً وقد اعتبر البائع مالكاً للمبيع وقت البيع، أما إذا لم يقع الجزء المفرز المبيع في نصيب البائع، فإن المشتري يستبقى حقه في طلب إبطال البيع، ولا يجبر على أخذ الجزء المفرز الذي وقع فعلاً في نصيب البائع، لأن الحلول العيني وفقاً للمادة 826 مدني لا يكون إلا حيث يعلم المشتري وقت البيع أن البائع لا يملك في الجزء المفرز إلا حصة في الشيوع.

بيع الشريك كل المال الشائع : وإذا باع الشريك كل المال الشائع ، وكان المشتري وقت البيع يعتقد أن المال مملوك للبائع وحده، فإن البيع يكون قابلاً للإبطال في حصة الشريك البائع للغلط الجوهري، وفي حصص سائر الشركاء لأن بيع الشريك لها هو بيع لملك الغير.

فإذا كان المشتري يعلم وقت البيع أن للبائع شركاء في المال المبيع، ولم يستطع البائع أن يستخلص ملكية كل هذا المال، كان للمشتري الحق في طلب فسخ البيع، فإن وقع جزء مفرز من المال المبيع في نصيب البائع عند القسمة،  كان للمشتري الحق إما في أخذه مع دفع ما يناسبه من الثمن، وإما في فسخ البيع لتفرق الصفقة، وإذا استطاع البائع استخلاص ملكية المبيع، كأن حصل على إقرار الشركاء للبيع أو اشترى حصصهم أو انتقلت إليهم هذه الحصص بأي سبب آخر من أسباب انتقال الملكية، لم يعد للمشتري الحق في طلب فسخ البيع، إذ تنتقل إليه من البائع ملكية كل المال المبيع ولا تتفرق عليه الصفقة.

وللمشتري أن يجيز البيع – دعوى الفسخ وضمان الاستحقاق : على أن المشتري قد لا يطلب إبطال البيع، بل يجيزه صراحة أو ضمناً، فينقلب البيع صحيحاً، ويبقى منشئاً لالتزامات في جانب البائع والتزامات في جانب المشتري، ولكن البيع على هذا النحو لا ينقل ملكية المبيع إلى المشتري، لأن المالك الحقيقي وهو أجنبي عن العقد لا تنتقل منه الملكية إلا برضائه، وهذا ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 466 مدني إذ تقول : " وفي كل حال لا يسرى هذا البيع في حق المالك للعين المبيعة ، ولو أجاز المشترى العقد ".

وإجازة المشتري للعقد تزيل قابليته للإبطال، وتقلبه صحيحاً فيما بين المتعاقدين كما قدمنا، فيكون البائع ملتزماً بنقل ملكية المبيع وبتسليمه وبضمان الاستحقاق والعيوب الخفية وبغير ذلك من التزامات البائع ويكون المشترى ملتزماً بدفع الثمن والمصروفات وبتسلم المبيع.

ولكن لما كان البائع لا يستطيع تنفيذ التزامه بنقل ملكية المبيع لأنه لا يملكه، فإن المشتري يجوز له في هذه الحالة المطالبة بفسخ البيع ويجوز له أيضاً اذا تعرض له المالك الحقيقي أن يرجع على البائع بضمان الاستحقاق.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : الرابع، الصفحة :341)

نوعان من التسليم : نصت المادة 435 مدنيين في خصوص  تسليم المبيع ، على ما يأتي : " 1- يكون التسليم بوضع المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يتمكن من حيازته والانتفاع به دون عائق، ولو لم يستولي عليه استيلاء مادياً، ما دام البائع قد أعلمه بذلك، ويحصل هذا التسليم على النحو الذي يتفق مع طبيعة الشيء المبيع . 2- ويجوز أن يتم التسليم بمجرد تراضي المتعاقدين إذا كان المبيع في حيازة المشتري قبل البيع، أو كان البائع قد استبقى المبيع في حيازته بعد البيع لسبب آخر غير الملكية "، ويتبين من هذا النص أن تسليم المبيع إما أن يكون تسليما فعلياً أو تسليماً حكيماً، وكذلك يكون تسليم العين المؤجرة.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : السادس، الصفحة : 309)

يكون البيع قابلاً للإبطال إذا باع شخص عيناً معيناً بالذات غير مملوكة له إذا قصد بالبيع نقل الملكية في الحال، ويستوي أن يكون البائع عالماً بأنه لا يملك المبيع أو يعتقد أنه يملکه کما یستوي أن یکون البيع مساومة أو بيعاً قضائياً ويستوي في البيع القضائي أن يكون بيعاً جيرياً أو اختيارياً، ويراعى أن بيع العقار لا يزال من طبيعته نقل الملكية في الحال سواء سجل أو لم يسجل فيكون هذا البيع قابلاً للإبطال قبل التسجيل أو بعيده وسواء تم التسجيل بناء على العقد، أم بناء على حكم بصحة ونفاذ هذا العقد، والتمسك بالإبطال قاصر على المشتري دون البائع أو المالك فللأخير رفع دعوى استرداد الحيازة إذا كان المبيع تحت يد حائز اعتبار البيع غير نافذ في حقه - وبين رأي إلى جواز تمسك البائع بالإبطال إذا وقع في غلط بأن اعتقد ملكيته للمبيع - والتمسك بالأبطال يكون في صورة دعوى إبطال يرفعها على البائع ليسترد منه الثمن أو ليسبق ضمان الاستحقاق وإما في صورة دفع عند مطالبته بالثمن، ويجوز التمسك بالإبطال ولو لم يتعرض الملك للمشتري و كان الأخير يعلم بعدم ملكية البائع للمبيع، ويثبت الحق في الإبطال بمجرد رفع الدعوى ويتحتم على القاضي الحكم بالإبطال إلا إذا أقر المالك الحقيقي البيع أو أصبح البائع مالكاً قيل صدور الحكم، وذلك عملاً بالمادة 467.

وأيضاً، لا يجوز للمشتري طلب إبطال البيع إذا كان في الإمكان نقل ملكية المبيع فللبائع، كما لو كان مشترياً للعقار بموجب عقد عرفي، سواء رفعت دعوى بصحته ونفاذه، أم لم تكن قد رفعت، إذ يجوز للمشتري رفع دعوى بصحة ونفاذ عقده والعقد الصادر البائع له من المالك ويختصم فيها الأثنين معاً، إذ يترتب على التأشير بالحكم في هامش تسجيل الصحيفة انتقال الملكية إلى البائع ومنه إلى المشتري، ومفاد ذلك انتفاء مصلحة المشتري في طلب الإبطال، ويرى ذلك إذا أقر المالك البيع

 كذلك، إذا كان البائع قد حصل على حكم بصحة ونفاذ عقده، إذ تنتقل إليه الملكية بالتأشير به في هامش تسجيل الصحيفة، أو تكون المحكمة قد صدقت في دعوى صحة التعاقد المرفوعة من البائع على الصلح المبرم بينه وبين المالك، أو يكون قد استصدر حكماً بصحة توقيع المالك على عقد البيع المبرم معه، إذ يكفي تلك التسجيل البيع ونقل الملكية للبائع.

ولما كان بيع ملك الغير قابلاً للإبطال، فإن الحق في إبطاله يسقط إذا لم يتمسك به المشتري خلال ثلاث سنوات من وقت علمه بعدم ملكية البائع للمبيع، عملاً بالمادة 140 من القانون المدني، باعتبار أن المشتري قد وقع في غلط في الواقع باعتقاده أن المبيع مملوك للبائع الذي كان يعلم بعدم ملكيته للمبيع، فإن كان المشتري يعلم بعدم ملكية البائع للمبيع، انتفی الخلط بالنسبة له، وحينئذٍ ينقضي الحق في الإبطال بانقضاء خمس عشرة سنة من تاريخ العقد وفقاً للقواعد العامة

وإذا تمكن المشتري عن تسجيل عقده وتوافر لديه حسن النية انتقلت إليه الملكية بالتقادم القصير إذا استمرت حيازته لمدة خمس سنوات عملاً بالمادة 969 من القانون المدني.

وأذا أجاز المشتري البيع صراحةً أو ضمناً، يمتنع عليه طلب إبطاله.

رجوع المالك بالتعويض على البائع والمشتري :

من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن للمالك الحقيقي أن يطلب طرد المشتري من ملكه، لأن يده تكون غير مستندة إلى تصرف ناقد في مواجهته كما أن له أن يطلب ربع ملكه من هذا المشتري عن المدة التي وضع يده فيها عليه. نقض 31/5/1984 طعن 2031 س 50 ق

المقرر عملاً بالفقرة الثانية من المادة 466 من القانون المدني، أن بيع ملك الغير لا يسري في حق المالك للعين سواء سجل العقد أو لم يسجل، وإن الملكية تظل باقية للمالك فلا تنتقل إلى المشتري حتى لو تمكن الأخير من تسجيل عقده ما لم تكن الملكية قد انتقلت إليه بسبب آخر كالتقادم بنوعيه، فإن كانت الملكية مازالت باقية للمالك وكان سببها يرجع إلى العقد المسجل، وتمكن المشتري من وضع يده على العين بموجب عقد البيع الصادر له من غير المالك، فإنه يلتزم بالريع إذ يعتبر سيء النية، ذلك أن حسن النية لا يتحقق إلا عندما لا يتمكن المشتري من التحقق مما إذا كان المبيع مملوكاً للبائع له وهو ما ينتفي عندما يكون المبيع مسجلاً، إذ يتمكن المشتري حينئذٍ من معرفة ما إذا كان البائع له هو مالك العين أم كانت الملكية لغيره، فإن لم يسلك هذا السبيل توافر في حقه الخطأ الجسيم الذي يعادل سوء النية، وبالتالي يمتنع عليه أن يتمسك بحسن النية، ومن ثم يعتبر غاصباً وتتحقق مسئوليته التقصيرية بهذا الخطأ الذي أدى إلى الإضرار بالمالك لحرمانه من الانتفاع بملكه، مما يوجب الزامه بالريع كتعويض عن الغصب.

وإذ كان بيع الوارث الظاهر هو بيع تلك الغير وكانت عبارة النص واضحة في عدم سريان بيع ملك الغير في حق المالك، فإنه لا يجوز الخروج عن صريح النص بدعوى استقرار المعاملات يؤكد هذا النظر أن القانون، عندما أراد حماية الأوضاع الظاهرة وضع لها نصوصاً استثنائية يقتصر تطبيقها على الحالات التي وردت فيها.

أن مجرد التصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكاً للمتصرف ولا له حق التصرف فيه هو ضرب من ضروب الاحتيال التي تحقق بأي منها وحده جريمة النصب المنصوص عليها في المادة 336 من قانون العقوبات. نقض جنائي 19/12/1942 ج 2 في 25 سنة ص 1070 . (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ السادس الصفحة/  714)

يقصد ببيع ملك الغير البيع الذي يكون المبيع فيه معيناً بالذات لا يملكه البائع وبعبارة أدق لا يملكه البائع ولا المشتري ولم يمنحه القانون أو الاتفاق سلطة التصرف فيه نيابة عن مالكه إذا قصد بالبيع نقل ملكيته في الحال .

ومن ثم يشترط لتوافر بيع ملك الغير تحقق ثلاثة شروط هي :

1- أن يكون العقد مقصوداً به نقل الملكية إلى المشتري مقابل ثمن نقدي، وذلك سواء كان البيع اختيارياً أم جبرياً تم بطريق المزاد العلني ذلك أن البيع الجبري لا يمكن أن ينقل إلى الراسي عليه المزاد من الحقوق أكثر مما كان للمدين أن ينقله باختياره والمدين إذا لم يكن مالكاً للمبيع يقع بيعه الاختياري قابلاً للإبطال .

ولو أنه بالنسبة للبيع التجاري قلما تتحقق شروط دعوى البطلان لأن المبيع يكون عادة من الأشياء المعينة بالنوع على حين أنه يشترط لرفع هذه الدعوى أن يكون المبيع من الأشياء المعينة بالذات وحتى إذا تحقق هذا الشرط فقد لا يلجأ المشتري إلى طلب البطلان اعتماداً على ما في قاعدة الحيازة في المنقول بحسن نية سند الملكية حماية كافية أما إذا سقطت هذه الحماية كما لو كان المبيع شيئا مسروقاً أو ضائعاً تعين عليه طلب البطلان (م 977) .

ولكن تسري أحكام بيع ملك الغير إذا كان العقد مجرد وعد بالبيع أو مجرد تعهد من شخص بالحصول على موافقة المالك الحقيقي لشئ على بيعه للمتعاقد معه إذ أن محل التزام المتعهد ليس نقل الملكية بل القيام بعمل هو الحصول على رضاء المالك بأن يبيع الشيء.

2- أن يكون البيع غير مملوك للبائع ولا للمشتري :

يجب التحقق بيع ملك الغير أن يكون المبيع غير مملوك لا للبائع ولا للمشتري لأن المبيع إذا كان مملوكاً للبائع كان البيع صحيحاً وإذا كان مملوكاً للمشتري وأقدم على الشراء جاهلاً ملكيته له فإن البيع يكون باطلاً بطلاناً مطلقاً لاستحالة المحل استحالة مطلقة إذ يستحيل على الكافة نقل ملكية شئ إلى من هو مالك له فعلاً.

وبيع ملك الغير أمر نادر ومثال ذلك أن يبيع الزوج أحد أموال زوجته دون أن يكون موكلاً منها في ذلك أو أن يبيع الوصي مالاً مملوكاً للقاصر على أنه ملكه أو يبيع الغاصب ما اغتصب.

3- أن يكون المبيع قيمياً أي معيناً بذاته :

أما إذا كان البيع وارداً على مثليات فإن البيع لا يعتبر وراداً على ملك الغير.

وهذا الشرط متفرع عن الشرط السابق لأن المثليات وهي معينة بنوعها فقط لا يمكن وصفها بأنها مملوكة لغير البائع إذ لا يوجد مال معين يوصف بأنه مملوك أو غير مملوك فالمبيع منها لا يتعين بذاته إلا إذا أفرز أو سلم على حسب الأحوال.

وحتى لو كان البائع لا يملك أية كمية من المبيع المتعاقد عليه فإن هذا البيع لا يعتبر مملوكاً للغير.

كذلك لا يعتبر بيع الأشياء المستقبلة بيعا لملك الغير ذلك أن هذه الأشياء وإن لم تكن مملوكة للبائع وقت العقد بسبب أنها لم توجد بعد إلا أنها أيضاً لم تكن مملوكة لغير البائع فلا يعتبر بيعها بيعاً لملك الغير .

غير أنه يستوي أن يكون المبيع من المنقولات أم من العقارات.

وإذا كان المبيع من العقارات فيستوي أن يكون البيع سجل أم لم يسجل وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة صراحة.

-ما يخرج عن دائرة بيع ملك الغير 

(أ) بيع الشئ المملوك للبائع تحت شرط:

إذا كانت ملكية البائع معلقة على شرط سواء كان الشرط واقفاً أم فاسخاً انتقلت الملكية إلى المشتري معلقة على نفس الشرط ولذا لا يعتبر البيع الصادر منه بيعاً لملك الغير ولكن إذا لم يتحقق الشرط الواقف أو تحقق الشرط الفاسخ.

وزالت الملكية عن البائع بأثر رجعي كان للمشتري أن يطلب إبطال البيع باعتبار أن البائع قد تصرف فيما لا يملك كل هذا ما لم يتضح من العقد أن المشتري قد اشترى مجرد الأمل في الملكية بأن يتحقق الشرط الواقف أو يتخلف الشرط الفاسخ .

(ب) بيع المال الشائع :

إذا باع شريك في المال الشائع جزءاً مفرزاً من المالك الشائع فهنا يبيع الشريك شيئاً يملكه على الشيوع مع شركاء آخرين فلا يظهر في البداية أنه يبيع ملك الغير ومن ثم يتوقف مصير هذا البيع على نتيجة القسمة فإذا لم يقع الجزء المبيع عند القسمة في نصيب المتصرف انتقل حق المتصرف إليه من وقت التصرف إلى الجزء الذي آل إلى المتصرف بطريق القسمة إذ تنص الفقرة الثانية من المادة 826 مدني على أنه: وإذا كان التصرف منصباً على جزء مفرز من المال الشائع ولم يقع هذا الجزء عند القسمة في نصيب المتصرف انتقل حق المتصرف إليه من وقت التصرف إلى الجزء الذي آل إلى المتصرف بطريق القسمة وللمتصرف إليه إذا كان يجهل أن المتصرف لا يملك العين المتصرف فيها مفرزة الحق في إبطال التصرف .

(ج) بيع المالك الظاهر :

المالك الظاهر هو شخص لا يملك المبيع ولم يمنحه القانون أو الاتفاق سلطة التصرف فيه ولكنه يظهر عليه بمظهر المالك فهو إذن عندما يبيع هذا الملك فإنه يكون قد باع ملك الغير وكان الأصل أن يسري على هذا البيع أحكام بيع ملك الغير.

وتخلص هذه الشروط فيما يختص بالمسألة محل البحث فيما يأتي :

 1- أن يظهر البائع على الشئ المبيع بمظهر صاحبه أي بمظهر المالك الحقيقي.

-2 أن يكون هذا المظهر من شأنه أن يولد الاعتقاد العام بأنه المالك الحقيقي.

-3 أن يكون المشتري حسن النية بمعنى أن يعتقد أن البائع هو مالك الشئ المبيع فإذا كان سئ النية بمعنى أنه كان يعلم بعدم ملكية البائع فإنه لا يكون جديراً بالحماية التي تكفلها له نظرية الوضع الظاهر وعليه تحمل تبعة التصرف الذي أبرمه التصرف .

4-أن يكون المالك الحقيقي قد أسهم بخطئه في ظهور البائع بمظهر المالك الحقيقي .

يشترط أن يكون المالك الحقيقي قد أسهم بخطئه-سلباً أو إيجاباً في ظهور البائع بمظهر المالك الحقيقي مما يدفع الغير حسن النية إلى التعاقد معه للشواهد المحيطة بهذا المركز والتي من شأنها أن تولد الاعتقاد الشائع بمطابقة هذا المظهر للحقيقة (بيع ملك الغير قابل للإبطال لمصلحة المشتري) والبطلان هنا خاص أنشأه نص المادة(466) .

و بالبناء على ذلك فإن المبيع ينعقد وينتج جميع آثاره فيما عدا نقل الملكية ويظل هكذا إلى أن يقضي بإبطاله.

وعلى ذلك يلتزم البائع بمقتضى هذا العقد بتسليم المبيع إلى المشتري وبضمان الانتفاع به انتفاعاً هادئاً كاملاً ويلتزم المشتري بدفع الثمن ونفقات العقد وبتسلم المبيع وإذا طالب المشتري البائع بتسلم المبيع كان ذلك منه إجازة للعقد .

ويترتب على التزام بائع ملك الغير بالضمان أنه لا يجوز له أن يتعرض للمشتري في انتفاعه بالعين المبيعة ولا أن يستردها منه بحجة التزامه بردها إلى مالكها أو بحجة استحقاقه إياها بعد البيع من طريق الإرث أو الوصية أو غيرهما لأن من التزم بالضمان لا يجوز منه التعرض .

نظراً لأن بطلان بيع ملك الغير مقرر لصالح المشتري - فإذا لم يقض ببطلان هذا البيع فإنه يظل قائما وتثبت فيه الشفعة ثبوتها في كل بيع تم مستوفياً لأركانه ولو حمل سبباً لبطلانه.

يذهب جمهور الشراح إلى أنه يجوز للمشترى طلب إبطال عقد بيع ملك الغير سواء كان حسن النية يجهل أن المبيع مملوك للغير أم سئ النية يعلم أن البائع يتصرف فيما لا يملك وأن هذا الحكم مستفاد من المادة 468 مدني التي تحرم المشتري سئ النية الحق في طلب التعويض فقط وتفترض أن العقد قد أبطل رغم أن البائع حسن النية وتخول للمشتري الحق في التعويض حتى في هذه الحالة.

 يذهب فريق من الشراح إلى أنه ليس للمشتري طلب إبطال البيع إذا تملك المبيع بوضع اليد سواء كان ذلك بمضي خمس عشرة سنة إذا كان سئ النية أو بمضي خمس سنين إذا كان حسن النية أو بمجرد الحيازة إذا كان المبيع من المنقولات لأنه تمتع بجميع مزايا الملكية من وقت الشراء فضلاً عن أنه في بعض الحالات استند على العقد في التملك بوضع اليد .

بينما يذهب الرأى الراجح إلى أن تملك المشتري المبيع بوضع اليد لا يحرمه من طلب إبطال البيع لأن التقادم لاينتج أثره إلا إذا تمسك المشتري به ولا شيء يجبره على ذلك  ويعتبر طلب الإبطال تنازلاً ضمناً عن الحق المكتسب بالحيازة لأن الحكم بإبطال العقد يترتب عليه زوال السبب الصحيح وبالتالي تخلف شرط من شروط التملك بالحيازة فإقدام المشتري على طلب الإبطال يعني أنه يرغب في النزول عن حقه الذي کسبه بالحيازة .

ولم يعطي المشرع البائع حق طلب إبطال العقد.

ولما كانت المادة 138 مدني تنص على أنه: إذا جعل القانون لأحد المتعاقدين حقاً في إبطال العقد فليس للمتعاقد الآخر أن يتمسك بهذا الحق ومن ثم لا يكون للبائع أن يطالب بالإبطال لمجرد أن المبيع غير مملوك له وعلى هذا إذا كان البائع يعلم وقت العقد أنه يبيع ملك غيره فلا شك أنه لا يستطيع أن يطلب الإبطال.

ولكن إذا كان البائع يعتقد أنه يبيع ملكه فيذهب البعض إلى أن البائع لا يجوز له في أية حالة أن يطلب الإبطال.

بينما يذهب البعض الآخر – بحق- إلى أن مقتضي القواعد العامة في الغلط أن يكون للبائع حق طلب الإبطال إذا كان حسن النية يعتقد أنه يبيع ما يملك وتوافرت شروط المادة 120 مدني بأن كان هذا الغلط جوهرياً أي كان هو الدافع إلى التعاقد بحيث لولاه لما أقدم البائع على إبرام العقد وكان المشتري واقعاً في نفس الغلط بأن كان يعتقد أن المبيع مملوك للبائع أو كان عالما بأن البائع قد وقع في الغلط أو كان في استطاعته أن يعلم بذلك .

- طلب الإبطال :

للمشتري التمسك بإبطال عقد البيع إما عن طريق الدعوى وإما عن طريق الدفع يدفع به دعوى البائع إذا طالبه بالثمن.

وللمشتري أن يتمسك بإبطال البيع حتى قبل أن يتعرض له المالك الحقيقي وإذا رفع المشتري دعوى الإبطال فقد ثبت حقه في إبطال البيع ويتحتم على القاضي أن يحكم له بذلك حتى لو أقر المالك الحقيقي البيع أو أصبح البائع مالكاً قبل صدور الحكم مادام المشتري قد رفع دعوى الإبطال قبل إقرار المالك الحقيقي أو قبل صيرورة البائع مالكاً ذلك أن القاضي إنما يرجع في حكمه إلى وقت رفع الدعوى وفي هذا الوقت كان البيع قابلاً للإبطال ولم يكن المالك الحقيقي قد أقره أو أصبح البائع مالكاً للمبيع .

لما كان حق الإبطال مقرر لمصلحة المشتري فإنه يكون له من ثم أن يتنازل عنه أي أن يجيز العقد.

وهذه الإجازة قد تكون صريحة وقد تكون ضمنية إلا أنه يشترط أن يكون المشتري عالماً وقت إجازته للعقد بما يشوبه من عيب أي أن يكون عالماً بأن المبيع مملوك للغير.

ومن ثم أمثلة الاجازة الضمنية قيام المشتري بتنفيذ العقد بمحض إرادته بعد علمه بسبب الابطال كان يقوم بدفع الثمن واستلام المبيع بعد تثبيته من أن المبيع مملوك للغير .

إجازة المشتري للعقد تزيل قابليته للإبطال وتقلبه صحيحاً فيما بين المتعاقدين فيكون البائع ملزماً بنقل ملكية المبيع وتسليمه وبضمان الاستحقاق والعيوب الخفية وبغير ذلك من التزامات البائع ويكون المشتري ملتزماً بدفع الثمن والمصروفات وبتسلم المبيع.

ولما كان البائع لا يستطيع تنفيذ التزامه بنقل ملكية المبيع لأنه لا يملكه فإنه المشتري يجوز له في هذه الحالة المطالبة بفسخ البيع ويجوز له أيضاً إذا تعرض له المالك الحقيقي أن يرجع على البائع بضمان الاستحقاق .

تسقط دعوى الإبطال بالتقادم تطبيقاً للقواعد العامة أما مدة التقادم فيمكن استخلاصها بطريق القياس على المادة 140 الخاصة بحالات البطلان النسبي بسبب نقص الأهلية أو عيب من عيوب الإرادة فيسقط حق المشتري في طلب الإبطال بإحدى مدتين أيهما أقصر إما بخمس عشرة سنة من وقت التعاقد وإما بثلاث سنوات من الوقت الذي يعلم فيه المشتري أن المبيع غير مملوك للبائع .

- حق المشتري في فسخ البيع :

إذا سقط حق المشتري في البطلان أمكنه مع ذلك طلب الفسخ وفقا للقواعد العامة وأساس الفسخ هنا هو عدم تنفيذ البائع التزامه وكان له أيضاً الرجوع بالضمان إذا تحقق سببه. 

فالمالك الحقيقي يعتبر من الغير بالنسبة لبيع ملكه فهو أجنبي عن هذا العقد ومن ثم لا ينصرف إليه أثر ذلك العقد ولا يسري البيع في حقه سواء أجاز المشتري العقد فزال ما كان يتعرض له من البطلان أو حكم بإبطال هذا البيع أو لم يحكم به وسواء أكان حق المشتري في إبطال العقد قد سقط أو كان الحق لايزال قائماً فالبيع الصادر من غير مالك لا يكفي لنقل الملكية لأن فاقد الشئ لا يعطيه فيبقى حق المالك في المبيع قائماً.

ومن ثم يكون للمالك التصرف في الشيء المبيع بكل أنواع التصرفات القانونية والمادية التي يخولها له حق الملكية.

وإذا كان المشتري قد تسلم المبيع كان له أن يسترده بدعوى الاستحقاق وله أيضاً أن يطالبه بالتعويض إذا كان سئ النية أما إذا كان حسن النية فلا يرجع عليه بتعويض بل لايرجع عليه بالثمار لأن المشتري وهو حسن النية يملك الثمار بالحيازة ويرجع المشتري من جانبه على البائع بضمان الاستحقاق أو دعوى الفسخ أو بدعوى الإبطال .

يجوز للمالك الحقيقي أن يرفع دعوى بعدم نفاذ بيع ملكه من الغير في حقه إذا كان البيع قد سجل كما أنه يكفيه إذا كان البيع لم يسجل أن يطلب طرد المشتري من غيره لأن يده تكون غير مستندة إلى تصرف نافذ في مواجهته

وإذ أقام المالك الحقيقي دعواه بطلب بإبطال العقد فإنه يجب على المحكمة أن تسبغ عليها التكييف القانوني الصحيح فتكيفها على أنها دعوى عدم نفاذ البيع في حقه.

البائع لا يمثل المشتري منه فيما يقوم على العقار المبيع من نزاع بعد تسجيل عقد البيع وبالتالي فإن الحكم الصادر ضد البائع باعتباره غير مالك للعين المبيعة لا يعتبر حجة على المشتري الذي سجل عقد شرائه قبل صدور هذا الحكم طالما لم يكن خصماً في الدعوى. 

إذا لم يقر المالك الحقيقي البيع الصادر من غيره فإن هذا البيع لا يسري في حقه وعدم النفاذ هذا مقرر لمصلحة المالك ولا يجوز لغيره التمسك به لأنه أمر غیر متعلق بالنظام العام.

رغم أن بيع ملك الغير - كما قدمنا لا يسري في حق المالك الحقيقي إلا أن هذا البيع يعتبر سبباً صحيحاً لكسب الملكية عن طريق الحيازة فإذا كان المبيع منقولاً وتسلمه المشتري بحسن نية بناء على العقد الصادر من غير المالك جاز للمشتري أن يكسب ملكيته من طريق الحيازة وفقاً لقاعدة الحيازة في المنقول سبب الملكية (م 976 مدني).

وإذا كان المبيع عقاراً وتسلمه المشتري بحسن نية جاز له أن يكسب ملكيته بمضي خمس سنوات أي من طريق التقادم قصير المدة (م 969 مدني) . (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/  الخامس      الصفحة/   560)

نصت المادة 466 فقرة أولي على أنه «إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات وهو لا يملكه، جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع ...» ويبين منها أنه لابد في بيع الشيء المعين بالذات أن يكون المبيع ملكاً للبائع وقت العقد، وظاهر أن هذا الشرط اقتضته طبيعة البيع من حيث أنه عقد ناقل للملك بذاته، فقد تقدم أن القانون المصري شأنه في ذلك شأن أغلب الشرائع الحديثة، قد جعل الالتزام بنقل حق عيني يتم تنفيذه بمجرد نشوئه أي أن العقد ينشئ التزاماً بنقل حق عيني يترتب عليه بمجرد انعقاده انتقال هذا الحق، ثم طبق ذلك على عقد البيع، فجعله ينقل ملكية المبيع من البائع إلى المشتري بمجرد انعقاده دون حاجة إلى أي إجراء آخر.

فإذا كان البائع غير مالك المبيع وقت عقد البيع، استحال انتقال الملكية منه إلى المشتري بمجرد العقد، ولم يتيسر للبيع أن ينتج أهم أثر من آثاره وهو نقل الملكية  ولذلك قضى المشرع ببطلان البيع في هذه الحالة.

الأحوال  التي تشترط فيها ملكية المبيع للبائع - اشتراط - النص ملكية المبيع للبائع في حالة بيع الشيء المعين بالذات، والمقصود بذلك - كما تقدم - حالة بيع حق الملكية المترتبة على شيء معين بالذات أو بيع أي حق عيني آخر وارد على شيء معين بالذات، وظاهر أنه في هذه الحالة الأخيرة ليس المقصود أن يكون الشيء مملوكاً للبائع بل يكفي أن يكون الحق العيني المرتب على الشيء ثابتاً للبائع على شيء مملوك لغيره.

ویستوى في ذلك أن يكون المبيع عقاراً أو منقولاً، لأنه إذا كانت الملكية في بيع العقار لا تنتقل إلا بالتسجيل، فإن تأخیر انتقالها فيه ليس راجعاً إلى طبيعة الأشياء كما في بيع المثليات، ولا إلى قصد العاقدين كما في حالة تعليق انتقال الملكية على شرط أو أجل، بل إلى نص القانون، ولا يمنع ذلك من اعتبار العقد بحسب قصد العاقدين منه ناقلاً للملك بذاته، وغاية الأمر أن انتقال الملكية بتراخي فيه إلى وقت التسجيل نزولاً على إرادة المشرع ومتی اعتبر العقد ناقلاً للملك بذاته، اشترط فيه أن يكون، البائع مالكاً المبيع وقت البيع وقد قررت المادة 466 ذاتها المساواة في حكمها بين بيع العقار وبيع المنقول، حيث نصت في نهاية الفقرة الأولى منها على أن يكون الأمر كذلك ولو وقع البيع على عقار «سجل العقد أو لم يسجل ".

ومع أن المقصود بالشيء المعين بالذات في هذا النص هو الحقوق العينية دون غيرها من الحقوق المالية لأنها هي وحدها الحقوق التي لا ترد إلا على أشياء مدينة بالذات ، فإنه من المسلم أن النص ينطبق أيضاً على بيع الحقوق الشخصية والحقوق الذهنية كالملكية الأدبية والفنية والصناعية وأنه يشترط في هذا البيع أيضاً أن يكون الحق المبيع داخلاً في ذمة البائع، وذلك لأن علة اشتراط هذا الشرط في بيع الحقوق العينية متوافرة أيضاً في بيع الحقوق المالية الأخرى، وهي أن البيع ناقل للملك أو للحق المبيع بمجرد توافق الارادتين، فيتعين أن يكون الحق المبيع ثابتاً للبائع حتى يمكن أن انتقاله منه إلى المشتري فور العقد .

الأحوال التي لا يشترط فيها أن يكون المبيع مملوكاً للبائع - لا يشترط أن يكون المبيع مملوكاً للبائع في الأحوال التي لا يشملها نص المادة 466 أو لا تتوافر فيها الحكمة التي من أجلها وضع هذا النص.

وقد تقدم أن النص اقتصر على ذكر بيع الأشياء المعينة بالذات وبذلك خرج منه بيع الأشياء المثلية، فلا يشترط أذن فيمن يبيع قمحاً أو قطناً أن يكون وقت البيع مالكا مقدار القمح أو القطن الذي يبيعه بل ينعقد العقد ويقع صحيحاً ولو لم يكن البائع يملك شيئاً من القمح أو القطن، وعلة ذلك واضحة فإن اشتراط ملكية البائع للمبيع في بيع الأشياء المعينة بالذات اقتضته طبيعة هذا النوع من البيع من حيث هو ناقل للملك بذاته أما بيع المثليات ،فلأنه ينشيء التزاماً بنقل حق عيني على شيء لم يعين إلا بنوعه، لا ينتقل فيه هذا الحق ألا يفرز هذا الشيء طبقاً للمادة 205 فقرة أولى، وهو إذن ليس بيعاً للملك بذاته، فلا تتوافر فيه حكمة اشتراط ملكية البائع للمبيع وقت العقد، ولا يرد عليه حكم البطلان إذا كان البائع لا يملك وقت البيع شيئاً من المبيع، إذ أن تعهده بنقل حق عيني على مقدار معين من صنف المبيع يتضمن تعهده بالقيام بما يلزم لنقل ملكية هذا العقار، بفرزه من بقية الصنف إذا كان يملك شيئاً من هذا الصنف أو بشرائه ممن يملك مثله.

على أنه حتى إذا كان المبيع شيئاً معيناً  بالذات، فأنه لا يشترط فيه أن يكون مملوكاً للبائع إذا قصد العاقدان ألا يترتب على البيع انتقال الملكية فور انعقاده بل مجرد نشوء التزام بنقل الملكية، إذ أن هذا الالتزام يوجب على البائع إذ لم يكن مالكاً للمبيع على ملكيته وأن ينقلها إلى المشتري، أي أن البيع في هذه الحالة - كما في الحالة المسابقة - لا يكون ناقلاً للملك بذاته، وإذن تنعدم فيه حكمة اشتراط ملكية البائع للمبيع وقت العقد  ويقع البيع صحيحاً ولو لم يكن البائع مالكاً المبيع  في ذلك الوقت، ومثل ذلك بيع الأموال المستقبلة سواء كانت مدينة بالذات أو مدينة بالنوع لأن هذا البيع ليس من شأنه نقل الملكية إلا عند تحقق وجود البيع وفرزه إن لم يكن معيناً بالذات وكذلك بيع الأموال الحاضرة التي يشترط فيها البائع تأجيل نقل الملكية إلى أجل معین أو تعليقه على تحقق شرط متفق علية ، ومن باب أولى لا يشترط في الوعد بالبيع أن يكون الواعد مالكاً المال الموعود ببيعه .

احکام بيع ملك الغير - تلخص أحكام بيع ملك الغير بحسب نصوص التقنين الحالي وأحكام المحاكم السابقة فيما يلى :

1- أن هذا البيع ينتج جميع آثار العقد الصحيح ما عدا انتقال الملكية بمجرد اتفاق العاقدین. 

2- أنه يجوز للمشتري أن يطلب إبطال البيع ولو كان يعلم عدم ملكية البائع .

3-أنه لا يجوز للبائع ذلك ولو كان حسن النية .

4-أن هذا البيع لا ينفذ في حق المالك ولو أجازه المشتري .

5 - أن آثاره تتم ويمتنع طلب إبطاله متى اقره المالك أو صار البائع مالكاً أو کسب المشتري الملكية من طريق الحيازة.

6- أنه إذا لم تنتقل الملكية الى المشتري وحكم له ببطلان البيع وجب تعويضه متى كان حسن النية ولو كان البائع حسن النية ايضاً.

وسنعرض فيما يلي لكل من هذه الأحكام بالتفصيل .

-  إنتاج بيع ملك الغير آثار العقد الصحيح - تنص المادة 466  مدنى على أنه يجوز للمشتري أن يطلب إبطال البيع. ويؤخذ من ذلك أن بيع ملك الغير لا يقع باطلاً بقوة القانون وأنه تترتب عليه آثار، وإلا ما كانت هناك حاجة بالمشتري إلى طلب إبطاله فالى أن يتقرر بطلانه ينتج بيع ملك الغير جميع آثار البيع بما فيها التزام البائع بنقل الملكية وبعدم التعرض، فيما عدا الآثار التي يحول دون قیامها عدم ملكية البائع للمبيع.

وبناء على ذلك يترتب على بيع ملك الغير التزام البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري والتزامه بتسليم المبيع وبضمان الانتفاع به انتفاعاً هادئاً كاملاً والتزام المشتري بدفع الثمن ونفقات العقد ويتسلم المبيع، فيجوز للمشتري مطالبة البائع بنقل الملكية إليه، كما يجوز له مطالبته بتسليمه البيع ، ويعتبر ذلك اجازة منه للبيع تمنعه من طلب إبطاله بعد ذلك  وكذلك يجوز للبائع مطالبة المشتري بدفع الثمن وبتسلم المبيع ما دام لم يحكم ببطلان البيع.

ويترتب على التزام بائع ملك الغير بالضمان أنه لا يجوز له أن يتعرض للمشتري في انتفاعه بالعين المبيعة، ولا أن يستردها منه بحجة التزامه بردها إلى مالكها، أو بحجة استحقاته إياها بعد البيع من طريق الإرث أو الوصية أو غيرهما لان من التزم بالضمان لا يجوز منه التعرض.

وقد تقدم أن البيع في القانون الحديث، خلافاً للقانون الروماني والقانون الفرنسي القديم، لا يقتصر أثره على إنشاء الالتزامات في ذمة كل من الجانبين بل أنه فوق ذلك ينقل الملكية من البائع إلى المشتري فور إبرامه وبمجرد اتفاق العاقدين وظاهر أن انتقال الملكية بهذا الشكل من البائع إلى المشتري يقتضي أن يكون البائع مالكاً المبيع وقت التعاقد، فإذا كان غير مالك استحال انتقال الملكية منه إلى المشتري فور العقد، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكان من المحتم أن يتخلف انتقال الملكية إلى ما بعده العقد، فلا يصير المشترى بمجرد الاتفاق مالكاً البيع.

ويستوي في كل نك أن يكون المبيع منقولاً او عقاراً، وفي هذه الحالة الأخيرة أن يكون البيع قد سجل او لم يسجل.

- حق المشتري في طلب إبطال البيع - ولان الملكية لا تنتقل في هذه الحالة الى المشتري بمجرد العقد خلافاً لقصد العاقدين، ولأن في ذلك إضراراً بالمشتري، أجاز القانون لهذا الأخير أن يدفع عن نفسه الضرر بأن يطلب إبطال البيع، فيتخلص بذلك من التزاماته إزاء البائع ويستطيع - إذا شاء الحصول على البيع ذاته - أن يشتريه من مالكه ولا يجوز للبائع طلب إبطال البيع.

وقد نص المشرع صراحة على أن للمشتري حق الأبطال ولو وقع البيع على عقار، سجل العقد أو لم يسجل، ذلك حسما لخلاف ثار بعد صدور قانون التسجيل في سنة 1923 حول جواز المطالبة بابطال بيع عقار الغير قبل تسجيله أو عدمه . وسنعرض لهذا الخلاف فيما بعد (في نبذة 306 ).

ويثبت حق المشتري في إبطال بيع ملك الغير بمجرد ثبوت عدم ملكية البائع المبيع ولو كان المشتري قد علم ذلك وقت البيع. ويستفاد هذا الحكم من نص المادة 468 التي تقرر حق المشتري في التعويض إذا حكم له بإبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع، إذ يفيد تقييد حق المشتري في طلب تعويض عن بطلان البيع بأن يكون المشتري قد جهل وقت البيع عدم ملكية البائع، يفيد ذلك بطريق مفهوم المخالفة أنه يجوز الحكم ببطلان بيع ملك الغير حتى في غير هذه الحالة الأخيرة، أي ولو كان المشترى عالماً وقت البيع أن المبيع غير مملوك للبائع .

ويثبت هذا الحق للمشترى ولو كان البائع لم يعلم وقت العقد أنه غير مالك «يستفاد ذلك أيضاً من نص المادة 468 ذاتها حيث تقرر للمشتري الذي حكم له بإبطال البيع حقاً في التعويض ولو كان البائع حسن النية.

ويلاحظ أن حق المشتري في طلب إبطال البيع لا يخل بحقه في المطالبة بتنفيذ الالتزامات التي تقدم بيانها، ومنها الالتزام بنقل الملكية والالتزام بضمان التعرض، فمتى علم المشتري بعدم ملكية البائع إليه كان بالخيار بين التمسك بحقه في إبطال العقد وبين مطالبة البائع بتنفيذ التزاماته الناشئة منه، فإذا تمسك بالبطلان وحكم له به، لم يعد له الحق في المطالبة  بتعويض عن بطلان العقد . اما اذا اختار المطالبة بتنفيذ العقد، عد ذلك منه اجازة للعقد مسقطة حقه في الأبطال  ، فإذا طالب المشتري البائع بنقل الملكية وعجز هذا الأخير عن نقلها إليه ، كان للمشتري حق فسخ العقد طبقاً للقواعد العامة (17 مكرر) كما أن حق المشتري في طلب إبطال البيع لا يخل بحقه في طلب فسخ البيع مع التعويض.

وإذا حكم للمالك الحقيقي باستحقاق المبيع، كان للمشتري - فوق حقه في إبطال البيع كما تقدم، حق الرجوع بالضمان على البائع وفقاً للمادة 443 وحق الفسخ لإخلال البائع بالتزام الضمان وفقاً للقواعد العامة . وله الخيار في استعمال أي حق من هذه الحقوق الثلاثة كما تقدم في نبذة 210 ولكنه لا يجوز له أن يجمع بينها.

ويلاحظ أخيراً أن حق الأبطال تقرر للمشترى ليدفع به عن نفسه الضرر الذي يلحقه من عدم انتقال الملكية إليه، وأن الأمر مرجعه إليه في استعمال هذا الحق أو عدم استعماله، فيجوز له أن ينزل منه صراحة بأن يجيز العقد فيجعله غير قابل للابطال . ويجوز أن يكون نزوله عنه ضمنياً، ويجوز أن يترك استعماله حتى يسقط بالتقادم كما تسقط بذلك سائر الحقوق .

ولأن المادة 466 لم تتضمن حكماً للتقادم خاصاً بهذا الحق، فتسري عليه الأحكام العامة غير أن المادة 140 التي حددت مدة تقادم دعوى الإبطال بثلاث سنوات قد عينت في كل حالة من حالات الابطال مبدأ هذه المدة وهو تاریخ کشف الغلط او التدليس أو انقطاع الاكراه أو زوال نقص الأهلية، ولم تحدد مبدأ لمدة تقادم دعوى إبطال بيع ملك الغير فيتعين القول بأن هذه المدة تبدأ من وقت إبرام العقد، وبأن الحق في رفع هذه الدعوى لا يتقادم بمضي ثلاث سنوات لأن المشرع لم ياخذ بهذه المدة الأخيرة إلا في الحالات التي حدد فيها مبدأ لهذه المدة تالياً لوقت إبرام العقد. أما حيث تبدا المدة من وقت العقد، فإن التقادم لا يتم إلا بخمس عشرة سنة .

وسیأتی آن حق المشتري في إبطال العقد يسقط بغير الأجازة والتقادم، أي بإقرار المالك او يكسب البائع الملكية أو بأن تخلص الملكية للمشترى من طريق الحيازة .

- حرمان البائع من حق إبطال البيع - نصت المادة 466 فقرة أولى على أن للمشتري طلب إبطال البيع، ولم تنص على أن للبائع هذا الحق، فلا يجوز إذن للبائع طلب الأبطال فإذا طالب المشتري البائع بنقل الملكية إليه أو بالتسليم، لم يجز للبائع أن يدفع هذه المطالبة ببطلان البيع ويعلل ذلك عادة بأن البائع هو الذي يجب أن يعرف ما اذا كان يملك المبيع أو لا يملكه، فإذا كان عالماً بعدم ملكيته، فهو مخطيء في التزامه بيع ما لا يملك، وإذا كان لا يعلم بعدم ملكيته، فهو أيضاً مخطىء لأنه كان يجب أن يعلم، ولا يجوز له في كلتا الحالتين أن يتخلص من التزامه بالاستناد إلى خطئه، ونضيف إلى ذلك أن المشتري إنما خول الحق في طلب إبطال العقد لأن العقد في هذه الحالة عاجز عن أن ينقل إليه الملكية التي بذل من أجلها الثمن، أما البائع فإن العقد يخوله كافة الحقوق التي تنشأ من العقد الصحيح الصادر من مالك، ومنها حقه في اقتضاء الثمن، فهو لا يتضرر من شيء وبالتالي لا محل لحمايته من طريق منحه الحق في إبطال البيع.

ولا يترتب على حسن نية البائع إلا إعفاء الأخير من المسئولية عن الأضرار غير المتوقعة التي تصيب المشتري حسن النية بسبب بطلان البيع كما سيجيء فيما يلى في نبذة 299 .

عدم نفاذ بيع ملك الغير في حق المالك الحقيقي - تنص المادة 466 فقرة ثانية على أنه «في كل حال لا يسرى هذا البيع في حق المالك للعين المبيعة ولو أجاز المشترى العقد ». وتعليل ذلك أن المالك أجنبي عن العقد، فلا يضار به ، ولا تنتقل الملكية منه إلى المشتري بدون رضاه .

وقد تقدم أن المشتري يملك اجازة العقد والنزول من حقه في إبطاله . ولكن هذه الإجازة - ولو انها تجعل العقد غير قابل للإبطال بتاتاً - لا يمكن أن تؤثر في حق المالك ، ويبقى العقد مع إجازته عاجزاً عن أن ينقل الملكية إلى المشتري ، أي أنه يبقى غير نافذ في حق المالك .

غير أن ذلك ليس معناه أن العقد لا يمكن أن يضر المالك بأي حال، لأنه إذا كان غير نافذ في حق المالك وعاجزاً عن نقل الملكية منه إلى المشتري باعتباره عقداً صحيحاً منتجاً جمیع آثارها فإنه يعتبر مع ذلك سبباً صحيحاً»  يفيد في الاستناد إليه لكسب الملكية من طريق الحيازة ، فإذا كان المبيع منقولاً وتسلمه المشترى بحسن نية بناء على هذا العقد الصادر من غير المالك ، جاز له أن يكسب ملكيته من طريق الحيازة وفقاً لقاعدة «الحيازة في المنقول سند الملكية» المادة 976. وإذا كان المبيع عقاراً وتسلمه المشترى بحسن نية، جاز له أن یكسب ملكيته بمضي خمس سنوات أي من طريق التقادم قصير المدة المادة 969. وفي كلتا الحالين يفقد المالك حقه ویكون العقد الذي صدر من غير المالك أحد العوامل الفعالة في ذلك، فيجدر بنا التحفظ والالتفات إلى هذا الضرر، عند القول بأن بيع ملك الغير لا يضر المالك . وإذا تحقق هذا الضرر ، كان للمالك حق مطالبة البائع بتعويضه ،وقبل أن يتحقق هذا الضرر يجوز للمالك إقامة دعوى بطلب عدم نفاذ البيع في حقه وتكيف دعواه كذلك ولو سماها هو في صحيفة دعواه بطلان أو ابطال ولو طلب إبطال البيع  (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ السابع  الصفحة / 214 )

الفقة الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني، الصفحة /   25

أمّا عقْد الْقرْض فهو عقْدٌ لا يصْدر إلاّ مؤقّتًا، وذلك لأنّه عقْد تبرّعٍ ابْتداءً، ومعاوضةٍ انْتهاءً، أوْ دفْع مالٍ إرْفاقًا لمنْ ينْتفع به ويردّ بدله. والانْتفاع به يكون بمضيّ فتْرةٍ ينْتفع فيها الْمقْترض بمال الْقرْض، وذلك باسْتهْلاك عيْنه؛ لأنّه لوْ كان الانْتفاع به مع بقاء عيْنه كان إعارةً لا قرْضًا، ثمّ يردّ مثْله إذا كان مثْليًّا وقيمته إذا كان قيميًّا.

وقد اخْتلف الْفقهاء في الْمدّة الّتي يلْزم فيها هذا الْعقْد:

فيرى الْمالكيّة أنّه عقْدٌ لازمٌ في حقّ الطّرفيْن طوال الْمدّة الْمشْترطة في الْعقْد، فإنْ لمْ يكن اشْتراطٌ فللْمدّة الّتي اعْتيد اقْتراض مثْله لها، ويرى الْحنابلة أنّ عقْد الْقرْض عقْدٌ لازمٌ بالْقبْض في حقّ الْمقْرض، جائزٌ في حقّ الْمقْترض، ويثْبت الْعوض عن الْقرْض في ذمّة الْمقْترض حالًّا، وإنْ أجّله؛ لأنّه عقْدٌ منع فيه من التّفاضل، فمنْع الأْجل فيه، كالصّرْف، إذ الْحالّ لا يتأجّلبالتّأْجيل، وهو عدة تبرّعٍ لا يلْزم الْوفاء به. قال أحْمد: الْقرْض حالٌّ، وينْبغي أنْ يفي بوعْده، ويحْرم الإْلْزام بتأْجيل الْقرْض؛ لأنّه إلْزامٌ بما لا يلْزم.

ويرى الْحنفيّة والشّافعيّة أنّ الْقرْض عقْد إرْفاقٍ جائزٍ في حقّ الطّرفيْن، وذلك لأنّ الْملْك في الْقرْض غيْر تامٍّ؛ لأنّه يجوز لكلّ واحدٍ منْهما أنْ ينْفرد بالْفسْخ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  العاشر   ، الصفحة /  85

التَّبْعِيضُ فِي الْقَرْضِ:

25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الإْقْرَاضِ.

نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ قَوْلَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الإْقْرَاضُ بَعْدَ إِفْرَازِهِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَرْضَ الْمُشَاعِ جَائِزٌ بِالإْجْمَاعِ.

وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي إِيفَاءِ الْقَرْضِ كَأَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُوفِيَهُ أَنْقَصَ مِمَّا أَقْرَضَهُ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا أَمْ لاَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لأِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأِنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي الْمِثْلَ، فَشَرْطُ النُّقْصَانِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ، فَلَمْ يَجُزْ كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ.

وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ؛ لأِنَّ الْقَرْضَ جُعِلَ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْتَقْرِضِ، وَشَرْطُ النُّقْصَانِ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ  .

26 - وَأَمَّا تَعْجِيلُ بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ قِبَلِ الْمَدِينِ فِي مُقَابِلِ تَنَازُلِ الْغَرِيمِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ إِنْ تَنَازَلَ الْمَقْرُوضُ بِلاَ شَرْطٍ مَلْفُوظٍ أَوْ مَلْحُوظٍ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والعشرون  ، الصفحة /  103 

الْقَرْضُ:

5 - الْقَرْضُ عَقْدٌ مَخْصُوصٌ يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ . وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا اسْمُ «دَيْنٍ» فَيُقَالُ: دَانَ فُلاَنٌ يَدِينُ دَيْنًا: اسْتَقْرَضَ. وَدِنْتُ الرَّجُلَ: أَقْرَضْتُهُ . وَالْقَرْضُ أَخَصُّ مِنَ الدَّيْنِ.

 الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني  والعشرون  ، الصفحة /  49

رِبًا

التَّعْرِيفُ:

1 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الأْشْهَرِ، وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو رَبْوًا، وَرُبُوًّا وَرِبَاءً.

وَأَلِفُ الرِّبَا بَدَلٌ عَنْ وَاوٍ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: رِبَوِيٌّ، وَيُثَنَّى بِالْوَاوِ عَلَى الأَْصْلِ فَيُقَالُ: رِبَوَانِ، وَقَدْ يُقَالُ: رِبَيَانِ - بِالْيَاءِ - لِلإْمَالَةِ السَّائِغَةِ فِيهِ مِنْ أَجْلِ الْكَسْرَةِ.

وَالأْصْلُ فِي مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ إِذَا زَادَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِيالصَّدَقَاتِ ). وَأَرْبَى الرَّجُلُ: عَامَلَ بِالرِّبَا أَوْ دَخَلَ فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى» وَالإْجْبَاءُ: بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ.

وَيُقَالُ: الرِّبَا وَالرَّمَا وَالرَّمَاءُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ  رضي الله تعالي عنه قَوْلُهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَا، يَعْنِي الرِّبَا.

وَالرُّبْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ - اسْمٌ مِنَ الرِّبَا، وَالرُّبِّيَّةُ: الرِّبَاءُ، وَفِي الْحَدِيثِ «عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فِي صُلْحِ أَهْلِ نَجْرَانَ: أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ رُبِّيَّةٌ وَلاَ دَمٌ».

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَكَذَا رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالدِّمَاءَ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَ بِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كُلَّ رِبًا كَانَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ رُءُوسَ الأْمْوَالِ فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهَا.

وَالرِّبَا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:

عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأِحَدِ  الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُلِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَفَاضُلٌ فِي أَشْيَاءَ، وَنَسْءٌ فِي أَشْيَاءَ، مُخْتَصٌّ بِأَشْيَاءَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا - أَيْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا - نَصًّا فِي الْبَعْضِ، وَقِيَاسًا فِي الْبَاقِي مِنْهَا.

وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا عَلَى حِدَةٍ.

الأْلْفَاظُ  ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْبَيْعُ:

2 - الْبَيْعُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَاعَ، وَالأَْصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا لأِنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ.

وَالْبَيْعُ مِنَ الأْضْدَادِ مِثْلُ الشِّرَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَفْظُ بَائِعٍ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ بَاذِلُ السِّلْعَةِ، وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ فَيُقَالُ: بَيْعٌ جَيِّدٌ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ ).

وَالْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ حَلاَلٌ، وَالرِّبَا حَرَامٌ.

ب - الْعَرَايَا:

3 - الْعَرِيَّةُ لُغَةً: النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا غَيْرَهُ لِيَأْكُلَ ثَمَرَتَهَا فَيَعْرُوهَا أَيْ يَأْتِيهَا، أَوْ هِيَ النَّخْلَةُ الَّتِي أُكِلَ مَا عَلَيْهَا، وَالْجَمْعُ عَرَايَا، وَيُقَالُ: اسْتَعْرَى النَّاسُ أَيْ: أَكَلُوا الرُّطَبَ.

وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْعَرَايَا بِأَنَّهُ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ فِي الأْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِتَقْدِيرِ الْجَفَافِ بِمِثْلِهِ.

وَيَذْهَبُ آخَرُونَ فِي تَعْرِيفِ بَيْعِ الْعَرَايَا وَحُكْمِهِ مَذَاهِبَ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَعْرِيَةٌ) (وَبَيْعُ الْعَرَايَا) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ  9/ 91.

وَبَيْعُ الْعَرَايَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَفِيهِ مَا فِي الْمُزَابَنَةِ مِنَ الرِّبَا أَوْ شُبْهَتِهِ، لَكِنَّهُ أُجِيزَ بِالنَّصِّ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا»،، وَفِي لَفْظٍ: «عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ» وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ: «النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا».

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4 - الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَلَمْ يُؤْذِنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَاصِيًا بِالْحَرْبِ سِوَى آكِلِ الرِّبَا، وَمَنِ اسْتَحَلَّهُ فَقَدْ كَفَرَ - لإِنْكَارِهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ، أَمَّا مَنْ تَعَامَلَ بِالرِّبَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الرِّبَا لَمْ يَحِلَّ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لقوله تعالي: ( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) يَعْنِي فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ.

وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ).

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ  : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُالشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ).

5 - قَالَ السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لآِكِلِ الرِّبَا خَمْسًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ:

إِحْدَاهَا: التَّخَبُّطُ.. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُالشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ).

الثَّانِيَةُ: الْمَحْقُ.. قَالَ تَعَالَى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ) وَالْمُرَادُ الْهَلاَكُ وَالاِسْتِئْصَالُ، وَقِيلَ: ذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالاِسْتِمْتَاعِ حَتَّى لاَ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلاَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ.

الثَّالِثَةُ: الْحَرْبُ.. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ).

الرَّابِعَةُ: الْكُفْرُ.. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وَقَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّبَا : ( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) أَيْ: كَفَّارٍ بِاسْتِحْلاَلِ الرِّبَا، أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْلِ الرِّبَا.

الْخَامِسَةُ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ. قَالَ تَعَالَى : ( وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).

وَكَذَلِكَ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًامُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ( أَضْعَافًامُضَاعَفَةً ) لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِهِ، بَلْ لِمُرَاعَاةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ كَانَ الرَّجُلُ يُرْبِي إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الأْجَلُ  قَالَ لِلْمَدِينِ: زِدْنِي فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَكَ فِي الأْجَلِ، فَيَفْعَلُ، وَهَكَذَا عِنْدَ مَحَلِّ كُلِّ أَجَلٍ، فَيَسْتَغْرِقُ بِالشَّيْءِ الطَّفِيفِ مَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتِ الآْيَةُ.

6 - وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ مِنَ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:

مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ »

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ».

وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله تعالي عنهما  قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ».

وَأَجْمَعَتِ الأْمَّةُ عَلَى أَصْلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا.

وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ مَسَائِلِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ وَتَفْسِيرِ شَرَائِطِهِ.

7 - هَذَا، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْرِضُ أَوْ يَقْتَرِضُ أَوْ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي أَنْ يَبْدَأَ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمُعَامَلاَتِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهَا، حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً وَبَعِيدَةً عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُهُ إِثْمٌ وَخَطِيئَةٌ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ الأْحْكَامَ قَدْ يَقَعُ فِي الرِّبَا دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الإْرْبَاءَ، بَلْ قَدْ يَخُوضُ فِي الرِّبَا وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ تَرَدَّى فِي الْحَرَامِ وَسَقَطَ فِي النَّارِ، وَجَهْلُهُ لاَ يُعْفِيهِ مِنَ الإْثْمِ وَلاَ يُنَجِّيهِ مِنَ النَّارِ؛ لأِنَّ  الْجَهْلَ وَالْقَصْدَ لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الرِّبَا، فَالرِّبَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ - مِنَ الْمُكَلَّفِ - مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ جَلَّ جَلاَلُهُ بِهِ الْمُرَابِينَ، يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلاَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ.

وَقَدْ أُثِرَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ مِنَ الاِتِّجَارِ قَبْلَ تَعَلُّمِ مَا يَصُونُ الْمُعَامَلاَتِ التِّجَارِيَّةَ مِنَ التَّخَبُّطِ فِي الرِّبَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله تعالي عنه: لاَ يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ فَقِهَ، وَإِلاَّ أَكَلَ الرِّبَا، وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله تعالي عنه: مَنِ اتَّجَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ ثُمَّ ارْتَطَمَ، أَيْ: وَقَعَ وَارْتَبَكَ وَنَشِبَ.

وَقَدْ حَرَصَ الشَّارِعُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا؛ لأِنَّ  مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَكُلُّ ذَرِيعَةٍ إِلَى الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله تعالي عنه قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْمُخَابَرَةُ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأْرْضِ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الأْرْضِ، وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فِي الْحَقْلِ بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الأْرْضِ، إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الأْشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا؛ لأِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ الْجَفَافِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْجَهْلُ بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا وَالْوَسَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَتَفَاوَتَ نَظَرُهُمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.

8 - وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَلِ الأَْبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رضي الله تعالي عنه: ثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنَ الرِّبَا، يَعْنِي - كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا، وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالي عنه قَالَ: مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ، وَعَنْهُ رضي الله تعالي عنه قَالَ: ثَلاَثٌ لأَنْ  يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلاَلَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلاَفَةُ.

حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا:

9 - أَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا حِكَمًا تَشْرِيعِيَّةً:

مِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الإْنْسَانِ  مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ؛ لأِنَّ  مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً تَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَمَالُ الْمُسْلِمِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالَ صلي الله عليه وسلم: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» وَإِبْقَاءُ الْمَالِ فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَتَمْكِينُهُ مِنْ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ، فَقَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لاَ يَحْصُلُ، وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ مُتَيَقَّنٌ، وَتَفْوِيتُ الْمُتَيَقَّنِ لأِجْلِ الْمَوْهُومِ لاَ يَخْلُو مِنْ ضَرَرٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الاِشْتِغَالِ بِالْمَكَاسِبِ؛ لأِنَّ  صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إِذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيلِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ، فَلاَ يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الشَّاقَّةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ الَّتِي لاَ تَنْتَظِمُ إِلاَّ بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ؛ لأِنَّ  الرِّبَا إِذَا حُرِّمَ طَابَتِ النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَلَوْ حَلَّ الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَيُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإْحْسَانِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ... فَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ، حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنْهُ لأَِخِيهِ، فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا...

10 - وَأَمَّا الأْصْنَافُ السِّتَّةُ الَّتِي حُرِّمَ فِيهَا الرِّبَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله تعالي عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآْخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ».

11 - أَمَّا هَذِهِ الأْصْنَافُ فَقَدْ أَجْمَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا حَيْثُ قَالَ: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِي الأْثْمَانِ - أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - بِجِنْسِهَا لأِنَّ  ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأْثْمَانِ، وَمَنَعُوا التِّجَارَةَ فِي الأْقْوَاتِ - أَيِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ - بِجِنْسِهَا لأِنَّ  ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأْقْوَاتِ.

وَفَصَّلَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هِيَ الثَّمَنِيَّةُ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ تَقْوِيمُ الأْمْوَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لاَ يَرْتَفِعُ وَلاَ يَنْخَفِضُ، إِذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ، بَلِ الْجَمِيعُ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الأْشْيَاءُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُقَوَّمُ هُوَ بِغَيْرِهِ، إِذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلاَتُ النَّاسِ وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ... فَالأْثْمَانُ لاَ تُقْصَدُ لأِعْيَانِهَا، بَلْ يُقْصَدُ التَّوَصُّلُ بِهَا إِلَى السِّلَعِ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لأِعْيَانِهَا فَسَدَ أَمْرُ النَّاسِ.

وَأَضَافَ: وَأَمَّا الأْصْنَافُ الأْرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ فَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى غَيْرِهَا؛ لأِنَّ هَا أَقْوَاتُ الْعَالَمِ، فَمِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَمُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَالًّا مُتَفَاضِلاً وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا، وَجُوِّزَ لَهُمُ التَّفَاضُلُ مَعَ اخْتِلاَفِ أَجْنَاسِهَا.

فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسِرُّ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ بَيْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ إِلاَّ إِذَا رَبِحَ، وَحِينَئِذٍ تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِبَيْعِهَا حَالَّةً لِطَمَعِهِ فِي الرِّبْحِ، فَيَعِزُّ الطَّعَامُ عَلَى الْمُحْتَاجِ وَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ الشَّارِعِ بِهِمْ وَحِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِيهَا كَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِي الأْثْمَانِ؛ إِذْ لَوْ جَوَّزَ لَهُمُ النَّسَاءَ فِيهَا لَدَخَلَهَا «إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ» فَيَصِيرُ الصَّاعُ الْوَاحِدُ لَوْ أُخِذَ قُفْزَانًا كَثِيرَةً، فَفُطِمُوا عَنِ النَّسَاءِ، ثُمَّ فُطِمُوا عَنْ بَيْعِهَا مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، إِذْ تَجُرُّهُمْ حَلاَوَةُ الرِّبْحِ وَظَفَرُ الْكَسْبِ إِلَى التِّجَارَةِ فِيهَا نَسَاءً وَهُوَ عَيْنُ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْجِنْسَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ فَإِنَّ حَقَائِقَهُمَا وَصِفَاتِهِمَا وَمَقَاصِدَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَفِي إِلْزَامِهِمُ الْمُسَاوَاةَ فِي بَيْعِهَا إِضْرَارٌ بِهِمْ، وَلاَ يَفْعَلُونَهُ، وَفِي تَجْوِيزِ النَّسَاءِ بَيْنَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى «إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ» فَكَانَ مِنْ تَمَامِ رِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ أَنْ قَصَرَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شَاءُوا، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمُبَادَلَةُ، وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمْ مَفْسَدَةُ «إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ» وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا بِيعَتْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ نَسَاءً فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْهُ لأَضَرَّ بِهِمْ، وَلاَمْتَنَعَ السَّلَمُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِيمَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالشَّرِيعَةُ لاَ تَأْتِي بِهَذَا، وَلَيْسَ بِهِمْ حَاجَةٌ فِي بَيْعِ هَذِهِ الأْصْنَافِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى مَفْسَدَةِ الرِّبَا، فَأُبِيحَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ وَلَيْسَ بِذَرِيعَةٍ إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُنِعُوا مِمَّا لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُتَذَرَّعُ بِهِ غَالِبًا إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ.

أَقْسَامُ الرِّبَا:

رِبَا الْبَيْعِ (رِبَا الْفَضْلِ):

12 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الأْعْيَانِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالَّذِي عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفِهِ وَتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ فِي الْبُيُوعِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَنْوَاعِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ نَوْعَانِ:

1 - رِبَا الْفَضْلِ.. وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأِحَدِ  الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ.

2 - رِبَا النَّسِيئَةِ... وَهُوَ: فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الأْجَلِ، وَفَضْلُ الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رِبَا الْبَيْعِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:

1 - رِبَا الْفَضْلِ.. وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ.

2 - رِبَا الْيَدِ.. وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ.

3 - رِبَا النَّسَاءِ.. وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَجَلٍ وَلَوْ قَصِيرًا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ.

وَزَادَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ رِبَا الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ جَرُّ نَفْعٍ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى رِبَا الْفَضْلِ، وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: إِنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَعَلَّلَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا جُعِلَ رِبَا الْقَرْضِ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ - يَعْنِي الْبَيْعَ -؛ لأِنَّهُ لَمَّا شَرَطَ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُ بَاعَ مَا أَقْرَضَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ فَهُوَ مِنْهُ حُكْمًا.

رِبَا النَّسِيئَةِ:

13 - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ نَظِيرَ الأْجَلِ أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا رِبَا النَّسِيئَةِ مِنْ أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ - لأِنَّ  الزِّيَادَةَ فِيهِ مُقَابِلُ الأْجَلِ أَيًّا كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا.

وَسُمِّيَ رِبَا الْقُرْآنِ؛ لأِنَّهُ حُرِّمَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ).

ثُمَّ أَكَّدَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ تَحْرِيمَهُ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى.

ثُمَّ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

وَسُمِّيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، لأِنَّ  تَعَامُلَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالرِّبَا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِهِ كَمَا قَالَ الْجَصَّاصُ.

وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَتَفْعَلُهُ إِنَّمَا كَانَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ.

وَسُمِّيَ أَيْضًا الرِّبَا الْجَلِيَّ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْجَلِيُّ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَهُ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا مُؤَلَّفَةً..

14 - وَرِبَا الْفَضْلِ يَكُونُ بِالتَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا إِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا، أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَيُسَمَّى رِبَا الْفَضْلِ لِفَضْلِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَإِطْلاَقُ التَّفَاضُلِ عَلَى الْفَضْلِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الآْخَرِ.

وَيُسَمَّى رِبَا النَّقْدِ فِي مُقَابَلَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ:

وَيُسَمَّى الرِّبَا الْخَفِيَّ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لأِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الأَْوَّلِ قَصْدًا، وَتَحْرِيمُ الثَّانِي لأِنَّهُ وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ» وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ - وَلاَ يُفْعَلُ هَذَا إِلاَّ لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إِمَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ، وَإِمَّا فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّلِ فِيهَا إِلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهَذَا ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا، فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ.

أَثَرُ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ:

15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يُخَالِطُهُ الرِّبَا مَفْسُوخٌ لاَ يَجُوزُ بِحَالٍ، وَأَنَّ مَنْ أَرْبَى يُنْقَضُ عَقْدُهُ وَيُرَدُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً؛ لأِنَّهُ فَعَلَ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْفَسَادَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله تعالي عنه قَالَ: «جَاءَ بِلاَلٌ - رضي الله تعالي عنه - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ بِلاَلٌ: مِنْ تَمْرٍ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٍ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» فَقَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم: «أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» أَيْ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ لاَ مَا يُشْبِهُهُ، وَقَوْلُهُ: «فَهُوَ رَدٌّ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ صَفْقَةِ الرِّبَا وَأَنَّهَا لاَ تَصِحُّ بِوَجْهٍ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ».

وَقَالَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالإْبْطَالُ.

وَفَصَّلَ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: مَنْ بَاعَ بَيْعًا أَرْبَى فِيهِ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لِلرِّبَا فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ إِنْ لَمْ يُعْذَرْ بِجَهْلٍ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا كَانَ قَائِمًا، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَمَرَ السَّعْدَيْنِ أَنْ يَبِيعَا آنِيَةً مِنَ الْمَغَانِمِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَبَاعَا كُلَّ ثَلاَثَةٍ بِأَرْبَعَةٍ عَيْنًا، أَوْ كُلَّ أَرْبَعَةٍ بِثَلاَثَةٍ عَيْنًا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا».

فَإِنْ فَاتَ الْبَيْعُ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ قَبَضَ الرِّبَا أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ رَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرْبَى ثُمَّ تَابَ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَ مِنَ الرِّبَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَلَهُ رِبًا، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ فَهُوَ لَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ  : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضِ الرِّبَا فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا أَعْلَمُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: اشْتِرَاطُ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي الْمُعَامَلاَتِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، فَيُمْلَكُ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِالْقَبْضِ، وَلاَ يُمْلَكُ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ بِالْقَبْضِ، يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: الْفَسَادُ وَالْبُطْلاَنُ فِي الْعِبَادَاتِ سِيَّانِ، أَمَّا فِي الْمُعَامَلاَتِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُ الْمُعَامَلَةِ عَلَيْهَا فَهُوَ الْبُطْلاَنُ، وَإِنْ تَرَتَّبَ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبَ التَّفَاسُخِ شَرْعًا فَهُوَ الْفَسَادُ، وَإِلاَّ فَهُوَ الصِّحَّةُ.

وَالْبَيْعُ الرِّبَوِيُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَحُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِوَضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَيَجِبُ رَدُّهُ لَوْ قَائِمًا، وَرَدُّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ لَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الرِّبَوِيَّةِ لَوْ قَائِمَةً، لاَ رَدُّ ضَمَانِهَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ، حَقَّ الْعَبْدِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا وَمِثْلِهِ لَوْ هَالِكًا، وَحَقَّ الشَّرْعِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لِنَقْضِ الْعَقْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَبَعْدَ الاِسْتِهْلاَكِ لاَ يَتَأَتَّى رَدُّ عَيْنِهِ فَتَعَيَّنَ رَدُّ الْمِثْلِ وَهُوَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إِنَّ رَدَّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا فِيمَا لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الزَّائِدِ، أَمَّا لَوْ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَزَادَهُ دَانِقًا هِبَةً مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ.

الْخِلاَفُ فِي رِبَا الْفَضْلِ:

16 - أَطْبَقَتِ الأْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا اجْتَمَعَ التَّفَاضُلُ مَعَ النَّسَاءِ، وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ نَقْدًا فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَدِيمٌ: صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم إِبَاحَتُهُ، وَكَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَعَ رُجُوعِهِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم، وَفِيهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله تعالي عنه شَيْءٌ مُحْتَمَلٌ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَفُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ وَعُرْوَةَ.

انْقِرَاضُ الْخِلاَفِ فِي رِبَا الْفَضْلِ وَدَعْوَى الإْجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ:

17 - نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الأْمْصَارِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالأْوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، وَلاَ بُرٍّ بِبُرٍّ، وَلاَ شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ، وَلاَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ، وَلاَ مِلْحٍ بِمِلْحٍ، مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ نَسِيئَةً، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرْبَى وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، قَالَ: وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَجَمَاعَةٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ.

وَنَاقَشَ السُّبْكِيُّ دَعْوَى الإْجْمَاعِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ، وَانْتَهَى إِلَى الْقَوْلِ: فَعَلَى هَذَا امْتَنَعَ دَعْوَى الإْجْمَاعِ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَكِنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَغْنُونَ عَنِ الإْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَضَافِرَةِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الإْجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ خَفِيَّةٍ سَنَدُهَا قِيَاسٌ أَوِ اسْتِنْبَاطٌ دَقِيقٌ.

الأْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ:

18 - رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ

مِنْهَا: مَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ».

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالي عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِوَرِقٍ، فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِذَهَبٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ، وَالصَّرْفُ هَاءَ وَهَاءَ».

وَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِثْلُ هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِلَ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّسِيئَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْإِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) وَكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ، قَالَ: قِيلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: «لاَ رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ» الرِّبَا الأَْغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: لاَ عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الأْكْمَلِ لاَ نَفْيُ الأْصْلِ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ أُسَامَةَ عَامٌّ؛ لأِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ رِبَا الْفَضْلِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الأْجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ أَمْ لاَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهَا مُطْلَقًا، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِمَنْطُوقِهَا.

الأْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا:

19 - الأْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا سِتَّةٌ وَهِيَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَتَمِّهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ السَّابِقُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا، فَلاَ يَجُوزُ مِنْهُمَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالأْوْزَاعِيِّ وَمُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَأَضَافَ مَالِكٌ إِلَيْهِمَا السُّلْتَ.

وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لاَ يَجْرِي إِلاَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلاَ يَجْرِي فِي الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ تَقَارَبَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ».

وَخَالَفَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: كُلُّ شَيْئَيْنِ يَتَقَارَبُ الاِنْتِفَاعُ بِهِمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ مُتَفَاضِلاً، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالزَّبِيبِ، لأِنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ.

الاِخْتِلاَفُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأْجْنَاسِ:

20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الأْحَادِيثِ، هَلْ يَحْرُمُ الرِّبَا فِيهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ أَمْ لاَ يَحْرُمُ؟.

فَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ، بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي الأْجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لأِنَّ  ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهَا بِعِلَّةٍ، فَيَثْبُتُ فِي كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ؛ لأِنَّ  الْقِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَتُسْتَخْرَجُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَثْبُتُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وُجِدَتْ عِلَّتُهُ فِيهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ رَوَيَا حَدِيثَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْعْيَانِ السِّتَّةِ وَفِي آخِرِهِ «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى سَائِرِ الأْمْوَالِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلاَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الرَّمَا» أَيِ الرِّبَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الصَّاعِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الصَّاعِ، كَمَا يُقَالُ خُذْ هَذَا الصَّاعَ أَيْ مَا فِيهِ، وَوَهَبْتُ لِفُلاَنٍ صَاعًا أَيْ مِنَ الطَّعَامِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأْنْصَارِيَّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرَ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «لاَ تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ».

يَعْنِي مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الآْثَارِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنَ الأْشْيَاءِ السِّتَّةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَالَ الرِّبَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ حُكْمَ الرِّبَا فِي الأْشْيَاءِ السِّتَّةِ.

وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلاَتِ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كُنَّا فِي الْمَدِينَةِ نَبِيعُ الأْوْسَاقَ وَنَبْتَاعُهَا» وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِمَّا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَهِيَ الأْجْنَاسُ الْمَذْكُورَةُ.

وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ قَصَرُوا التَّحْرِيمَ عَلَى الأْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا، وَقَالُوا إِنَّ التَّحْرِيمَ لاَ يَجْرِي فِي غَيْرِهَا بَلْ إِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الإْبَاحَةِ، وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ:  

أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ مِنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَالأْقْوَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَكِيلاَتِ أَوْ فِي كُلِّ الْمَطْعُومَاتِ لَقَالَ: لاَ تَبِيعُوا الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ مُتَفَاضِلاً أَوْ: لاَ تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلاً، فَإِنَّ هَذَا الْكَلاَمَ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَعَدَّ الأْرْبَعَةَ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا. وَأَنَّ التَّعْدِيَةَ مِنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ لاَ تُمْكِنُ إِلاَّ بِوَاسِطَةِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ عِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ.

عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا:

21 - اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّحْرِيمِ يَتَعَدَّى إِلَى مَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ، وَأَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الأْجْنَاسِ الأْرْبَعَةِ الأْخْرَى وَاحِدَةٌ.. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ.

22 - فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلَّةُ: الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ، وَقَدْ عُرِفَ الْجِنْسُ بِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» وَعُرِفَ الْقَدْرُ بِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «مِثْلاً بِمِثْلٍ» وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْلَ فِيمَا يُكَالُ وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ»،، وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «لاَ تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ»،، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَكِيلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلأِنَّ  الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إِمَّا إِجْمَاعًا (أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) أَوْ؛ لأِنَّ  التَّسَاوِيَ حَقِيقَةً لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِمَا، وَجَعْلُ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ إِجْمَاعًا أَوْ هُوَ مُعَرِّفٌ لِلتَّسَاوِي حَقِيقَةً أَوْلَى مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلاَ يُعْرَفُ التَّسَاوِي حَقِيقَةً فِيهِ؛ وَلأِنَّ  التَّسَاوِيَ وَالْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «مِثْلاً بِمِثْلٍ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «سَوَاءً بِسَوَاءٍ» أَوْ صِيَانَةً لأِمْوَالِ النَّاسِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى أَتَمُّ، وَذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لأِنَّ  الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُوجِبُهَا مَعْنًى، فَكَانَ أَوْلَى.

23 - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَقِيلَ: غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَقِيلَ: مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مَا ذُكِرَ؛ لأِنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعِ الرِّبَا فِيهَا لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى قِلَّتِهَا فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ.

وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الطَّعَامِ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُ الأْكْثَرِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالاِقْتِيَاتُ مَعْنَاهُ قِيَامُ بِنْيَةِ الآْدَمِيِّ بِهِ - أَيْ حِفْظُهَا وَصِيَانَتُهَا - بِحَيْثُ لاَ تَفْسُدُ بِالاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ إِصْلاَحُ الْقُوتِ كَمِلْحٍ وَتَوَابِلَ، وَمَعْنَى الاِدِّخَارِ عَدَمُ فَسَادِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى الأْجَلِ الْمُبْتَغَى مِنْهُ عَادَةً، وَلاَ حَدَّ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الاِدِّخَارُ مُعْتَادًا، وَلاَ عِبْرَةَ بِالاِدِّخَارِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ.

وَإِنَّمَا كَانَ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ لِخَزْنِ النَّاسِ لَهُ حِرْصًا عَلَى طَلَبِ وُفُورِ الرِّبْحِ فِيهِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.

وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مُجَرَّدُ الطَّعْمِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي، فَتَدْخُلُ الْفَاكِهَةُ وَالْخُضَرُ كَبِطِّيخٍ وَقِثَّاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

24 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الأْثْمَانِ غَالِبًا - كَمَا نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِجِنْسِيَّةِ الأْثْمَانِ غَالِبًا أَوْ بِجَوْهَرِيَّةِ الأْثْمَانِ غَالِبًا، وَهَذِهِ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لاَ تَتَعَدَّاهُمَا إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا، فَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِيهِمَا لَيْسَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الأْمْوَالِ؛ لأِنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الأْمْوَالِ؛ لأِنَّ  كُلَّ شَيْئَيْنِ جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا لاَ يَجُوزُ إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَلَمَّا جَازَ إِسْلاَمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأْمْوَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لِمَعْنًى لاَ يَتَعَدَّاهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الأْثْمَانِ.

وَذُكِرَ لَفْظُ «غَالِبًا» فِي بَيَانِ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلاِحْتِرَازِ مِنَ الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ فَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأْثْمَانِ غَالِبًا، وَيَدْخُلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا الأْوَانِي وَالتِّبْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا، قَالَ: وَكُلُّهُ قَرِيبٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الأْشْيَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ؛ لأِنَّ  الأْوَانِيَ وَالتِّبْرَ وَالْحُلِيَّ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُومُ بِهَا، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِيهِمَا بِعَيْنِهِمَا لاَ لِعِلَّةٍ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.

وَمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَالْغَزْلِ وَغَيْرِهَا.. لاَ رِبَا فِيهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَمُؤَجَّلاً.

وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الأْرْبَعَةِ وَهِيَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالدَّلِيلُ مَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ» فَقَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَطْعُومِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُشْتَقِّ مُعَلَّلٌ بِمَا مِنْهُ الاِشْتِقَاقُ كَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ الْمُعَلَّقَيْنِ بِالسَّارِقِ وَالزَّانِي. وَلأِنَّ  الْحَبَّ مَا دَامَ مَطْعُومًا يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا زُرِعَ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَطْعُومًا لَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا انْعَقَدَ الْحَبُّ وَصَارَ مَطْعُومًا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مَطْعُومًا، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا يُطْعَمُ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ الأْرْبَعَةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ مَكِيلَةٌ أَوْ مَطْعُومَةٌ مَوْزُونَةٌ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يَحْرُمُ الرِّبَا إِلاَّ فِي مَطْعُومٍ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ.

وَالْجَدِيدُ هُوَ الأْظْهَرُ، وَتَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ وَالأْصْحَابِ عَلَيْهِ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَطْعُومِ مَا قُصِدَ لِطَعْمِ الآْدَمِيِّ غَالِبًا، بِأَنْ يَكُونَ أَظْهَرُ مَقَاصِدِهِ الطَّعْمَ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ إِلاَّ نَادِرًا، وَالطَّعْمُ يَكُونُ اقْتِيَاتًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا، وَالثَّلاَثَةُ تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ، فَإِنَّهُ نُصَّ فِيهِ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا التَّقَوُّتُ، فَأُلْحِقَ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالأْرْزِ وَالذُّرَةِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّأَدُّمُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى الْمِلْحِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الإْصْلاَحُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُصْطَكَى وَالسَّقَمُونْيَا وَالزَّنْجَبِيلِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا يُصْلِحُ الْغِذَاءَ وَمَا يُصْلِحُ الْبَدَنَ، فَالأْغْذِيَةُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَالأْدْوِيَةُ لِرَدِّ الصِّحَّةِ.

25 - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأْجْنَاسِ السِّتَّةِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: أَشْهَرُهَا أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ جِنْسٍ، وَفِي الأْجْنَاسِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَكِيلاَتِ جِنْسٍ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا لاَ يَتَأَتَّى كَيْلُهُ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَيْلِ، وَلاَ يَتَأَتَّى وَزْنُهُ كَمَا دُونَ الأْرْزَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا، مَطْعُومًا كَانَ الْمَكِيلُ أَوِ الْمَوْزُونُ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَالُ وَلاَ يُوزَنُ كَالْمَعْدُودَاتِ مِنَ التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ وَخِيَارَةٍ وَبِطِّيخَةٍ بِمِثْلِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأِنَّهُ لَيْسَ مَكِيلاً وَلاَ مَوْزُونًا، لَكِنْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَقَالَ: لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لأِنَّهُ مَطْعُومٌ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا لاَ يُوزَنُ عُرْفًا لِصِنَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ غَيْرَ الْمَعْمُولِ مِنَ النَّقْدَيْنِ كَالْمَعْمُولِ مِنَ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ، كَالْخَوَاتِمِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الأْثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ» وَلأِنَّ  الطَّعْمَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهِ قِوَامُ الأْبْدَانِ، وَالثَّمَنِيَّةَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهَا قِوَامُ الأْمْوَالِ، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِمَا؛ وَلأِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الأْثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ لأِنَّ  أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا الْفَضْلِ يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَالُ وَلاَ يُوزَنُ، كَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْخَوْخِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، لأِنَّ  لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأْصْنَافِ أَثَرًا، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ حَذْفُهُ؛ وَلأِنَّ  الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لاَ مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ.

وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لاَ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ لِعَدَمِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالأْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَتَقْيِيدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالآْخَرِ، «فَنَهْيُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ» يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ عَنِ التَّفَاضُلِ فِيهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا كَالأْرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، أَوْ أُدْمًا كَالْقُطْنِيَّاتِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ، أَوْ تَدَاوِيًا كَالإْهْلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا، فَإِنَّ الْكُلَّ فِي بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ.

مِنْ أَحْكَامِ الرِّبَا:

26 - إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مَالٍ مِنَ الأْمْوَالِ، فَإِنْ بِيعَ بِجِنْسِهِ حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَفِيمَا عَدَاهُ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْعِلَّةِ.

وَفِيمَا يَلِي مُجْمَلُ أَحْكَامِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.

27 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، فَإِنْ وُجِدَا حُرِّمَ الْفَضْلُ وَالنَّسَاءُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ، وَلاَ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزٍ مِنْهُ وَأَحَدُهُمَا نَسَاءٌ، وَإِنْ عُدِمَا - أَيِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ - حَلَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَيِ الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، أَوِ الْجِنْسُ وَحْدَهُ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِهَرَوِيٍّ مِثْلِهِ حَلَّ الْفَضْلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ. قَالُوا: أَمَّا إِذَا وُجِدَ الْمِعْيَارُ وَعُدِمَ الْجِنْسُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَلِقَوْلِهِ عليه السلام «إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، وَيُرْوَى النَّوْعَانِ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْجِنْسِيَّةُ وَعُدِمَ الْمِعْيَارُ كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ، فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّلِ وَلَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ التَّعْجِيلُ رِبًا؛ لأِنَّهُ فَضْلٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ.

وَيَحْرُمُ بَيْعُ كَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَنَسِيئَةً وَلَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَجِصٍّ كَيْلِيٍّ أَوْ حَدِيدٍ وَزْنِيٍّ، وَيَحِلُّ بَيْعُ ذَلِكَ مُتَمَاثِلاً لاَ مُتَفَاضِلاً وَبِلاَ مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُقَدِّرِ الْمِعْيَارَ بِالذَّرَّةِ وَبِمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الصَّاعِ، وَكَذَرَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ فَرَأَى تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ.

وَجَيِّدُ مَالِ الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ»؛ وَلأِنَّ  فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ فَيَلْغُو، وَاسْتَثْنَوْا مَسَائِلَ لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِهْدَارُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ، وَهِيَ: مَالُ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ وَالْمَرِيضِ فَلاَ يُبَاعُ الْجَيِّدُ مِنْهُ بِالرَّدِيءِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الرَّدِيءِ بِالْجَيِّدِ وَالْقُلْبِ وَالْمَرْهُونِ إِذَا انْكَسَرَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِخِلاَفِ جِنْسِهِ.

وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَكَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ النَّصِّ وَأَشَارَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ، وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ؛ لأِنَّ  النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشَّيْءِ أَوِ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلاَّ؛ لأِنَّ  الْعَادَةَ إِذْ ذَاكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَتَبَدَّلَ الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ صلي الله عليه وسلم بِالْعَكْسِ لَوَرَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لَهُ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ فِي حَيَاتِهِ لَنَصَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوَانٍ وَلَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَبَيْعُ قُطْنٍ بِغَزْلِ قُطْنٍ فِي الأْصَحِّ، وَبَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ مُتَمَاثِلاً كَيْلاً، وَبَيْعُ لُحُومٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَبَنُ بَقَرٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْبُرِّ بِدَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ، وَلاَ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ.

وَلاَ رِبَا بَيْنَ مُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ عِنَانٍ إِذَا تَبَايَعَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.

28 - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَلاَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلاً إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَالطَّعَامُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْقُطْنِيَّةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ أَوْ إِدَامٍ لاَ يَجُوزُ الْجِنْسُ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَلاَ يَجُوزُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلاَفِهِ، كَانَ مِمَّا يُدَّخَرُ أَوْ لاَ يُدَّخَرُ.

وَلاَ بَأْسَ بِالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَمَا لاَ يُدَّخَرُ مُتَفَاضِلاً وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ وَسَائِرِ الإِْدَامِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ الْمَاءَ وَحْدَهُ، وَمَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالطَّعَامِ فَلاَ بَأْسَ بِالتَّفَاضُلِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ إِلاَّ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَيَحْرُمُ، وَالزَّبِيبُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَالتَّمْرُ كُلُّهُ صِنْفٌ، وَالْقُطْنِيَّةُ أَجْنَاسٌ فِي الْبُيُوعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ ذَوَاتِ الأْرْبَعِ مِنَ الأْنْعَامِ كَالإْبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ كَالْغَزَالِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ دَوَابِّ الْمَاءِ كُلُّهَا جِنْسٌ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ لُحُومِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ شَحْمٍ فَهُوَ كَلَحْمِهِ، وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ ذَوَاتِ الأْرْبَعِ الإْنْسِيِّ مِنْهُ وَالْوَحْشِيِّ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ جُبْنُهُ وَسَمْنُهُ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جِنْسٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلاَثَةِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلاً لاَ مُتَفَاضِلاً.

29 - وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بِيعَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ إِنْ كَانَا جِنْسًا اشْتُرِطَ الْحُلُولُ وَالْمُمَاثَلَةُ وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، أَوْ جِنْسَيْنِ كَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ جَازَ التَّفَاضُلُ وَاشْتُرِطَ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَدَقِيقُ الأْصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ وَخَلُّهَا وَدُهْنُهَا أَجْنَاسٌ؛ لأِنَّ هَا فُرُوعُ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأُعْطِيَتْ حُكْمَ أُصُولِهَا، وَاللُّحُومُ وَالأْلْبَانُ كَذَلِكَ فِي الأْظْهَرِ. وَالنَّقْدُ بِالنَّقْدِ كَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.

وَالْمُمَاثَلَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، وَالْمُعْتَبَرُ غَالِبُ عَادَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَمَا جُهِلَ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْبَيْعِ، وَقِيلَ: الْكَيْلُ، وَقِيلَ: الْوَزْنُ، وَقِيلَ: يُتَخَيَّرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ اعْتُبِرَ.

وَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَقْتَ الْجَفَافِ؛ لأِنَّهُ «صلي الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ» أَشَارَ صلي الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «أَيَنْقُصُ» إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ وَإِلاَّ فَالنُّقْصَانُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا إِبْقَاؤُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يَتَأَتَّى ادِّخَارُهُ عَلَيْهَا كَالتَّمْرِ بِنَوَاهُ، فَلاَ يُبَاعُ رُطَبٌ بِرُطَبٍ وَلاَ بِتَمْرٍ، وَلاَ عِنَبٌ بِعِنَبٍ وَلاَ بِزَبِيبٍ، لِلْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ وَقْتَ الْجَفَافِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَمَا لاَ جَفَافَ لَهُ كَالْقِثَّاءِ وَالْعِنَبِ الَّذِي لاَ يَتَزَبَّبُ لاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَصْلاً قِيَاسًا عَلَى الرُّطَبِ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ تَكْفِي مُمَاثَلَتُهُ رُطَبًا؛ لأِنَّ  مُعْظَمَ مَنَافِعِهِ فِي رُطُوبَتِهِ فَكَانَ كَاللَّبَنِ فَيُبَاعُ وَزْنًا وَإِنْ أَمْكَنَ كَيْلُهُ.

وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالتَّمْرِ الْمَعْقِلِيِّ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَهُمَا جِنْسَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم ذَكَرَ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ فِيهَا التَّفَاضُلَ إِذَا بِيعَ كُلٌّ مِنْهَا بِمَا وَافَقَهُ فِي الاِسْمِ وَأَبَاحَ فِيهِ التَّفَاضُلَ إِذَا بِيعَ بِمَا خَالَفَهُ فِي الاِسْمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ فَهُمَا جِنْسٌ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ فَهُمَا جِنْسَانِ.

30 - وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: كُلُّ مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ مِنْ جَمِيعِ الأْشْيَاءِ فَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ إِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً، وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ عُبَادَةَ السَّابِقُ، وَمَا كَانَ مِمَّا لاَ يُكَالُ وَلاَ يُوزَنُ فَجَائِزٌ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ - وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرُّطَبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ إِلاَّ الْعَرَايَا، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الرُّطُبِ بِمِثْلِهِ فَيَجُوزُ مَعَ التَّمَاثُلِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَيْبَسُ كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَلاَ يُبَاعُ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا وَلاَ مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيْلاً، وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إِلَى الْعُرْفِ بِالْحِجَازِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ».

وَمَا لاَ عُرْفَ فِيهِ بِالْحِجَازِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدَهُمَا: يُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ الأْشْيَاءِ شَبَهًا بِالْحِجَازِ.

وَالثَّانِيَ: يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا، وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ فُرُوعِهَا:  

السَّوِيقُ، وَالدَّقِيقُ فِي الصَّحِيحِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالدَّقِيقِ، فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِ فُرُوعِهَا بِبَعْضٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ بِنَوْعِهِ مُتَسَاوِيًا، فَأَمَّا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ. وَالأْصَحُّ أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ، وَفِي اللَّبَنِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.

وَالثَّانِيَةُ: هُوَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ كَاللَّحْمِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي جَوَازَهُ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ كَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَسَائِرِ الأْدْهَانِ بِأُصُولِهَا وَالْعَصِيرِ بِأَصْلِهِ.

وَبَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُعْتَصَرَاتِ بِجِنْسِهِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلاً، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَكَيْفَ شَاءَ؛ لأِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا بِالْكَيْلِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مَطْبُوخَيْنِ أَمْ نِيئَيْنِ، أَمَّا بَيْعُ النِّيءِ بِالْمَطْبُوخِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلاَ يَجُوزُ.

مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا:

31 - مَسَائِلُ الرِّبَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَالْعِلَّةُ هِيَ  الأْصْلُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَسَائِلِ الرِّبَا.

أَوْ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعَهُ مُنْتَشِرَةٌ، وَالَّذِي يَرْبِطُ لَكَ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا. وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ وَمُخْتَارَاتٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ:

الْمُحَاقَلَةُ:

32 - بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ صَافِيَةٍ مِنَ التِّبْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ جَهْلِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ ) (وَمُحَاقَلَةٌ).

الْمُزَابَنَةُ:

33 - بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ ).

الْعِينَةُ:

34 - بَيْعُ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ، إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ شِرَاؤُهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - لأِنَّهُ مِنَ الرِّبَا أَوْ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ ).

بَيْعُ الأْعْيَانِ غَيْرِ الرِّبَوِيَّةِ:

35 - الأْعْيَانُ الرِّبَوِيَّةُ نَوْعَانِ:

أ - الأْعْيَانُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي حَدِيثَيْ عُبَادَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله تعالي عنهما .

ب - الأْعْيَانُ الَّتِي تَحَقَّقَتْ فِيهَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِلَّةِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا عَدَا هَذِهِ الأْعْيَانَ  الرِّبَوِيَّةَ بِنَوْعَيْهَا لاَ يَحْرُمُ فِيهَا الرِّبَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَنَسِيئَةً، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ؛ لِمَا رَوَى «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ أُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتِ الإْبِلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَى قِلاَصِ الصَّدَقَةِ، فَكُنْتُ آخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ». وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالي عنه أَنَّهُ بَاعَ جَمَلاً إِلَى أَجَلٍ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا، وَبَاعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالي عنهما  بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ، وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله تعالي عنهما  رَاحِلَةً بِأَرْبَعِ رَوَاحِلَ وَرَوَاحِلُهُ بِالرَّبَذَةِ، وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رضي الله تعالي عنه بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا وَقَالَ: آتِيَكَ بِالآْخَرِ غَدًا.

وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، بَيْعَ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، كَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ - مَرْفُوعًا - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً».

وَلأِنَّ  الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، فَحُرِّمَ النَّسَاءُ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُتَصَوَّرُ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالطَّعَامِ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ التَّمَلُّكَاتِ، وَذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ:

أ - التَّفَاضُلُ.

ب - النَّسِيئَةُ.

ج - اتِّفَاقُ الأْغْرَاضِ وَالْمَنَافِعِ.

كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، وَبَيْعِ فَرَسٍ لِلرُّكُوبِ بِفَرَسَيْنِ لِلرُّكُوبِ إِلَى أَجَلٍ.

فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لِلرُّكُوبِ دُونَ الآْخَرِ جَازَ؛ لاِخْتِلاَفِ الْمَنَافِعِ.

بَيْعُ الْعَيْنِ بِالتِّبْرِ، وَالْمَصْنُوعِ بِغَيْرِهِ:

36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عَيْنَ الذَّهَبِ، وَتِبْرَهُ، وَالصَّحِيحَ، وَالْمَكْسُورَ مِنْهُ، سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الْمِقْدَارِ وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُلِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ مِثْقَالُ ذَهَبٍ عَيْنٍ بِمِثْقَالٍ وَشَيْءٍ مِنْ تِبْرٍ غَيْرِ مَضْرُوبٍ، وَكَذَلِكَ حَرَّمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَضْرُوبِ مِنَ الْفِضَّةِ وَغَيْرِ الْمَضْرُوبِ مِنْهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا».

وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ، فِي التَّاجِرِ يَحْفِزُهُ الْخُرُوجُ وَبِهِ حَاجَةٌ إِلَى دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةٍ، فَيَأْتِي دَارَ الضَّرْبِ بِفِضَّتِهِ أَوْ ذَهَبِهِ فَيَقُولُ لِلضَّرَّابِ: خُذْ فِضَّتِي هَذِهِ أَوْ ذَهَبِي وَخُذْ قَدْرَ عَمَلِ يَدِكَ وَادْفَعْ إِلَيَّ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً فِي ذَهَبِي أَوْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً فِي فِضَّتِي هَذِهِ لأِنِّي  مَحْفُوزٌ لِلْخُرُوجِ وَأَخَافُ أَنْ يَفُوتَنِي مَنْ أَخْرُجُ مَعَهُ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ التَّاجِرِ وَإِنَّ مَالِكًا قَدْ خَفَّفَ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْحُجَّةُ فِيهِ لِمَالِكٍ بَيِّنَةٌ.

قَالَ الأْبْهَرِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّفْقِ لِطَلَبِ التِّجَارَةِ وَلِئَلاَّ يَفُوتَ السُّوقُ وَلَيْسَ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِيَ مِمَّنْ يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ وَيَبْتَغِيهِ.

وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ؛ وَلأِنَّ  لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً بِدَلِيلِ حَالَةِ الإْتْلاَفِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَمَّ قِيمَةَ الصِّنَاعَةِ إِلَى الذَّهَبِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَالَ لِصَانِعٍ: اصْنَعْ لِي خَاتَمًا وَزْنَ دِرْهَمٍ، وَأُعْطِيكَ مِثْلَ وَزْنِهِ وَأُجْرَتَكَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لِلصَّائِغِ أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَاتَمِ وَالثَّانِي أُجْرَةً لَهُ.

الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:

37 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الإْسْلاَمِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الإْسْلاَمِ كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ جَرَى بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ، وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا الْمُسْلِمُ بِأَمَانٍ أَمْ بِغَيْرِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ؛ وَلأِنَّ  مَا كَانَ رِبًا فِي دَارِ الإْسْلاَمِ كَانَ رِبًا مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ مُسْلِمَانِ مُهَاجِرَانِ وَكَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ مُسْلِمٌ وَحَرْبِيٌّ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ؛ وَلأِنَّ  مَا حُرِّمَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ حُرِّمَ هُنَاكَ كَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي؛ وَلأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ فَلَمْ يَصِحَّ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ هُنَاكَ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْرُمُ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرَا مِنْهَا؛ لأِنَّ  مَالَهُمْ مُبَاحٌ إِلاَّ أَنَّهُ بِالأْمَانِ حُرِّمَ التَّعَرُّضُ لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ حَلَّ أَخْذُ مَالِهِمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، بِخِلاَفِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لأِنَّ  مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِالأْمَانِ.

مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ:

38 - إِذَا جَمَعَ الْبَيْعُ رِبَوِيًّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَاخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَبِيعِ مِنْهُمَا بِأَنِ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى جِنْسَيْنِ رِبَوِيَّيْنِ اشْتَمَلَ الآْخَرُ عَلَيْهِمَا، كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ مِنْ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَكَذَا لَوِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَطْ كَمُدٍّ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوِ اشْتَمَلاَ جَمِيعُهُمَا عَلَى جِنْسٍ رِبَوِيٍّ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُ رِبَوِيٍّ فِيهِمَا كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ، أَوِ اخْتَلَفَ نَوْعُ الْمَبِيعِ كَصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عَنْ قِيمَةِ الصِّحَاحِ بِهِمَا أَيْ بِصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا أَيْ بِصِحَاحٍ فَقَطْ أَوْ بِمُكَسَّرَةٍ فَقَطْ... إِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسْأَلَةِ «مُدِّ عَجْوَةٍ». وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله تعالي عنه قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ تُبَاعُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لاَ تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَلَ».

وَاسْتَدَلَّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ قَضِيَّةَ اشْتِمَالِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي الآْخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَالتَّوْزِيعُ يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأِنَّهُ إِذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْمُفَاضَلَةُ، أَوْ مِثْلَهُ فَالْمُمَاثَلَةُ مَجْهُولَةٌ

وَلِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِتَحَقُّقِ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْأَلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأِنَّ  الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْفَسَادِ فَيُجْعَلُ الرِّبَوِيُّ فِي مُقَابَلَةِ قَدْرِهِ مِنَ الرِّبَوِيِّ الآْخَرِ وَيُجْعَلُ الزَّائِدُ فِي مُقَابَلَةِ مَا زَادَ عَنِ الْقَدْرِ الْمُمَاثِلِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني والثلاثون ، الصفحة / 281

الْقَرْضُ:

36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْقَرْضِ لِنَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ، إلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ .

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُقْرِضِ، وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلأِنَّ  الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ: فَلأِنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَالِ الْمُسْتَقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ، لأِنَّ  غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إنَّمَا هِيَ بَذْلُ مَنَافِعِ الْمَالِ الْمُقْرَضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ مَجَّانًا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي الْحَالِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا كَانَ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِلُ الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ، لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ بِالتَّصَرُّفِ.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَصِيرُ مَالاً مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ .

(وَالثَّالِثُ) لأِبِي  يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُلُّ عَمَلٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإْعْتَاقِ وَالإْتْلاَفِ، وَلاَ يَكْفِي الرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ وَالإْجَارَةُ  وَطَحْنُ الْحِنْطَةِ وَخَبْزُ الدَّقِيقِ وَذَبْحُ الشَّاةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .

وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا إذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُقْرَضَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ ضَمَانُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُقْرِضِ، وَيَكُونُ هَلاَكُهَا فِي عُهْدَتِهِ، لأِنَّهَا  لَمْ تَزَلْ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا الْمُقْتَرِضُ بَعْدُ، فَلاَ تَنْشَغِلُ ذِمَّتُهُ بِعِوَضِهَا أَصْلاً، بَيْنَمَا يَكُونُ ضَمَانُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمُقْتَرِضِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ تَبِعَةَ هَلاَكِهَا، وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا لأِنَّهَا  هَلَكَتْ فِي مِلْكِهِ.

كَمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، فِيمَا إذَا اسْتَقْرَضَ شَخْصٌ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى ذَلِكَ الْكُرَّ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُقْرِضِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لأِنَّ  الْمُقْتَرِضَ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْقَبْضِ، فَيَصِيرُ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ التَّالِي مُشْتَرِيًا مِلْكَ نَفْسِهِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الآْخَرِ فَالْكُرُّ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُقْرِضِ، وَيَصِيرُ الْمُسْتَقْرِضُ مُشْتَرِيًا مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ .

الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي صِحَّتِهَا:

(أَوَّلاً) الصَّرْفُ:

39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الصَّرْفِ التَّقَابُضُ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ  قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ  فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» .

وَبِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما  أَنَّهُ قَالَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآْخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ، إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ أَيِ الرِّبَا .

لِهَذَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُتَصَارِفَيْنِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ وَأَرَادَا الاِفْتِرَاقَ، لَزِمَهُمَا دِيَانَةً أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ كَيْ لاَ يَأْثَمَا بِتَأْخِيرِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، لأِنَّ  الشَّارِعَ نَهَى عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَفِي التَّفَاسُخِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ، فَلاَ تَلْزَمُهُمَا شُرُوطُهُ .

لَكِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأْصْلِ  الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ - هُوَ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لِصِحَّةِ الصَّرْفِ - مَا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ غَلَبَةً، أَيْ بِمَا يُغْلَبَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، كَنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ أَوْ سَرِقَةٍ مِنَ الصَّرَّافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ:

وَقَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ بِحَيْلُولَةِ سَيْلٍ أَوْ نَارٍ أَوْ عَدُوٍّ قَبْلَ التَّقَابُضِ  وَقَالُوا بِعَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

(ثَانِيًا) بَيْعُ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا:

40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا الْحُلُولُ وَانْتِفَاءُ النَّسِيئَةِ، وَكَذَا إذَا بِيعَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، وَكَانَ الْمَالاَنِ الرِّبَوِيَّانِ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا وَالآْخَرُ مُثَمَّنًا، كَبَيْعِ الْمَوْزُونَاتِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ  فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ هَذَا عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ وَانْتِفَاءِ النَّسِيئَةِ، اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ لأِنَّ  النَّهْيَ عَنِ النَّسِيئَةِ ثَبَتَ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا، وَتَحْرِيمُ النَّسَاءِ وَوُجُوبُ التَّقَابُضِ مُتَلاَزِمَانِ، إذْ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّارِعُ انْتِفَاءَ الأْجَلِ  فِي بَيْعِ جَمِيعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ، وَيَكُونُ تَأْجِيلُ التَّقَابُضِ فِي بَعْضِهَا جَائِزًا، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ صلي الله عليه وسلم: «يَدًا بِيَدٍ وَهَاءَ وَهَاءَ» فِي شَأْنِ بَيْعِ الأْمْوَالِ  الرِّبَوِيَّةِ السِّتَّةِ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ فِيهَا جَمِيعًا .

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ إلاَّ فِي الصَّرْفِ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ - كَبَيْعِ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ حِنْطَةٍ - فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ التَّعْيِينُ دُونَ التَّقَابُضِ، لأِنَّ  الْبَدَلَ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ يَتَعَيَّنُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَتَمَكَّنُ مُشْتَرِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّعَيُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الْبَدَلِ فِي الصَّرْفِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ، إذِ الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي تَعْيِينِهِ، حَيْثُ إنَّ الأْثْمَانَ  لاَ تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً إلاَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ تَبْدِيلُهَا بِمِثْلِهَا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا .

(ثَالِثًا) السَّلَمُ:

41 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الاِفْتِرَاقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمَا أَوْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ أَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ «مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ»، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ.

(ر: سَلَمٌ ف 16 – 19).

(رَابِعًا) إجَارَةُ الذِّمَّةِ:

42 - قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الإْجَارَةَ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا إلَى قِسْمَيْنِ: إجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ.

أ - فَالإْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ: يَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْعَيْنِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ سَيَّارَةً مُعَيَّنَةً، أَوِ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإْجَارَةِ  لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ الأْجْرَةِ  فِي الْمَجْلِسِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ لُزُومِهِ أَوِ انْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْمَنَافِعِ فِيهِ، وَذَلِكَ لأِنَّ  إجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا - إذِ الإْجَارَةُ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ مَعْلُومٍ - وَبَيْعُ الْعَيْنِ يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ الإْجَارَةُ.

ب - أَمَّا الإْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ: فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْلِ بِأَنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ قَالَ: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ بِنَاءَ جِدَارٍ صِفَتُهُ كَذَا، فَقَبِلَ الْمُؤَجَّرُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِ الأْجْرَةِ  فِيهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(الأْوَّلُ): لِلْحَنَفِيَّةِ، فَالأْصْلُ  عِنْدَهُمْ أَنَّ الأْجْرَ  لاَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَلاَ يُمْلَكُ، فَلاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِهِ، بَلْ بِتَعْجِيلِهِ أَوْ شَرْطِهِ فِي الإْجَارَةِ الْمُنَجَّزَةِ أَوِ الاِسْتِيفَاءِ لِلْمَنْفَعَةِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُ الأْجْرِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الإْجَارَةِ ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يُمْلَكُ الأْجْرُ  بِالْعَقْدِ، لأِنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَشَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلاً لِلْمُبْدَلِ، وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا حَالاً لاَ يَلْزَمُ بَدَلُهَا حَالاً، إلاَّ إذَا شَرَطَهُ وَلَوْ حُكْمًا، بِأَنْ عَجَّلَهُ لأِنَّهُ صَارَ مُلْتَزِمًا لَهُ بِنَفْسِهِ وَأَبْطَلَ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْعَقْدُ .

(وَالثَّانِي): لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ تَعْجِيلُ الأْجْرَةِ ، لاِسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ تَعْمِيرَ الذِّمَّتَيْنِ وَبَيْعَ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلاَّ إذَا شَرَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا لَوْ رَكِبَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّابَّةَ الْمَوْصُوفَةَ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَكَانِ الْمُشْتَرَطِ أَنْ تَحْمِلَهُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ عِنْدَئِذٍ تَأْخِيرُ الأْجْرَةِ ، لاِنْتِفَاءِ بَيْعِ الْمُؤَخَّرِ بِالْمُؤَخَّرِ، حَيْثُ إنَّ قَبْضَ أَوَائِلِ الْمَنْفَعَةِ كَقَبْضِ أَوَاخِرِهَا، فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنَ التَّأْخِيرِ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي حُكْمِ تَعْجِيلِ الأْجْرَةِ  تَأْخِيرَهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، لأِنَّ  مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، كَمَا فِي السَّلَمِ  وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ عَقْدِهَا بِلَفْظِ الإْجَارَةِ  أَوِ السَّلَمِ.

(وَالثَّالِثُ): لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ قَبْضُ الْمُؤَجِّرِ الأْجْرَةَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، كَمَا اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتِ الإْجَارَةُ، لأِنَّ  إجَارَةَ الذِّمَّةِ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ، فَكَانَتْ كَالسَّلَمِ فِي الأْعْيَانِ ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الإْجَارَةِ  أَوِ السَّلَمِ .

(وَالرَّابِعُ): لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ إذَا جَرَتْ بِلَفْظِ «سَلَمٍ» أَوْ «سَلَفٍ» - كَأَسْلَمْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ فِي مَنْفَعَةِ دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَكَانِ كَذَا، أَوْ فِي مَنْفَعَةِ آدَمِيٍّ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا لِبِنَاءِ حَائِطٍ صِفَتُهُ كَذَا مَثَلاً - وَقَبِلَ الْمُؤَجِّرُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَئِذٍ تَسْلِيمُ الأْجْرَةِ  فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لأِنَّهَا  بِذَلِكَ تَكُونُ سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَضْ قَبْلَ تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ لآَلَ الأْمْرُ  إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَمَّا إذَا لَمْ تَجْرِ إجَارَةُ الذِّمَّةِ بِلَفْظِ «سَلَمٍ» وَلاَ «سَلَفٍ»، فَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْجِيلُ الأْجْرَةِ  فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأِنَّهَا  لاَ تَكُونُ سَلَمًا، فَلاَ يَلْزَمُ فِيهَا شَرْطُهُ .

(خَامِسًا) الْمُضَارَبَةُ:

43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْعَامِلِ، لأِنَّ  الْمُضَارَبَةَ انْعَقَدَتْ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالْعَمَلُ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ إلاَّ بَعْدَ خُرُوجِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ إلَى الْعَامِلِ  وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اشْتِرَاطَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ حَالَ الْعَقْدِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَقِلَّ الْعَامِلُ بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ  وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بِيَدِهِ لِيُوَفِّيَ مِنْهُ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِلُ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْضُ الْعَامِلِ لِرَأْسِ الْمَالِ  قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِيَدِ رَبِّهِ، لأِنَّ  مَوْرِدَ الْعَقْدِ الْعَمَلُ .

(سَادِسًا) الْمُزَارَعَةُ:

44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمُ الأْرْضِ  إلَى الْعَامِلِ مُخْلاَةً، أَيْ أَنْ تُوجَدَ التَّخْلِيَةُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ  بَيْنَ أَرْضِهِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ، حَتَّى لَوْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الأْرْضِ  أَوْ شُرِطَ عَمَلُهُمَا مَعًا، فَلاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ).

(سَابِعًا) الْمُسَاقَاةُ:

45 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ تَسْلِيمُ الأْشْجَارِ  إلَى الْعَامِلِ، فَلَوْ شُرِطَ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتُهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُولِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الشَّجَرِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مُسَاقَاةٌ)

الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِهَا:

وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

(أَوَّلاً) الْهِبَةُ:

46 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِلُزُومِ الْهِبَةِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ، وَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ الرُّجُوعُ فِيهَا، فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَزِمَتْ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لِلأْبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ لِسَائِرِ الأْصُولِ  عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ .

غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ قَبْضِهَا.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إنْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، لأِنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلاَ تَبْطُلُ الْهِبَةُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الإْقْبَاضِ  أَوِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.

وَاسْتَدَلَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ «قَالَ لأِمِّ  سَلَمَةَ: إنِّي أَهْدَيْتُ إلَى النَّجَاشِيِّ أُوَاقًا مِنْ مِسْكٍ، وَإِنِّي لاَ أَرَاهُ إلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلاَ أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلاَّ سَتُرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ فَهُوَ لَكِ أَمْ لَكُمْ»  وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي.. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»  فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ الإْمْضَاءَ، وَالإْمْضَاءُ  هُوَ الإْقْبَاضُ .

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ إلاَّ إذَا كَانَتْ لأِصُولِ الْوَاهِبِ أَوْ فُرُوعِهِ أَوْ لأِخِيهِ  أَوْ لأِخْتِهِ  أَوْ أَوْلاَدِهِمَا أَوْ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ أَوْ كَانَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ هِبَتِهِ فِي غَيْرِ الْحَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ بِرِضَا الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لِلْحَاكِمِ فَيَفْسَخَ الْهِبَةَ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَنْعَقِدُ بِالإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ، لَكِنَّهَا لاَ تَتِمُّ وَلاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَيُجْبَرُ الْوَاهِبُ عَلَى إقْبَاضِهَا مَا دَامَ الْعَاقِدَانِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتِ الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِيرَاثًا، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلاَ تَبْطُلُ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْوَاهِبِ بِهَا، لأِنَّهَا  صَارَتْ حَقًّا لِمُوَرِّثِهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ .

(ثَانِيًا) الْوَقْفُ:

47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَقَوْلُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ - إلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، بَلْ يَلْزَمُ وَيَتِمُّ بِدُونِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُسَبِّلَ ثَمَرَةَ أَرْضِهِ وَيَحْبِسَ أَصْلَهَا»  وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ أَحَدٍ يَحُوزُهَا دُونَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِحَبْسِ الأْصْلِ  وَتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقْبِضَهُ أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لأَمَرَهُ  بِهِ  وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ آلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَجَعَلَهَا بَعْدَهُ إلَى حَفْصَةَ رضي الله عنها ، وَوَلِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَلِيَتْ صَدَقَتَهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأْنْصَارِ  أَنَّهُ وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ  وَبِقِيَاسِ الْوَقْفِ عَلَى الْعِتْقِ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارَهُ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَهَا، وَلاَ يَمْلِكُ مِنْ رَقَبَتِهَا شَيْئًا، لأِنَّ  الْوَاقِفَ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَمَا أَنَّ الْعِتْقَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَلاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْلِ  فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْلِ، وَلأِنَّ نَا لَوْ أَوْجَبْنَا الْقَبْضَ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَابِضَ يَقْبِضُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْوَقْفِ، فَيَكُونُ قَبْضُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً .

(وَالثَّانِي) لاِبْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ بِقَبْضِهِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيهَا فَمَا فَوْقَ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَصَدُّقٌ بِالْمَنَافِعِ، وَالْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ لاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ لِلُزُومِهِ.

(وَالثَّالِثُ) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ أَوْ مَرِضَ أَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْقُوفِ بَطَلَ الْوَقْفُ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ وَالطَّاحُونِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَبَيْنَ النَّاسِ .

(ثَالِثًا) الْقَرْضُ:

48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ الْقَرْضِ أَوْ لُزُومِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الأْوَّلُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُقْتَرِضُ، بَلْ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ .

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ.

وَالثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ .

(رَابِعًا) الرَّهْنُ:

49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ أَوْ يُسَلِّمَهُ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)  حَيْثُ إنَّ الْمَصْدَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ يُرَادُ بِهِ الأْمْرُ ، وَالأْمْرُ  بِالشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ شَرْطًا فِيهِ، إذِ الْمَشْرُوعُ بِصِفَةٍ لاَ يُوجَدُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلأِنَّ  الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ إذْ لاَ يَسْتَوْجِبُ الرَّاهِنُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا، وَلِهَذَا لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإْمْضَاءِ  بِعَدَمِ الرُّجُوعِ، وَالإْمْضَاءُ  يَكُونُ بِالْقَبْضِ.

وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ الرِّهَانَ بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا، وَلَوْ لَزِمَتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لاَ يَتِمُّ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالإْقْبَاضِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ.

قَالُوا: أَمَّا لُزُومُهُ بِالْعَقْدِ، فَلأِنَّ  قوله تعالي (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) أَثْبَتَهَا رِهَانًا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا إلْزَامُ الرَّاهِنِ بِالإْقْبَاضِ، فَلأِنَّ  قوله تعالي (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)  دَلِيلٌ عَلَى إلْزَامِ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ لِلْمُرْتَهِنِ وَفَاءً بِالْعَقْدِ .

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الرَّهْنِ وَلاَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ وَلاَ لُزُومِهِ بَلْ يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ .

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: لاَ يَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالأْخْرَى: يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ .

اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ:

50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، فَلَوِ اسْتَرْجَعَهُ الرَّاهِنُ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ صَحَّ، لأِنَّهُ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي ابْتِدَائِهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطِ اسْتِدَامَتُهُ كَالْهِبَةِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ الْحَقُّ فِي اسْتِرْدَادِهِ مَتَى شَاءَ  وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُولُ: (يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ  ).

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ كِرَاءٍ بَطَلَ الرَّهْنُ، لأِنَّ  الْمَعْنَى الَّذِي لأِجْلِهِ  اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمَرْهُونِ فِي الاِبْتِدَاءِ هُوَ أَنْ تَحْصُلَ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ، فَكَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطًا فِيهِ .

(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ غَيْرِهِ زَالَ لُزُومُ الرَّهْنِ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَبْضٌ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عَادَ فَرَدَّهُ إلَيْهِ عَادَ اللُّزُومُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ، وَلاَ يُحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ، لأِنَّ  الْعَقْدَ الأْوَّلَ  لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَاخَى الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِنْ أُزِيلَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَإِبَاقِ الْعَبْدِ وَضَيَاعِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ، فَلُزُومُ الْعَقْدِ بَاقٍ، لأِنَّ  يَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَزُلْ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّهْنَ يُرَادُ لِلْوَثِيقَةِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَإِذَا لَمْ يَدُمْ فِي يَدِهِ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَانَ بَقَاءُ اللُّزُومِ مَنُوطًا بِدَوَامِ الْقَبْضِ .

آثَارُ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ:

51 - أَهَمُّ آثَارِ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ هُوَ انْتِقَالُ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ إلَى الْقَابِضِ، وَتَسَلُّطُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَوُجُوبُ بَذْلِ عِوَضِهِ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

الأْثَرُ  الأْوَّلُ: انْتِقَالُ الضَّمَانِ إلَى الْقَابِضِ:

52 - الْمُرَادُ بِالضَّمَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَى الْقَابِضِ: هُوَ تَحَمُّلُهُ لِتَبَعَةِ الْهَلاَكِ أَوِ النُّقْصَانِ أَوِ التَّعْيِيبِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَى الْمَقْبُوضِ فِي أَحَدِ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَهِيَ هُنَا: الْبَيْعُ وَالإْجَارَةُ  وَالْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ فِيمَا يَخُصُّ الصَّدَاقَ.

أَوَّلاً - ضَمَانُ الْمَبِيعِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ:

53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَهَلْ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، بِحَيْثُ لاَ يَنْتَقِلُ ضَمَانُهُ إلَى الْمُشْتَرِي إلاَّ بِالْقَبْضِ، أَمْ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْعَقْدِ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَبَضَهُ انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَيْهِ بِالْقَبْضِ، لأِنَّ  مُوجَبَ الْعَقْدِ انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إلْزَامَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَفَاءً بِالْعَقْدِ، لأِنَّ  الْمِلْكَ لاَ يَثْبُتُ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلاَ يَتَهَيَّأُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إلاَّ بِالتَّسْلِيمِ، فَكَانَ إيجَابُ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِ لَهُ ضَرُورَةً.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنَ الْمَبِيعَاتِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَبَيْنَ مَا لاَ يَكُونُ فِيهِ، بِحَيْثُ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي اعْتِبَارِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلاَتِ وَالتَّفْرِيعَاتِ فِي حَالَةِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، وَهُوَ الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلاً، فَلاَ يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ كُلَّهُ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْضُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْدَهُ، وَالْهَلاَكُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ، أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ ف 31 وَمَا بَعْدَهَا).

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيْعُ الأْعْيَانِ  الْمَمْلُوكَةِ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ قَبْلَ قَبْضِهَا:

62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ مَا مُلِكَ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالأْجْرَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ إذَا كَانَ مَنْقُولاً مُعَيَّنًا، وَكُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعُقُودَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَاوَضَةٌ، وَغَيْرُ مُعَاوَضَةٍ.

فَمَا مُلِكَ بِعَقْدٍ لَيْسَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ كَالْقَرْضِ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ مُطْلَقًا، وَمَا مُلِكَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ مُلِكَ بِمَا يَخْتَصُّ بِالْمُغَابَنَةِ وَالْمُكَايَسَةِ، كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ إنْ كَانَ طَعَامًا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، كَيْ لاَ يُفْضِيَ إلَى بَيْعِ الْعِينَةِ، وَإِنْ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ قَصْدِ الرِّفْقِ وَالْمُغَابَنَةِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُغَابَنَةِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا يَخْتَصُّ بِقَصْدِ الْمُغَابَنَةِ .

وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأْعْيَانَ  الْمُسْتَحَقَّةَ لِلإْنْسَانِ عِنْدَ غَيْرِهِ ضَرْبَانِ: أَمَانَةٌ وَمَضْمُونَةٌ، فَالأْمَانَةُ  يَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، لأِنَّ  مِلْكَهُ فِيهَا تَامٌّ.

وَالْمَضْمُونُ نَوْعَانِ:

(الأْوَّلُ) الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْيَدِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِيهِ.

(وَالثَّانِي) الْمَضْمُونُ بِعِوَضٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ .

وَالرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ - كَأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي إجَارَةٍ، وَعِوَضٍ مُعَيَّنٍ فِي صُلْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَكَذَا مَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ - كَعِوَضِ خُلْعٍ وَعِتْقٍ وَكَمَهْرٍ وَمُصَالَحٍ بِهِ عَنْ دَمِ عَمْدٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ - فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا احْتَاجَ لِتَوْفِيَةٍ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا كُلُّ مَا مُلِكَ بِإِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، لأِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَمِلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ، وَلاَ يُتَوَهَّمُ غَرَرُ الْفَسْخِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ قَبْضُهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِهِ، كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، لأِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثالث والثلاثون ، الصفحة / 111

قَرْض

التَّعْرِيفُ:

1 - الْقَرْضُ  فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ قَرَضَ الشَّيْءَ يَقْرِضُهُ: إِذَا قَطَعَهُ.

وَالْقَرْضُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإْقْرَاضِ. يُقَالُ: قَرَضْتُ الشَّيْءَ بِالْمِقْرَاضِ، وَالْقَرْضُ: مَا تُعْطِيهِ الإْنْسَانَ  مِنْ مَالِكَ لِتُقْضَاهُ، وَكَأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ قَطَعْتَهُ مِنْ مَالِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا يَتَقَارَضَانِ الثَّنَاءَ، إِذَا أَثْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ ثَنَاءً، كَقَرْضِ الْمَالِ .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَالٍ إِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ .

قَالُوا: وَيُسَمَّى نَفْسُ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ قَرْضًا، وَالدَّافِعُ لِلْمَالِ مُقْرِضًا، وَالآْخِذُ: مُقْتَرِضًا وَمُسْتَقْرِضًا وَيُسَمَّى الْمَالُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمُقْتَرِضُ إِلَى الْمُقْرِضِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ: بَدَلَ الْقَرْضِ، وَأَخْذُ الْمَالِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ: اقْتِرَاضًا.

وَالْقَرْضُ بِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْقَرْضُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فَجَعَلُوا لَهُ قَسِيمًا سَمَّوْهُ: الْقَرْضَ الْحُكْمِيَّ، وَوَضَعُوا لَهُ أَحْكَامًا تَخُصُّهُ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى اللَّقِيطِ الْمُحْتَاجِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، إِذَا لَمْ يَكُونَا فُقَرَاءَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ، وَبِمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِعْطَاءِ مَالٍ لِغَرَضِ الآْمِرِ.

كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ أَوْ فِدَاءِ أَسِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ  

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - السَّلَفُ:

2 - مِنْ مَعَانِي السَّلَفِ الْقَرْضُ. يُقَالُ تَسَلَّفَ وَاسْتَسْلَفَ: أَيِ اسْتَقْرَضَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسْلَفْتُهُ: أَيْ أَقْرَضْتُهُ، وَيَأْتِي السَّلَفُ أَيْضًا بِمَعْنَى السَّلَمِ. يُقَالُ: سَلَّفَ وَأَسْلَفَ بِمَعْنَى سَلَّمَ وَأَسْلَمَ .

وَالسَّلَفُ أَعَمُّ مِنَ الْقَرْضِ.

ب - الْقِرَاضُ:

3 - وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ نَقْدًا لِيَتَّجِرَ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَتَشَارَطَانِهِ. قَالَ الأْزْهَرِيُّ:» وَأَصْلُ الْقِرَاضِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَطَعَ لِلْعَامِلِ فِيهِ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ، وَقَطَعَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا.. وَخُصَّتْ شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ بِالْقِرَاضِ؛ لأِنَّ  لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرِّبْحِ شَيْئًا مَقْرُوضًا، أَيْ مَقْطُوعًا لاَ يَتَعَدَّاهُ .

(ر: مُضَارَبَة).

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعَ الْمَالِ إِلَى الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ وَفِي الْقِرَاضِ عَلَى وَجْهِ الأْمَانَةِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ:

4 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ .

أَمَّا الْكِتَابُ، فَبِالآْيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الإْقْرَاضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)  وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهَا أَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الأْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالإْنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْمَالِ الْمُقْرَضِ، وَشَبَّهَ الْجَزَاءَ الْمُضَاعَفَ عَلَى ذَلِكَ بِبَدَلِ الْقَرْضِ، وَسَمَّى أَعْمَالَ الْبِرِّ قَرْضًا؛ لأِنَّ  الْمُحْسِنَ بَذَلَهَا لِيَأْخُذَ عِوَضَهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ أَقْرَضَ شَيْئًا لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ .

وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَفِعْلُهُ صلي الله عليه وسلم  حَيْثُ رَوَى أَبُو رَافِعٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» .

ثُمَّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الأْجْرِ  الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلاَّ كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً» .

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقَرْضِ:

5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الأْصْلَ  فِي الْقَرْضِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ لِلْمُقْتَرِضِ، وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ النَّدْبُ  لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»  لَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ أَوِ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْحُرْمَةُ أَوِ الإْبَاحَةُ، بِحَسَبِ مَا يُلاَبِسُهُ أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ، إِذْ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.

وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ مُضْطَرًّا وَالْمُقْرِضُ مَلِيئًا كَانَ إِقْرَاضُهُ وَاجِبًا، وَإِنْ عَلِمَ الْمُقْرِضُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا بِحَسَبِ الْحَالِ، وَلَوِ اقْتَرَضَ تَاجِرٌ لاَ لِحَاجَةٍ، بَلْ لِيَزِيدَ فِي تِجَارَتِهِ طَمَعًا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ مِنْهُ، كَانَ إِقْرَاضُهُ مُبَاحًا، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةٍ، لِيَكُونَ مَطْلُوبًا شَرْعًا .

6 - أَمَّا فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ، فَالأْصْلُ فِيهِ الإْبَاحَةُ، وَذَلِكَ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْوَفَاءَ، بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُرْتَجًى، وَعَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ مِنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ، مَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا - فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ فِي حَقِّهِ لِدَفْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ - أَوْ كَانَ الْمُقْرِضُ عَالِمًا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ وَأَعْطَاهُ، فَلاَ يَحْرُمُ؛ لأِنَّ  الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِإِعْطَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ  قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فَعُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِفَقِيرٍ إِظْهَارُ الْغِنَى عِنْدَ الاِقْتِرَاضِ؛ لأِنَّ  فِيهِ تَغْرِيرًا لِلْمُقْرِضِ  وَقَالَ أَيْضًا: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَرِضُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ لِنَحْوِ صَلاَحِهِ، وَهُوَ بَاطِنًا بِخِلاَفِ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الاِقْتِرَاضُ أَيْضًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

تَوْثِيقُ الْقَرْضِ:

7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَالإْشْهَادَ عَلَيْهِ مَنْدُوبَانِ وَلَيْسَا وَاجِبَيْنِ مُطْلَقًا، وَالأْمْرُ  بِهِمَا فِي الآْيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى الأْوْثَقِ وَالأْحْوَطِ، وَلاَ يُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ  قَالَ الإْمَامُ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا أَمَرَ إِذَا لَمْ يَجِدُوا كَاتِبًا بِالرَّهْنِ، ثُمَّ أَبَاحَ تَرْكَ الرَّهْنِ وَقَالَ: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)  فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الأْمْرَ الأْوَّلَ  دَلاَلَةٌ عَلَى الْحَظِّ، لاَ فَرْضٌ فِيهِ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْثِيق ف 7).

أَرْكَانُ الْقَرْضِ:

8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ عَقْدِ الْقَرْضِ ثَلاَثَةٌ:

1 - الصِّيغَةُ (وَهِيَ الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ).

2 - الْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ).

3 - الْمَحَلُّ (وَهُوَ الْمَالُ الْمُقْرَضُ).

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ الدَّالَّيْنِ عَلَى اتِّفَاقِ الإْرَادَتَيْنِ وَتَوَافُقِهِمَا عَلَى إِنْشَاءِ هَذَا الْعَقْدِ.

الرُّكْنُ الأْوَّلُ: الصِّيغَةُ (الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ):

9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي صِحَّةِ الإْيجَابِ  بِلَفْظِ الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ وَبِكُلِّ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا، كَأَقْرَضْتُكَ وَأَسْلَفْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ قَرْضًا أَوْ سَلَفًا، وَمَلَّكْتُكَ هَذَا عَلَى أَنْ تَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَخُذْ هَذَا فَاصْرِفْهُ فِي حَوَائِجِكَ وَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.. أَوْ تُوجَدُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إِرَادَةِ الْقَرْضِ، كَأَنْ سَأَلَهُ قَرْضًا فَأَعْطَاهُ.. وَكَذَا صِحَّةُ الْقَبُولِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِمَا أَوْجَبَهُ الأْوَّلُ، مِثْلُ: اسْتَقْرَضْتُ أَوْ قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى  قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأْنْصَارِيُّ:   وَظَاهِرٌ أَنَّ الاِلْتِمَاسَ مِنَ الْمُقْرِضِ، كَاقْتَرِضْ مِنِّي، يَقُومُ مَقَامَ الإْيجَابِ ، وَمِنَ الْمُقْتَرِضِ، كَأَقْرِضْنِي، يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ .

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَطَعَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الإْيجَابُ  وَلاَ الْقَبُولُ، بَلْ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي كَذَا، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولاً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَالَ، صَحَّ الْقَرْضُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ ثَبَتَ الْقَرْضُ .

وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ قَوْلِهِمْ - فِي الأْصَحِّ  - بِاشْتِرَاطِ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ لِصِحَّةِ الْقَرْضِ، كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، اسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا سَمَّوْهُ بِـ «الْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ»، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ الصِّيغَةَ أَصْلاً  قَالَ الرَّمْلِيُّ: أَمَّا الْقَرْضُ الْحُكْمِيُّ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ صِيغَةٌ، كَإِطْعَامِ جَائِعٍ، وَكِسْوَةِ عَارٍ، وَإِنْفَاقٍ عَلَى لَقِيطٍ، وَمِنْهُ أَمْرُ غَيْرِهِ بِإِعْطَاءِ مَا لَهُ غَرَضٌ فِيهِ، كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ .

وَاتَّفَقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ، لَكِنْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الإْيجَابُ  فَقَطْ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ لاَ يُقْرِضُ فُلاَنًا فَأَقْرَضَهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ، لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأْخْرَى: يَحْنَثُ  قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الإْقْرَاضَ إِعَارَةٌ وَالْقَبُولَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الإْعَارَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ الْمُسْتَقْرِضِ، فَلِهَذَا اخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، فَكَانَ الْقَبُولُ رُكْنًا فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .

وَفَرَّعَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ لاِنْعِقَادِ الْقَرْضِ، مَا لَوْ قَالَ الْمُقْرِضُ لِلْمُسْتَقْرِضِ: أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا، وَقَبِلَ، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الأَْلْفَ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ جَازَ؛ لأِنَّ  الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَصَدَ الإْيجَابَ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُعِيدَ لَفْظَ الْقَرْضِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي (عَقْد ف 5 - 27).

الرُّكْنُ الثَّانِي:

الْعَاقِدَانِ (الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ):

(أ) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَرْضِ:

10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْرِضِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، أَيْ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً رَشِيدًا  قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لأِنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ، كَالصَّدَقَةِ  وَقَدْ أَكَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: لأِنَّ  الْقَرْضَ لِلْمَالِ تَبَرُّعٌ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ، فَكَانَ تَبَرُّعًا لِلْحَالِ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ مِمَّنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّبَرُّعُ .

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقَرْضِ شَائِبَةَ تَبَرُّعٍ، لاَ أَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الإْرْفَاقِ وَالتَّبَرُّعِ، فَقَالَ صَاحِبُ «أَسْنَى الْمَطَالِبِ» «لأِنَّ  الْقَرْضَ فِيهِ شَائِبَةُ التَّبَرُّعِ، وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً مَحْضَةً لَجَازَ لِلْوَلِيِّ - غَيْرِ الْقَاضِي قَرْضُ مَالِ مُوَلِّيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلاَشْتُرِطَ فِي قَرْضِ الرِّبَوِيِّ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَجَازَ فِي غَيْرِهِ شَرْطُ الأَْجَلِ، وَاللَّوَازِمُ بَاطِلَةٌ ».

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُقْرِضِ لِلتَّبَرُّعِ تَسْتَلْزِمُ اخْتِيَارَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضٌ مِنْ مُكْرَهٍ، قَالُوا: وَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الإْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا إِذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الإْقْرَاضُ لِنَحْوِ اضْطِرَارٍ فَإِنَّ إِقْرَاضَهُ مَعَ الإْكْرَاهِ يَكُونُ صَحِيحًا .

وَفَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فِي الْمُقْرَضِ عَدَمَ صِحَّةِ إِقْرَاضِ الأْبِ وَالْوَصِيِّ لِمَالِ الصَّغِيرِ  وَفَرَّعَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ قَرْضِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ لِمَالَيْهِمَا  أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْوَلِيِّ مَالَ مُوَلِّيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ، أَمَّا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُمْ إِقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ - خِلاَفًا لِلسُّبْكِيِّ - بِشَرْطِ يَسَارِ الْمُقْتَرِضِ وَأَمَانَتِهِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ إِنْ سَلَّمَ مِنْهَا مَالَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ  وَالإْشْهَادِ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ رَهْنًا إِنْ رَأَى ذَلِكَ .

(ب) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ:

11 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ أَهْلِيَّةُ الْمُعَامَلَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ  وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُقْتَرِضِ تَمَتُّعُهُ بِالذِّمَّةِ؛ لأِنَّ  الدَّيْنَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ فِي الذِّمَمِ، ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ عَدَمَ صِحَّةِ الاِقْتِرَاضِ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ ذِمَمٍ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ عِنْدَهُمْ  أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى شُرُوطٍ خَاصَّةٍ لِلْمُقْتَرِضِ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ فُرُوعِهِمُ الْفِقْهِيَّةِ اشْتِرَاطُهُمْ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً، وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إِذَا اسْتَقْرَضَ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالاِتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً فَلِلْمُقْرِضِ اسْتِرْدَادُهَا  وَهَذَا الْحُكْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ اقْتِرَاضِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ، وَجَاءَ فِي جَامِعِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلأْسْرُوشَنِيِّ: اسْتِقْرَاضُ الأْبِ لاِبْنِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ، وَكَذَا اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ لِلصَّغِيرِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي رَهْنِ «الْهِدَايَةِ»: وَلَوِ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ؛ لأِنَّ  الاِسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ، وَالرَّهْنُ يَقَعُ إِيفَاءً لِلْحَقِّ، فَيَجُوزُ .

الاِقْتِرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَالْوَقْفِ:

12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإْمَامِ الاِسْتِقْرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَقْتَ الأْزَمَاتِ وَعِنْدَ النَّوَائِبِ وَالْمُلِمَّاتِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ الأْوَّلُونَ مِنِ اسْتِسْلاَفِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَاتِ وَاسْتِعْجَالِهِ الزَّكَوَاتِ، فَلَسْتُ أُنْكِرُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أُجَوِّزُ الاِسْتِقْرَاضَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْحَالِ وَانْقِطَاعِ الأْمْوَالِ، وَمَصِيرُ الأْمْرِ إِلَى مُنْتَهًى يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ اسْتِيعَابُ الْحَوَادِثِ لِمَا يَتَجَدَّدُ فِي الاِسْتِقْبَالِ .

غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ:

(أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِيرَادٌ مُرْتَجًى لِبَيْتِ الْمَالِ لِيُوَفَّى مِنْهُ الْقَرْضُ، قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَالاِسْتِقْرَاضُ فِي الأْزَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُرْجَى لِبَيْتِ الْمَالِ دَخْلٌ يُنْتَظَرُ أَوْ يُرْتَجَى .

(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الاِسْتِقْرَاضُ مِنْ أَجْلِ الْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ ثَابِتٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِتَأْخِيرِهِ دَيْنًا لاَزِمًا عَلَيْهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لاَ يُسْتَقْرَضُ لَهُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى: لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ حَقَّانِ ضَاقَ عَنْهُمَا وَاتَّسَعَ لأِحَدِهِمَا ، صُرِفَ فِيمَا يَصِيرُ مِنْهُمَا دَيْنًا فِيهِ، وَلَوْ ضَاقَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَانَ لِوَلِيِّ الأْمْرِ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ وَالْفَسَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مَا يَصْرِفُهُ فِي الدُّيُونِ دُونَ الإْرْفَاقِ  وَكَانَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْوُلاَةِ مَأْخُوذًا بِقَضَائِهِ إِذَا اتَّسَعَ لَهُ بَيْتُ الْمَالِ .

(وَالثَّالِثُ) أَنْ يُعِيدَ الإْمَامُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ مَا اقْتَطَعَهُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَذَوِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا وَضَعُوهُ فِي حَرَامٍ، وَتَبْقَى الْحَاجَةُ إِلَى الاِسْتِقْرَاضِ قَائِمَةً، قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: لَمَّا عَزَمَ السُّلْطَانُ قُطُزُ عَلَى الْمَسِيرِ مِنْ مِصْرَ لِمُحَارَبَةِ التَّتَارِ، وَقَدْ دَهَمُوا الْبِلاَدَ، جَمَعَ الْعَسَاكِرَ، فَضَاقَتْ يَدُهُ عَنْ نَفَقَاتِهِمْ، فَاسْتَفْتَى الإْمَامَ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارِ، فَقَالَ لَهُ الْعِزُّ: إِذَا أَحْضَرْتَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ حَرِيمِكَ، وَأَحْضَرَ الأْمَرَاءُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ الْحَرَامِ اتِّخَاذُهُ، وَضَرَبْتَهُ سِكَّةً وَنَقْدًا، وَفَرَّقْتَهُ فِي الْجَيْشِ وَلَمْ يَقُمْ بِكِفَايَتِهِمْ، ذَلِكَ الْوَقْتَ اطْلُبِ الْقَرْضَ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلاَ .

هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَاضِ الإْمَامِ  عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، أَمَّا اسْتِقْرَاضُهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ اللَّقِيطِ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ نَفَقَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ - بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَوْ كَانَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ - اقْتَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مِقْدَارَ نَفَقَتِهِ .

13 - أَمَّا الاِسْتِقْرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِدَاعِي الْمَصْلَحَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّيْنَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ وَبِهَذِهِ الْجِهَاتِ، كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْوَفَاءُ مِنْ مَالِهِ، بَلْ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ وَمَا يَحْدُثُ لِبَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يُقَالُ: لاَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ رَأْسًا  أَيْ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ.

غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ الاِقْتِرَاضِ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ، إِلاَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ - كَتَعْمِيرٍ وَشِرَاءِ بَذْرٍ وَلَيْسَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ قَائِمَةٌ بِيَدِ الْمُتَوَلِّي - فَيَجُوزُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ:

الأْوَّلُ: إِذْنُ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْهُ، وَلأِنَّ  وِلاَيَتَهُ أَعَمُّ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَيَسْتَدِينُ النَّاظِرُ بِنَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ لاَ تَتَيَسَّرَ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالصَّرْفِ مِنْ أُجْرَتِهَا .

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ بِلاَ إِذْنِ حَاكِمٍ لِمَصْلَحَةٍ - كَمَا إِذَا قَامَتْ حَاجَةٌ لِتَعْمِيرِهِ، وَلاَ يُوجَدُ غَلَّةٌ لِلْوَقْفِ يُمْكِنُ الصَّرْفُ مِنْهَا عَلَى عِمَارَتِهِ - لأِنَّ  النَّاظِرَ مُؤْتَمَنٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ، فَالإِْذْنُ وَالاِئْتِمَانُ ثَابِتَانِ لَهُ .

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِنْ شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْحَاكِمُ، قَالُوا: فَلَوِ اقْتَرَضَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي وَلاَ شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَقْفِ بِمَا صَرَفَهُ لِتَعَدِّيهِ فِيهِ .

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَلُّ (الْمَالُ الْمُقْرَضُ):

لِلْمَالِ الْمُقْرَضِ شُرُوطٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ عَلَى مَا يَلِي:

الشَّرْطُ الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ:

14 - وَالْمِثْلِيَّاتُ: هِيَ الأْمْوَالُ الَّتِي لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالنُّقُودِ وَسَائِرِ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يَصِحُّ قَرْضُ الْمِثْلِيَّاتِ وَحْدَهَا، أَمَّا الْقِيَمِيَّاتُ الَّتِي تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُهَا .

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّهُ لاَ سَبِيلَ إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَلاَ إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْقِيمَةِ؛ لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لاِخْتِلاَفِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلاَفِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهِ رَدَّ الْمِثْلِ، فَيَخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ  وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يَصِحُّ الْقَرْضُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ؛ لأِنَّ  الْقَرْضَ إِعَارَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى تَصِحَّ بِلَفْظِهَا، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ  إِلَى جَوَازِ قَرْضِ الْمِثْلِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ وَسَّعُوا دَائِرَةَ مَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، فَقَالُوا: يَصِحُّ إِقْرَاضُ كُلِّ مَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ - حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بَكْرًا  وَقِيسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، أَمَّا مَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَهُوَ مَا لاَ يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ - كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا - فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ .

ثُمَّ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قَرْضِ مَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ جَوَازَ قَرْضِ الْخُبْزِ وَزْنًا لِلْحَاجَةِ وَالْمُسَامَحَةِ .

وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ قَرْضِ كُلِّ عَيْنٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ أَمْ لاَ .

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا:

15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ  إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي مُسْتَنَدِ الْمَنْعِ وَمَنْشَئِهِ.

فَأَسَاسُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ  وَالْمَنَافِعُ لاَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً فِي مَذْهَبِهِمْ؛ لأِنَّ  الْمَالَ عِنْدَهُمْ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ طَبْعُ الإْنْسَانِ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلإْحْرَازِ وَالاِدِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ الَّذِي يَنْتَهِي، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ الْمَنَافِعِ مَحَلًّا لِعَقْدِ الْقَرْضِ.

وَأَمَّا مُسْتَنَدُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ  أَيْ فِي الْعُرْفِ وَعَادَةِ النَّاسِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَنَافِعِ، مِثْلُ أَنْ يَحْصُدَ مَعَهُ يَوْمًا، وَيَحْصُدَ مَعَهُ الآْخَرُ يَوْمًا، أَوْ يُسْكِنَهُ دَارًا لِيُسْكِنَهُ الآْخَرُ بَدَلَهَا، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأْمْثَالِ، حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الأْخْرَى الْقِيمَةُ، وَيَتَوَجَّهُ فِي الْمُتَقَوِّمِ أَنَّهُ يَجُوزُ رَدُّ الْمِثْلِ بِتَرَاضِيهِمَا .

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي بَابِ الْقَرْضِ كَوْنَ مَحَلِّ الْقَرْضِ عَيْنًا، وَلَكِنَّهُمْ أَقَامُوا ضَابِطًا لِمَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ صَحَّ إِقْرَاضُهُ، وَفِي بَابِ السَّلَمِ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَنَافِعِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الأْعْيَانِ   وَعَلَى ذَلِكَ يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:

16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ مَحَلِّ الْقَرْضِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْمُقْتَرِضُ مِنْ رَدِّ الْبَدَلِ الْمُمَاثِلِ لِلْمُقْرِضِ، وَهَذِهِ الْمَعْلُومِيَّةُ تَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ: مَعْرِفَةَ الْقَدْرِ، وَمَعْرِفَةَ الْوَصْفِ  جَاءَ فِي «أَسْنَى الْمَطَالِبِ»: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإْقْرَاضِ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لِيَتَأَتَّى أَدَاؤُهُ، فَلَوْ أَقْرَضَهُ كَفًّا مِنْ دَرَاهِمَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أَقْرَضَهُ عَلَى أَنْ يُسْتَبَانَ مِقْدَارُهُ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ صَحَّ .

وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عِلَّةَ هَذَا الاِشْتِرَاطِ، فَقَالَ: «وَإِذَا اقْتَرَضَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لأِنَّ  الْقَرْضَ فِيهَا يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْمِثْلُ لَمْ يُمْكِنِ الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اقْتَرَضَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ أَوْ صَنْجَةٍ بِعَيْنِهَا غَيْرِ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لأِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ تَلَفَ ذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرُ رَدُّ الْمِثْلِ، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ».

وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ مَحَلِّ الْقَرْضِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مَا سَمَّوْهُ بِالْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ  كَقَوْلِهِ: «عَمِّرْ دَارِي» وَنَحْوِهِ، فَلَمْ يُوجِبُوا مَعْرِفَتَهُ لِصِحَّةِ الْقَرْضِ .

أَحْكَامُ الْقَرْضِ:

أ - (مِنْ حَيْثُ أَثَرُهُ):

17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِ الْقَرْضِ، وَهُوَ نَقْلُ مِلْكِيَّةِ مَحَلِّهِ مِنَ الْمُقْرِضِ إِلَى الْمُقْتَرِضِ، هَلْ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ، أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ، أَمْ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَصَرُّفِ الْمُقْتَرِضِ فِيهِ أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ.؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) لِلْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ : وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ  قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: غَيْرَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْقَرْضِ غَيْرُ تَامٍّ لأِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:

أ - بِأَنَّ مَأْخَذَ الاِسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ  الْقَرْضَ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ.

ب - وَبِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْقَرْضِ، وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ.

ج - وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلأِنَّ  الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ: فَلأِنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَالِ الْمُقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ؛ لأِنَّ  غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إِنَّمَا هِيَ بَذْلُ مَنَافِعِ الْمَالِ الْمُقْرَضِ لِلْمُقْتَرِضِ مَجَّانًا؛ لأِنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي الْحَالِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا كَانَ حُكْمُهُ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِلُ الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ بِالتَّصَرُّفِ، وَلاَ بِالاِسْتِهْلاَكِ.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْقَرْضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَصِيرُ مَالاً مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ  وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّوْكَانِيُّ وَرَجَّحَهُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمَنَاطُ فِي نَقْلِ مِلْكِيَّةِ الأْمْوَالِ مِنْ بَعْضِ الْعِبَادِ إِلَى بَعْضٍ .

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلأْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَالَ الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ قِبَلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُلُّ عَمَلٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإْعْتَاقِ وَالإْتْلاَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ  قَالُوا: لأِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مَحْضٍ، إِذْ يَجِبُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَلَيْسَ عَلَى حَقَائِقِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ بَدَلِهِ .

(وَالرَّابِعُ) لأِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرْضَ لاَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ مَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الإْقْرَاضَ إِعَارَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ الأْجَلُ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَلَزِمَ فِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلأِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ الأْبُ وَالْوَصِيُّ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ، وَهَؤُلاَءِ يَمْلِكُونَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الإْقْرَاضَ إِعَارَةٌ، فَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا الْمُقْتَرِضُ .

ب - مِنْ حَيْثُ مُوجِبُهُ:

18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ تَنْشَغِلُ ذِمَّتُهُ بِبَذْلِ الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ بِمُجَرَّدِ تَمَلُّكِهِ لِمَحَلِّ الْقَرْضِ، وَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا بِرَدِّ الْبَدَلِ إِلَيْهِ أَمَّا صِفَةُ الْبَدَلِ، وَمَكَانُ رَدِّهِ، وَزَمَانُهُ، فَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

صِفَةُ بَدَلِ الْقَرْضِ:

19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ أَدَاؤُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ  وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ   وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الَّذِي اقْتَرَضَهُ إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا؛ لأِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى حَقِّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، أَوْ بِمِثْلِهِ صُورَةً  لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  «أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَرَدَّ رُبَاعِيًّا، وَقَالَ: إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» ، وَلأِنَّ  مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْقَرْضِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ مِثْلٌ.

قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: وَمِنْ لاَزِمِ اعْتِبَارِ الْمِثْلِ الصُّورِيِّ اعْتِبَارُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَزِيدُ بِهَا الْقِيمَةُ، فَيَرُدُّ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا، حَتَّى لاَ يَفُوتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .

وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ بِمُجَرَّدِ تَمَلُّكِهِ لِلْعَيْنِ الْمُقْتَرَضَةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا لاَ عَيْنُهَا وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَأْخُذَ مَحَلَّ الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُسْتَقْرِضِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ  وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَسْكُوكَاتِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، فَرَخُصَتْ أَسْعَارُهَا أَوْ غَلَتْ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَلاَ عِبْرَةَ بِرُخْصِهَا وَغَلاَئِهَا، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدُّ مِثْلِ مَا اقْتَرَضَهُ بِأَنِ اسْتَهْلَكَهَا ثُمَّ انْقَطَعَتْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى الاِنْتِظَارِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مِثْلُهَا، وَلاَ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهَا، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ لأِنَّ  مَبْنَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ بِوُجُوبِ الْمِثْلِ مُطْلَقًا دُونَ الْقِيمَةِ هُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْقَرْضِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ فِي الْمِثْلِيَّاتِ .

وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْقَرْضِ مِثْلِيًّا مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا لاَ يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ، وَقَالُوا:

(أ) إِنْ كَانَ مَحَلُّ الْقَرْضِ مِثْلِيًّا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ، فَيَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ مِثْلُهُ، وَلَوْ أَرَادَ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ فَيُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى قَبُولِهِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ عَيْنُهُ بِعَيْبٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ أَوْ لاَ، لأِنَّهُ رَدَّهُ عَلَى صِفَةِ حَقِّهِ، فَلَزِمَ قَبُولُهُ كَالسَّلَمِ، وَلَوْ تَغَيَّرَ حَالُهَا بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَرْدُودِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ دُونَ حَقِّهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَدَاءُ مِثْلِهِ .

وَفِي الْحَالَيْنِ إِذَا رَدَّ الْمُقْتَرِضُ الْمِثْلَ وَجَبَ عَلَى الْمُقْرِضِ قَبُولُهُ، سَوَاءٌ رَخُصَ سِعْرُهُ أَوْ غَلاَ أَوْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَذَلِكَ لأِنَّ  الْمِثْلَ يُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَالإْتْلاَفِ بِمِثْلِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، فَإِنْ أَعْوَزَ الْمِثْلُ - أَيْ تَعَذَّرَ - فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ إِعْوَازِهِ؛ لأِنَّهُ يَوْمَ ثُبُوتِ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ.

(ب) وَإِنْ كَانَ مَحَلُّ الْقَرْضِ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلاَ مَوْزُونٍ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا قَوْلاً وَاحِدًا؛ لأِنَّ  قِيمَتَهَا تَتَغَيَّرُ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الرَّاغِبِ وَكَثْرَتِهِ.

أَمَّا مَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ كَالْمَذْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ وَالْحَيَوَانِ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَرْضِ لأِنَّهَا تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ صُورَةً؛ لأِنَّ  النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَرَدَّ مِثْلَهُ .

20 - وَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ بَدَلِ الْقَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمِثْلُ أَوِ الْقِيمَةُ لِمَحَلِّ الْقَرْضِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ فِي الْوَصْفِ، أَوِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْقَدْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ لَوْ قَضَى دَائِنَهُ بِبَدَلٍ خَيْرٍ مِنْهُ فِي الْقَدْرِ أَوِ الصِّفَةِ، أَوْ دُونَهُ، بِرِضَاهُمَا جَازَ مَا دَامَ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ أَوْ مُوَاطَأَةٍ  وَذَلِكَ لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا، فَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَالَ: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ؛ وَلأِنَّهُ لَمْ تُجْعَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ، وَلاَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَلاَ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَحَلَّتْ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَرْضٌ، بَلْ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَرُدَّ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُهُ .

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَ الْمُقْتَرِضُ فِي الْكَمِّ وَالْعَدَدِ إِلاَّ فِي الْيَسِيرِ جِدًّا، وَقَالَ: إِنَّمَا الإْحْسَانُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَجْوَدَ عَيْنًا وَأَرْفَعَ صِفَةً، وَأَمَّا أَنْ يَزِيدَهُ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ فَلاَ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ حِينَ السَّلَفِ .

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْفَضْلِ فِي الْقَرْضِ مُطْلَقًا، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّ الْمُقْرِضَ يَأْخُذُ مِثْلَ قَرْضِهِ، وَلاَ يَأْخُذُ فَضْلاً؛ لِئَلاَّ يَكُونَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً .

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِذَا قَضَى الدَّيْنَ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلاَ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَنْقَصَ مِمَّا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَبِلَ جَازَ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ خِلاَفَ الْجِنْسِ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ .

مَكَانُ رَدِّ الْبَدَلِ:

21 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الأْصْلَ  فِي الْقَرْضِ وُجُوبُ رَدِّ بَدَلِهِ فِي نَفْسِ الْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا، وَأَنَّ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْوَفَاءُ بِهِ حَيْثُ قَبَضَهُ، إِذْ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهِ .

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُقْرِضَ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَشَّمَ مَشَقَّةً لِرَدِّ قَرْضِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لإِِحْسَانِهِ .

لَكِنْ لَوْ بَذَلَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، أَوْ طَالَبَهُ الْمُقْرِضُ بِهِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ حَمْلَ لَهُ وَلاَ مُؤْنَةَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مُقْرِضَهَا أَخْذُهَا بِغَيْرِ مَحَلِّ الْقَرْضِ، إِذْ لاَ كُلْفَةَ فِي حَمْلِهَا وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ .

وَأَمَّا مَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْرِضَ لاَ يَلْزَمُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْكُلْفَةِ، إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الْمُقْرِضُ بِأَخْذِهِ جَازَ وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مَخُوفًا .

وَلَوِ الْتَقَى الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ، وَقِيمَةُ مَحَلِّ الْقَرْضِ فِي الْبَلْدَتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ، فَطَلَبَ الْمُقْرِضُ أَخْذَهُ مِنْهُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ أَدَاؤُهَا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ بَلَدِ الْقَرْضِ لأِنَّهُ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَكُونُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَرْضِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَوْمَ الْخُصُومَةِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَسْتَوْثِقُ لِلْمُقْرِضِ مِنَ الْمَطْلُوبِ بِكَفِيلٍ حَتَّى يُوفِيَهُ مِثْلَهُ حَيْثُ أَقْرَضَهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ لَقِيَ الْمُقْرِضُ الْمُقْتَرِضَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ فَطَالَبَهُ بِالْقَضَاءِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَزِمَ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي اقْتَرَضَهُ فِيهِ، وَلَوِ اصْطَلَحَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي الْبَلَدِ الآْخَرِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا إِنْ كَانَ بَعْدَ  حُلُولِ الأْجَلِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حُلُولِهِ لَمْ يَلْزَمْ .

زَمَانُ رَدِّ الْبَدَلِ:

22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ رَدِّ الْبَدَلِ فِي الْقَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ يَثْبُتُ حَالًّا فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلِلْمُقْتَرِضِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ فِي الْحَالِ مُطْلَقًا، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ؛ وَلأِنَّ  الْقَرْضَ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، فَكَانَ حَالًّا، كَالإْتْلاَفِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأْصْلِ  أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهُ تَفَارِيقَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا جُمْلَةً، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأِنَّ  الْجَمِيعَ حَالٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بُيُوعًا مُتَفَرِّقَةً حَالَّةَ الثَّمَنِ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِثَمَنِهَا جُمْلَةً .

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لاِبْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَدَلَ لاَ يَثْبُتُ حَالًّا فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: لَوِ اقْتَرَضَ مُطْلَقًا - مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ - فَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْبَدَلِ لِمُقْرِضِهِ إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهِ، وَيُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى إِبْقَائِهِ عِنْدَهُ إِلَى قَدْرِ مَا يُرَى فِي الْعَادَةِ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ .

الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فِي الْقَرْضِ:

الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فِي الْقَرْضِ أَنْوَاعٌ: فَمِنْهَا الْمَشْرُوعُ، وَمِنْهَا الْمَمْنُوعُ، مِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - اشْتِرَاطُ تَوْثِيقِ دَيْنِ الْقَرْضِ:

23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ الإْقْرَاضِ بِشَرْطِ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ وَإِشْهَادٍ أَوْ أَحَدِهَا؛ لأِنَّ  هَذِهِ الأْمُورَ تَوْثِيقَاتٌ لاَ مَنَافِعُ زَائِدَةٌ لِلْمُقْرِضِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» ؛ وَلأِنَّ  مَا جَازَ فِعْلُهُ جَازَ شَرْطُهُ؛ وَلأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ .

ب - اشْتِرَاطُ الْوَفَاءِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ:

24 - يَدْخُلُ هَذَا الاِشْتِرَاطُ فِي بَابِ السَّفْتَجَةِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ .

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (سَفْتَجَة ف 3).

ج - اشْتِرَاطُ الْوَفَاءِ بِأَنْقَصَ

25 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ عَلَى الْمُقْرِضِ أَنْقَصَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى فَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ وَعَدَمِ لُزُومِهِ، وَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ؟

لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ  الْمَنْهِيَّ عَنْهُ جَرُّ الْمُقْرِضِ النَّفْعَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَاهُنَا لاَ نَفْعَ لَهُ فِي الشَّرْطِ، بَلِ النَّفْعُ لِلْمُقْتَرِضِ، فَكَأَنَّ الْمُقْرِضَ زَادَ فِي الْمُسَامَحَةِ وَالإْرْفَاقِ، وَوَعَدَهُ وَعْدًا حَسَنًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْفَسَادُ؛ لِمُنَافَاتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ .

د - اشْتِرَاطُ الأْجَلِ:

26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الأْجَلِ وَلُزُومِهِ فِي الْقَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالأْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ تَأْجِيلُ الْقَرْضِ، وَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، وَلِلْمُقْرِضِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ قَبْلَ حُلُولِ الأْجَلِ؛ لأِنَّ  الآْجَالَ فِي الْقُرُوضِ بَاطِلَةٌ  قَالَ الإْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ .

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْلِهِمْ بِعَدَمِ لُزُومِ الأْجَلِ فِي الْقَرْضِ أَرْبَعَ مَسَائِلَ: إِذَا كَانَ مَجْحُودًا بِأَنْ صَالَحَ الْمُقْرِضُ الْمُقْتَرِضَ الْجَاحِدَ لِلْقَرْضِ عَلَى مَبْلَغٍ إِلَى أَجَلٍ فَيَلْزَمُ الأْجَلُ، أَوْ حَكَمَ مَالِكِيٌّ بِلُزُومِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ، أَوْ أَحَالَهُ عَلَى آخَرَ فَأَجَّلَهُ الْمُقْرِضُ أَوْ أَحَالَهُ عَلَى مَدْيُونٍ مُؤَجَّلٍ دَيْنُهُ، لأِنَّ  الْحَوَالَةَ مُبْرِئَةٌ، وَالرَّابِعَةُ الْوَصِيَّةُ، بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلاَنًا إِلَى سَنَةٍ .

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ اشْتِرَاطِ الأْجَلِ فِي الْقَرْضِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مُنِعَ فِيهِ التَّفَاضُلُ، فَمُنِعَ فِيهِ الأْجَلُ كَالصَّرْفِ، إِذِ الْحَالُّ لاَ يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ، وَبِأَنَّهُ وَعْدٌ، وَالْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ غَيْرُ لاَزِمٍ  وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَأْجِيلِهِ بِأَنَّهُ إِعَارَةٌ وَصِلَةٌ فِي الاِبْتِدَاءِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظِ الإْعَارَةِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ، وَمُعَاوَضَةٌ فِي الاِنْتِهَاءِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الاِبْتِدَاءِ لاَ يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ، كَمَا فِي الإْعَارَةِ، إِذْ لاَ جَبْرَ فِي التَّبَرُّعِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الاِنْتِهَاءِ لاَ يَصِحُّ، لأِنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً، وَهُوَ رِبًا .

وَمَعَ اتِّفَاقِ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الأْجَلِ فِي الْقَرْضِ فَاسِدٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ لِلْمُقْرِضِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ هَلْ يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَمْ لاَ؟

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقَرْضُ صَحِيحٌ.

وَالأْجَلُ بَاطِلٌ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شُرِطَ فِي الْقَرْضِ أَجَلٌ نُظِرَ:

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ غَرَضٌ فِي التَّأْجِيلِ (أَيْ مَنْفَعَةٌ لَهُ) لَغَا الشَّرْطُ، وَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّهُ زَادَ فِي الإْرْفَاقِ بِجَرِّهِ الْمَنْفَعَةَ لِلْمُقْتَرِضِ فِيهِ، وَيُنْدَبُ لَهُ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمُقْرِضِ فِيهِ غَرَضٌ، بِأَنْ كَانَ زَمَنَ نَهْبٍ، وَالْمُسْتَقْرِضُ مَلِيءٌ، فَوَجْهَانِ:

أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُفْسِدُ الْقَرْضَ؛ لأِنَّ  فِيهِ جَرَّ مَنْفَعَةٍ لِلْمُقْرِضِ .

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ صِحَّةُ التَّأْجِيلِ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا اشْتُرِطَ الأْجَلُ فِي الْقَرْضِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ رَدُّ الْبَدَلِ قَبْلَ حُلُولِ الأْجَلِ الْمُعَيَّنِ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» .  

ثُمَّ فَرَّعَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا: أَنَّهُ لَوْ رَغِبَ الْمُقْتَرِضُ تَعْجِيلَهُ لِرَبِّهِ قَبْلَ أَجَلِهِ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ؛ لأِنَّ  الْحَقَّ فِي الأْجَلِ لِلْمُقْتَرِضِ فَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ، وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، عَيْنًا كَانَ الْبَدَلُ أَوْ عَرْضًا، أَوْ كَانَ نَفْسَ الْمَالِ الْمُقْتَرَضِ .

هـ - اشْتِرَاطُ رَدِّ مَحَلِّ الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ:

27 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدَّ مَحَلِّ الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ؛ لأِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَفِعَ الْمُقْتَرِضُ بِاسْتِهْلاَكِهِ وَرَدِّ بَدَلِهِ، فَاشْتِرَاطُ رَدِّهِ بِعَيْنِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، بَلْ يَبْقَى صَحِيحًا .

اشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ لِلْمُقْرِضِ:

28- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْقَرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ، بِأَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ بِأَنْ يَزِيدَهُ هَدِيَّةً مِنْ مَالٍ آخَرَ، أَوْ كَانَتْ فِي الصِّفَةِ، بِأَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ، وَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ الرِّبَا .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكُلُّ زِيَادَةٍ فِي سَلَفٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسَلِّفُ فَهِيَ رِبًا، وَلَوْ كَانَتْ قَبْضَةً مِنْ عَلَفٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ إِنْ كَانَ بِشَرْطٍ  وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَلِّفَ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِفِ زِيَادَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ رِبًا .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ مِنَ «النَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا»  أَيْ لِلْمُقْرِضِ.

وَبِأَنَّ مَوْضُوعَ عَقْدِ الْقَرْضِ الإْرْفَاقُ وَالْقُرْبَةُ، فَإِذَا شَرَطَ الْمُقْرِضُ فِيهِ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ خَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِهِ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ؛ لأِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَرْضًا لِلزِّيَادَةِ لاَ لِلإْرْفَاقِ وَالْقُرْبَةِ؛ وَلأِنَّ  الزِّيَادَةَ الْمَشْرُوطَةَ تُشْبِهُ الرِّبَا؛ لأِنَّهَا فَضْلٌ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا وَاجِبٌ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَمِثْلُ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْمُقْرِضِ أَيَّ عَمَلٍ يَجُرُّ إِلَيْهِ نَفْعًا، كَأَنْ يُسْكِنَهُ الْمُقْتَرِضُ دَارَهُ مَجَّانًا، أَوْ يُعِيرَهُ دَابَّتَهُ، أَوْ يَعْمَلَ لَهُ كَذَا، أَوْ يَنْتَفِعَ بِرَهْنِهِ.. إِلَخْ .

وَلاَ يَخْفَى أَنَّ السَّلَفَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا وَجَبَ فَسْخُهُ، وَيُرْجَعُ إِلَى الْمِثْلِ فِي ذَوَاتِ الأْمْثَالِ، وَإِلَى الْقِيمَةِ فِي غَيْرِهَا .

الْهَدِيَّةُ لِلْمُقْرِضِ ذَرِيعَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ:

29 - اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ لِلْمُقْرِضِ قَبْلَ الْوَفَاءِ بِالْقَرْضِ عَلَى أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا): لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهَدِيَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقَرْضُ لِمُقْرِضِهِ، لَكِنَّ الأَْفْضَلَ أَنْ يَتَوَرَّعَ الْمُقْرِضُ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِيهِ لأِجْلِ الْقَرْضِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ لاَ لأِجْلِ الْقَرْضِ، بَلْ لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَتَوَرَّعُ عَنِ الْقَبُولِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مَعْرُوفًا بِالْجُودِ وَالسَّخَاءِ، كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ  فَالْحَالَةُ حَالَةُ الإْشْكَالِ، فَيَتَوَرَّعُ عَنْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْدَى لاَ لأِجْلِ الدَّيْنِ .

(وَالثَّانِي): لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِلْمُقْتَرِضِ أَنْ يُهْدِيَ الدَّائِنَ رَجَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ بِدَيْنِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الدَّائِنِ قَبُولُهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَ الْمَدِينِ ذَلِكَ، لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّأْخِيرِ مُقَابِلَ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ قَائِمَةً وَجَبَ رَدُّهَا، وَإِنْ فَاتَتْ بِمُفَوِّتٍ وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَقِيمَتِهَا يَوْمَ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْمَدِينُ ذَلِكَ وَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، فَلَهُ أَنْ يُهْدِيَ دَائِنَهُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَكِنْ يُكْرَهُ لِذِي الدَّيْنِ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنْ تَحَقَّقَ صِحَّةَ نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، لِئَلاَّ يَكُونَ ذَرِيعَةً لاِسْتِجَازَةِ ذَلِكَ حَيْثُ لاَ يَجُوزُ .

ثُمَّ أَوْضَحَ الْمَالِكِيَّةُ ضَابِطَ الْجَوَازِ حَيْثُ صَحَّتِ النِّيَّةُ وَانْتَفَى الْقَصْدُ الْمَحْظُورُ فَقَالُوا: إِنَّ هَدِيَّةَ الْمِدْيَانِ حَرَامٌ إِلاَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ مِثْلُ الْهَدِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْمُدَايَنَةِ، وَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لأِجْلِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْرُمُ حِينَئِذٍ حَالَةَ الْمُدَايَنَةِ، وَإِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ مُوجِبٌ لِلْهَدِيَّةِ بَعْدَ الْمُدَايَنَةِ، مِنْ صِهَارَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْرُمُ أَيْضًا .

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُ هَدِيَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ بِلاَ شَرْطٍ وَلَوْ فِي الرِّبَوِيِّ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَوْلَى قَبْلَ رَدِّ الْبَدَلِ .

(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِذَا أَهْدَى لِمُقْرِضِهِ هَدِيَّةً قَبْلَ الْوَفَاءِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُقْرِضُ احْتِسَابَهَا مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ مُكَافَأَتَهُ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ، إِلاَّ إِذَا جَرَتْ عَادَةٌ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَرْضِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً بِهِ جَازَ أَمَّا إِذَا أَهْدَاهُ بَعْدَ الْوَفَاءِ - بِلاَ شَرْطٍ وَلاَ مُوَاطَأَةٍ - فَهُوَ جَائِزٌ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ وَلاَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَلاَ إِلَى اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرْضٌ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلاَ يَرْكَبْهَا وَلاَ يَقْبَلْهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ»  وَمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَسْلَفَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ ثَمَرَةِ أَرْضِهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَتَاهُ أُبَيٌّ، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَةً، وَأَنَّهُ لاَ حَاجَةَ لَنَا، فَبِمَ مَنَعْتَ هَدِيَّتَنَا؟ ثُمَّ أَهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَبِلَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَكَانَ رَدُّ عُمَرَ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَدِيَّتُهُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْقَرْضِ قَبِلَهَا، وَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ . وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَّمٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لأِبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: إِنَّكَ فِي أَرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَإِنَّهُ رِبًا .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَكُلُّ ذَلِكَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ .

وَعَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِجَوَازِ الْهَدِيَّةِ غَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ مِنَ الْمُقْتَرِضِ إِلَى الْمُقْرِضِ .

ز - اشْتِرَاطُ عَقْدٍ آخَرَ فِي الْقَرْضِ:

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ صُوَرًا مُتَعَدِّدَةً لاِشْتِرَاطِ عَقْدٍ آخَرَ - كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُسَاقَاةٍ وَقَرْضٍ آخَرَ - فِي عَقْدِ الْقَرْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا فِي الْحُكْمِ، نَظَرًا لِتَفَاوُتِ مُنَافَاتِهَا لِمُقْتَضَى عَقْدِ الْقَرْضِ، وَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ التَّالِيَةِ:

أ - الصُّورَةُ الأْولَى:

30 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يُقْرِضَهُ مَالاً آخَرَ، بِأَنْ قَالَ الْمُقْرِضُ لِلْمُقْتَرِضِ: أَقْرَضْتُكَ كَذَا بِشَرْطِ أَنْ أُقْرِضَكَ غَيْرَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَرْضِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ لاَغٍ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ.

قَالُوا: لأِنَّهُ وَعْدٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَهَبَهُ غَيْرَهُ .

ب - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:

31 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ قَرْضٌ آخَرُ مِنَ الْمُقْتَرِضِ لِمُقْرِضِهِ فِي مُقَابِلِ الْقَرْضِ الأْوَّلِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِأَسْلِفْنِي أُسُلِفْكَ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ، وَعَلَى فَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا ؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي مَذْهَبِهِمْ .

وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ حَوْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ كَرَاهَةُ الْقَرْضِ مَعَ ذَلِكَ الشَّرْطِ .

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْخُلاَصَةِ الْقَرْضُ بِالشَّرْطِ حَرَامٌ وَالشَّرْطُ لَغْوٌ .

ج - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ:

32 - إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَبِيعَهُ الْمُقْرِضُ شَيْئًا، أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ، أَوْ يُؤَجِّرَهُ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الاِشْتِرَاطِ  وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  قَالَ: «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ» .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَحَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى الرِّبْحِ فِي السَّلَفِ بِأَخْذِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَالتَّوَسُّلِ إِلَى ذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوِ الإْجَارَةِ  كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ   وَقَالَ: وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْبَيْعُ؛ فَلأِنَّهُ إِذَا أَقْرَضَهُ مِائَةً إِلَى سَنَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ بِمِائَةٍ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْبَيْعَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ، وَلَوْلاَ هَذَا الْبَيْعُ لَمَا أَقْرَضَهُ، وَلَوْلاَ عَقْدُ الْقَرْضِ لَمَا اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ  ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا .

وَلأِنَّ هُمَا جَعَلاَ رِفْقَ الْقَرْضِ ثَمَنًا، وَالشَّرْطُ لَغْوٌ، فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ بَعْضُ الثَّمَنِ، وَيَصِيرُ الْبَاقِي مَجْهُولاً، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ عَلَى أَنْ يُحَابِيَهُ فِي الثَّمَنِ، فَيَدْخُلُ الثَّمَنُ فِي حَدِّ الْجَهَالَةِ .

وَلأِنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَارَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الآْخَرُ دَارَهُ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَارَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَتِهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارَ الْمُقْرِضِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهَا كَانَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ .

وَلأِنَّ  الْقَرْضَ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عُقُودِ الْبِرِّ وَالْمُكَارَمَةِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِوَضٌ، فَإِنْ قَارَنَ الْقَرْضَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الْعِوَضِ، فَخَرَجَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، فَبَطَلَ وَبَطَلَ مَا قَارَنَهُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَرْضُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ فَهُوَ غَيْرُ لاَزِمٍ لِلْمُقْرِضِ، وَالْبَيْعُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ - كَالإْجَارَةِ   وَالنِّكَاحِ - لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لِتَنَافِي حُكْمَيْهِمَا .

33 - وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ شِرَاءُ الْمُقْتَرِضِ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنَ الْمُقْرِضِ بِثَمَنٍ غَالٍ لِحَاجَتِهِ لِلْقَرْضِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ وَيُكْرَهُ، وَقَدْ عَلَّقَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: أَيْ يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَهَذَا لَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ بَعْدَ الْقَرْضِ، لِمَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْعُ مَشْرُوطًا فِي الْقَرْضِ، وَلَكِنِ اشْتَرَى الْمُسْتَقْرِضُ مِنَ الْمُقْرِضِ بَعْدَ الْقَرْضِ مَتَاعًا بِثَمَنٍ غَالٍ.

فَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ الْخَصَّافُ: مَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ: إِنَّهُ حَرَامٌ؛ لأِنَّهُ يَقُولُ لَوْ لَمْ أَكُنِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ طَالَبَنِي بِالْقَرْضِ فِي الْحَالِ، وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: مَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهَذَا إِذَا تَقَدَّمَ الإْقْرَاضُ عَلَى الْبَيْعِ.

فَإِنْ تَقَدَّمَ الْبَيْعُ - بِأَنْ بَاعَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ الْمُعَامَلَةُ مِنَ الطَّالِبِ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا، ثُمَّ أَقْرَضَهُ سِتِّينَ دِينَارًا أُخْرَى، حَتَّى صَارَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِائَةُ دِينَارٍ، وَحَصَلَ لِلْمُسْتَقْرِضِ ثَمَانُونَ دِينَارًا - ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ إِمَامِ بَلْخٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، إِذْ لَوْلاَهُ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْمُسْتَقْرِضُ غَلاَءَ الثَّمَنِ، وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، لأِنَّ  الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ، فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا، فَكَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْقَرْضِ، وَكَانَ شَمْسُ الأْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِقَوْلِ الْخَصَّافِ وَابْنِ سَلَمَةَ، وَيَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِقَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، بَلْ هَذَا بَيْعٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَهِيَ الْقَرْضُ .

ح - اشْتِرَاطُ الْجُعْلِ عَلَى الاِقْتِرَاضِ بِالْجَاهِ:

34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنِ اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِهِ بِجَاهِهِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ جُعْلاً ثَمَنًا لِجَاهِهِ أَمْ لاَ؟

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْتَرِضْ لِي مِائَةً وَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ فَهُوَ جَعَالَةٌ .

وَقَالَ الإْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ بِجَاهِهِ لإِخْوَانِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يَعْنِي إِذَا كَانَ مَنْ يُقْتَرَضُ لَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَفَاءِ، لِكَوْنِهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ الْمُقْرِضِ وَإِضْرَارًا بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْوَفَاءِ فَلاَ يُكْرَهُ؛ لِكَوْنِهِ إِعَانَةً لَهُ وَتَفْرِيجًا لِكُرْبَتِهِ .

وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا اسْتَقْرَضَ الإْنْسَانُ  لِغَيْرِهِ بِجَاهِهِ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَهُ أَخْذُ جُعْلٍ مِنْهُ مُقَابِلَ اقْتِرَاضِهِ لَهُ بِجَاهِهِ، بِخِلاَفِ أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى كَفَالَتِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ  قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ قَالَ: اقْتَرِضْ لِي مِنْ فُلاَنٍ مِائَةً، وَلَكَ عَشَرَةٌ، فَلاَ بَأْسَ، وَلَوْ قَالَ: اكْفُلْ عَنِّي وَلَكَ أَلْفٌ لَمْ يَجُزْ، وَذَلِكَ لأِنَّ  قَوْلَهُ اقْتَرِضْ لِي وَلَكَ عَشَرَةٌ جَعَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَجَازَتْ، كَمَا لَوْ قَالَ: ابْنِ لِي هَذَا الْحَائِطَ وَلَكَ عَشَرَةٌ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، فَإِذَا أَدَّاهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ مِثْلُهُ، فَصَارَ كَالْقَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا صَارَ الْقَرْضُ جَارًّا لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجُزْ .

وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي ثَمَنِ الْجَاهِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا، وَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ بِإِطْلاَقٍ، وَمِنْ مُفَصِّلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْجَاهِ يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَتَعَبٍ وَسَفَرٍ، فَأَخَذَ مِثْلَ أَجْرِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِلاَّ حَرُمَ، قَالَ التَّسَوُّلِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ .

 


الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / السادس والثلاوثون  ، الصفحة /  112

عَقْدُ الْقَرْضِ :

5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ فِي الأْمْوَالِ  الْمِثْلِيَّةِ لأِنَّ  الْقَرْضَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمِثْلِ وَهَذَا مُيَسَّرٌ فِي الأْمْوَالِ  الْمِثْلِيَّةِ مِنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَكَذَا الْعَدَدِيَّاتُ وَالْمَذْرُوعَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ الَّتِي يُمْكِنُ ضَبْطُهَا . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَرْضِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، إِلَى جَوَازِ قَرْضِ كُلِّ مَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ مِنْ عَرَضٍ وَحَيَوَانٍ وَمِثْلِيٍّ وَذَلِكَ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الأْثَرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا» أَيْ ثَنِيًّا مِنَ الإْبِلِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ وَلاَ مَكِيلٍ.

وَاسْتَثْنَى الْجُمْهُورُ مِنْ جَوَازِ قَرْضِ كُلِّ مَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ الْجَارِيَةَ الَّتِي تَحِلُّ لِلْمُقْتَرِضِ، فَلاَ يَصِحُّ قَرْضُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى إِعَارَةِ الْجَوَارِي لِلْوَطْءِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.

أَمَّا مَا لاَ يُسْلَمُ فِيهِ، فَلاَ يَجُوزُ إِقْرَاضُهُ عِنْدَهُمْ لأِنَّ  مَا لاَ يَنْضَبِطُ أَوْ يَنْدُرُ وُجُودُهُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ رَدُّ مِثْلِهِ .

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْقَرْضُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ، كَحَيَوَانٍ وَحَطَبٍ وَعَقَارٍ وَكُلِّ مُتَفَاوِتٍ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى عَقْدِ الْقَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْقَرْضُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ .

وَنُقِلَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ عَارِيَّةٌ، أَيْ أَنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنَ الأْمْوَالِ  غَيْرِ الْمِثْلِيَّةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَارِيَّةِ فَيَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَرْضٌ ف 14).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والأربعون ، الصفحة / 192

إِقْرَاضُ النُّقُودِ:

40 - يَجُوزُ إِقْرَاضُ النُّقُودِ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَهَبِيَّةً أَوْ فِضِّيَّةً أَوْ فُلُوسًا.

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ يَرُدَّ صِحَاحًا عَنْ مُكَسَّرَةٍ. فَإِنْ رَدَّ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه :«خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»  قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَلَوْ نَوَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَوْ لِمَنْ عُرِفَ بِالرَّدِّ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْحُرْمَةِ .

وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأْشْبَاهِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَعُرِفَ ذَلِكَ عَنْهُ فَلاَ يَحْرُمُ إِقْرَاضُهُ عَلَى الأْصَحِّ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ .

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (قَرْض ف 24 وَمَا بَعْدَهَا).

 


___________________________________________________________________

كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله )محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية(بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية  1891 افرنجيه

(مادة 686)
القرض هو أن يدفع شخص لآخر عيناً معلومة من الأعيان المثلية التي تستهلك بالانتفاع بها ليرد مثلها.

( مادة 688)

 يصح القرض في الأعيان المثلية وهي التي لا تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلف به قيمتها كالمكیلات والموزونات والمعدودات المتقاربة.

( مادة 689)

لا يصح القرض في القيميات وهي التي تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلف به قيمتها.

( مادة 692)

 يجب على المستقرض رد مثل الأعيان المقترضة قدراً وصفاً.

( مادة 698)

 اذا استقرض عدة أشخاص مبلغاً من النقود واستولاه أحدهم بأمرهم من المقرض فليس له أن يطلب من القابض سوی حصته.

( مادة 699)

اذا استقرض صبي محجور عليه شيئأ فاستهلكه الصبي فعليه ضمانه فإن تلف الشيء نفسه فلا ضمان عليه وإن كانت عينه باقية فللمقرض استردادها.