مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الخامس، الصفحة : 240
الوديعة
المذكرة الإيضاحية :
نظرة عامة :
وضعت الوديعة بين العقود الواردة على العمل، ورتبت أحكامها ترتيباً منطقياً، فعرفت الوديعة، ثم حددت التزامات الوديع والتزامات المودع .
وذكرت بعض حالات خاصة تنطبق عليها أحكام الوديعة إلا في مسائل معينة تنفرد فيها بأحكام خاصة.
ويختلف المشروع عن التقنين الحالي في مسائل أهمها ما يأتي :
(1) جعل المشروع الوديعة عقداً رضائياً، كما فعل بالقرض والعارية، وهي في التقنين الحالي عقد عینی.
(2) بين المشروع بوضوح التزامات كل من الطرفين .
(3) فرق المشروع بين ما إذا كانت الوديعة عادية وبغير أجر، وبين ما إذا كانت بأجر .
فجعل في الحالة الأولى معيار العناية المطلوبة من الوديع معیاراً شخصياً إذا كانت عنايته العادية بأمواله الشخصية لا تفوق عناية متوسط الناس، وأما في الحالة الثانية فقد جعل المعيار معياراً موضوعياً، فهو يفرض على الوديع عناية المتوسط من الناس ولو كانت عنايته الشخصية بأمواله الخاصة دون ذلك المتوسط .
(4) عرض المشروع لبعض حالات من الوديعة أشار إليها التقنين الحالي إشارة قاصرة، ففصل المشروع أحكام كل منها ووضع لها ما تقتضيه من أحكام خاصة .
مذكرة المشروع التمهيدي :
يتضح من هذا التعريف أن الوديعة عقد رضائي، يلتزم الشخص بموجبه أن يتسلم شيئاً، منقولاً أوعقاراً ليتولى حفظه ثم يرده عيناً . فالعقد يتم قبل تسليم الشيء وهو لا ينقل إلى الوديع إلا الحيازة المادية للشيء ( انظر المادة 2225 من التقنين الأرجنتيني، فلا يخوله ملكية ذلك الشيء ولا استعماله ولا استغلاله . فلا يشترط فيه إذن أن يكون المودع مالكاً، إذ أنه عقد يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من آخر سواء أكان هذا الأخر مالاً أم غير مالك ( انظر في هذا المعنى المادة 1000 من التقنين التونسي، والمادة 786 من التقنين المراكشي، والمادة 694 من التقنين اللبناني. وانظر عكس ذلك المادة 1922 من التقنين الفرنسي ) .
المذكرة الإيضاحية للإقتراح بمشروع القانون المدني طبقا لاحكام الشريعة الإسلامية
) مادة ۷۱۳(
1- على أي وجه كان انتهاء الوكالة ، يجب على الوكيل أن يصل بالاعمال التي بدأها الى مرحلة لا يخشى معها ضرر على الموكل .
٢- وفي حالة إنتهاء الوكالة بموت الوكيل ، يجب على ورثته ، اذا توافرت فيهم الأهلية و كانوا على علم بالوكالة ، أن يبادروا الي اخطار الموكل بموت مورثهم ، وان يتخذوا من التدابیر ما تقتضيه الحال لصالح الموكل .
هذه المادة تطابق المادة ۷۱۷ من التقنين الحالي ، مع استبدال عبارة « الى مرحلة لا يخشى معها ضرر على الموكل » في الفقرة الأولى بعمارة " الى حالة لا تتعرض معها التلف" .
انظر المذكرة الإيضاحية للمادة المقابلة في المشروع التمهيدي للتقنين الحالي (م 996) في مجموعة الأعمال التحضرية ج 5 ص 238.
والمادة المقترحة تتفق مع المادة ۷۱۹ من التقنين الكویتی.
والفقرة الأولى منها تتفق مع المادة 949 من التقنين العراقی .
وتتفق مع ما جاء في المادة 865 من التقنين الأردنی .
والسند الشرعي للعادة المقترحة أن حكمها بهدف الى المحاولة على مصلحة الموكل ، وهذا من مقاصد الشريعة الإسلامية التي تقوم أحكامها على تحقيق المصالح المشروعة للناس.
أوردت المادة 718 من التقنين المدني تعريفاً لعقد الوديعة على الوجه الآتي : " الوديعة عقد يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من أخر، على أن يتولى حفظ هذا الشئ، وعلى أن يرده عيناً " .
ويخلص من التعريف المتقدم الذكر أن لعقد الوديعة خصائص نجمل أهمها فيما يأتي :
أولاً ـ الوديعة عقد رضائي، إذ هي تتم بمجرد توافق الإيجاب والقبول دون حاجة إلى شكل خاص، ولأنها ليست كذلك بعقد عيني إذ لا يشترط في انعقادها تسليم الشيء المودع إلى المودع عنده، وتسلم الشيء المودع ليس ركناً في الوديعة بل هو التزام في ذمة المودع عنده بعد أن تنعقد الوديعة ولم يكن الأمر كذلك في التقنين المدني السابق، إذ كانت الوديعة ـ هي والقرض والعارية ورهن الحيازة ـ عقداً عينياً لا يتم إلا بالتسليم . وقد قدمنا أن التقنين المدني السابق كان يسير في ذلك على غرار التقنين المدني الفرنسي، وكلا التقنيين ورث هذه العينية عن القانون الروماني . وكانت العينية مفهومة في القانون الروماني إذ أن هذا القانون لم يسلم بأن التراضي وحده كافٍ لانعقاد العقد إلا في عدد محصور من العقود سمي بالعقود الرضائية وليست الوديعة من بينها وكانت العقود في هذا القانون شكلية في الأصل، ثم استغنى عن الشكل بالتسليم في العقود العينية ومنها الوديعة. أما اليوم فقد أصبحت القاعدة أن التراضي كافٍ لانعقاد العقد، فلم يعد هناك مقتض لإحلال التسليم محل الشكل وكان الواجب أن تتحرر الوديعة من قيود رومانية لم يعد لها اليوم مبرر، وهذا ما تم في التقنين المدني الجديد.
ثانياً ـ والوديعة، كالوكالة، هي في الأصل من عقود التبرع، وتكون من عقود المعاوضة إذا اشترط فيها الأجر والوديعة غير المأجورة، كالعارية، من عقود التفضل لا من الهبات وإذا صارت الوديعة بالأجر من عقود المعاوضة، فهي أيضاً كالوكالة المأجورة ليست من عقود المضاربة، وهذا ما يميز بينها وبين المقاولة وعقد العمل كما سيجيء.
ثالثاً ـ والوديعة، كالوكالة أيضاً، هي في الأصل عقد ملزم لجانب واحد وتبقى على هذا الأصل في الغالب لأنها لا تكون عادة مأجورة، بخلاف الوكالة فيغلب فيها الأجر وإذا كانت الوديعة غير مأجورة، فإن المودع لا يترتب عادة في ذمته بالوديعة أي التزام، وتكون الإلتزامات كلها في جانب المودع عنده فيلتزم بتسلم الشيء المودع وبحفظه وبرده، ولكن يقع أن تكون الوديعة مأجورة فيلتزم المودع بالأجر، كما يقع أن يترتب في ذمة المودع التزام برد المصروفات أو بالتعويض وسنرى أن هذا التزام ينشأ من عقد الوديعة ذاته، ففي هذه الأحوال تكون الوديعة عقداً ملزماً للجانبين.
رابعاً ـ والوديعة تتميز، كالوكالة، بتغلب الإعتبار الشخصي، وهذا الإعتبار أبرز في شخص المودع عنده منه في شخص المودع . ومن ثم تنتهي الوديعة بموت المودع عنده كما سيجئ، ولا يجوز للمودع عنده أن يحل غيره محله في حفظ الوديعة دون إذن صريح من المودع إلا أن يكون مضطراً إلى ذلك بسبب ضرورة ملجئة عاجلة ( م 721 مدني )، وسيأتي بيان ذلك.
خامساً : والوديعة عقد غير لازم من جانب المودع، وسنرى أن للمودع طلب رد الشيء المودع في أي وقت ولو قبل إنقضاء الأجل، ما لم يكن الأجل في مصلحة المودع عنده.
سادساً : والوديعة تتميز أخيراً بأنها عقد يلتزم به المودع عنده التزاماً أساسياً بحفظ الشيء المودع، فلا وديعة إذا لم يكن هناك التزام عقدي بالحفظ . فإذا ترك الشيء صاحبه عند آخر، دون أن يلتزم هذا الآخر صراحة أو ضمناً بحفظه، لم يكن هناك عقد وديعة مثل ذلك أن يترك الخادم أمتعته في منزل مخدومه، أو يضع العامل ملابسه التي يرتديها بعد العمل أو دراجته في فناء المصنع إلى أن ينتهي عمله اليومي، أو يضع الشخص معطفه أو مظلته أو عصاه في منزل يزوره أو مطعم أو مقهى يرتاده أو "صالون للحلاقة" يدخل فيه، أو يخلع الشخص ملابسه في "كابين" ليستحم أو في ناد رياضي ليمارس اللعب أو عند حائك ليجرب الملابس الجديدة التي يخيطها الحائك ففي جميع هذه الأحوال لا يوجد عقد وديعة إلا إذا تبين من الظروف أن المودع عنده قصد أن يلتزم بحفظ الشيء المودع، كأن خصص مكاناً لحرز هذه الأشياء، أو وكل إلى مستخدم تسلمها وإعطاء صاحبها ورقة تحمل رقماً ليستردها بها، أو أعد جراجاً لحفظ السيارات، والدراجات وليس يكفي أن يلتزم بحفظ الشيء المعار، والمقاول يلتزم بحفظ المادة التي قدمها رب العمل، ولا وكيل يلتزم بحفظ أموال الموكل التي تقع في يده، والشريك يلتزم بحفظ أموال الشركة التي يعهد بها إليه، والمرتهن رهن حيازة يلتزم بحفظ المال المرهون، ولا يعتبر أي عقد من هذه العقود وديعة . وإنما يجب أن يكون الالتزام بحفظ الشئ هو الغرض الأساسي من العقد، فالوديعة غرضها الأساسي هو الحفاظ بالذات . أما الإيجار والعارية فالغرض الأساسي منهما هو الانتفاع بالشئ، و المقاولة والوكالة غرضهما الأساسي القيام بعمل معين، والشركة غرضها الأساسي اقتسام ما قد ينشأ من نشاط الشركة من ربح أو خسارة، ورهن الحيازة غرضه الأساسي تأمين الدين، والإلتزام بالحفظ في هذه العقود إنما يدخل تبعاً للغرض الأساسي وبصفة غير أصلية.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : السابع، المجلد : الأول، الصفحة : 879)
الوديعة عقد رضائي يلتزم المودع لديه بموجبه أن يتسلم شيئاً منقولاً ليتولى حفظه ثم رده عيناً، ويسمي من يسلم الشيء مودعاً والذي يتسلمه مودعاً عنده أو مودعاً لديه أو وديعاً ويسمى الشيء المودع وديعة، ويجب أن يكون حق الشيئ ورده هما الغرض الأساسي للمتعاقدين إذ أن الإلتزام بالحفظ والرد يرد في عقود أخرى غير الوديعة دون أن يكون هو الغرض الأساسي من التعاقد فالمستعير يلتزم بحفظ الشيء المعار والمستأجر يلتزم بحفظ العين المؤجرة والوكيل يلتزم بحفظ أموال الموكل .. وهكذا فليست هذه ودائع لأن الغرض الأساسي ليس هو حفظ الشيء إنما هو الانتفاع بالنسبة للعارية والايجار، والقيام بعمل بالنسبة للوكالة ويشترط كذلك لقيام الوديعة أن يوجد التزام صريح أو ضمني لدى المودع لديه بحفظ الشيء فلا يكفي الإيداع، فأمتعة الخادم أو العامل لدى رب العمل ليست وديعة لإنتفاء التزام المخدوم أو رب العمل بهذه الأمتعة، وقد يتوفر هذا الالتزام ضمنیاً کرب العمل يخصص مكاناً للأمتعة الخاصة بالعمال ليتركونها به قبل دخولهم للعمل ومن ثم يلتزم رب العمل بحفظ هذه الأشياء ويكون مودعاً عنده، وتسلم الشئ ليس ركناً في الوديعة بل إلتزام، وبالتالي يترتب على تلاقي الإيجاب بالقبول نشوء عقد الوديعة بما يتضمنه من التزامات شخصية توجب على المودع لديه إستلام الوديعة فور نشوء العقد ما لم يتفق على غير ذلك، فإن أخل بالتزامه، جاز للمودع طلب الفسخ والتعويض؛ فعقد الوديعة عقد رضائي وليس عقداً عينياً - ویری محمد علی عرفة، صفحة 449 أن الوديعة عقد عيني لا يتم إلا بتسليم الوديعة للمودع لديه، ويستند إلى أن الأخير لا يمكنه تنفيذ التزامه بحفظ الوديعة إلا إذا تسلمها - وهذا رأي محل نظر، إذ مناط تنفيذ المودع لديه لالتزامه بالحفظ أن يكون المودع قد قام بتنفيذ التزامه بتسليم الوديعة وهو الإلتزام الأسبق الذي يترتب على تنفيذه التزام المودع لديه بتنفيذ التزامه المقابل بحفظ الوديعة.
والتزام المودع لديه بتسلم الوديعة وحفظها، يجوز تنفيذه جبراً إن كان ممكناً وذلك باستصدار حكم بصحة ونفاذ عقد الوديعة وإلزام المودع لديه بتسلم الوديعة مثال ذلك أن يتفق مالك سيارة مع صاحب جراح عمومی على إيداع سيارته به إلا أن الأخير يمتنع عن تنفيذ التزامه، فيرفع مالك السيارة دعوى بصحة ونفاذ عقد الوديعة وإلزام صاحب الجراج باستلامها لحفظها، فإن تبين عدم إمكان تنفيذ هذا الالتزام، لعدم وجود مكان للسيارة، تم التنفيذ بطريق التعويض.
فإن كانت الوديعة لمصلحة المودع لديه وحده، جاز له رفع دعوى بصحة ونفاذ عقد الوديعة وإلزام المودع بتسليم الوديعة، متى كان ذلك ممكناً، بأن تظل الوديعة مملوكة للمودع ولم يتعلق حق بها للغير، فإن كانت منقولاً، وجب توافر حسن النية لدى الغير، خلافاً لما إذا كانت عقاراً، إذ تنتقل ملكيته للغير فور تسجيل العقد الذي تلقى به الملكية ولو كان سيئ النية، وحينئذ يتم التنفيذ بطريق التعويض.
والتزام المودع بتسليم الوديعة، التزام أصيل في عقد الوديعة يرتبه القانون فور إبرام العقد ولو لم ينص فيه عليه، ويكون دائماً واجب النفاذ مالم يتفق الطرفان على غير ذلك.
مفاد ما تقدم، أن الوديعة لا تقوم إلا إذا كان القصد من تسليم الشيء المودع هو المحافظة عليه ورده، وأن يكون هذا القصد هو الأساس الذي تلاقت عليه إرادة المودع والمودع لديه، فالأصل في الوديعة هو توافر هذا القصد، فان انصرف القصد الأساسي إلى غير ذلك، فلا يعتبر العقد وديعة حتى لو توافر الالتزام بحفظ الشئ ورده، إذ يكون هذا الالتزام مترتباً بموجب عقد آخر، كعقد رهن حيازي أو عقد إيجار أو عقد عارية إستعمال أو عقد وكالة، وكلها ترتب الالتزام بالحفظ والرد إلا أن هذا الإلتزام ليس هو الغرض الأساسي من هذه العقود ولكنه مترتب عليها ومتفرع عنها، وأيضاً أمتعة الراكب، إذ يترتب التزام الناقل بالحفظ والرد على عقد النقل وليس على الوديعة ويثبت بكافة الطرق.
إيداع مالك السيارة، سيارته بجراح عمومی لقاء مبلغ نقدي، قد يقصد به الانتفاع بالمكان الذي تودع به السيارة مقابل المبلغ الذي يدفع لقاء ذلك، فيكون هذا الإنتفاع هو الغرض الأساسي من التعاقد، يتفرع عنه التزام صاحب الجراج بحفظ السيارة، والعناية بها، وبالتالي تتوافر أركان عقد الإيجار. أما إذا كان القصد من إيداع السيارة، ليس هو الانتفاع بالمكان ولكن حفظ السيارة وردها، فإن الايداع في هذه الحالة ينطوي على وديعة.
ولما كان الإنتفاع بالجراج العمومي ينطوي على عناصر أخرى كالحفظ والعناية بالسيارة، فإن الإيجار في هذه الحالة يخضع للقواعد العامة في القانون المدني من حيث إبرام العقد وتحديد الأجرة والاثبات، ويكون لمالك السيارة الخروج بها ولا يعتبر ذلك إسترداداً لها، وبالتالي لا يكلف صاحب الجراچ بإثبات ذلك كل مرة تخرج فيها السيارة باعتبار ذلك يتفق وطبيعة العقد. أما إذا إنطوى الايداع على وديعة فإن صاحب الجراج يلتزم بإثبات رد السيارة وفقاً للقواعد العامة.
تسري القواعد العامة في الإثبات بصدد اثبات الوديعة، فيجوز اثباتها بكافة الطرق اذا كانت الوديعة لا تجاوز نصاب البينة، فإن جاوزت ذلك وجبت الكتابة اثباتها أو توفر مبدأ ثبوت بالكتابة معزز بالبينة والقرائن، أو بالإقرار أو باليمين، كما يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات القانونية إذا توفر المانع الأدبي من الحصول على دليل كتابي أو في حالة فقد السند لسبب لا يد للمودع فيه كالسرقة، كما تسري هذه القواعد حتى في المسائل الجنائية كجريمة تبديد وبصدد إثبات العقد وإثبات الوفاء بالالتزامات المترتبة عليه وذلك فيما بين المودع والمودع لديه.
ولما كان عقد الوديعة، عقداً رضائياً ينشئ التزامات شخصية توجب على المودع تسليم الشئ للمودع لديه، وتوجب على المودع لديه رده إلى المودع، ولا تبرأ ذمة أي منهما إلا إذا قام بالوفاء بالتزامه، ولما كان الوفاء بالإلتزام تصرفاً قانونياً، فإنه يخضع في إثباته للقواعد العامة، كما لا يجوز للمودع لديه إثبات أنه قام برد الشيء للمودع إلا وفقاً للقواعد العامة، إذ لا يعتبر الرد واقعة مادية وإنما تصرفاً قانونياً ينطوي على وفاء المودع لديه بالتزامه بالرد.(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : العاشر، الصفحة : 192)
ويسمى من يسلم المال مودعاً والذي يتسلمه مودعاً عنده أو لديه أو مستودعاً أو وديعاً أو حافظ الوديعة ويسمى المال المودع وديعة وباسمه سمي العقد.
ولا يشترط للوديعة ألفاظ خاصة، لأنه لا توجد في القانون ألفاظ خاصة التعبير عن العقود بحيث إذا لم تستعمل تلك الألفاظ لا يمكن فهم موضوعها، بل إن العقود يعرف نوعها من تأويل المراد منها، فالذي يقول في العقد عندي لزيد كذا سندات أسلمها له عند طلبها مني يفهم من قوله هذا أن السندات موجودة عنده على سبيل الوديعة.
خصائص عقد الوديعة:
يتبين من التعريف السابق لعقد الوديعة أن لعقد الوديعة عدة خصائص تخلص فيما يأتي:
الوديعة عقد رضائي :
الوديعة عقد رضائي، وليس عقداً عينياً، فلم يعتبر التقنين المدني الجديد الوديعة عقداً عينياً على خلاف التقنين القديم. فلم يعد التسليم شرطاً لازماً لانعقاد العقد وهو ما كانت تتميز به تلك العقود التي كانت تعرف في القانون الروماني باسم العقود "العينية".
وبذلك تصبح الوديعة من العقود الرضائية التي يكفي لانعقادها مجرد التراضي، وبتوافق الإرادتين يصبح من التزم بقبول الوديعة ملزما بتسليمها بحيث يمكن إجباره على التسليم.
وشأن الوديعة في ذلك شأن عقد الوكالة.
والوديعة غير المأجورة كالعارية من عقود التفضل لا من الهبات، والوديعة المأجورة كالوكالة المأجورة ليست من عقود المضاربة.
ولم يذكر المشرع في تعريف الوديعة خاصة المجانية كما فعل التقنين القديم، إذ كانت المادة 590/482 تنص على أن يكون التعهد بالحفظ "بدون اشتراط أجرة".
وقد جاري المشرع بذلك تطور المجتمع فقد نشأ إلى جانب الصورة التقليدية للوديعة التي كانت تعتبر مجانية في القانون الروماني، صورة حديثة هي الوكالة المأجورة بل ونشأت طائفة من الناس اتخذت من الإيداع حرفة لها، وذلك کالمخازن العامة للمفروشات وتخصيص أماكن لإيداع الحقائب في محطات السكك الحديدية، والملابس في أماكن اللهو كالمسارح ودور السينما والمراقص وغيرها، والأشياء الثمينة التي يخشى عليها المسافر من الضياع في الفنادق والجراجات العامة للسيارات.
الوديعة عقد ملزم لجانب واحد:
الوديعة كالوكالة في الأصل عقد ملزم لجانب واحد. لأنها لا تلزم إلا الوديع بالمحافظة على الشيء ورده، أما المودع فلا يكون ملزماً بشيء.
غير أنه قد يتفق على أن تكون الوديعة بأجر، فتكون الوديعة عندئذ عقداً ملزماً للجانبين. كما يقع أن يترتب في ذمة المودع التزام برد المصروفات أو بالتعويض، وهذا الالتزام ينشأ من عقد الوديعة ذاته، ففي هذه الأحوال تكون الوديعة عقداً ملزماً للجانبين.
الغرض الأساسي من الوديعة تسليم الشيء المودع لحفظه :
وعلى ذلك إذا لم يتضح هذا الغرض بوضوح عند كل من المتعاقدين لم يكن العقد وديعة، فلا يعتبر وديعة ترك الشيء عند شخص ولو برضاه إذا لم يثبت صراحة أو دلالة أنه تلقاه بنية حفظه. كالخادم الذي يترك ملابسه وأدواته في منزل مخدومه، والعامل الذي يترك آلاته ومهماته في المكان الذي يباشر فيه عمله، والزائر الذي يعلق معطفه أو مظلته أو عصاه على حامل المعاطف في بيت مضيفه أو في مطعم أو في مسرح، والشخص الذي يخلع ملابسه ليجرب ملابس جديدة عند من يحوكها له، أو محل يتجر في هذه الملابس. في كل هذه الحالات وما شابهها لا نكون بصدد وديعة ما لم يثبت صراحة أو دلالة أن من تركت لديه هذه الأشياء قد تلقاها بنية المحافظة عليها. ويثبت هذا القصد من مجرد تنظيم مكان خاص لإيداع هذه الأشياء في المحلات العامة ويتأكد التعهد بحفظها من تسليم بطاقة لصاحبها عند تسلمها أو من تخصيص شخص للمحافظة عليها. ويلعب العرف دوراً هاماً في الكشف عن هذا القصد على أي حال.
ولا يكفي الإعتبار العقد وديعة أن يلتزم الشخص بحفظ الشئ، فالمستأجر يلتزم بحفظ الشيء المؤجر، والمستعير يلتزم بحفظ الشيء المعار، والمقاول يلتزم بحفظ المادة التي قدمها رب العمل، والوكيل يلتزم بحفظ أموال الموكل التي تقع في يده، وإنما يجب أن يكون الإلتزام بحفظ الشيء هو الغرض الأساسي من العقد، فالوديعة غرضها الأساسي هو الحفظ بالذات.
أما الإيجار والعارية فالغرض الأساسي منهما هو الإنتفاع بالشيء، والمقاولة والوكالة غرضهما الأساسي القيام بعمل معين، فالإلتزام بالحفظ في هذه العقود إنما يدخل تبعاً للغرض الأساسي وبصفة غير أصلية.
وهذا الاعتبار أبرز في شخص الوديع منه في شخص المودع، فعقد الوديعة من عقود الأمانة والثقة، بل هو قمة هذه العقود وعلى رأسها جميعا. فالمودع يبحث دائماً عن شخصية من يودع عنده ماله فيتحرى فيه صفات الأمانة والصدق والثقة.
ويترتب على توافر الإعتبار الشخصي في الوديعة، أن الوديعة تنتهي بموت المودع عنده، وأن المودع عنده ليس له أن يحل شخصاً آخر محله في حفظ الوديعة، دون إذن صريح من المودع، أو كان مضطراً إلى ذلك بسبب ضرورة ملجئة (م 721 مدني ).
الوديعة عقد غير لازم من جانب المودع :
فللمودع طلب رد الشيء المودع في أي وقت ولو قبل انقضاء الأجل، ما لم يكن الأجل في مصلحة المودع عنده.
الوديعة عقد رضائي فيكفي لانعقادها توافق الإيجاب والقبول من المودع والمودع لديه.
وقد ذكرنا سلفا أن الوديعة ليست عقداً عينياً ومن ثم فليس التسليم ركناً فيها، فلا يشترط لانعقاد الوديعة حصول التسليم.
وليس في التراضي في عقد الوديعة ما يخالف القواعد العامة، والتي عرضنا لها في العقود التي تناولناها في المجلد الأول. وترتيباً على ذلك إذا كان الموجب قد أصدر الإيجاب قاصداً إيداع الشيء فقبله الآخر على أنه هبة، لم ينعقد عقد الوديعة ولا عقد الهبة، لأن التوافق بين الإيجاب والقبول لم يتم.
كذلك لو أعطى الموجب شيئاً لآخر وقصد أن يكون هبة، وقبل الآخر على أنه وديعة لم ينعقد العقد لا على أساس أنه هبة أو وديعة.
من يملك حق الإيداع ؟
لمالك الشيء حق إيداعه، وهذا هو الغالب.
كما يجوز إيداعه من نائبه، سواء كان نائباً قانونياً كالولي أو الوصي أو القيم، أو كان نائباً اتفاقياً وهو الوكيل.
ويجوز الإيداع أيضاً ممن له حق التصرف في الانتفاع بالشيء، كالمنتفع والمستأجر والمرتهن رهناً حيازياً.
ولكل من هؤلاء إيداع الشيء عند شخص آخر، ولو كان الوديع هو المالك نفسه.
وعلى العكس من ذلك لا يجوز لمن لا يملك حق التصرف في الإنتفاع أن يودع الشيء، فلا يجوز للوديع أن يودع الشيء عند شخص آخر (إيداع من الباطن) إلا بإذن صريح من المودع أو عند وجود ضرورة عاجلة (م 721 مدنی) .
وإذا أودع الشيء من لا يملكه أو يملك التصرف في الإنتفاع به، فإن الوديعة تكون صحيحة بين المودع والوديع، ولكنها لا تسري في حق المالك، كما لو أودع السارق الشيء المسروق لدى آخر. ومن ثم يجوز للمالك استرداد الشيء المودع بموجب أمر أو حكم قضائي.
المحل والسبب في عقد الوديعة
المحل في عقد الوديعة:
المحل الأصلي في عقد الوديعة هو الشيء المودع لأنه لا تتصور الوديعة بدونه، وإذا اشترط أجر للوديعة أصبح الأجر محلاً آخر لها. وهو محل عرضي قد يوجد وقد لا يوجد.
ويجب أن تتوافر في الشيء المودع شروط المحل عامة والتي عرضنا لها سلفاً، وهي أن يكون موجوداً، معيناً أو قابلاً للتعيين، وأن يكون مشروعاً أي لا يخالف النظام العام أو الآداب، وبالبناء على ذلك إذا كان الشيء المودع مهرباً أو كان من المخدرات أو الأسلحة غير المرخصة أو من الكتب أو الصور الممنوعة لم يجز إيداعه.
الأشياء التي يجوز إيداعها :
تنص المادة 718 مدني على أن: "الوديعة عقد يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من آخر على أن ... "فجاء لفظ "شيئاً" عاماً، والتالي فإنه يشمل المنقول والعقار على السواء.
ولئن كان الغالب أن يكون الشيء المودع منقولاً، بإعتباره أحوج إلى الحفظ من العقار، إلا أنه لا شئ يمنع من أن يودع العقار، فيعهد شخص إلى آخر بحراسة منزله مدة سفره. وليست الحراسة الاتفاقية أو القضائية إلا ضرباً من ضروب الوديعة يجوز أن يكون الشيء المودع فيها عقاراً كما هو الغالب.
وكانت المادة 482/ 590 من القانون المدنى القديم تقصر الوديعة على المنقول. غير أنه في حالة الحراسة القضائية، التي هي نوع من أنواع الوديعة قد نص القانون المختلط على أنه يجوز أن يكون المودع عقاراً (م 601 مختلط)، بينما لم ينص القانون الأهلي صراحة على هذا الحكم، ولكن جاءت عبارة المادة 491 المقابلة للمادة 601 المختلطة عامة، فتشمل العقار والمنقول وقد جرى العمل والأحكام على ذلك.
ويصح أن ترد الوديعة على عقار بالتخصيص، لأن هذه العقارات منقولات بطبيعتها، ولا تعتبر أموالاً ثابتة إلا لكونها رصداً على خدمة عقار أو استغلاله (م 2 / 28 مدنی)، وفيما عدا ذلك تحتفظ بطبيعتها فليس ثمة ما يحول دون إيداعها رغبة في المحافظة عليها.
والإيداع يرد على كافة المنقولات، كالسيارات والبضائع والملابس والمجوهرات والكتب والصحف والمجلات.
كما يرد على المنقولات القابلة للاستهلاك والأشياء المثلية، وفي هذه الحالة يجب أن ترد هذه المنقولات بعينها، إذ لا يجوز في الأصل للمودع عنده أن يستعمل الشيء المودع.
أما إذا كان الشيء المودع نقودا أو أشياء أخرى قابلة للإستهلاك وأذن للمودع عنده في استعماله، فإنه لا يرده بالذات وإنما يرد مثله، وهذه هي الوديعة الناقصة والتي تعتبر قرضاً، كما سنرى (م 726 مدنی).
والوديعة لا تكون إلا في المنقولات المادية، فلا ترد على الحقوق المعنوية.
فالحقوق المعنوية كحق الدائنية لا يتصور إيداعه، ولكن إذا تجسد هذا الحق في صورة مادية، جاز إيداعه، فيجوز إيداع الأوراق التجارية والأسهم والسندات وما إليها.
السبب في عقد الوديعة :
السبب في عقد الوديعة طبقاً للنظرية الحديثة - كما رأينا في المجلد الأول بالنسبة للعقود التي تناولناها فيه - هو الباعث الدافع إلى التعاقد.
وقد كانت النظرية التقليدية للسبب تجعل السبب في الوديعة هو التسليم، وكانت الوديعة عقداً عينياً بحسب هذه النظرية.
فإذا كان الباعث الدافع إلى الوديعة غير مشروع، كانت الوديعة بحسب النظرية الحديثة باطلة. مثل ذلك أن يودع شخص عند آخر سلاحاً لإخفائه بقصد ارتكاب جريمة، أو يخفي عنده أشياء مسروقة.
إثبات عقد الوديعة:
أولاً : فيما بين المتعاقدين :
(أ) – إذا كانت الوديعة عقداً مدنياً :
إذا كانت الوديعة عقداً مدنياً - وهذا هو الأصل - فإنه تطبق القواعد العامة في الإثبات.
فإذا كانت قيمة الوديعة لا تزيد على ألف جنيه، فيجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات القانونية بما فيها البينة والقرائن، ما لم يوجد اتفاق على خلاف ذلك.
أما إذا زادت قيمة الوديعة على ألف جنيه، فلا يجوز إثباتها إلا بالكتابة ما لم يوجد اتفاق على خلاف ذلك (م 1 / 60 من قانون الإثبات).
ويجوز الإثبات بشهادة الشهود إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة (م 1 / 62 من قانون الإثبات)، أو إذا وجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي. أو إذا فقد الدائن سنده الكتابي بسبب أجنبي لا بد له فيه (م 63 من قانون الإثبات).
وقد يستفاد المانع مما جرى به العرف أو من صلة القرابة القائمة بين الطرفين وكما يستفاد من الغش، لأن ذلك يندرج تحت ما يتعذر الحصول فيه على دليل كتابي، أو من ظروف أخرى يرى القاضي أن من شأنها أن تحول دون الحصول على كتابة، كإصابة الوديع بشلل نصفي.
(ب) - إذا كانت الوديعة عقداً تجارياً :
تكون الوديعة عقداً تجارياً بالنسبة للطرفين، إذا أودع تاجر بضائعه في مخزن عام، فيكون العقد تجارياً بالنسبة للمودع والوديع، وقد تكون الوديعة مدنية بالنسبة للمودع وتجارية بالنسبة للوديع، كما إذا أودع شخص سيارته في جراج عمومی. وفي هذه الحالة تتبع وسائل الإثبات التجارية بالنسبة للطرف الذي يعتبر العقد تجارياً بالنسبة له، كالطرفين في المثال الأول وكصاحب الجراج في المثال الثاني. ويحوز في هذه الحالة إثبات الوديعة بكافة طرق الإثبات القانونية بما فيها البينة والقرائن ما لم يتفق على غير ذلك.
أما بالنسبة للطرف الذي يعتبر الوديعة عقداً مدنياً بالنسبة له فتتبع قبله قواعد الإثبات في المواد المدنية غير أنه يستثنى من هذه القواعد الوديعة الاضطرارية.
هل تسري قواعد الإثبات السابقة في المسائل الجنائية ؟
تسری قواعد إثبات عقد الوديعة سالفة الذكر سواء في المسائل المدنية أو المسائل الجنائية، فإذا رفعت الدعوى الجنائية ضد شخص لتبديده الشيء المودع، تعيين إثبات عقد الوديعة طبقاً لهذه القواعد.
لا تتبع القواعد العامة في الإثبات، بصدد إثبات الوديعة بالنسبة للغير، وهو الذي لم يكن طرفاً فيها، ويثور ذلك غالباً إذا تعدى الغير على الوديعة حال وجودها لدى المودع عنده إذ تكون المسألة واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات القانونية، لأن المودع عنده يثبت مجرد واقعة التعدي.
بما أن المودع لا يلتزم بحسب الأصل بمقتضى عقد الوديعة، فإنه يكفي توافر أهلية الإدارة في المودع.
ومن ثم يكون للصبي المميز والمحجور عليه المأذون لهما في الإدارة أهلية الإيداع.
أما بالنسبة للصبي والمحجور عليه غير المأذون لهما في الإدارة فلا تثبت لهما أهلية الإيداع.
ويجوز للولي أو الوصي أو القيم القيام بهذا الإيداع باعتباره من أعمال الإدارة.
أما في الوديعة الناقصة فتنتقل ملكية الشيء إلى المودع عنده، من ثم يجب أن تتوافر في المودع أهلية التصرف، كما سنرى.
أما إن كانت الوديعة مأجورة - فالراجح - وجوب أن يكون المودع كامل الأهلية لأن العقد يصبح في هذه الحالة ملزماً الجانبين، فيتعين أن يكون كلاهما أهلاً لأن يلتزم إلا أن يكون الوفاء بالأجر المشترط من قبيل التصرف في الدخل فيكتفي إذن بأهلية الإدارة، وذلك كإيداع سيارة في جراج عام مثلاً مقابل أجرة شهرية.
وإذا لم تتوافر في المودع الأهلية اللازمة، كان العقد قابلاً للإبطال، وجاز الوليه أو لناقص الأهلية عند بلوغه سن الرشد، أن يطلب إبطال الوديعة.
ورغم أن الوديعة عقد غير لازم، ويجوز للمودع استرداد الشيء المودع في أي وقت، إلا أنه تكون له مصلحة في إبطال العقد، إذا أراد التخلص من أجر المودع لديه - إذا كانت الوديعة بأجر - ومن رد ما أنفقه من مصروفات، أو تعويضه عما لحقه من خسارة، لأنه بعد الإبطال لا يكون مسئولاً إلا بمقدار ما انتفع طبقاً لقواعد الإثراء بلا سبب.
(ب) - أهلية الوديع:
يلتزم الوديع بحفظ الوديعة وردها عند طلب المودع، ويسأل عن تقصيره في هذا الصدد، فيلزم لذلك أن يكون الوديع أهلاً لأن يلتزم بهذه الالتزامات، فيشترط إذن أن يكون الوديع كامل الأهلية وإلا سقطت عنه الإلتزامات التي يرتبها عقد الوديعة.
فإذا كان الوديع ناقص الأهلية، بأن كان قاصراً أو محجوراً عليه، فإن عقد الوديعة يكون قابلاً للإبطال، ويجوز لناقص الأهلية بعد بلوغه سن الرشد أو وليه قبل ذلك أن يطلب إبطال الوديعة ولا يرجع عليه المودع إلا بمقدار ما انتفع طبقاً لقواعد الإثراء بلا سبب.
ولكن القضاء بإبطال العقد لا يعفي المودع عنده إذا كان مميزاً من رد الشيء إذا كان باقياً في حيازته، وأقيمت الدعوى من المودع باسترداده. لأن امتناعه عن الرد يعتبر غصباً، ونقص الأهلية وإن كان يعفى من المسئولية العقدية، فإنه لا يعفى من المسئولية عن الجرائم وأشباهها وتطبيقاً لذلك يجوز مطالبة ناقص الأهلية بالتعويض عن الضرر المترتب على تبديده الوديعة غشاً منه وتدليساً وإضراراً بحقوق المودع.
أما إذا استهلك الوديع الشيء المودع أو تصرف فيه عن رعونة وطيش فإنه لا تصح مطالبته إلا برد ما أفاد من ذلك، وفي حدود هذه الفائدة. وذلك بدعوى الإثراء على حساب الغير.
أما إذا كان المودع عنده ناقص الأهلية فإنه لا يكون ملزماً برد الوديعة إلا بالحالة التي تكون عليها وقت الرد، فلا يسأل عن تلفها أو ضياعها الناشئ عن إهماله.
أما إذا لم يتمسك ناقص الأهلية بالبطلان المقرر لمصلحته وفضل إبقاء الوديعة، فإنه يصبح بذلك مطالباً بسائر الإلتزامات التي تترتب على العقد، إذ لا يسوغ له أن يتمسك بالعقد لمجرد الإفادة منه دون الالتزام بمقتضاه.
فإذا لم يتقرر إبطال العقد فإنه يبقى منتجاً لسائر الالتزامات التي تترتب عليه.
عيوب الرضاء في عقد الوديعة :
لم ينص الشارع على أحكام خاصة لعيوب الرضاء في عقد الوديعة، ومن ثم تسرى القواعد العامة المقررة لعيوب الإرادة.
غير أنه يجب ملاحظة أن الوديعة يدخل فيها الاعتبار الشخصي، ومن ثم يغلب أن تكون شخصية كل من المودع والوديع ملحوظة في العقد وإذا كانت شخصية المودع تكون ملحوظة في الغالب إلا أن شخصية الوديع ملحوظة دائماً. وبالتالي تبطل الوديعة للغلط في شخص المودع أو الغلط في شخص الوديع.
والإكراه وإن كان من عيوب الإرادة، إلا أن الوديعة الاضطرارية تكون صحيحة دائماً. لأن إرادة المودع دائماً كانت تقع تحت ضغط في هذه الوديعة، إلا أن هذا الضغط لا يصل إلى حد الإكراه.(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : التاسع، الصفحة : 421)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 37
الإْشْهَادُ عَلَى الْوَدِيعَةِ:
إِشْهَادُ الْمُودِعِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الإْشْهَادُ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ إِلَى الْوَدِيعِ لِلاِسْتِيثَاقِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَظَاهِرُ نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ الْجَوَازُ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 68
حُكْمُ الإْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ:
15 - مَنْ لاَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَلاَ التَّصَرُّفَ، وَلَهُ يَدٌ عَلَى الْمَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ كَالْمُودَعِ، أَوْ كَانَتْ يَدًا مُعْتَدِيَةً كَيَدِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الإْنْمَاءُ، إِذِ الأْصْلُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ أَحَدٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / العاشر ، الصفحة / 87
التَّبْعِيضُ فِي الْوَدِيعَةِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْوَدِيعَةِ بِإِنْفَاقِ بَعْضِهَا أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ بَعْضِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ رَدِّهَا أَوْ رَدِّ مِثْلِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَوْدَعَ شَيْئًا فَأَخَذَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ لَمْ يَزُلِ الضَّمَانُ عَنْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ مَا أَخَذَهُ وَرَدَّهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَنْفَقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ ضَمِنَ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث عشر ، الصفحة / 279
التَّلَفُ فِي عُقُودِ الأْمَانَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:
21 - الأْصْلُ فِي عُقُودِ الأْمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ أَنَّ مَا تَلِفَ فِيهَا مِنَ الأْعْيَانِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ فِيهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه سلم «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه سلم قَالَ: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ» وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى تِلْكَ الْعُقُودِ وَفِي إِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ تَنْفِيرٌ عَنْهَا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْعَارِيَّةَ، فَقَالُوا بِضَمَانِهَا مُطْلَقًا إِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه سلم قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» . «وَعَنْ صَفْوَانَ أَنَّهُ صلي الله عليه سلم اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرُعًا وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ».
وَلأِنَّهُ مَالٌ يَجِبُ رَدُّهُ لِمَالِكِهِ فَيَضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهِ كَالْمُسْتَامِ.
وَأَشَارَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَخَذْتَهَا بِالْيَدِ، وَالْوَدِيعَةَ دُفِعَتْ إِلَيْكَ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ التَّلَفَ الْمُنْمَحِقَ - أَيْ مَا يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الاِسْتِعْمَالِ - وَالْمُنْسَحِقُ - أَيْ مَا يَتْلَفُ بَعْضُهُ عِنْدَ الاِسْتِعْمَالِ - إِذَا تَلِفَ بِاسْتِعْمَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: كُلْ طَعَامِي. وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ بِضَمَانِ الْمُنْمَحِقِ دُونَ الْمُنْسَحِقِ، لأِنَّ مُقْتَضَى الإْعَارَةِ الرَّدُّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمُنْمَحِقِ، فَيَضْمَنُهُ بِخِلاَفِ الْمُنْسَحِقِ .
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الضَّمَانَ بِتَلَفِ الْعَارِيَّةِ الْمُغَيَّبِ عَلَيْهَا - أَيْ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ - كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ بِخِلاَفِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِتَلَفِهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ تَلَفَهُ أَوْ ضَيَاعَهُ بِلاَ سَبَبِهِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ خِلاَفًا لأِشْهَبَ الْقَائِلِ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا .
22 - وَهُنَاكَ عُقُودٌ فِيهَا مَعْنَى الأْمَانَةِ كَالْمُضَارَبَةِ وَالإْجَارَةِ وَالرَّهْنِ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ إِلاَّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ أَمِينٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.
فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا تَلِفَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلاَ يَضْمَنُهُ الْمُضَارِبُ، فَهُوَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، لأِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَصِيرُ ضَامِنًا لِرَأْسِ الْمَالِ إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ شَرْطِ رَبِّ الْمَالِ، كَأَنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ أَلاَّ يُسَافِرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَسَافَرَ فَغَرِقَ الْمَالُ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ حِينَئِذٍ ضَامِنٌ لَهُ لِمُخَالَفَتِهِ شَرْطَ رَبِّ الْمَالِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء فِي أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا حَقَّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّهْنِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، هَلْ يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالأْقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، وَإِنْ سَاوَتْ قِيمَتُهُ الدَّيْنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَحُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَكُتُبٍ مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَكَتْمُهُ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ كَتْمُهُ كَحَيَوَانٍ وَعَقَارٍ، وَهَذَا إِنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهِ أَوْ هَلاَكِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الضَّمَانَ هُنَا ضَمَانُ تُهْمَةٍ، وَهِيَ تَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ تَفْرِيطٍ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَرضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه سلم قَالَ «لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» . وَلأِنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَعْطِيلِ الْمُدَايَنَاتِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني والعشرون ، الصفحة / 135
الرُّجُوعُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ:
14 - الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ (غَيْرُ اللاَّزِمَةِ) كَالْعَارِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوَدِيعَةِ، عُقُودٌ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، وَعَدَمُ لُزُومِهَا يُبِيحُ الرُّجُوعَ فِيهَا إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ كَشَرْطِ نُضُوضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَشَرْطِ عِلْمِ الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَشَرْطِ عَدَمِ الضَّرَرِ فِي الرُّجُوعِ، فَمَنِ اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ، وَأَرَادَ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ الْفِعْلِيَّ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ، وَمَنْ أَعَارَ مَكَانًا لِدَفْنٍ، وَحَصَلَ الدَّفْنُ فِعْلاً فَلاَ يَرْجِعُ الْمُعِيرُ فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ، كَمَا أَنَّ الْعَارِيَّةَ الْمُقَيَّدَةَ بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ رُجُوعَ فِيهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الأْجَلُ أَوِ الْعَمَلُ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والأربعون ، الصفحة / 5
وَدِيعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَدِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا اسْتُودِعَ، وَهِيَ وَاحِدَةُ الْوَدَائِعِ، يُقَالُ: أَوْدَعَهُ مَالاً أَيْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لِيَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، وَأَوْدَعَهُ مَالاً أَيْضًا: قَبِلَهُ مِنْهُ، وَهُوَ مِنَ الأْضْدَادِ.
وَيُقَالُ: أَوْدَعْتُ زَيْدًا مَالاً وَاسْتَوْدَعْتُهُ إِيَّاهُ إِذَا دَفَعْتَهُ إِلَيْهِ لِيَكُونَ عِنْدَهُ، فَأَنَا مُودِعٌ وَمُسْتَوْدِعٌ، وَزَيْدٌ مُودَعٌ وَمُسْتَوْدَعٌ، وَالْمَالُ أَيْضًا مُودَعٌ وَمُسْتَوْدَعٌ، أَيْ وَدِيعَةٌ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْمَالُ الْمَوْضُوعُ عِنْدَ الْغَيْرِ لِيَحْفَظَهُ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: بِلاَ عِوَضٍ.
وَالإْيدَاعُ: تَسْلِيطُ الْغَيْرِ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ «تَبَرُّعًا» .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأْمَانَةُ :
2 - الأْمَانَةُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْخِيَانَةِ، مَصْدَرُ أَمِنَ، يُقَالُ: أَمِنَ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْمَصْدَرُ فِي الأْعْيَانِ مَجَازًا فَقِيلَ الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُوجَدُ عِنْدَ الأْمِينِ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَمَانَةً بِعَقْدِ الاِسْتِحْفَاظِ كَالْوَدِيعَةِ، أَوْ كَانَ أَمَانَةً مِنْ ضِمْنِ عَقْدٍ آخَرَ، كَالْمَأْجُورِ وَالْمُسْتَعَارِ، أَوْ دَخَلَ بِطَرِيقِ الأْمَانَةِ فِي يَدِ شَخْصٍ بِدُونِ عَقْدٍ وَلاَ قَصْدٍ، كَمَا لَوْ أَلْقَتِ الرِّيحُ فِي دَارِ أَحَدٍ مَالَ جَارِهِ، فَحَيْثُ كَانَ ذَلِكَ بِدُونِ عَقْدٍ لاَ يَكُونُ وَدِيعَةً، بَلْ أَمَانَةً فَقَطْ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالأْمَانَةِ أَنَّ الأْمَانَةَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الْوَدِيعَةِ؛ لأِنَّ الْوَدِيعَةَ نَوْعٌ مِنَ الأْمَانَةِ.
ب - الإْعَارَةُ :
3 - الإْعَارَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ التَّعَاوُرِ، وَهُوَ التَّدَاوُلُ وَالتَّنَاوُبُ مَعَ الرَّدِّ، وَهِيَ مَصْدَرُ أَعَارَ، وَالاِسْمُ مِنْهُ: الْعَارِيَةُ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِمَا يَحِلُّ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالإْعَارَةِ أَنَّ الْيَدَ فِي كُلٍّ مِنَ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَةِ يَدُ أَمَانَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
ج - اللُّقَطَةُ:
4 - اللُّقْطَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي تَجِدُهُ مُلْقًى فَتَأْخُذُهُ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ، يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ يَدَ الْمُلْتَقِطِ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ يَدُ أَمَانَةٍ، وَإِنْ تَلَفَتْ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ أَوْ نَقَصَتْ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ضَمِنَ.
د - الْغَصْبُ:
5 - الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا وَقَهْرًا .
وَاصْطِلاَحًا: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ: التَّضَادُّ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْوَدِيعَةِ:
6 - اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَدِيعَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَالإْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَبِعُمُومِ قوله تعالي : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) حَيْثُ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعَاهُدِ وَالتَّسَاعُدِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَدِيعَةُ، قَالَ فِي النَّظْمِ الْمُسْتَعْذَبِ: إِذِ الْبَرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالتَّقْوَى مِنَ الْوِقَايَةِ، أَيْ مَا يَقِي الإْنْسَانَ مِنَ الأْذَى فِي الدُّنْيَا وَمِنَ الْعَذَابِ فِي الآْخِرَةِ .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) .
فَالآْيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الأْمَانَاتِ ؛ لأِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «أَدِّ الأْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» .
وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،. وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» .
وَلاَ شَكَّ أَنَّ مِنْ عَوْنِ الْمُسْلِمِ لأِخِيهِ قَبُولَ وَدِيعَتِهِ لِيَحْفَظَهَا لَهُ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إِلَى إِيدَاعِهَا عِنْدَهُ.
وَبِمَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَتْ: وَأَمَرَ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم - عَلِيًّا رضي الله عنه أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْهُ صلي الله عليه وسلم الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ.
وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْوَدِيعَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً بَلْ ضَرُورَةً إِلَيْهَا .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلْوَدِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أ - فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مُسْتَحَبٌّ، لأِنَّ هَا مِنْ بَابِ الإْعَانَةِ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» .
قَالَ السِّمْنَانِيُّ: وَعِنْدَنَا لاَ يَجِبُ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ بِحَالٍ .
ب - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قَبُولَهَا مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ ثِقَةٌ قَادِرٌ عَلَى حِفْظِهَا، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ؛ لأِنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِصَاحِبِهَا، إِلاَّ أَنْ يَرْضَى رَبُّهَا بَعْدَ إِعْلاَمِهِ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُهُ، لاِنْتِفَاءِ التَّغْرِيرِ .
ج - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حُكْمُ الْوَدِيعَةِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهَا: الإْبَاحَةُ فِي حَقِّ الْفَاعِلِ وَالْقَابِلِ عَلَى السَّوَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهَا فِي حَقِّ الْفَاعِلِ إِذَا خُشِيَ ضَيَاعُهَا أَوْ هَلاَكُهَا إِنْ لَمْ يُودِعْهَا، مَعَ وُجُودِ قَابِلٍ لَهَا قَادِرٍ عَلَى حِفْظِهَا.
وَحُرْمَتُهَا إِذَا كَانَ الْمَالُ مَغْصُوبًا أَوْ مَسْرُوقًا، لِوُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى رَدِّهِ لِمَالِكِهِ.
كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَابِلِ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ، كَمَا إِذَا خَافَ رَبُّهَا عَلَيْهَا عِنْدَهُ مِنْ ظَالِمٍ، وَلَمْ يَجِدْ صَاحِبُهَا مَنْ يَسْتَوْدِعُهَا غَيْرَهُ، فَيَلْزَمُهُ عِنْدَئِذٍ الْقَبُولُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ دُعِيَ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَشْهَدُ سِوَاهُ. وَالتَّحْرِيمُ، كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ يَحْرُمُ قَبُولُهُ؛ لأِنَّ فِي إِمْسَاكِهِ إِعَانَةً عَلَى عَدَمِ رَدِّهِ لِمَالِكِهِ. وَالنَّدْبُ، إِذَا خَشِيَ مَا يُوجِبُهَا دُونَ تَحَقُّقِهِ. وَالْكَرَاهَةُ، إِذَا خَشِيَ مَا يُحَرِّمُهَا دُونَ تَحَقُّقِهِ .
د - وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى حِفْظِ الْوَدِيعَةِ وَأَدَاءِ الأْمَانَةِ فِيهَا أَنْ يَقْبَلَهَا؛ لأِنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ غَيْرُهُ، وَخَافَ إِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ تَهْلَكَ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَصْلُ قَبُولِهَا، أَيْ لَزِمَهُ بِعَيْنِهِ؛ لأِنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَلَكِنْ دُونُ أَنْ يُتْلِفَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ وَحِرْزِهِ فِي الْحِفْظِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَمَا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالأْجْرَةِ ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُ وَدِيعَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا وَتَلَفَتْ فَهُوَ عَاصٍ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمِ الْحِفْظَ .
أَمَّا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ حِفْظِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبُولُهَا؛ لأِنَّهُ يُغَرِّرُ بِهَا وَيُعَرِّضُهَا لِلْهَلاَكِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهَا.
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ الْمَالِكُ، فَإِنْ عَلِمَ الْمَالِكُ بِحَالِهِ فَلاَ يَحْرُمُ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الأْوْجَهُ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمَا، أَمَّا عَلَى الْمَالِكِ فَلإِضَاعَتِهِ مَالِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُودِعِ فَلإِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَعِلْمُ الْمَالِكِ بِعَجْزِهِ لاَ يُبِيحُ لَهُ الْقَبُولَ.
وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى حِفْظِهَا، لَكِنَّهُ لاَ يَثِقُ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، أَيْ لاَ يَأْمَنُ أَنْ يَخُونَ فِيهَا، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الْحُرْمَةُ، وَالثَّانِي الْكَرَاهَةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ .
حَقِيقَةُ الْوَدِيعَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْوَدِيعَةِ، هَلْ هِيَ عَقَدٌ أَمْ مُجَرَّدُ إِذْنٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأْوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأْصَحِّ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّهَا عَقْدُ تَوْكِيلٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوْدِعِ، وَتَوَكُّلٍ مِنْ جِهَةِ الْوَدِيعِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ؛ لأِنَّ هَا إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ النَّفْسِ فِي الْحِفْظِ دُونَ التَّصَرُّفِ، بِخِلاَفِ الْوَكَالَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ إِقَامَةُ الإْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ مَمْلُوكٍ لَهُ.
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ حَقِيقَةِ الْوَدِيعَةِ بِأَنَّهَا عَقْدٌ وَهِيَ تَسْلِيطُ الْغَيْرِ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً.
الثَّانِي: لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ مُجَرَّدُ إِذَنٍ وَتَرْخِيصٍ مِنَ الْمَالِكِ لِغَيْرِهِ بِحِفْظِ مَالِهِ، أَشْبَهَ بِالضِّيَافَةِ. فَكَمَا أَنَّ الضِّيَافَةَ تَرْخِيصٌ وَإِذْنٌ مِنَ الْمَالِكِ لِلضَّيْفِ بِاسْتِهْلاَكِ الطَّعَامِ الْمُقَدَّمِ لَهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا عَقْدٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَكَذَلِكَ الْوَدِيعَةُ مُجَرَّدُ إِذْنٍ مِنَ الْمَالِكِ لِلْوَدِيعِ فِي حِفْظِ مَالِهِ، وَلَيْسَتْ بِعَقْدٍ .
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ - كَمَا حَكَى النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ - فِي الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ:
أ - إِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ مَالاً عِنْدَ صَبِيٍّ فَأَتْلَفَهُ، فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلاَنِ بِنَاءً عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْوَدِيعَةِ هَلْ هِيَ عَقْدٌ بِرَأْسِهِ أَمْ مُجَرَّدُ إِذْنٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: هِيَ عَقْدٌ، لَمْ يَضْمَنْهُ الصَّبِيُّ، وَإِنْ قِيلَ: إِذْنٌ، ضَمِنَهُ.
ب - نِتَاجُ الْبَهِيمَةِ الْمُودَعَةِ، هَلْ تُعْتَبَرُ فِيهِ أَحْكَامُ الْوَدِيعَةِ أَمْ لاَ؟ قَوْلاَنِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَدِيعَةَ عَقْدٌ، فَالْوَلَدُ وَدِيعَةٌ كَالأْمِّ ، وَإِنْ قُلْنَا:
إِذْنٌ، فَلَيْسَ بِوَدِيعَةٍ، بَلْ هُوَ أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي يَدِهِ، وَعَلَيْهِ رَدُّهَا فِي الْحَالِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يُؤَدِّ مَعَ التَّمَكُّنِ ضَمِنَ.
ج - إِذَا عَزَلَ الْمُودِعُ نَفْسَهُ، فَفِي انْعِزَالِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ إِذْنٌ أَمْ عَقْدٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِذْنٌ، فَالْعَزْلُ لَغْوٌ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِلضِّيفَانِ فِي أَكْلِ طَعَامِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَزَلْتُ نَفْسِي، يَلْغُو قَوْلُهُ، وَلَهُ الأْكْلُ بِالإْذْنِ السَّابِقِ، فَعَلَى هَذَا تَبْقَى الْوَدِيعَةُ بِحَالِهَا وَلاَ تَنْفَسِخُ، وَإِنْ قُلْنَا: عَقْدٌ، انْفَسَخَتْ، وَبَقِيَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً، كَثَوْبِ الْغَيْرِ الَّذِي طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ عِنْدَ التَّمَكُّنِ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ صَاحِبُهُ عَلَى الأْصَحِّ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ .
خَصَائِصُ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ:
9 - يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ خَصَائِصَ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ ثَلاَثٌ:
(إِحْدَاهَا) أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَيْ غَيْرُ لاَزِمٍ فِي حَقِّ أَيٍّ مِنْهُمَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُبَادِرَ لِفَسْخِهِ وَالتَّحَلُّلِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الطَّرَفِ الآْخَرِ أَوْ مُوَافَقَتِهِ، وَتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ جُنُونِهِ أَوْ إِغْمَائِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَمَتَى أَرَادَ الْمُودِعُ اسْتِرْدَادَ وَدِيعَتِهِ، لَزِمَ الْوَدِيعُ رَدَّهَا إِلَيْهِ؛ لِعُمُومِ قوله تعالي : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) وَمَتَى أَرَادَ الْوَدِيعُ رَدَّهَا لِصَاحِبِهَا لَزِمَهُ أَخْذُهَا مِنْهُ؛ لأِنَّ الأْصْلَ فِي الْمُسْتَوْدَعِ أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِإِمْسَاكِهَا وَحِفْظِهَا، فَلاَ يَلْزَمُهُ التَّبَرُّعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (774) مِنْ مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: «لِكُلٍّ مِنَ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَوْدِعِ فَسْخُ عَقْدِ الإْيدَاعِ مَتَى شَاءَ».
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الأْصْلِ حَالَةَ لُحُوقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ نَتِيجَةَ فَسْخِ الآْخَرِ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ بِدُونِ رِضَاهُ، فَقَالَ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ: «الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ إِذَا اقْتَضَى فَسْخُهَا ضَرَرًا عَلَى الآْخَرِ امْتَنَعَ، وَصَارَتْ لاَزِمَةً. وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لِلْوَصِيِّ عَزْلُ نَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَالِ بِاسْتِيلاَءِ ظَالِمٍ مِنْ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ. قُلْتُ: وَيَجْرِي مَثَلُهُ فِي الشَّرِيكِ وَالْمُقَارِضِ .
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مِنَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ رَدِّهَا فِي حَقِّ الْوَدِيعِ مَتَى شَاءَ حَالَةَ مَا إِذَا كَانَ قَبُولُهَا وَاجِبًا عَلَيْهِ أَوْ مَنْدُوبًا إِذَا لَمْ يَرْضَ مَالِكُهَا بِرَدِّهَا إِلَيْهِ؛ لأِنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ رَدِّهَا حِينَئِذٍ فِي حَقِّ الْوَدِيعِ مُنَافٍ لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِ حِفْظِهَا عَلَيْهِ حَيْثُ وَجَبَ، أَوْ بِنَدْبِهِ حَيْثُ نُدِبَ، فَجَاءَ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: وَلَهُمَا، يَعْنِي: لِلْمَالِكِ الاِسْتِرْدَادُ، وَلِلْوَدِيعِ الرَّدُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِجَوَازِهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، نَعَمْ، يَحْرُمُ الرَّدُّ حَيْثُ وَجَبَ الْقَبُولُ، وَيَكُونُ خِلاَفَ الأوْلَى حَيْثُ نُدِبَ، وَلَمْ يَرْضَهُ الْمَالِكُ . وَقَالَ الرَّمْلِيُّ:» وَلَوْ طَالَبَ الْمُودِعَ الْمَالِكَ بِأَخْذِ وَدِيعَتِهِ، لَزِمَهُ أَخْذُهَا؛ لأِنَّ قَبُولَ الْوَدِيعَةِ لاَ يَجِبُ، فَكَذَا اسْتِدَامَةُ حِفْظِهَا، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي حَالَةٍ يَجِبُ فِيهَا الْقَبُولُ، يَجُوزُ لِلْمَالِكِ الاِمْتِنَاعُ .
(وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ. وَعُقُودُ الأْمَانَةِ هِيَ الْعُقُودُ الَّتِي يَكُونُ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ فِي تَنْفِيذِهَا أَمَانَةً فِي يَدِ قَابِضِهِ لِحِسَابِ صَاحِبِهِ، فَلاَ يَكُونُ الْقَابِضُ مَسْئُولاً عَمَّا يُصِيبُهُ مِنْ تَلَفٍ فَمَا دُونَهُ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى عَلَيْهِ أَوْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ، كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالإْجَارَةِ وَالْوِصَايَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ كَذَلِكَ؛ لأِنَّ الأْصْلَ فِيهَا أَنَّهَا مَعْرُوفٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ الْوَدِيعِ، فَلَوْ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ أَوْ تَفْرِيطٍ، لاَمْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ، وَذَلِكَ مُضِرٌّ بِهِمْ، إِذْ كَثِيرًا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا أَوْ يَضْطَرُّونَ.
وَقَدْ نَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَمَيُّزِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ وَاخْتِصَاصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ عُقُودِ الأْمَانَةِ بِأَنَّ مَوْضُوعَهُ وَمَقْصِدَهُ الأْسَاسَ: الاِئْتِمَانُ عَلَى الْحِفْظِ دُونَ أَيِّ غَرَضٍ آخَرَ كَالتَّصَرُّفِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِتَمْحُّضِهِ وَتَجَرُّدِهِ لِلْحِفْظِ فَقَطْ، بِخِلاَفِ عُقُودِ الأْمَانَةِ الأْخْرَى ، فَإِنَّ الاِئْتِمَانَ عَلَى الْحِفْظِ فِيهَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصَالَةً، بَلْ ضِمْنًا، فَفِي الإْجَارَةِ مَثَلاً، يُلاَحَظُ أَنَّ غَرَضَ الْعَقْدِ وَغَايَتَهُ الأْصْلِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ تَمْلِيكُ مَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ بِعِوَضٍ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَأَنَّ الاِئْتِمَانَ عَلَى الْحِفْظِ أَمْرٌ ضِمْنِيٌّ تَابِعٌ لِذَلِكَ الْمَقْصِدِ. وَفِي الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَالِ وَالْوِصَايَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ يَبْرُزُ غَرَضُ الْعَقْدِ وَهَدَفُهُ الأْسَاسُ: أَنَّهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ فِي الْحُدُودِ الَّتِي رَسَمَهَا الشَّارِعُ أَوْ فَوَّضَ فِيهَا الْمُوَكِّلُ أَوِ الشَّرِيكُ، وَالْحِفْظُ فِيهَا ضِمْنِيٌّ. وَفِي الرَّهْنِ - عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهُ مِنْ عُقُودِ الأْمَانَةِ - يُعْتَبَرُ مَوْضُوعُ الْعَقْدِ وَمَقْصِدُهُ تَوْثِيقُ الدَّيْنِ، وَالاِئْتِمَانُ عَلَى الْحِفْظِ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ غَرَضٍ ضِمْنِيٍّ تَابِعٍ لِلْمَقْصِدِ الأْسَاسِ .
وَتَصْنِيفُ الْوَدِيعَةِ مِنْ عُقُودِ الأْمَانَةِ لاَ مِنْ عُقُودِ الضَّمَانِ هُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، بِاسْتِثْنَاءِ رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ ذَكَرَ فِيهَا اعْتِبَارَ الْوَدِيعَةِ مَضْمُونَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ .
(وَالثَّالِثَةُ) أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ. إِذْ لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأْصْلَ فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّهَا مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى أَسَاسِ الرِّفْقِ وَالْمَعُونَةِ وَتَنْفِيسِ الْكُرْبَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَلاَ تَسْتَوْجِبُ مِنَ الْمُودِعِ بَدَلاً عَنْ حِفْظِ الْوَدِيعَةِ، خِلاَفًا لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى أَسَاسِ إِنْشَاءِ حُقُوقٍ وَالْتِزَامَاتٍ مَالِيَّةٍ مُتَقَابِلَةٍ بَيْنَ الْعَاقِدِينَ.
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّةِ اشْتِرَاطِ عِوَضٍ فِيهَا لِلْوَدِيعِ مُقَابِلَ حِفْظِهِ لِلْوَدِيعَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَدِيعِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَجْرًا عَلَى حِفْظِ الْوَدِيعَةِ، وَاعْتَبَرُوا شَرْطَهُ صَحِيحًا مُلْزَمًا . وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (814) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: لَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً عَلَى حِفْظِ الْوَدِيعَةِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ. بَلْ إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى حَقِّ الْوَدِيعِ فِي أَخْذِ الأْجْرَةِ عَلَى الْحِفْظِ وَالْحِرْزِ حَيْثُ يَكُونُ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ وَاجِبًا عَلَى الْوَدِيعِ لِتَعَيُّنِهُ، قَالُوا: لأِنَّ الأْصَحَّ جَوَازُ أَخْذِ الأْجْرَةِ عَلَى الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ، كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَتَعْلِيمِ الْفَاتِحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
ب) وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أُجْرَةُ الْحِرْزِ الَّذِي تَشْغَلُهُ الْوَدِيعَةُ، وَأُجْرَةُ الْحِفْظِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً مَوْضِعَ الْحِفْظِ أَيِ الْحِرْزِ، إِذْ لاَ يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَنْفَعَةِ حِرْزِهِ بِدُونِ عِوَضٍ . أَمَّا حِفْظُ الْوَدِيعَةِ، فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا مِثْلَهُ، أَوْ يَشْتَرِطْهَا فِي الْعَقْدِ، أَوْ يَجْرِ بِهَا عُرْفٌ، وَذَلِكَ لاِطِّرَادِ الْعَادَةِ بِاطِّرَاحِهَا، وَأَنَّ الْوَدِيعَ لاَ يَطْلُبُ أَجْرًا عَلَى ذَلِكَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أُجْرَةِ الْحِفْظِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ - لأِنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ الأْجْرَةِ عَلَى الْحِرَاسَةِ - أَوْ جَرَتْ بِذَلِكَ الْعَادَةُ أَوْ كَانَ طَالِبُهَا مِمَّنْ يَكْرِي نَفْسَهُ لِلْحِرَاسَةِ وَيَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى حِفْظِ الْوَدَائِعِ؛ لأِنَّ الْمَعْرُوفَ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا .
ج) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْعِوَضِ لِلْوَدِيعِ، وَقَالُوا: إِنَّ الأَْجْرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الإْجَارَةِ عَلَى الْحِفْظِ دُونَ الْوَدِيعَةِ .
أَرْكَانُ الْوَدِيعَةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ هِيَ:
1) الصِّيغَةُ (وَهِيَ الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ).
2) الْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَوْدَعُ).
3) الْمَحَلُّ (وَهُوَ الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ ).
وَخَالَفَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ التَّقْسِيمِ، إِذِ اعْتَبَرُوا رُكْنَ الْوَدِيعَةِ الصِّيغَةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنَ الإْيجَابِ وَالْقَبُولِ الدَّالَّيْنِ عَلَى التَّرَاضِي.
أَوَّلاً: الصِّيغَةُ (الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ)
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأْصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ التَّرَاضِي وَطِيبُ النَّفْسِ، وَأَنَّ الْوَدِيعَةَ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالْمُرَاضَاةِ، وَإِلاَّ كَانَتْ قَسْرًا عَلَى الْحِفْظِ أَوْ غَصْبًا لِلْمَالِ.
وَالصِّيغَةُ، هِيَ الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ كَأَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: أَوْدَعْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ، أَوِ احْفَظْ هَذَا الشَّيْءَ، أَوْ خُذْ هَذَا الشَّيْءَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَيَقْبَلُ الآْخَرُ. فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ .
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الإْيجَابِ وَالْقَبُولِ مُنْحَصِرًا بِلَفْظِهِمَا وَحْدَهُ، بَيْنَ مُشْتَرِطٍ لِذَلِكَ وَغَيْرِ مُشْتَرِطٍ لِذَلِكَ، أَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى رِضَا الْعَاقِدِينَ مِنْ قَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ أَوْ فِعْلٍ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ .
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَرُكْنُهَا الإْيجَابُ قَوْلاً صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً أَوْ فِعْلاً، وَالْقَبُولُ مِنَ الْمُودَعِ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحِفْظِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا «صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً» لِيَشْمَلَ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَعْطِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ فِي يَدِهِ ثَوْبٌ: أَعْطِنِيهِ، فَقَالَ: أَعْطَيْتُكَ، فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْوَدِيعَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُحِيطِ، لأِنَّ الإْعْطَاءَ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ وَالْوَدِيعَةَ، وَالْوَدِيعَةُ أَدْنَى، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ، فَصَارَ كِنَايَةً، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الإْيجَابِ : «أَوْ فِعْلاً» لِيَشْمَلَ مَا لَوْ وَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَجُلٍ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَهُوَ إِيدَاعٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْقَبُولِ: «أَوْ دَلاَلَةً» لِيَشْمَلَ سُكُوتَهُ عِنْدَ وَضْعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ قَبُولُ دَلاَلَةٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ: لاَ أَقْبَلُ، لاَ يَكُونُ مُودِعًا؛ لأَنَّ الدَّلاَلَةَ لَمْ تُوجَدْ .
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الصِّيغَةُ هِيَ كُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الْحِفْظِ، وَلَوْ بِقَرَائِنِ الأْحْوَالِ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِاللَّفْظِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإْيدَاعِ الإْيجَابُ مِنَ الْمُودِعِ لَفْظًا . فَجَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ: لاَ بُدَّ مِنْ صِيغَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الاِسْتِحْفَاظِ، كَ -: أَوْدَعْتُكَ هَذَا الْمَالَ، وَاحْفَظْهُ، وَنَحْوِهِ كَ -: اسْتَحْفَظْتُكَ وَأَنَبْتُكَ فِي حِفْظِهِ، وَهُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ لأِنَّ هَا عَقْدُ وِكَالَةٍ، لاَ إِذَنٌ مُجَرَّدٌ فِي الْحِفْظِ .
وَأَمَّا الْقَبُولُ، فَيَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ دَالٍّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . جَاءَ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: وَالأْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ مِنَ الْوَدِيعِ لِصِيغَةِ الْعَقْدِ أَوِ الأْمْرِ لَفْظًا، وَيَكْفِي مَعَ عَدَمِ اللَّفْظِ وَالرَّدِّ مِنْهُ الْقَبْضُ وَلَوْ عَلَى التَّرَاخِي، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ. وَقَالَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيَكْفِي الْقَبْضُ قَبُولاً لِلْوَدِيعَةِ، كَالْوَكَالَةِ .
ثَانِيًا: الْعَاقِدَانِ (الْمُودِعُ وَالْمُسْتَوْدَعُ)
يُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنَ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَوْدَعِ مَا يَلِي:
(أ) شُرُوطُ الْمُودِعِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُودِعِ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ . وَهُوَ الْعَاقِلُ الْمُمَيِّزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْبَالِغُ الْعَاقِلُ الرَّشِيدُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ أَوْدَعَ طِفْلٌ أَوْ مَجْنُونٌ إِنْسَانًا مَالاً، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ وَدِيعَتِهِ. فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ ضَمِنَهَا، وَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى النَّاظِرِ فِي مَالِهِ. قَالَ السِّمْنَانِيُّ: لأِنَّهُ قَبِلَ مَالاً مِمَّنْ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ الْمُودِعُ وَعَلِمَ الْمُسْتَوْدَعُ بِالْغَصْبِ، وَقَبِلَ الْوَدِيعَةَ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأْنْصَارِيُّ: لأِنَّهُ مُقَصِّرٌ بِالأْخْذِ مِمَّنْ لَيْسَ أَهْلاً لِلإْيدَاعِ . وَعَلَّلَ ذَلِكَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: لأِنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَهُ .
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا لَوْ خَشِيَ الْوَدِيعُ هَلاَكَهَا فِي يَدِ الْمَحْجُورِ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ حِسْبَةً، رَأْفَةً عَلَى الْمَالِ وَصَوْنًا لَهُ عَنِ الضَّيَاعِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَقَدْ قَاسَ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِ الضَّائِعِ، وَالْمَوْجُودِ فِي مَفَازَةٍ - مَهْلَكَةٍ - إِذَا أَخَذَهُ شَخْصٌ لِيَحْفَظَهُ لِرَبِّهِ، وَتَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ رَدِّهِ، وَعَلَى مَا لَوْ أَخَذَ إِنْسَانٌ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ مِنَ الْغَاصِبِ تَخْلِيصًا لَهُ، لِيَرُدَّهُ إِلَى مَالِكِهِ، فَتَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهُ؛ لأِنَّهُ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ كَمَا لَوْ خَلَّصَ الْمُحْرِمُ طَائِرًا مِنْ جَارِحَةٍ، فَأَمْسَكَهُ لِيَحْفَظَهُ وَيَتَعَهَّدَهُ فَتَلِفَ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهُ .
أَمَّا ابْنُ عَرَفَةَ فَقَدْ قَالَ: وَالأْظْهَرُ أَنَّ شَرْطَ الْوَدِيعَةِ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ فِعْلِهَا وَقَبُولِهَا حَاجَةُ الْفَاعِلِ، وَظَنُّ صَوْنِهَا مِنَ الْقَابِلِ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ مِنَ الصَّبِيِّ الْخَائِفِ عَلَيْهَا إِنْ بَقِيَتْ بِيَدِهِ .
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِيدَاعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَحَكَى عَلَيْهِ الاِتِّفَاقَ - وَهُوَ صِحَّةُ إِيدَاعِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ .
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَأَمَّا بُلُوغُهُ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، حَتَّى يَصِحَّ الإْيدَاعُ مِنَ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ؛ لأِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ التَّاجِرُ، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ كَمَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ.
أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمَأْذُونِ فَلاَ يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْهُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا، صَحَّ إِيدَاعُهُ لِمَا أُذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ؛ لأِنَّهُ كَالْبَالِغِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ .
(وَالثَّانِي): لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ إِيدَاعِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، مَأْذُونًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ وَأَلْحَقُوا إِيدَاعَهُ بِالْعَدَمِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ قَبِلَهُ ضَمِنَهُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ شَرْطَ الْمُودِعِ كَالْمُوَكَّلِ، فَمَنْ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يُوكِّلَ غَيْرَهُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ، قَالَ الْعَدَوِيّ: وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالسَّفِيهُ، فَلاَ يُودِعَانِ وَلاَ يُسْتَوْدَعَانِ، لَكِنْ إِنْ أَوْدَعَاكَ شَيْئًا، وَجَبَ عَلَيْكَ يَا رَشِيدُ حِفْظُهُ .
(ب) شُرُوطُ الْمُسْتَوْدَعِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَوْدَعِ شَرْطَانِ:
الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ . غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الرَّشِيدُ، (وَالثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ لاَ يَصِحُّ قَبُولُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ الْوَدِيعَةَ؛ لأِنَّ حُكْمَ هَذَا الْعَقْدِ لُزُومُ الْحِفْظِ، وَمَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ لاَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ اسْتِيدَاعِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأْوَّلُ): لأَِكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اسْتِيدَاعُ الصَّبِيِّ، مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ؛ لأِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الإْيدَاعِ الْحِفْظُ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ أَوْدَعَ أَحَدٌ وَدِيعَةً عِنْدَ صَبِيٍّ فَتَلِفَتْ عِنْدَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا، سَوَاءٌ حَفِظَهَا أَمْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْتِزَامِهِ الْحِفْظَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَرَكَهَا عِنْدَ بَالِغٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْفَاظٍ، فَتَلِفَتْ .
أَمَّا إِذَا أَتْلَفَهَا الصَّبِيُّ الْمُسْتَوْدَعُ بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَأْيَيْنِ:
فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ . وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَالِكَ سَلَّطَهُ عَلَيْهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهُ فَأَتْلَفَهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ.
وَبِأَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ قَدْ سَلَّطَ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَجْرِ. غَيْرَ أَنَّ اللَّخْمِيَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَنْفَقَ الصَّبِيُّ الْوَدِيعَةَ فِيمَا لاَ غِنَى لَهُ عَنْهُ وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَهُ مَالٌ، وَقَالُوا: يُرْجَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ بِالأْقَلِّ مِمَّا أَتْلَفَهُ أَوْ مِمَّا صُونَ بِهِ مَالُهُ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَضْمِينِ الصَّبِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِاسْتِيدَاعِهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالاً لِغَيْرِهِ بِلاَ اسْتِيدَاعٍ وَلاَ تَسْلِيطٍ عَلَى الإْتْلاَفِ . وَعَلَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ بِإِتْلاَفِهِ قَبْلَ الإْيدَاعِ، ضَمِنَهُ بَعْدَ الإْيدَاعِ كَالْبَالِغِ، وَأَنَّ الْمُودِعَ مَا سَلَّطَهُ عَلَى إِتْلاَفِ الْوَدِيعَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْفَظَهُ إِيَّاهَا .
وَقَدْ بَيَّنَ السُّيُوطِيُّ فِي الأْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ أَسَاسَ الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ التَّلَفِ وَالإْتْلاَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: قَاعِدَةٌ: كُلُّ مَنْ ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِالإْتْلاَفِ ضَمِنَهَا بِالتَّفْرِيطِ إِلاَّ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِالإْتْلاَفِ عَلَى الأْظْهَرِ ، وَلاَ يَضْمَنُهَا بِالتَّفْرِيطِ قَطْعًا؛ لأِنَّ الْمُفَرِّطَ هُوَ الَّذِي أَوْدَعَهُ .
(الثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ، فَيَصِحُّ قَبُولُهُ الْوَدِيعَةَ، لأِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ . قَالَ الْكَاسَانِيُّ: أَلاَ تَرَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ، لَكَانَ الإْذْنُ لَهُ سَفَهًا. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ، فَلاَ يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْهُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ مُنِعَ مِنْهُ مَالُهُ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (776) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمَأْذُونُ فَيَصِحُّ إِيدَاعُهُ وَقَبُولُهُ الْوَدِيعَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَبِلَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ الْوَدِيعَةَ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. أَمَّا إِذَا اسْتَهْلَكَهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَضْمَنُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ إِيدَاعَهُ لَوْ صَحَّ، فَاسْتِهْلاَكُ الْوَدِيعَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَصَارَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ إِيدَاعَ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِهْلاَكٌ لِلْمَالِ مَعْنًى، فَكَانَ فِعْلُ الصَّبِيِّ إِهْلاَكَ مَالٍ قَائِمٍ صُورَةً لاَ مَعْنًى، فَلاَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَدَلاَلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمَالَ فِي يَدِهِ، فَقَدَ وَضَعَهُ فِي يَدِ مَنْ لاَ يَحْفَظُهُ عَادَةً، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ شَرْعًا، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ الْوَدِيعَةِ شَرْعًا؛ لأِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَادَةً، أَنَّهُ مُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ، وَلَوْ كَانَ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً لَدُفِعَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: ) فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ؛ لأِنَّهُ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْحِفْظُ عَادَةً لَكَانَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ سَفَهًا .
(الثَّالِثُ) لاِبْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّلَ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا لِغَيْرِهِ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ .
(الرَّابِعُ) لاِبْنِ عَرَفَةَ الْمَالِكِيِّ، وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْوَدِيعَةِ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ فِعْلِهَا وَقَبُولِهَا حَاجَةُ الْفَاعِلِ، وَظَنُّ صَوْنِهَا مِنَ الْقَابِلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُودَعَ الصَّبِيَّ مَا خِيفَ تَلَفُهُ بِيَدِ مَالِكِهِ، كَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِ الظَّلَمَةِ بِبَعْضِ الْبِلاَدِ، وَلِقَاءِ الأْعْرَابِ الْقَوَافِلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. إِنْ ظَنَّ الْمُودِعُ صَوْنَهُ بِيَدِ الصَّبِيِّ الْمُسْتَوْدَعِ .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا:
14 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ أَنْ يَكُونَ الْوَدِيعُ مُعَيَّنًا وَقْتَ الإْيجَابِ ، فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ لِجَمَاعَةٍ: أَوْدَعْتُ أَحَدَكُمْ هَذِهِ الْعَيْنَ، أَوْ: لِيَحْفَظْ لِي أَحَدُكُمْ هَذِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، جَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ نَقْلاً عَنِ الْخُلاَصَةِ: لَوْ وَضَعَ كِتَابَهُ عِنْدَ قَوْمٍ، فَذَهَبُوا وَتَرَكُوهُ، ضَمِنُوا إِذَا ضَاعَ، وَإِنْ قَامُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ضَمِنَ الأْخِيرُ ؛ لأِنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْحِفْظِ، فَتَعَيَّنَ لِلضَّمَانِ .
وَقَدْ أَكَّدَتِ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ هَذَا الْمَعْنَى، فَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ (773): إِذَا وَضَعَ رَجُلٌ مَالَهُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْوَدِيعَةِ وَانْصَرَفَ، وَهُمْ يَرَوْنَهُ، وَبَقُوا سَاكِتِينَ، صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ وَدِيعَةً عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَإِذَا قَامُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَانْصَرَفُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، فَبِمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ الْحِفْظُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ آخِرًا، يَصِيرُ الْمَالُ وَدِيعَةً عِنْدَ الأَْخِيرِ فَقَطْ.
فَالْحَنَفِيَّةُ اعْتَبَرُوا الإْيدَاعَ مُنْعَقِدًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالإْيجَابِ وَالْقَبُولِ دَلاَلَةً فِعْلِيَّةً، وَبِذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ فِيهَا وَدِيعَةً عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، فَإِذَا غَادَرُوا جَمِيعُهُمْ ذَلِكَ الْمَكَانَ مَعًا، ضَمِنُوا كُلُّهُمْ بِالاِشْتِرَاكِ، أَيْ إِنَّ بَدَلَ الضَّمَانِ يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الَّذِينَ قَامُوا وَذَهَبُوا بِالتَّسَاوِي. أَمَّا إِذَا غَادَرَ أُولَئِكَ الأْشْخَاصُ الْوَاحِدُ تِلْوَ الآْخَرِ ذَلِكَ الْمَحَلَّ بَعْدَ أَنْ رَأَوُا الْمَالَ الْمُودَعَ وَسَكَتُوا، فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فِي الآْخِرِ يَكُونُ قَدْ تَعَيَّنَ لِلْحِفْظِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَالُ وَدِيعَةً عِنْدَهُ فَقَطْ. فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ الأْخِيرُ الْمَكَانَ، وَفُقِدَ ذَلِكَ الْمَالُ، لَزِمَهُ وَحْدَهُ الضَّمَانُ .
ثَالِثًا: الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ:
أَنْ تَكُونَ مَالاً:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ مَالاً، فَمَا لَيْسَ بِمَالٍ - كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا - لاَ يَصِحُّ وُرُودُ عَقْدِ الإْيدَاعِ عَلَيْهِ، لأِنَّ عَدَمَ مَالِيَّتِهِ يَتَنَافَى مَعَ تَشْرِيعِ حِمَايَتِهِ لِصَاحِبِهِ بِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ، وَاعْتِبَارِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً وَاجِبَةَ الْحِفْظِ وَالصَّوْنِ لِصَاحِبِهَا فِي يَدِ الْوَدِيعِ .
ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَشَرْطُ الْوَدِيعَةِ كَوْنُ الْمَالِ قَابِلاً لإِِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَوْدَعَ الْبَعِيرَ الشَّارِدَ، وَالطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ، وَالْمَالَ السَّاقِطَ فِي الْبَحْرِ وَنَحْوَهَا، فَلاَ يَصِحُّ إِيدَاعُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (775) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْوَدِيعَةِ قَابِلَةً لِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَصَالِحَةً لِلْقَبْضِ.
وَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الإْيدَاعَ عَقْدُ اسْتِحْفَاظٍ، وَحِفْظُ الشَّيْءِ بِدُونِ إِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ مُحَالٌ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْتِزَامُ الْوَدِيعِ بِحِفْظِهِ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِحْرَازِهِ وَحَوْزِهِ، امْتَنَعَ تَكْلِيفُهُ شَرْعًا بِهِ فِي عَقْدِ الْوَدِيعَةِ لِعُسْرِهِ أَوِ اسْتِحَالَتِهِ فِي حَقِّهِ، إِذْ لاَ تَكْلِيفَ بِمَا لاَ يُطَاقُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِعَقْدٍ لاَ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُهُ .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ مَالاً أَوْ مُخْتَصًّا، وَلَمْ يَقْصُرُوهَا عَلَى الْمَالِ وَحْدَهُ.
وَبِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِيدَاعِ الْخَمْرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لأِنَّ هَا لَيْسَتْ بِمَالٍ.
وَبِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْمُخْتَصِّ قَالُوا: أَمَّا مَا فِيهِ اخْتِصَاصٌ كَجِلْدِ مَيْتَةٍ لَمْ يُدْبَغْ، وَزِبْلٍ، وَكَلْبِ صَيْدٍ مُحْتَرَمٍ، وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ إِيدَاعُهُ كَالْمَالِ، لِجَوَازِ اقْتِنَائِهِ، بِخِلاَفِ النَّجِسِ الَّذِي لاَ يُقْتَنَى، وَالْكَلْبِ الَّذِي لاَ يَنْفَعُ بِحِرَاسَةٍ أَوْ صَيْدٍ، وَآلاَتِ اللَّهْوِ، فَلاَ يَصِحُّ إِيدَاعُهَا لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَمَوُّلُهَا وَلاَ اقْتِنَاؤُهَا .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ إِيدَاعِ الصُّكُوكِ وَالْوَثَائِقِ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ .
أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ مَنْقُولاً:
16 - ذَهَبَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ نَقْلُهُ فَيَخْرُجُ الْعَقَارُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ) إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، فَتَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً .
كَوْنُ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَالثَّوْرِيُّ وَالأْوْزَاعِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالْقَاضِي شُرَيْحٌ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ، فَإِنْ تَلِفَتَ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ مَالِهِ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُودِعَ إِذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ أَنْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ .
أَمَّا إِذَا تَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَيْهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأِنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ .
وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَوْنِهَا أَمَانَةً بِالسُّنَّةِ وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ وَالإْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ:
فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ» .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» . وَالْمُغِلُّ هُوَ الْخَائِنُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابَةِ: فَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ .
وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدَ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الأْمْصَارِ عَلَى كَوْنِهَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأِنَّ الْوَدِيعَ إِنَّمَا يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا، فَتَكُونُ يَدُهُ كَيْدِهِ .
وَلأِنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ بِإِذْنِ مَالِكِهَا، لاَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَلاَ الْوَثِيقَةِ، فَلاَ يَضْمَنُهَا، إِذْ لاَ مُوجِبَ لِلضَّمَانِ .
وَلأِنَّ الأْصْلَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ الْوَدِيعِ، فَلَوْ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ أَوْ تَقْصِيرٍ لَزَهِدَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا، وَرَغِبُوا عَنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَعْطِيلٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْوَدِيعَ ضَامِنٌ إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ ضَمَّنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدِيعَةً ذَهَبَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي كَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ، لاَ تُضَمَنُ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَجْرٍ أَوْ بِدُونِهِ، حَيْثُ إِنَّ أَخْذَ الأْجْرَةِ فِي الْوَدِيعَةِ لاَ يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الأْمَانَةِ أَوِ الضَّمَانِ فِيهَا .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ فَرَّقُوا فِي مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ فِيهَا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ أَوْ بِدُونِ أَجْرٍ، مَعَ اعْتِبَارِهَا فِي الْحَالَيْنِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ، فَقَالُوا: إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ بِمَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنَ الأْسْبَابِ - كَحَرِيقٍ غَالِبٍ وَغَرَقٍ غَالِبٍ وَلُصُوصٍ مُكَابِرِينَ - فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِأَجْرٍ أَمْ مَجَّانًا.
أَمَّا إِذَا هَلَكَتْ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَيَنْظُرُ: إِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الضَّمَانُ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا .
جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (777) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ:
الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ. وَبِنَاءً عَلَيْهِ: إِذَا هَلَكَتْ بِلاَ صُنْعِ الْوَدِيعِ أَوْ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فِي الْحِفْظِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الإْيدَاعُ بِأُجْرَةٍ عَلَى حِفْظِ الْوَدِيعَةِ، فَهَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، لَزِمَ الْوَدِيعَ ضَمَانُهَا.
فَوَجْهُ تَضْمِينِ الْوَدِيعِ بِأَجْرٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لأِنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ عَلَى الْحِفْظِ قَصْدًا، إِذِ الْعَقْدُ عِقْدُ الْحِفْظِ، وَالأْجْرُ فِي مُقَابِلِ الْحِفْظِ، وَالْمَتَاعِ فِي يَدِ الأْجِيرِ . وَيَتَفَرَّعُ عَنِ الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً مَا يَلِي:
أ - اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ أَوْ عَدَمِهِ:
19 - إِذَا اشْتَرَطَ رَبُّ الِوَدِيعَةِ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَهَا، فَقَبِلَ، أَوْ قَالَ لِلْمُودِعِ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا، فَتَلِفَتْ أَوْ سُرِقَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الأْمِينِ بَاطِلٌ، وَجَعْلَ مَا أَصْلُهُ أَمَانَةٌ مَضْمُونًا بِالشَّرْطِ لاَ يَصِحُّ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ. وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَدْ عَلَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُفَوِّتٌ لِمُوجِبِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ.
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: شَرْطُ ضَمَانِهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَيُخَالِفُ مَا يُوجِبُهُ الْحُكْمُ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأِنَّ شَرْطَ ضَمَانِ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَمَانَ مَا يَتْلَفُ فِي يَدٍ مَالِكِهِ .
وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ بِضَمَانِهِ بِالشَّرْطِ .
وَلَوْ أَوْدَعَهَا بِشَرْطِ عَدَمِ ضَمَانِ الْوَدِيعِ إِذَا تَعَدَّى عَلَيْهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، لأِنَّهُ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهَذَا فِي صَحِيحِ الْوَدِيعَةِ وَفَاسِدِهَا .
ب - قَبُولُ قَوْلِ الْوَدِيعِ فِي هَلاَكِ الْوَدِيعَةِ:
20 - فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ قَبُولَ قَوْلِهِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ ادِّعَاءِ هَلاَكِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ إِذَا كَذَّبَهُ الْمَالِكُ، سَوَاءٌ قَبَضَهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرٍ بَيِّنَةٍ، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ .
وَعَلَّلَ الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَى الأْمِينِ أَمْرًا عَارِضًا، وَهُوَ التَّعَدِّي، وَالْوَدِيعُ مُسْتَصْحِبٌ لِحَالِ الأْمَانَةِ، فَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالأْصْلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ؛ لأِنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ .
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ بِسَبٍّ ظَاهِرٍ - كَحَرِيقٍ وَغَرَقٍ وَغَارَةٍ - لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِهِ ضَمِنَ؛ لأِنَّهُ لاَ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَالأْصْلُ عَدَمُهُ.
أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْهَلاَكَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ - كَسَرِقَةٍ وَضَيَاعٍ - أَوْ لَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي هَلاَكِهَا، لِتَعَذُّرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لاَمْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَّةِ إِلَيْهَا .
وَحَيْثُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْوَدِيعِ فِي دَعْوَى التَّلَفِ، فَهَلْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ دُونَ يَمِينِهِ، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ مَعَهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأْوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ . قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ، فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ .
الثَّانِي: لأِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي ادِّعَاءِ تَلَفِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ .
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُحَلَّفُ الْمُتَّهَمُ دُونَ غَيْرِهِ .
قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَعَلَى الْمَشْهُورِ مَحَلُّ كَوْنِهِ لاَ يُحَلَّفُ إِلاَّ الْمُتَّهَمُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الدَّعْوَى دَعْوَى تَحْقِيقٍ، وَأَمَّا دَعْوَى التَّحْقِيقِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مُتَّهَمٍ وَغَيْرِهِ. وَغُرِّمَ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ فِي دَعْوَى الاِتِّهَامِ الْقَاصِرَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ، وَبَعْدَ حَلْفِ الْمُودِعِ فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ الَّتِي لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْمُتَّهَمِ .
قَبُولُ قَوْلِ الْوَدِيعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ:
21 - إِذَا ادَّعَى الْوَدِيعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ إِلَى رَبِّهَا - وَعَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: رَدَّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ - فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْهُ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَدِيعِ بِيَمِينِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلأِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي التَّلَفِ قَطْعًا، فَكَذَا فِي الرَّدِّ . وَقَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: لأِنَّهُ أَخَذَ الْعَيْنَ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِكِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الرَّدِّ قَوْلَهُ .
وَوَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَدِيعُ قَبَضَهَا بِدُونِ بَيِّنَةٍ. أَمَّا إِذَا قَبَضَهَا بِبَيِّنَةٍ قَصَدَ بِهَا التَّوْثِيقَ، فَقَالُوا: لاَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّهَا عَلَى مَالِكِهَا إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ . وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ بِقَوْلِهِ: لأِنَّهُ لَمَّا أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَتَوَثَّقَ مِنْهُ، جَعَلَهُ أَمِينًا فِي الْحِفْظِ دُونَ الرَّدِّ، فَإِذَا ادَّعَى رَدَّهَا، فَقَدِ ادَّعَى بَرَاءَتَهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ فِيهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَلأِنَّ هَذَا فَائِدَةُ الإْشْهَادِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَزَلْنَاهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ .
وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ وَالتَّفْصِيلِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدِ الْبَيِّنَةَ - فِيمَا إِذَا قَبَضَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِبَيِّنَةٍ - بِأَنْ يَكُونَ التَّوَثُّقُ مَقْصُودًا بِهَا . قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَخَرَّجَهَا ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّ الإْشْهَادَ عَلَى دَفْعِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَاجِبٌ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ تَفْرِيطًا، فَيَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى الْوَدِيعُ الرَّدَّ عَلَى غَيْرِ مَنِ ائْتَمَنَهُ كَوَارِثِهِ، أَوِ ادَّعَى وَارِثُ الْوَدِيعِ الرَّدَّ مِنْهُ عَلَى الْمَالِكِ لِلْوَدِيعَةِ، أَوْ أَوْدَعَ الْوَدِيعُ عِنْدَ سَفَرِهِ أَمِينًا لَمْ يُعَيِّنْهُ الْمَالِكُ، فَادَّعَى الأْمِينُ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ - طُولِبَ كُلٌّ مِمَّنْ ذُكِرَ بِبَيِّنَةٍ؛ لأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ الرَّدِّ وَلَمْ يَأْتَمِنْهُ.
أَمَّا لَوِ ادَّعَى وَارِثُ الْوَدِيعِ أَنَّ مُوَرِّثَهُ رَدَّهَا عَلَى الْمُودِعِ أَوْ أَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِ مُوَرِّثِهِ أَوْ فِي يَدِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ لأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ حُصُولِهَا فِي يَدِ الْوَارِثِ وَعَدَمُ تَعَدِّيهِمَا .
كَوْنُ زَوَائِدِ الْوَدِيعَةِ لِصَاحِبِهَا
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنَ الْوَدِيعَةِ - مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً - تَكُونُ لِصَاحِبِهَا، لأِنَّ هَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَأَنَّهَا أَمَانَةٌ بِيَدِ الْوَدِيعِ .
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِقْدَارٌ مِنْهَا، وَخَافَ فَسَادَهُ بِيَدِهِ، وَالْمُوَدِعُ غَائِبٌ، كَمَا إِذَا تَجَمَّعَ لَدَيْهِ كَمِّيَّةٌ مِنْ لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمُودَعِ أَوْ مِنْ ثِمَارِ الْكَرْمِ أَوِ الْبُسْتَانِ الْمُودَعِ، وَخِيفَ فَسَادُهَا، يَبِيعُ الْوَدِيعُ هَذِهِ الزَّوَائِدَ لِحِسَابِ صَاحِبِهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ .
فَإِنْ بَاعَهَا الْوَدِيعُ بِدُونِ أَمْرِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ، يَضْمَنُ، وَأَمَّا إِذَا بَاعَهَا لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ مُرَاجَعَةَ الْحَاكِمِ، كَأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ مَثَلاً، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ .
مُدَّةُ حِفْظِ الْوَدِيعَةِ:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْوَدِيعِ أَنْ يَحْفَظَ بِهَا الْوَدِيعَةَ إِذَا غَابَ رَبُّهَا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً، أَيْ فُقِدَ بِحَيْثُ لاَ يُدْرَى أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، وَمَاذَا يَفْعَلُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأْوَّلُ) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا حَتَّى يَعْلَمَ مَوْتَ صَاحِبِهَا أَوْ حَيَاتَهُ؛ لأِنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا لَهُ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ لِحَدِيثِ «وَفَاءً لاَ غَدْرًا» وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي اللُّقَطَةِ؛ لأِنَّ مَالِكَ اللُّقَطَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُلْتَقِطِ فَبَعْدَ التَّعْرِيفِ يَكُونُ التَّصَدُّقُ بِهَا طَرِيقًا لإِيصَالِهَا إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ مَالِكَهَا مَعْلُومٌ، فَكَانَ طَرِيقُ إِيصَالِهَا الْحِفْظَ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ أَوْ يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ، فَيَطْلُبُهَا وَارِثُهُ، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ. قَالُوا: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ مِمَّا يَفْسُدُ أَوْ يَتْلَفُ بِالْمُكْثِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْوَدِيعِ بِيعُهَا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، وَحِفْظُ ثَمَنِهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ مِثْلَ أَصْلِهَا؛ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَبِعْهَا، فَفَسَدَتْ بِالْمُكْثِ لاَ يَضْمَنُ؛ لأِنَّهُ حَفِظَ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ .
(الثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ بِهَا إِلَى أَقْصَى مَا يَحْيَى الْمُودِعُ إِلَى مِثْلِهِ، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، تَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُ .
(الثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا مَالٌ ضَائِعٌ، فَمَتَى لَمْ يَيْأَسْ مِنْ مَالِكِهِ أَمْسَكَهُ لَهُ أَبَدًا، مَعَ التَّعْرِيفِ بِهِ نَدْبًا، أَوْ أَعْطَاهُ لِلْقَاضِي الأْمِينِ، فَيَحْفَظُهُ لَهُ كَذَلِكَ، وَمَتَى أَيِسَ مِنْهُ، أَيْ بِأَنْ يَبْعُدَ فِي الْعَادَةِ وُجُودُهُ فِيمَا يَظْهَرُ، صَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَيَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِهَا مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، أَوْ يَدْفَعُهُ لِلإْمَامِ مَا لَمْ يَكُنْ جَائِرًا فِيمَا يَظْهَرُ .
وَأَفْتَى الشَّيْخُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَيِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَالِكِهَا بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ، أَنْ يَصْرِفَهَا فِي أَهَمِّ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَهَمُّهَا، وَلْيُقَدِّمْ أَهْلَ الضَّرُورَةِ وَمَسِيسِي الْحَاجَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلاَ يَبْنِي بِهَا مَسْجِدًا، وَلاَ يَصْرِفُهَا إِلاَّ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الإْمَامِ الْعَادِلِ صَرْفُهَا فِيهِ. فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ، فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ أَوْرَعَ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْرَفَهُمْ بِالْمَصَالِحِ الْوَاجِبَةِ التَّقْدِيمِ .
(الرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي فُقِدَ مَالِكُهَا، وَلَمْ يُطَّلِعْ عَلَى خَبَرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَرَثَةٌ - وَكَذَا الْوَدِيعَةُ الَّتِي جُهِلَ مَالِكُهَا - يَجُوزُ لِلْوَدِيعِ بِدُونِ إِذْنِ الْحَاكِمِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا بِنِيَّةِ غُرْمِهَا إِذَا عَرَفَهُ أَوْ عَرَفَ وَارِثَهُ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، وَيَلْزَمَ الْحَاكِمِ قَبُولُهَا .
مُوجِبَاتُ ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ:
35 - الأْصْلُ فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّهَا أَمَانَةٌ، وَأَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ فِي الْوَدِيعَةِ إِلاَّ إِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا؛ لأِنَّ الْمُفَرِّطَ مُتَسَبِّبٌ بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا أَوْ تَعَدَّى عَلَى الْوَدِيعَةِ؛ لأِنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ فَيَضْمَنُهُ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ:
36 - إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْوَدِيعُ بِالْوَدِيعَةِ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَهَابِهَا وَضَيَاعِهَا، أَوْ إِخْرَاجِهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهَا الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهَا عَادَةً، كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ، وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَدِيعِ اقْتِرَافُ هَذَا الْعَمَلِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ وَالاِخْتِيَارِ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِتْلاَفَ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا؛ لِكَوْنِهِ تَعَدِّيًا عَلَيْهَا يُنَافِي الْمُوجَبَ الأْصْلِيَّ لِعَقْدِ الإْيدَاعِ، وَهُوَ الْحِفْظُ، وَلأِنَّ إِتْلاَفَ مَالِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (787) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا هَلَكَتِ الْوَدِيعَةُ أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِسَبَبِ تَعَدِّي الْمُسْتَوْدَعِ أَوْ تَقْصِيرِهِ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ.
وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِإِتْلاَفِ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ هِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الأْولَى: إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا:
37 - لَوْ أَمَرَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْوَدِيعَ بِإِتْلاَفِهَا، بِأَنْ يُلْقِيَهَا فِي الْبَحْرِ أَوْ يَحْرِقَهَا فِي النَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْلاَفِهَا . وَلَوْ فَعَلَ، فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لإِذْنِ الْمَالِكِ لَهُ بِذَلِكَ، لأِنَّ الْحَقَّ فِي الْوَدِيعَةِ ثَابِتٌ لِصَاحِبِهَا، وَقَدْ أَسْقَطَهُ حِينَ أَذِنَ لَهُ بِإِتْلاَفِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَنَابَهُ فِي مُبَاحٍ، فَلاَ يَغْرَمُ الْوَدِيعُ لَهُ شَيْئًا.
وَلأِنَّ لتَحْرِيمِ الْفِعْلِ أَثَرَهُ فِي بَقَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ التَّأْثِيمُ، أَمَّا حَقُّ الآْدَمِيِّ، فَلاَ يَبْقَى مَعَ الإْذْنِ فِي تَفْوِيتِهِ. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ .
وَالثَّانِي: هُوَ ضَامِنٌ، كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْتُلْنِي أَوْ وَلَدِي، فَفَعَلَ، وَلأِنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْوَدِيعَةِ وُجُوبُ حِفْظِهَا عَلَى الْوَدِيعِ، فَصَارَ الإْذْنُ لَهُ فِي إِتْلاَفِهَا، كَشَرْطٍ مُنَاقِضٍ لِمُقْتَضَى عَقْدِهَا، فَيُلْغَى . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلأِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلاَفِ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، لأِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَفَاعِلُهُ عَاصٍ، يَجِبُ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ، فَأَمْرُهُ وَسُكُوتُهُ سِيَّانِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لَكَانَ الْمُسْلِمُ إِذَا قَالَ لأِخِيهِ الْمُسْلِمِ: اضْرِبْ عُنُقِي، فَقَطَعَهُ، أَنْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا قَاتَلٌ ظَالِمٌ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ وَمِنْ دَمِهِ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بَيْنَ تَحْرِيمِهِمَا . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ رَدُّ بَدَلِهَا:
38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ تَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ فَأَتْلَفَهَا، ثُمَّ رَدَّ بَدَلَهَا، فَهَلْ يَبْقَى ضَامِنًا لَهَا بِمُوجِبِ إِتْلاَفِهَا أَمْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ؟
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ، فَأَتْلَفَهَا الْوَدِيعُ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهَا مَكَانَهَا، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ تَلِفَ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ ثِيَابًا أَوْ عُرُوضًا قِيمِيَّةً، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا مِنْ سَاعَةِ أَتْلَفَهَا، سَوَاءٌ رَدَّ بَدَلَهَا إِلَى مَكَانِهَا أَمْ لاَ؛ لأِنَّهُ بِإِتْلاَفِهَا لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا، وَلاَ يَبْرَأُ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ إِلاَّ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، لاَ أَنْ يَرُدَّهَا فِي يَدِهِ وَدِيعَةً .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَبْقَى ضَامِنًا لَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ أَوِ الْقِيمِيَّاتِ، مِنَ النُّقُودِ أَوِ الْعُرُوضِ، لأِنَّ حُكْمَ الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ الاِسْتِئْمَانُ، قَدِ ارْتَفَعَ بِالإْتْلاَفِ ، فَلاَ يَعُودُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْوِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ لَيْسَ عَوْدًا لِلْوِفَاقِ عِنْدَهُمْ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، لاَ بِعَيْنِ الْوَدِيعَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَعُودُ الاِسْتِئْمَانُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ .
وَلَوْ أَتْلَفَ الْوَدِيعُ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ تَعَدِّيًا، فَهَلْ يَضْمَنُ مِقْدَارَ مَا أَتْلَفَ، أَمْ يَضْمَنُ سَائِرَهَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: إِذَا أَتْلَفَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اتِّصَالٌ بِالْبَاقِي، كَأَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ الْمُتْلَفَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ اتِّصَالٌ، كَتَحْرِيقِ بَعْضِ الثَّوْبِ، وَقَطْعِ طَرَفِ الْبَهِيمَةِ، نُظِرَ: إِنْ كَانَ عَامِدًا، فَهُوَ جَانٍ عَلَى الْكُلِّ، فَيَضْمَنُ الْجَمِيعَ. وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، ضَمِنَ الْمُتْلَفَ، وَلاَ يَضْمَنُ الْبَاقِيَ عَلَى الأْصَحِّ . وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا طَرَأَ نُقْصَانٌ عَلَى قِيمَتِهَا لَزِمَهُ النُّقْصَانُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَلَفُ الْوَدِيعَةِ لِعَدَمِ دَفْعِ الْمُسْتَوْدَعِ الْهَلاَكَ عَنْهَا:
39 - إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ بِسَبَبِ امْتِنَاعِ الْوَدِيعِ عَنْ دَفْعِ الْهَلاَكِ عَنْهَا، كَمَا إِذَا وَقَعَ حَرِيقٌ فِي بَيْتِهِ، فَلَمْ يَنْقُلِ الْوَدِيعَةَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؟ اخْتُلِفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا لَهَا. وَذَلِكَ لأِنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ طَرِيقًا لِحِفْظِهَا، وَبِتَرْكِهِ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ وَالْمُتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، صَارَ كَالْمُتْلِفِ لَهَا .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لأِنَّ النَّارَ أَتْلَفَتْهَا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ تُحِيطُ بِهِ النَّارُ، وَرَجُلٌ مُسْلِمٌ قَادِرٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَهُوَ عَاصٍ، وَلاَ عَقْلَ عَلَيْهِ وَلاَ قَوَدَ .
خَلْطُ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِهَا
42 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَدِيعَ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِهَا، بِحَيْثُ تَتَمَيَّزُ عَنْهُ، أَوْ يَسْهُلُ تَفْرِيقُهَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، وَذَلِكَ لإِمْكَانِ فَصْلِهَا عَمَّا خُلِطَتْ بِهِ وَرَدِّهَا بِعَيْنِهَا إِلَى مَالِكِهَا عِنْدَ طَلَبِهِ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا فِي صُنْدُوقٍ فِيهِ أَكْيَاسٌ لَهُ . قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا نَقَصَتِ الْوَدِيعَةُ بِالْخَلْطِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ أَرْشَ نُقْصَانِهَا .
أَمَّا إِذَا خُلِطَتْ بِمَا لاَ يُمْكِنُ تَمَيُّزُهُ عَنْهَا أَوْ بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَفْرِيقُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَنِ الآْخَرِ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ مَا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِإِذْنِ مَالِكِهَا أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
الْحَالَةُ الأْولَى: خَلْطُ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا:
43 - إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ بِذَلِكَ، لأِنَّهُ فَعَلَ مَا فَوَّضَهُ الْمَالِكُ بِفِعْلِهِ، فَكَانَ نَائِبًا عَنْهُ فِيهِ .
وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ الْوَدِيعَ يَكُونُ شَرِيكًا لِلْمُودِعِ، وَفِي بَعْضِهَا ذَكَرَ أَنَّ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:
الأْوَّلُ لأِبِي حَنِيفَةَ: وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ حَقُّ الْمَالِكِ عَنِ الْوَدِيعَةِ بِكُلِّ حَالٍ مَائِعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَائِعٍ، وَيَصِيرَ الْمَخْلُوطُ مِلْكَ الْخَالِطِ وَيَضْمَنَ الْخَالِطُ لِلْمُودِعِ حَقَّهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
الثَّانِي لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْوَدِيعَ يَصِيرُ شَرِيكًا لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ شَرِكَةَ مِلْكٍ اخْتِيَارِيَّةً، فَإِذَا هَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ.
وَالثَّالِثُ لأِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجْعَلُ الأْقَلَّ تَابِعًا لِلأْكْثَرِ، اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ يَكُونُ الْمَخْلُوطُ مِلْكَهُ، وَيَضْمَنُ لِلآْخَرِ حَقَّهُ وَذَلِكَ فِي الْمَائِعِ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: خَلْطُ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا فِيمَا لاَ يُمْكِنُ تَمَيُّزُهُ:
لِهَذِهِ الْحَالَةِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
(أ) خَلْطُ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ أَوْ بِغَيْرِ مَالِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ تَمْيِيزُ الْمَالَيْنِ عَنْ بَعْضِهِمَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا أَوْ دُونِهَا أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا، مِنْ جِنْسِهَا أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ خَلْطَ مُجَاوَرَةٍ كَقَمْحٍ بِقَمْحٍ أَوْ بِشَعِيرٍ أَوْ خَلْطَ مُمَازَجَةٍ كَالْخَلِّ بِالزَّيْتِ، لأِنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهَا حُكْمًا بِالْخَلْطِ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهَا لِمَالِكِهَا بَعْدَهُ .
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْخَلْطُ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ:
خَلْطٌ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ، كَخَلْطِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ. فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، لأِنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِ مِلْكِهِ.
وَخَلْطٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ، كَخَلْطِ الدَّرَاهِمِ السُّودِ بِالْبِيضِ، وَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ. فَهَذَا لاَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، لِتَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، فَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ، وَلَيْسَتْ بِخَلْطٍ. وَخَلْطٌ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ، كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ. فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، لأِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِ مِلْكِهِ إِلاَّ بِحَرَجٍ، وَالْمُتَعَسِّرُ كَالْمُتَعَذِّرِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مُمَاثِلٍ لَهَا جِنْسًا أَوْ صِفَةً مِنْ مَالِهِ، كَخَلْطِ الْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ وَنَحْوَهُ، فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، لِتَعَدِّيهِ بِذَلِكَ، حَيْثُ إِنَّهُ فَوَّتَ عَيْنَهَا بِالْخَلْطِ، فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهَا، لأِنَّ هَا لاَ تَتَمَيَّزُ، وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا خُلِطَ بِهَا، فَلاَ يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ.
أَمَّا إِذَا خَلَطَهَا بِجِنْسِهَا الْمُمَاثِلِ لَهَا جَوْدَةً وَرَدَاءَةً، كَحِنْطَةٍ بِمِثْلِهَا، أَوْ ذَهَبٍ بِمِثْلِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الإْحْرَازِ وَالرِّفْقِ لاَ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ. وَذَلِكَ لأِنَّ الْمُودِعَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَدْ دَخَلَ، إِذْ قَدْ يَشُقُّ عَلَى الْوَدِيعِ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ مَا أَوْدَعَهُ عَلَى حِدَةٍ. وَلأِنَّهُ لَوْ تَعَدَّى عَلَى الْوَدِيعَةِ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهَا، ثُمَّ ضَاعَتْ بَعْدَ رَدِّهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهَا كَرَدِّ مِثْلِهَا، فَلاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إِذَا هَلَكَتْ .
(ب) خَلْطُ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالٍ لِصَاحِبِهَا:
45 - نَقَلَ صَاحِبُ الْمُبْدِعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَنِ الرِّعَايَةِ أَنَّهُ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعُ إِحْدَى وَدِيعَتَيْ زَيْدٍ بِالأْخْرَى بِلاَ إِذْنِهِ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِمَالٍ آخَرَ لِصَاحِبِهَا، فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، لأِنَّ الْجَمِيعَ لَهُ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَفْرِيقِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الأْصَحُّ ، أَنَّهُ يَضْمَنُ، لأِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، إِذْ لَمْ يَرْضَ الْمُودِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخْتَلِطًا بِالآْخَرِ .
(ج) خَلْطُ غَيْرِ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ:
46 - قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا خَلَطَ غَيْرُ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَعَلَى الْخَالِطِ ضَمَانُهَا، لأِنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، لاِنْعِدَامِ الْخَلْطِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ ضَمِنَهَا الْخَالِطُ، وَإِنْ شَاءَ شَارَكَ فِي الْعَيْنِ بِمِقْدَارِ حِصَّتِهِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ .
(د) اخْتِلاَطُ الْوَدِيعَةِ بِمَالِ الْوَدِيعِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ:
47 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ إِذَا اخْتَلَطَتِ الْوَدِيعَةُ بِمَالِهِ بِلاَ صُنْعِهِ، لاِنْعِدَامِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلأِنَّ هَا لَوْ تَلِفَتْ حَقِيقَةً بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ تَفْرِيطٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَاخْتِلاَطُهَا بِغَيْرِهَا أَوْلَى.
بَلْ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ شَرِيكًا لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ شَرِكَةَ مِلْكٍ جَبْرِيَّةً، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ، لِوُجُودِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَهُوَ اخْتِلاَطُ الْمِلْكَيْنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنِ اخْتَلَطَتِ الْوَدِيعَةُ بِغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنَ الْوَدِيعِ فَلاَ ضَمَانَ فَإِنْ ضَاعَ الْبَعْضُ جَعَلَ مِنْ مَالِ الْوَدِيعِ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُمَا يَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ، قَالَ الْمَجْدُ: وَلاَ يَبْعُدُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْهَالِكُ مِنْهُمَا .
(هـ) خَلْطُ الْوَدِيعِ وَدِيعَتَيْنِ لِشَخْصَيْنِ:
48 - قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلاَنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَخَلَطَ الْوَدِيعُ الْمَالَيْنِ خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ، فَلاَ سَبِيلَ لَهُمَا عَلَى أَخْذِ الدَّرَاهِمِ، وَيَضْمَنُ الْوَدِيعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، وَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَطَهُمَا خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ، فَقَدْ عَجَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَخْلُوطِ، فَكَانَ الْخَلْطُ مِنْهُ إِتْلاَفًا لِلْوَدِيعَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَضْمَنُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُمَا بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا الْمَخْلُوطَ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ شَاءَا ضَمِنَا الْوَدِيعَ أَلْفَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ سَائِرُ الْمُكَيَّلاَتِ والْمَوْزُونَاتِ إِذَا خُلِطَ الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ، كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالدُّهْنِ بِالدُّهْنِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا، لَكِنَّ عَجْزَ الْمَالِكِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا بِعَارِضِ الْخَلْطِ فَإِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا لاِعْتِبَارِ جِهَةِ الْقِيَامِ، وَإِنْ شَاءَا ضَمِنَا لاِعْتِبَارِ جِهَةِ الْعَجْزِ.
وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ حِنْطَةً، وَآخَرُ شَعِيرًا، فَخَلَطَهُمَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِثْلَ حَقِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأِنَّ الْخَلْطَ إِتْلاَفٌ.
وَعِنْدَهُمَا: لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْعَيْنَ وَيَبِيعَاهَا وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ، وَعَلَى قِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ، لأِنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ تَنْقُصُ بِخَلْطِ الشَّعِيرِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ لِقِيَامِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ مُسْتَحِقُّ الْعَيْنِ، بِخِلاَفِ قِيمَةِ الشَّعِيرِ، لأِنَّ قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ بِالْخَلْطِ بِالْحِنْطَةِ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مِلْكُ الْغَيْرِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الشَّعِيرِ .
السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ:
49 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لِلْوَدِيعِ السَّفَرَ بِالْوَدِيعَةِ إِذَا أَذِنَ صَاحِبُهَا بِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الإْيدَاعَ فِي السَّفَرِ إِذْنًا ضِمْنِيًّا لِلْوَدِيعِ فِي أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، لأِنَّ عِلْمَ الْمُودِعِ بِحَالِهِ عِنْدَ إِيدَاعِهِ يُشْعِرُ بِرِضَاهُ بِذَلِكَ دَلاَلَةً .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالسَّفَرِ بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهِ إِنْ سَافَرَ بِالْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأْوَّلُ: لأِبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَدِيعِ السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ وَلَوْ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، لأِنَّ الأْمْرَ بِالْحِفْظِ مُطْلَقٌ فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ، كَمَا لاَ يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ.
وَقَالَ الصَّاحِبَانِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ): لَهُ السَّفَرُ بِمَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ لأِنَّ الْمُؤْنَةَ تُلْزِمُ الْمَالِكَ، وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ بِالسَّفَرِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَنْهَهُ صَاحِبُهَا عَنِ السَّفَرِ بِهَا، أَوْ يُعَيَّنُ لَهُ مَكَانُ حِفْظِهَا أَوْ يَكُنِ الطَّرِيقُ مُخَوِّفًا وَإِلاَّ كَانَ ضَامِنًا، إِذَا كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ السَّفَرُ ضَرُورِيًّا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَسَافَرَ بِهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ .
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ سَفَرَ الْوَدِيعِ بِالْوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تَعَدٍّ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ .
قَالَ ابْنُ شَاسٍ: إِنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيدَاعِهَا عِنْدَ أَمِينٍ ضَمِنَ، وَإِنْ سَافَرَ بِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ - كَمَا لَوْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مَثَلاً - لَمْ يَضْمَنْ .
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً اسْتَوْدَعَنِي وَدِيعَةً، فَحَضَرَ مَسِيرِي إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ، فَخِفْتُ عَلَيْهَا، فَحَمَلْتُهَا مَعِي، فَضَاعَتْ، أَأُضَمَّنُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: تَسْتَوْدِعُهَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَلاَ تُعَرِّضُهَا لِلتَّلَفِ .
وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ السَّفَرَ لاَ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ إِذَا أُودِعَتْ فِي الْبَلَدِ، فَضَمِنَهَا كَمَا لَوْ تَرَكَهَا بِمَوْضِعِ خَرَابٍ، لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَحْفَظَ فِي مِثْلِهِ. وَلأِنَّ رَبَّهَا إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي حِفْظِهَا فِي الْبَلَدِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي إِخْرَاجِهَا عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي حِفْظِهَا تَحْتَ يَدِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي إِيدَاعِهَا لِغَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ مَتَى أَوْدَعَهَا لِغَيْرِهِ ضَمِنَ بِتَعَدِّيهِ، لِخُرُوجِهِ فِي حِفْظِهَا عَنِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَافَرَ بِهَا .
الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، إِنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا لِمَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ إِلَى الْحَاكِمِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَمِينٍ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا. وَذَلِكَ لأِنَّ مَقْصُودَ الْمُودِعِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ فِي الْمِصْرِ مَحْفُوظًا، يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، فَإِذَا سَافَرَ الْوَدِيعُ بِهِ، فَاتَ عَلَى صَاحِبِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ.
وَلأِنَّ حِرْزَ السَّفَرِ دُونَ حِرْزِ الْحَضَرِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الإْيدَاعَ يَقْتَضِي الْحِفْظَ فِي الْحِرْزِ، وَلَيْسَ السَّفَرُ مِنْ مَوَاضِعِ الْحِفْظِ، لأِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَوِّفًا أَوْ آمِنًا لاَ يُوثَقُ بِأَمْنِهِ، فَلاَ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ.
فَإِنَّ فَقْدَ الْوَدِيعِ مَنْ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ مِنْ هَؤُلاَءِ، فَيَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِهَا فِي طَرِيقٍ آمِنٍ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَتْ، وَذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ الْوَدِيعُ مَعَ عُذْرِهِ عَنْ مَصَالِحِهِ، وَيَنْفِرُ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ نَحْوِ حَرِيقٍ أَوْ إِغَارَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ السَّفَرُ بِهَا حِينَئِذٍ، لأِنَّهُ أَحْوَطُ وَأَحْفَظُ .
الرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِهَا، مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا، إِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا مِنَ السَّفَرِ، أَوْ كَانَ أَحْفَظَ لَهَا مِنْ إِبْقَائِهَا، وَلَمْ يَنْهَهُ صَاحِبُهَا عَنْهُ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ فَعَلَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إِلَى السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لأِنَّهُ نَقَلَهَا إِلَى مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ نَقَلَهَا فِي الْبَلَدِ، وَلأِنَّهُ سَافَرَ بِهَا سَفَرًا غَيْرَ مُخَوِّفٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَتْرُكُهَا عِنْدَهُ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ السَّفَرُ أَحْفَظَ لَهَا مِنْ إِبْقَائِهَا، أَوِ اسْتَوَى الأْمْرَانِ ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ. وَكَذَا إِذَا نَهَاهُ رَبُّهَا عَنِ السَّفَرِ بِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، كَجَلاَءِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوْ هُجُومِ عَدُوٍّ، أَوْ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا سَافَرَ بِهَا وَتَلِفَتْ، لأِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. فَإِنْ تَرَكَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَلِفَتْ، فَيَضْمَنُ؛ لِتَرْكِهِ الأْصْلَحَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ مَتَى سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَالِكِهَا أَوْ نَائِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ مُفَرِّطٌ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لأِنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَى صَاحِبِهَا إِمْكَانَ اسْتِرْجَاعِهَا، وَيُخَاطِرُ بِهَا. وَلاَ يَلْزَمُ مِنَ الإْذْنِ فِي إِمْسَاكِهَا عَلَى وَجْهٍ لاَ يَتَضَمَّنُ هَذَا الْخَطَرَ، وَلاَ يُفَوِّتُ إِمْكَانَ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا الإْذْنُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَعَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ وَوَكِيلِهِ، فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا إِذَا كَانَ أَحْفَظَ لَهَا، لأِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، فَيَخْتَارُ فِعْلَ مَا فِيهِ الْحَظُّ .
التِّجَارَةُ بِالْوَدِيعَةِ:
50 - الاِتِّجَارُ بِالْوَدِيعَةِ مَكْرُوهٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِاعْتِبَارِهِ تَجَاوُزًا لِلْحَقِّ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ رَبُّهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنَ النُّقُودِ والْمِثْلِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْعَرُوضِ والْقِيمِيَّاتِ. وَرَجَّحَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ حُرْمَتَهُ فِي الْمَالَيْنِ، وَفَصَّلَ الْبَعْضُ الآْخَرُ فَقَالَ بِحُرْمَتِهِ فِي الْعَرُوضِ وَكَرَاهَتِهِ فِي النُّقُودِ .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الاِتِّجَارَ بِالْوَدِيعَةِ بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا تَعَدٍّ يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الضَّمَانَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلاَفٌ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ النَّاتِجَ عَنِ اتِّجَارِ الْوَدِيعِ، وَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الأْوَّلُ: أَنَّ الرِّبْحَ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، لأِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الأْصُولِ وَالْقَوَاعِدِ أَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، فَيَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ لَهُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَنَافِعٍ مَوْلاَهُ، وَأَبِي قِلاَبَةَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .
الثَّانِي: أَنَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَلأِنَّ الْوَدِيعَ عِنْدَ الْبَيْعِ يُخْبِرُ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ فِي التِّجَارَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ «قَيْسِ بْنِ أَبِي غُرْزَةَ الْكِنَانِيِّ، قَالَ:«كُنَّا نَبْتَاعُ الأْوْسَاقَ بِالْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ، قَالَ: فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ، وَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِمَّا كُنَّا نُسَمِّي بِهِ أَنْفُسَنَا فَقَالَ: يَا مَعْشَر التُّجَّارِ، إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ، فَشَوِّبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» .
فَعَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ فِي إِيجَابِ التَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ .
الرَّابِعُ: أَنَّ الرِّبْحَ لِلْوَدِيعِ، إِذْ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِهِ وَجُهْدِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِضَمَانِهِ، لأِنَّ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ وَقْتَ الاِتِّجَارِ بِهَا مِنْهُ، وَلأِنَّهُ لاَ يَكُونُ أَسْوَأَ حَالاً مِنَ الْغَاصِبِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا اتَّجَرَ بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ فَرَبِحَ فَهُوَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ لَهُ الرِّبْحُ فَالْوَدِيعُ أَوْلَى، وَلأِنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَدْفَعِ الْمَالَ إِلَيْهِ بِغَرَضِ طَلَبِ الْفَضْلِ وَالرِّبْحِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَصْلُ مَالِهِ دُونَ الرِّبْحِ.
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَيَحْيَى الأْنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .
غَيْرَ أَنَّ الإْمَامَ أَبَا يُوسُفَ قَيَّدَ اسْتِحْقَاقَهُ الرِّبْحَ بِرَدِّهِ الْوَدِيعَةَ أَوْ أَدَائِهِ الضَّمَانَ لِلْمُودِعِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَطِيبُ لِلْوَدِيعِ الرِّبْحُ إِذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ سَلَّمَ عَيْنَهَا، بِأَنْ بَاعَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، وَدَفَعَهَا إِلَى مَالِكِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ إِذَا رَدَّ رَأْسَ الْمَالِ كَمَا هُوَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ قَلِيلٌ وَلاَ كَثِيرٌ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ .
الْخَامِسُ: أَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بَيْنَ الْوَدِيعِ وَالْمُودِعِ عَلَى قَدْرِ النَّفْعَيْنِ، بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَيَقْتَسِمَانِهِ بَيْنَهُمَا كَالْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَبِهِ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. إِلاَّ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعُدْوَانِ، مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَالُ نَفْسِهِ، فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَهُنَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بِلاَ رَيْبٍ .
التَّصَرُّفُ فِي الْوَدِيعَةِ:
55 - الْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْوَدِيعَةِ هُنَا كُلُّ ارْتِبَاطٍ عَقْدِيٍّ يُنْشِئُهُ الْوَدِيعُ، وَيَكُونُ مَحَلُّهُ الْوَدِيعَةَ، مِثْلَ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَإِعَارَتِهَا وَإِيدَاعِهَا وَرَهْنِهَا وَإِقْرَاضِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الاِرْتِبَاطُ إِمَّا أَنْ يُجْرِيَهُ الْمُسْتَوْدَعُ بِإِذْنِ الْمُودِعِ، وَبِذَلِكَ يَقَعُ تَصَرُّفُهُ صَحِيحًا مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمَالِكِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، لأِنَّ أَمْرَ الإْنْسَانِ غَيْرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا .
وَإِمَّا أَنْ يُجْرِيَهُ الْوَدِيعُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُودِعِ فَيَكُونَ ضَامِنًا، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (792) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ لَوْ آجَرَهَا أَوْ أَعَارَهَا لآِخَرَ أَوْ رَهَنَهَا، بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا، فَهَلَكَتْ، أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.
وَقَدْ جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخِيَارَ فِي تَضْمِينِ الْوَدِيعِ أَوْ فِي تَضْمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ .
وَعَلَّلُوا عَدَمَ جَوَازِ تَأْجِيرِهَا مِنْ قِبَلِ الْوَدِيعِ لآِخَرَ، بِأَنَّ الإْجَارَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، وَالإْيدَاعَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَلَوْ جَازَ لِلْوَدِيعِ تَأْجِيرُهَا لَصَارَتِ الإْجَارَةُ غَيْرَ لاَزِمَةٍ مَعَ أَنَّهَا لاَزِمَةٌ.
وَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا أَيْضًا، لأِنَّ الْوَدِيعَ غَيْرُ مَالِكٍ لِمَنَافِعِ الْوَدِيعَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الإْعَارَةُ تَمْلِيكًا لِلْمَنَافِعِ، فَلَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَرْءُ شَيْئًا لاَ يَمْلِكُهُ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهَا عِنْدَ آخَرَ، لأِنَّ الرَّهْنَ إِيفَاءٌ حُكْمًا، وَلَيْسَ لِشَخْصٍ أَنْ يَفِيَ دَيْنَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ بِلاَ أَمْرِ صَاحِبِهِ، بِالإْضَافَةِ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ، وَالْوَدِيعَةُ لَيْسَتْ عَقْدًا لاَزِمًا. كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْوَدِيعَةَ أَوْ يَهَبَهَا لآِخَرَ بِلاَ إِذْنٍ وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، لأِنَّ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ لاَ تَنْفُذَانِ بِدُونِ رِضَا مَالِكِهَا .
56 - وَلَوْ آجَرَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ تَعَدِّيًا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهَا، أَمْ أَنَّهَا تَكُونُ لِمَالِكِهَا؟
لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ:
الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأْجْرَةَ تَكُونُ لِلْوَدِيعِ بِمُقَابَلَةِ ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ، كَمَا يَسْتَحِقُّ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ بِمُقَابَلَةِ ضَمَانِهِ . قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَلَوْ أَكْرَى - أَيِ الْوَدِيعُ - الإْبِلَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَخَذَ الْكِرَاءَ، كَانَ الْكِرَاءُ لَهُ، لأِنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَلَيْسَتِ الْغَلَّةُ كَالْوَلَدِ وَلاَ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ، فَإِنَّ ذَاكَ يَتَوَلَّدُ مِنَ الأْصْلِ، فَيَمْلِكُ بِمِلْكِ الأْصْلِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنَ الأْصْلِ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ، فَيَكُونُ لِلْعَاقِدِ . وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ إِنْ لَمْ تَتْلَفِ الْوَدِيعَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا وَيَأْخُذَ أُجْرَتَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا لِلْوَدِيعِ، وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا، وَلاَ شَيْءَ لَهُ مِنْ أُجْرَتِهَا. فَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَوْدَعَنِي إِبِلاً، فَأَكْرَيْتُهَا إِلَى مَكَّةَ، أَيَكُونُ لِرَبِّهَا مِنَ الْكِرَاءِ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟
قَالَ: كُلُّ مَا كَانَ أَصْلُهُ أَمَانَةً، فَأَكْرَاهُ، فَرَبُّهُ مُخَيَّرٌ إِنْ سُلِّمَتِ الإْبِلُ وَرَجَعَتْ بِحَالِهَا فِي أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَهَا، وَيَأْخُذَ الإْبِلَ، وَفِي أَنْ يَتْرُكَهَا لَهُ، وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا، وَلاَ شَيْءَ لَهُ مِنَ الْكِرَاءِ إِذَا كَانَ قَدْ حَبَسَهَا عَنْ أَسْوَاقِهَا وَمَنَافِعُهُ بِهَا، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعَارَهُ رَجُلٌ دَابَّةً أَوْ أَكْرَاهُ دَابَّةً إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَتَعَدَّى عَلَيْهَا، لأِنَّ أَصْلَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ بِتَعَدِّيهِ فِيهِ .
57 - وَلَوْ بَاعَهَا الْوَدِيعُ بِدُونِ إِذْنِ مَالِكِهَا، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ فُضُولِيًّا بِبَيْعِهِ، وَيَتَوَقَّفُ بَيْعُهُ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِهَا، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَّذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمُودِعُ إِذَا بَاعَ الْوَدِيعَةَ وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمُشْتَرِي، وَضَمِنَ الْمَالِكُ الْمُودِعَ، نَفَذَ بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا بَاعَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ، وَهِيَ عَرْضٌ، فَرَبُّهَا مُخَيَّرٌ فِي أَخْذِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ أَوْ فِي أَخْذِ الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَدِّي، هَذَا إِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي أَخْذِهَا، أَوِ الثَّمَنِ الَّذِي بِيعَتْ بِهِ . قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عِنْدَ الْفَوَاتِ يَجِبُ لَهُ الأْكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الْقِيمَةِ. وَمَحَلُّ تَخْيِيرِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فِي الإْجَازَةِ وَالرَّدِّ: مَا لَمْ يَحْضُرْ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْ يَبْلُغْهُ الْبَيْعُ، وَيَسْكُتُ مُدَّةً، بِحَيْثُ يُعَدُّ رَاضِيًا، وَإِلاَّ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَأَخْذُ مَا بِيعَتْ بِهِ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا .
وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْوَدِيعُ شَيْئًا بِالْوَدِيعَةِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الإْشْرَافِ: إِذَا تَعَدَّى الرَّجُلُ فِي وَدِيعَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ، فَاشْتَرَى مِنْ عَيْنِ الْمَالِ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلْبَائِعِ: قَدِ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِينَارٍ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لأِنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا بِمَالٍ لاَ يَمْلِكُهُ، فَإِنْ بَاعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ وَرَبِحَ فِيهَا مِئَةً، فَإِنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ، لأِنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُهُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى لَيْسَ بِعَيْنِ الْمَالِ، بِأَنْ كَانَ يَشْتَرِي السِّلَعَ، ثُمَّ يَزِنُ مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ، فَالشِّرَاءُ ثَابِتٌ، وَالْمَالُ - أَيِ الثَّمَنُ - فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلسِّلَعِ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ، وَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فِيهَا فَلَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ نُقْصَانٍ فَعَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الدَّنَانِيرِ الَّتِي أَتْلَفَ لِصَاحِبِهَا .
58 - وَإِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنَ النُّقُودِ أَوِ الْمِثْلِيَّاتِ الأْخْرَى ، فَأَقْرَضَهَا الْوَدِيعُ تَعَدِّيًا، وَلَمْ يُجِزْ مَالِكُهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْوَدِيعِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ . وَبِنَاءً عَلَيْهِ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (793) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: وَإِذَا أَقْرَضَ الْمُسْتَوْدَعُ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ لآِخَرَ بِلاَ إِذْنٍ، وَلَمْ يُجِزْ صَاحِبُهَا، ضَمِنَهَا الْمُسْتَوْدَعُ.
وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمُودِعِ دَيْنٌ، فَقَضَى الْوَدِيعُ دَيْنَهُ مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَدَّاهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْوَدِيعَةِ .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ بِذَلِكَ .
جُحُودُ الْوَدِيعَةِ:
59 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ إِذَا طَلَبَهَا مِنَ الْوَدِيعِ، فَجَحَدَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا أَوْ أَقَامَ الْمُودِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا، فَيَصِيرُ الْوَدِيعُ بِجُحُودِهِ خَائِنًا ضَامِنًا، لِخُرُوجِهِ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ أَمِينًا، فَتَنْقَلِبُ يَدُهُ إِلَى يَدِ غَاصِبٍ .
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لأِنَّهُ بِجَحْدِهِ خَرَجَ عَنِ الاِسْتِئْمَانِ فِيهَا، فَلَمْ يَزَلْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالإْقْرَارِ بِهَا، لأِنَّ يَدَهُ صَارَتْ يَدَ عُدْوَانٍ . وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ، فَقَدْ عَزَلَهُ عَنِ الْحِفْظِ، وَالْمُودِعُ لَمَّا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ، فَقَدْ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْحِفْظِ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، فَبَقِيَ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِتَضْمِينِهِ سَبْعَةَ شُرُوطٍ:
الأْوَّلُ: أَنْ يُنْكِرَ الْوَدِيعُ أَصْلَ الإْيدَاعِ، لأِنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَنَّ الْمَالِكَ وَهَبَهَا مِنْهُ أَوْ بَاعَهَا لَهُ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُهَا ذَلِكَ، ثُمَّ هَلَكَتْ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ.
الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الإْنْكَارُ بِحَضْرَةِ مَالِكِهَا، لأِنَّ جُحُودَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ مَعْدُودٌ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عُرْفًا وَعَادَةً، لأِنَّ مَبْنَى الإْيدَاعِ عَلَى السَّتْرِ وَالإْخْفَاءِ، فَكَانَ الْجُحُودُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ حِفْظًا مَعْنًى، فَلاَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ جُحُودُهَا بَعْدَ أَنْ طَلَبَ مَالِكُهَا أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ رَدَّهَا، لأِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: مَا حَالُ وَدِيعَتِي عِنْدَكَ؟ لِيَشْكُرَهُ عَلَى حِفْظِهَا، فَجَحَدَهَا الْوَدِيعُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَنْقُلَهَا الْوَدِيعُ مِنْ مَكَانِهَا زَمَنَ الْجُحُودِ، لأِنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ مَكَانِهَا حَالَ إِنْكَارِهِ، فَهَلَكَتْ، لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ مَنْقُولاً. لأِنَّ هَا لَوْ كَانَتْ عَقَارًا، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهَا بِالْجُحُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قِيَاسًا عَلَى الْغَصْبِ، لِعَدَمِ تَصَوُّرِ غَصْبِ الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا، خِلاَفًا لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الأْصَحِّ ، لأِنَّ الْغَصْبَ يَجْرِي فِيهِ عِنْدَهُ، فَلَوْ جَحَدَهُ كَانَ ضَامِنًا.
السَّادِسُ أَنْ لاَ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهَا مِنْهُ. لأِنَّهُ لَوْ جَحَدَهَا فِي وَجْهِ عَدُوٍّ يَخَافُ عَلَيْهَا التَّلَفَ إِنْ أَقَرَّ أَمَامَهُ، ثُمَّ هَلَكَتْ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهَا، لأِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ حِفْظَهَا لِمَالِكِهَا لاَ تَضْيِيعَهَا عَلَيْهِ.
السَّابِعُ: أَنْ لاَ يَحْضُرَهَا الْوَدِيعُ بَعْدَ جَحْدِهَا، لأِنَّهُ لَوْ جَحَدَهَا، ثُمَّ أَحْضَرَهَا، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهَا: دَعْهَا وَدِيعَةً عِنْدَكَ. فَهَلَكَتْ، فَإِنْ أَمْكَنَ صَاحِبَهَا أَخْذُهَا، فَلَمْ يَأْخُذْهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، لأِنَّهُ إِيدَاعٌ جَدِيدٌ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهَا، ضَمِنَ، لأِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الرَّدُّ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَصْلِ تَضْمِينِهِ مَا لَوْ قَالَ الْوَدِيعُ: لاَ وَدِيعَةَ لأِحَدٍ عِنْدِي. إِمَّا ابْتِدَاءً، وَإِمَّا جَوَابًا عَلَى سُؤَالِ غَيْرِ الْمَالِكِ، فَقَالُوا: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، سَوَاءٌ جَرَى ذَلِكَ فِي حَضْرَةِ الْمَالِكِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ، لأِنَّ إِخْفَاءَهَا أَبَلَغُ فِي حِفْظِهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا طَلَبَهَا الْمَالِكُ فَجَحَدَهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَائِنًا ضَامِنًا.
فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا الْمَالِكُ، بَلْ قَالَ: لِي عِنْدَكَ وَدِيعَةٌ، فَسَكَتَ الْوَدِيعُ، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ يَضْمَنْ أَيْضًا عَلَى الأْصَحِّ ، لأِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْهَا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِي الإِْخْفَاءِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، كَأَنْ يُرِيدَ بِهِ زِيَادَةَ الْحِفْظِ، بِخِلاَفِ مَا بَعْدَ الطَّلَبِ. نَعَمْ، إِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ لَهُ غَرَضًا صَحِيحًا، كَمَا لَوْ طَلَبَهَا مِنْهُ صَاحِبُهَا بِحَضْرَةِ ظَالِمٍ خَشِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَجَحَدَهَا دَفْعًا لِلظَّالِمِ، لَمْ يَضْمَنْ، لأِنَّهُ مُحْسِنٌ بِالْجَحْدِ حِينَئِذٍ .
وَالأْصْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وَدِيعَةً ادُّعِيَتْ عِنْدَهُ، أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِالأْصْلِ، وَالأْصْلُ أَنَّهُ لَمْ يُودِعْهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.
فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالإْيدَاعِ، أَوِ اعْتَرَفَ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، طُولِبَ بِهَا .
60 - وَفِي ضَمَانِ الْوَدِيعِ بَعْدَ الْجُحُودِ، إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ أَوْ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، خِلاَفٌ لِلْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٌ هَذَا بَيَانُهُ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الإْيدَاعِ بَعْدَمَا جَحَدَ الْوَدِيعُ، وَأَقَامَ الْوَدِيعُ بَيِّنَةً عَلَى الْهَلاَكِ، فَيَنْظُرُ:
فَإِنْ جَحَدَ الْوَدِيعُ أَصْلَ الإْيدَاعِ، بِأَنْ قَالَ لِلْمُودِعِ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا. فَالْوَدِيعُ ضَامِنٌ، وَبَيِّنَتُهُ عَلَى الْهَلاَكِ بَعْدَ الْجُحُودِ مَرْدُودَةٌ إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّهَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ، لأِنَّهُ صَارَ بِالْجُحُودِ ضَامِنًا، وَهَلاَكُ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الضَّامِنِ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ. وَكَذَا إِذَا شَهِدُوا عَلَى أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ جُحُودِهِ، لأِنَّ الْبَيِّنَةَ لاَ تُقْبَلُ إِلاَّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي كَلاَمِهِ، فَجُحُودُهُ أَصْلُ الإْيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلاَكِ قَبْلَهُ، فَلِهَذَا لاَ تُقَبَلُ بَيِّنَتُهُ إِلاَّ أَنْ يُقِرَّ الْمُودِعُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، لأِنَّ الإْقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلأِنَّ الْمُنَاقِضَ إِذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ، كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ .
وَإِنْ جَحَدَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ، بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ. ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ أَوْ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ بِبَيِّنَتِهِ، لأِنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ، فَدَخَلَتِ الْعَيْنُ فِي ضَمَانِهِ، وَالْهَلاَكُ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَرِّرُ الضَّمَانَ، لاَ أَنَّهُ يُسْقِطُهُ.
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ قَبْلَ الْجُحُودِ، تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الْهَلاَكَ قَبْلَ الْجُحُودِ، لِمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَقَدْ ظَهَرَ انْتِهَاءُ الْعَقْدِ قَبْلَ الْجُحُودِ، فَلاَ يَرْتَفِعُ بِالْجُحُودِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، فَلاَ يَضْمَنُ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَنْكَرَ الْوَدِيعُ أَصْلَ الإْيدَاعِ عِنْدَ طَلَبِ الْوَدِيعَةِ، فَشَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِهِ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَدِّهَا، فَفِي قَبُولِ بَيِّنَتِهِ بِالرَّدِّ خِلاَفٌ مَشْهُورٌ.
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: هُوَ ضَامِنٌ بِالْجُحُودِ، وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلاَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِالرَّدِّ، لأِنَّهُ أَكْذَبَهَا بِدَعْوَاهُ عَدَمَ الاِسْتِيدَاعِ.
وَقِيلَ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ. لأِنَّهُ يَقُولُ أَرْدْتُ بِالْجُحُودِ أَلاَّ أَتَكَلَّفَ بَيِّنَةً.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُنْكِرْ أَصْلَ الإْيدَاعِ، بَلْ قَالَ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ. فَالْبَيِّنَةُ بِالْبَرَاءَةِ تَنْفَعُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْوَدِيعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ تَلَفَهَا قَبْلَ الْجُحُودِ أَوْ بَعْدَهُ، نُظِرَ فِي صِيغَةِ جُحُودِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الإْيدَاعِ لَمْ تَقْبَلْ دَعْوَاهُ الرَّدَّ لِتَنَاقُضِ كَلاَمِهِ وَظُهُورِ خِيَانَتِهِ، وَأَمَّا فِي دَعْوَى التَّلَفِ فَيُصَدَّقُ لَكِنَّهُ كَالْغَاضِبِ فَيَضْمَنُ، وَهَلْ يَتَّمَكَنُّ مِنْ تَحْلِيفِ الْمَالِكِ وَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لاِحْتِمَالٍ أَنَّهُ نَسِيَ فَصَارَ كَمَنِ ادَّعَى وَقَالَ لاَ بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ فَتُسْمَعُ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالرَّدِّ أَوِ الْهَلاَكِ قَبْلَ الْجُحُودِ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ قَامَتْ بِالْهَلاَكِ بَعْدَ الْجُحُودِ ضَمِنَ لِخِيَانَتِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ جُحُودِهِ: لاَ يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، أَوْ مَا لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ أَوْ شَيْءٌ، صَدَقَ فِي دَعْوَى الرَّدِّ وَالتَّلَفِ؛ لأِنَّ هَا لاَ تُنَاقِضُ كَلاَمَهُ الأْوَّلَ.
فَإِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ بَاقِيًا يَوْمَ الْجُحُودِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الرَّدِّ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَإِنِ ادَّعَى الْهَلاَكَ فَكَالْغَاصِبِ إِذَا ادَّعَاهُ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَيَضْمَنُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَنْكَرَ وَدِيعٌ أَصْلَ الإْيدَاعِ، فَقَالَ: لَمْ تُودِعْنِي. ثُمَّ أَقَرَّ بِالإْيدَاعِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَادَّعَى رَدَّا أَوْ تَلَفًا سَابِقَيْنِ لِجُحُودِهِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ، لأِنَّهُ صَارَ ضَامِنًا بِجُحُودِهِ، مُعْتَرِفًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ الْمُنَافِي لِلأْمَانَةِ. وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، فَلاَ تُسْمَعُ، لِتَكْذِيبِهِ لَهَا بِجُحُودِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ بَعْدَ جُحُودِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِالْوَدِيعَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَجَحَدَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا يَوْمَ السَّبْتَ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ رَدَّهَا أَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ يَوْمَ الأْرْبِعَاءِ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَتَهُ، قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ بِهِمَا، لأِنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِمُكَذِّبٍ لَهَا. فَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَتُهُ بِرَدٍّ أَوْ تَلَفٍ بَعْدَ جُحُودِ الإْيدَاعِ، وَلَمْ تُعَيَّنْ هَلْ ذَلِكَ التَّلَفُ أَوِ الرَّدُّ قَبْلَ جُحُودِهِ أَوْ بَعْدَهُ؟ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، لأِنَّ وُجُوبَهُ مُتَحَقِّقٌ، لاَ يَنْتَفِي بِأَمْرٍ مُتَرَدَّدٍ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِوَدِيعَةٍ لِمُدَّعِيهَا: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، أَوْ: لاَ تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالإْيدَاعِ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْوَدِيعُ، ثُمَّ ادَّعَى تَلَفًا أَوْ رَدًّا، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِجَوَابِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوْدَعَهُ، ثُمَّ تَلِفَتْ عِنْدَهُ بِلاَ تَفْرِيطٍ، أَوْ رَدَّهَا، فَلاَ يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ. وَلاَ تُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى وُقُوعِ الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ بَعْدَ جُحُودِهِ، لاِسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ بِالْجُحُودِ، فَيُشْبِهُ الْغَاصِبَ. قَالَ الْبُهُوتِيُّ: قُلْتُ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةٌ .
نَقْلُ الْوَدِيعَةِ:
63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِ الْوَدِيعِ بِنَقْلِ الْوَدِيعَةِ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى أُخْرَى أَوْ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى وَنَحْوَ ذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَ الْمَالِكُ مَوْضِعَ الإْحْرَازِ، فَلَمْ يُعَيِّنْ مَكَانًا لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا نَقَلَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ ضَمِنَ، لِتَعَدِّيهِ بِذَلِكَ أَمَّا إِذَا نَقَلَهَا مِنْ مَنْزِلٍ لآِخَرَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ . وَقَدْ جَاءَ فِي التَّاجِ وَالإْكْلِيلِ: عَنْ أَشْهَبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ: مَنْ أَوْدَعَ جِرَارًا فِيهَا إِدَامٌ، أَوْ قَوَارِيرَ فِيهَا دُهْنٌ، فَنَقَلَهَا مِنْ مَوْضِعٍ فِي بَيْتِهِ إِلَى مَوْضِعٍ، فَانْكَسَرَتْ فِي مَوْضِعِهَا ذَلِكَ، لَمْ يَضْمَنْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَقَلَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ - مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ - مِنْ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى دُونَهَا فِي الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ حِرْزَ مِثْلِهَا، ضَمِنَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ سَوَاءٌ أَنَهَاهُ عَنِ الْفِعْلِ أَمْ عَيَّنَ لَهُ تِلْكَ الْمَحَلَّةَ أَمْ أَطْلَقَ، لأِنَّهُ عَرَّضَهَا لِلتَّلَفِ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ أُتْلِفَتْ بِسَبَبِ النَّقْلِ أَمْ لاَ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُونَهَا فِيهِ، بِأَنْ كَانَتْ مِثْلَهَا فِيهِ أَوْ أَحْرَزَ مِنْهَا، فَلاَ يَضْمَنُ.
وَلَوْ نَقَلَهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الأْوَّلُ أُحْرِزَ، إِلاَّ أَنْ يَنْقُلَهَا بِنِيَّةِ التَّعَدِّي.
وَكَذَا لاَ يَضْمَنُ إِذَا نَقَلَهَا مِنْ حِرْزٍ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ فَوْقِهِ، وَلَوْ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، لاَ سَفَرَ بَيْنَهُمَا وَلاَ خَوْفَ، إِذْ لاَ يَتَفَاوَتُ الْغَرَضُ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اكْتَرَى أَرْضًا لَزَرَعَ حِنْطَةً، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ مَا ضَرَرُهُ مِثْلُ ضَرَرِهَا وَدُونَهُ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الأْمِّ لِلشَّافِعِيِّ: وَلَوِ اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا فِي قَرْيَةٍ آهِلَةٍ، فَانْتَقَلَ إِلَى قَرْيَةٍ غَيْرِ آهِلَةٍ، أَوْ فِي عِمْرَانٍ مِنَ الْقَرْيَةِ، فَانْتَقَلَ إِلَى خَرَابٍ مِنَ الْقَرْيَةِ، وَهَلَكَتْ، ضَمِنَ فِي الْحَالَيْنِ.
وَلَوِ اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا فِي خَرَابٍ، فَانْتَقَلَ إِلَى عِمَارَةٍ، أَوْ فِي مُخَوِّفٍ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَوْضِعٍ آمِنٍ، لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، لأِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَوْضِعَ إِحْرَازِهَا، فَإِنَّ الْوَدِيعَ يَحْفَظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ. فَإِنْ وَضَعَهَا فِي حِرْزٍ، ثُمَّ نَقَلَهَا عَنْهُ إِلَى حِرْزِ مِثْلِهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إِلَى مِثْلِ الأْوَّلِ أَوْ دُونَهُ، لأِنَّ رَبَّهَا رَدَّ حِفْظَهَا إِلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَأُذِنَ لَهُ فِي إِحْرَازِهَا بِمَا شَاءَ مِنْ إِحْرَازِ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ .
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِذِ الأْصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الأْمْرَ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ إِذَا صَدَرَ مِنْ صَاحِبِهَا مُطْلَقًا عَنْ تَعْيِينِ الْمَكَانِ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ .
(ن) - تَجْهِيلُ الْوَدِيعَةِ:
64 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَدِيعَ إِذَا مَاتَ، وَوُجِدَتِ الْوَدِيعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فِي تَرِكَتِهِ، فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَارِثِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا لِمَالِكِهَا، لأِنَّ هَا عَيْنُ مَالِهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا .
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْوَدِيعُ مُجَهِّلاً حَالَ الْوَدِيعَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، وَلَمْ تُعَرِّفْهَا الْوَرَثَةُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِالتَّجْهِيلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأِنَّهُ مَنْعٌ لِلْوَدِيعَةِ عَنْ رَبِّهَا ظُلْمًا. وَعَلَى ذَلِكَ تَصِيرُ دَيْنًا وَاجِبَ الأْدَاءِ مِنْ تَرِكَتِهِ كَبَاقِي الدُّيُونِ، وَيُشَارِكُ الْمُودِعُ سَائِرَ غُرَمَاءِ الْوَدِيعِ فِيهَا .
وَقَدْ عَلَّلَ الْحَنَابِلَةُ تَضْمِينَهُ بِأَنَّ الْوَدِيعَةَ يَجِبُ رَدُّهَا لِصَاحِبِهَا، إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ سُقُوطُ الرَّدِّ بِالتَّلَفِ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّي الْوَدِيعِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ.
وَعَلَّلَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُجَهِّلاً لِلْوَدِيعَةِ، فَقَدْ أَتْلَفَهَا مَعْنًى، لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ بِالتَّجْهِيلِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الإْتْلاَفِ .
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الأْمِينَ إِذَا مَاتَ مُجَهِّلاً لِلأْمَانَةِ، فَالأْمَانَةُ تَصِيرُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا، لأِنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ صَارَ مُتَمَلِّكًا لَهَا، فَإِنَّ الْيَدَ الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِهَا، كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ، حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي لِلْوَارِثِ بِهَا، وَالْوَدِيعُ بِالتَّمَلُّكِ يَصِيرُ ضَامِنًا. وَلأِنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ مُسَلِّطًا غُرَمَاءَهُ وَوَرَثَتَهُ عَلَى أَخْذِهَا، وَالْوَدِيعُ بِمِثْلِ هَذَا التَّسْلِيطِ يَصِيرُ ضَامِنًا،كَمَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَتِهَا، وَلأِنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ الأْمَانَةِ، وَمِنْ أَدَاءِ الأْمَانَةِ بَيَانُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَرَدُّهَا عَلَى الْمَالِكِ إِذَا طَلَبَ، فَكَمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ الرَّدِّ بَعْدَ الطَّلَبِ، يَضْمَنُ أَيْضًا بِتَرْكِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ .
وَقَدْ شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي التَّجْهِيلِ الْمُفْضِي لِلضَّمَانِ شَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: عَدَمُ بَيَانِ الْوَدِيعِ حَالَ الْوَدِيعَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ مَعْرِفَةِ الْوَارِثِ بِالْوَدِيعَةِ. وَلِذَا قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ: وَالْوَدِيعُ إِنَّمَا يَضْمَنُ بِالتَّجْهِيلِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْوَارِثُ الْوَدِيعَةَ. أَمَّا إِذَا عَرَفَ الْوَارِثُ الْوَدِيعَةَ، وَالْوَدِيعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ، وَمَاتَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ، لَمْ يَضْمَنْ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، فَلَمْ يَذْكُرُوا تَجْهِيلَ الْوَدِيعَةِ ضِمْنَ مُوجِبَاتِ ضَمَانِهَا، وَذَكَرُوا نَحْوَهُ مُوجِبًا آخَرَ سَمَّوْهُ «تَرْكَ الإْيصَاءِ بِالْوَدِيعَةِ».
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَاتَ الْوَدِيعُ، وَعِنْدَهُ وَدَائِعُ لَمْ تُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، وَلَمْ يُوصِ بِهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، أَيْ يُؤْخَذُ عِوَضُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهَا لَوْ ضَاعَتْ فِي يَدِهِ لَتَحَدَّثَ بِهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَسَلَّفَهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً هَلَكَ بِبَلَدِ، وَقِبَلَهُ قَرْضُ دَنَانِيرَ وَقِرَاضٌ وَوَدَائِعُ، فَلَمْ يُوجَدْ لِلْوَدَائِعِ وَلاَ لِلْقِرَاضِ سَبَبٌ، وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَهْلُ الْقِرَاضِ وَأَهْلُ الْوَدَائِعِ وَالْقَرْضِ يَتَحَاصُّونَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ .
قَالُوا: وَذَلِكَ مَا لَمْ تَتَقَادَمْ كَعَشْرِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ الإْيدَاعِ، إِذْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، لأِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ رَدَّهَا لِرَبِّهَا. وَقَدْ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَدِيعَةُ ثَابِتَةً بِإِشْهَادٍ مَقْصُودٍ بِهِ التَّوَثُّقُ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ عِنْدَ الإْيدَاعِ مَقْصُودَةً لِلتَّوَثُّقِ، أَوْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِهَا بَعْدَ إِنْكَارِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِطُولِ الزَّمَانِ.
أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهَا. فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَخَذَهَا رَبُّهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا مَرِضَ الْوَدِيعُ مَرَضًا مُخَوِّفًا، أَوْ حُبِسَ لِلْقَتْلِ لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْوَدِيعَةِ، فَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا ضَمِنَ لأِنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ، إِذِ الْوَارِثُ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْيَدِ وَيَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَصِيَّةِ الإْعْلاَمُ وَالأْمْرُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَصِيَّةِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْجِزَ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَحِينَئِذٍ يُودِعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ يُوصِي إِلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَيُودِعُ عِنْدَ أَمِينٍ أَوْ يُوصِي إِلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ إِلَى أَمِينٍ، فَإِذَا أَوْصَى إِلَى فَاسِقٍ كَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ فَيَضْمَنُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ الْوَدِيعَةَ وَيُمَيِّزَهَا عَنْ غَيْرِهَا بِإِشَارَةٍ إِلَيْهَا أَوْ بِبَيَانِ جِنْسِهَا وَصِفَتِهَا، فَلَوْ قَالَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ. هَذَا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الإْيدَاعِ أَوِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بِأَنْ قُتِلَ غِيلَةً أَوْ مَاتَ فَجْأَةً فَلاَ ضَمَانَ .
وَمَحَلُّ وُجُوبِ الإْيصَاءِ عَلَى الْوَدِيعِ وَلُزُومُ الضَّمَانِ بِتَرْكِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا. أَمَّا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى الْوَدِيعَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَالْوَصِيَّةِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِتَرْكِهِ .
نِيَّةُ التَّعَدِّي عَلَى الْوَدِيعَةِ:
66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا نَوَى الْوَدِيعُ التَّعَدِّيَ عَلَى الْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَهُ بِالْجُحُودِ أَوِ الاِسْتِعْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، فَهَلْ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالنِّيَّةِ لَوْ تَلِفَتْ بِدُونِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، أَمْ لاَ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ التَّعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأِمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ - أَوْ حَدَّثَتْ - بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ، أَوْ تَكَلَّمْ» . وَالْوَدِيعُ هُنَا لَمْ يَخُنْ فِيهَا بِقَوْلٍ وَلاَ فِعْلٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَالَّذِي لَمْ يَنْوِ. وَمِثْلُهُ كَمَنْ نَوَى أَنْ يَغْصِبَ مَالَ إِنْسَانٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِنِيَّةِ التَّعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وَذَلِكَ لِنِيَّتِهِ الْخِيَانَةَ، فَيَضْمَنُهَا، كَالْمُلْتَقِطِ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ .
انْتِهَاءُ عَقْدِ الإْيدَاعِ
67 - عَقْدُ الإْيدَاعِ جَائِزٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الطَّرَفِ الآْخَرِ أَوْ قَبُولِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَتَى أَرَادَ الْمُودِعُ اسْتِرْدَادَ وَدِيعَتِهِ، لَزِمَ الْوَدِيعُ رَدَّهَا إِلَيْهِ، لِعُمُومِ قوله تعالي : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) .
وَمَتَى أَرَادَ الْوَدِيعُ رَدَّهَا لِصَاحِبِهَا لَزِمَهُ قَبُولُهَا، لأِنَّ الْوَدِيعَ مُتَبَرِّعٌ بِإِمْسَاكِهَا وَحِفْظِهَا لِمَالِكِهَا، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْفِقْرَةِ 9
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَدِيعُ مُتَبَرِّعًا بِالْحِفْظِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْوَدِيعَةِ بِأَجْرٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى لُزُومِ عَقْدِ الإْيدَاعِ حِينَئِذٍ، لِصَيْرُورَتِهِ إِجَارَةً عَلَى الْحِفْظِ، وَاعْتِبَارِ الْوَدِيعِ فِيهِ أَجِيرًا، وَبِذَلِكَ لاَ يَكُونُ لأِحَدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَنْ يَفْسَخَهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ، كَسَائِرِ الإْجَارَاتِ .
68 - أَمَّا انْفِسَاخُ عَقْدِ الإْيدَاعِ، بِمَعْنَى حَلِّ رَابِطَةِ الْعَقْدِ لِطُرُوءِ سَبَبٍ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ وَاسْتِمْرَارَهُ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَهُ سَبْعَةَ أَسْبَابٍ:
أَحَدُهَا: مَوْتُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ (الْمُودِعِ أَوِ الْوَدِيعِ):
أَمَّا الْمُودِعُ، فَلأِنَّ مِلْكِيَّةَ الْمَالِ الْمُودَعِ انْتَقَلَتْ بِمَوْتِهِ إِلَى وَرَثَتِهِ أَوْ دَائِنِيهِ.
وَأَمَّا الْوَدِيعُ، فَلأِنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلْحِفْظِ قَدْ زَالَتْ بِمَوْتِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَكَالَةِ .
وَعَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ تُوُفِّيَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ، لَزِمَ الْوَدِيعَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ، أَدَاءً لِحَقِّ الأْمَانَةِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَارَ ضَامِنًا لَهَا. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَضْمِينِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا قَبْلَ طَلَبِهَا. وَعَلَيْهِ: فَإِذَا مَاتَ الْمُودِعُ، فَلَمْ يَرُدَّهَا الْوَدِيعُ إِلَى الْوَرَثَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ، فَهَلَكَتْ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا مَاتَ الْمُودِعُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَطَلَبَهَا الْوَرَثَةُ، فَلَمْ يَرُدَّهَا، لاَ يَضْمَنُ .
وَأَسَاسُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُودِعَ إِذَا مَاتَ، فَتُرَدُّ وَدِيعَتُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ مَا لَمْ تَكُنِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرِقَةً بِالدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ، فَلاَ تُسَلَّمُ لِلْوَارِثِ إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ. وَإِنْ سَلَّمَهَا الْوَدِيعُ إِلَى الْوَارِثِ بِلاَ إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَهَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ، فَعَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ رَدُّهَا حَالاً إِلَى الْوَرَثَةِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ، ضَمِنَ عَلَى الأْصَحِّ . فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْوَرَثَةَ، رَدَّ إِلَى الْحَاكِمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَيَّدَ فِي الْعُدَّةِ هَذَا الْجَوَابَ بِمَا إِذَا لَمْ تَعْلَمِ الْوَرَثَةُ بِالْوَدِيعَةِ، فَأَمَّا إِذَا عَلِمُوا، فَلاَ يَجِبُ الرَّدُّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ بَعْدَ طَلَبِهِمْ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ رَدُّهَا حَالاً دُونَ طَلَبِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا تَلِفَتْ بَعْدَهُ، فَفِي تَضْمِينِهِ وَجْهَانِ .
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْوَدِيعُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ تَكُونُ أَمَانَةً مَحْضَةً فِي يَدِ وَرَثَتِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا لِمَالِكِهَا .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (801) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا مَاتَ الْمُسْتَوْدِعُ، وَوُجِدَتِ الْوَدِيعَةُ عَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ وَارِثِهِ، فَيَرُدُّهَا لِصَاحِبِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا مَاتَ الْمُودِعُ، فَعَلَى وَارِثِهِ رَدُّهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ ضَمِنَ عَلَى الأْصَحِّ . فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ غَائِبًا، سَلَّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ مَاتَ، وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِعَيْنِهَا، فَعَلَى وَرَثَتِهِ تَمْكِينُ صَاحِبِهَا مِنْ أَخْذِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ إِعْلاَمُهُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِمْسَاكُهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا رَبُّهَا، لأِنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا حَصَّلَ مَالَ غَيْرِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطَارَتِ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ ثَوْبًا، وَعَلِمَ بِهِ، فَعَلَيْهِ إِعْلاَمُ صَاحِبِهِ بِهِ. فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مَعَ الإْمْكَانِ ضَمِنَ، كَذَا هَاهُنَا .
وَالثَّانِي: زَوَالُ أَهْلِيَّةِ أَحَدِهِمَا لِلتَّصَرُّفِ بِجُنُونٍ وَنَحْوِهِ كَإِغْمَاءٍ مِنْ غَيْرِ إِفَاقَةٍ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْوَكَالَةِ.
أَمَّا الْوَدِيعُ، فَلأِنَّهُ لَمْ يَعُدْ أَهْلاً لِلْحِفْظِ.
وَأَمَّا الْمُودِعُ، فَلأِنَّهُ لَمْ يَعُدْ وَلِيَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَلِي غَيْرُهُ مَالَهُ وَشُئُونَهُ. وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَكَالَةِ .
وَالثَّالِثُ: عَزْلُ الْوَدِيعِ نَفْسَهُ، أَوْ عَزْلُ الْمُودِعِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ: فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ انْفَسَخَ عَقْدُ الإْيدَاعِ، وَتَكُونُ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً، لَهَا حُكْمُ الأْمَانَاتِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْمُبَادَرَةِ لِرَدِّهَا إِلَى أَهْلِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَكَالَةِ .
وَالرَّابِعُ: نَقْلُ الْمَالِكِ مِلْكِيَّةَ الْوَدِيعَةِ لِغَيْرِ الْوَدِيعِ: كَمَا لَوْ بَاعَهَا لآِخَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، حَيْثُ تَرْتَفِعُ الْوَدِيعَةُ وَيَنْتَهِي حُكْمُهَا.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ . قَالَ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: وَفَائِدَةُ الاِرْتِفَاعِ أَنَّهَا تَصِيرُ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً، فَعَلَيْهِ الرَّدُّ لِمَالِكِهَا أَوْ وَلِيِّهِ إِنْ عَرَفَهُ، أَيْ إِعْلاَمُهُ بِهَا أَوْ بِمَحَلِّهَا فَوْرًا عِنْدَ التَّمَكُّنِ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ، كَضَالَّةٍ وَجَدَهَا وَعَرَفَ مَالِكَهَا. فَإِنْ غَابَ رَدَّهَا لِلْحَاكِمِ، وَإِلاَّ ضَمِنَ .
وَالْخَامِسُ: إِقْرَارُ الْوَدِيعِ بِالْوَدِيعَةِ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا: لأِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي حِفْظَهَا لِلْمَالِكِ، فَيَنْفَسِخُ عَقْدُ الإْيدَاعِ ضَرُورَةً، لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ، وَتَصِيرُ مَضْمُونَةً بِيَدِهِ لِتَعَدِّيهِ بِذَلِكَ الإْقْرَارِ .
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ .
وَالسَّادِسُ: تَعَدِّي الْوَدِيعِ أَوْ تَفْرِيطُهُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ: سَوَاءٌ بِالإْنْفَاقِ أَوْ بِالاِسْتِعْمَالِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، حَيْثُ يَزُولُ بِذَلِكَ الاِئْتِمَانُ، وَتَنْقَلِبُ يَدُ الْوَدِيعِ إِلَى يَدِ ضَمَانٍ، وَيَنْفَسِخُ عَقْدُ الإْيدَاعِ.
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْحِفْظُ - قَدْ زَالَ وَانْعَدَمَ بِالتَّعَدِّي. وَخَالَفَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَذْهَبُوا لاِرْتِفَاعِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ بِالتَّعَدِّي، وَقَالُوا: إِنَّ الْوَدِيعَ إِذَا تَعَدَّى، فَخَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ بِتَرْكِ الْخِلاَفِ، وَمُعَاوَدَةِ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ، بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ. لأِنَّ سَبَبَ ضَمَانِهِ إِنَّمَا هُوَ إِعْجَازُ الْمَالِكِ عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِالْوَدِيعَةِ، وَضَرَرُ الإْعْجَازِ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُؤَاخَذَ بِالضَّمَانِ عِنْدَ الْهَلاَكِ .
وَالسَّابِعُ: جُحُودُ الْوَدِيعَةِ: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ وَانْتِهَائِهِ بِالْجَحُودِ الْمُضَمِّنِ لَهَا . لأِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ، فَقَدْ عَزَلَهُ عَنِ الْحِفْظِ، وَالْوَدِيعَ لَمَّا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ، فَقَدْ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْحِفْظِ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، فَبَقِيَ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ، تَقَرَّرَ الضَّمَانُ .
الْخُصُومَةُ بِالْوَدِيعَةِ:
69 - إِذَا غُصِبَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ يَدِ الْوَدِيعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّهِ بِأَنْ يُخَاصِمَ فِيهَا مَنْ غَصَبَهَا لاِسْتِرْجَاعِهَا أَوْ لِتَضْمِينِهِ بَدَلَهَا إِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَدِيعِ مُخَاصَمَةَ الْغَاصِبِ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ الْمَالِ الْمُودَعِ وَذَلِكَ لأِنَّ لِلْوَدِيعِ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ أَزَالَهَا الْغَاصِبُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِهِ لإِعَادَةِ الْيَدِ الَّتِي أَزَالَهَا بِالْغَصْبِ. وَلأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ، وَلاَ يَتَأَتَّى لَهُ الْحِفْظُ إِلاَّ بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ مِنَ الْغَاصِبِ، أَوِ اسْتِرْدَادِ قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلاَكِ الْعَيْنِ، لِيَحْفَظَ مَالِيَّتَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ دَلاَلَةً.
وَفِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِفْظِ، لأِنَّ الْغَاصِبَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْوَدِيعَ لاَ يُخَاصِمُهُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودِعِ، تَجَاسَرَ عَلَى أَخْذِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْوَدِيعُ فِيهِ خَصْمًا .
فَلَهُ حَقُّ الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةِ بِالْوَدِيعَةِ إِذْ غُصِبَتْ.
ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَمَا أَنَّ لِلْوَدِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ الْغَاصِبَ بِالْوَدِيعَةِ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ سَارِقَهَا وَمُتْلِفَهَا وَمُلْتَقِطَهَا إِذَا ضَاعَتْ مِنْهُ .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَدِيعِ بِأَنْ يُخَاصِمَ بِالْوَدِيعَةِ، لأِنَّ الْمَالَ الْمُودَعَ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يُخَاصِمُ لاِسْتِرْدَادِهِ أَوْ بَدَلِهِ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ، وَالْوَدِيعُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ، فَلاَ يُخَاصِمُ فِي الاِسْتِرْدَادِ، كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الإْيدَاعَ اسْتِحْفَاظٌ وَائْتِمَانٌ، فَلاَ يَتَضَمَّنُ الْخُصُومَةَ .
تَعَدُّدُ الْوَدِيعِ:
70 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُمْكِنُ إِيدَاعُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا تَعَدَّدَ الْوَدِيعُ بِأَنْ كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَدِيعَةُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ - يَعْنِي أَنَّ تَقْسِيمَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَلْبَتَّةَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَيَوَانًا، أَوْ كَانَ تَقْسِيمُهَا مُمْكِنًا، وَلَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عِنْدَ تَقْسِيمِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ ثَوْبًا - فَيَحْفَظُهَا أَحَدُهُمْ بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، أَوْ يَحْفَظُونَهَا مُنَاوَبَةً، أَيْ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، لأِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا أَوْدَعَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى حِفْظِهَا دَائِمًا، كَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الاِنْفِرَادِ فِي الْكُلِّ. وَبِهَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ: إِذَا هَلَكَتِ الْوَدِيعَةُ بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَقْصِيرٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. أَمَّا إِذَا هَلَكَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، فَيَضْمَنُ الْمُتَعَدِّي أَوِ الْمُقَصِّرُ وَحْدَهُ، وَلاَ يَلْزَمُ شَيْءٌ عَلَى الآْخَرِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ - كَالْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي لاَ تَتَعَيَّبُ بِالتَّقْسِيمِ - فَيُقَسِّمُهَا الْمُسْتَوْدَعُونَ بَيْنَهُمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَحْفَظُ حِصَّتَهُ مِنْهَا. لأِنَّ الْوَدِيعَ إِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْحِفْظَ بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعِينَ - مَثَلاً - لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا جَمِيعَ أَشْغَالِهِمْ وَيَجْتَمِعُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ، وَالْمَالِكُ لَمَّا أَوْدَعَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَدِيعَةً تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقِسْمَتِهَا، وَحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِجُزْءٍ مِنْهَا دَلاَلَةً.
وَبِهَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ لأِحَدِ هِمْ أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ لِوَدِيعٍ آخَرَ بِدُونِ إِذْنِ الْمُودِعِ، لأِنَّ الْمَالِكَ عِنْدَمَا أَوْدَعَ الْمَالَ الْقَابِلَ لِلْقِسْمَةِ لأَِشْخَاصٍ مُتَعَدِّدِينَ، فَقَدْ رَضِيَ بِثُبُوتِ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ، إِذْ رِضَاهُ بِحِفْظِ الاِثْنَيْنِ - مَثَلاً - لاَ يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِحِفْظِ الْوَاحِدِ. وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ لآِخَرَ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِ الآْخَرِ، بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، بَلْ يَلْزَمُ الَّذِي سَلَّمَهُ إِيَّاهَا ضَمَانُ حِصَّتِهِ مِنْهَا. أَيْ لاَ يَلْزَمُ الضَّمَانُ لِلْوَدِيعِ الآْخَرِ الَّذِي تَسَلَّمَ الْوَدِيعَةَ.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَيْهِ جَرَتْ مَجَلَّةُ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَفِظُ كُلِّ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ الآْخَرِ، لأِنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ لِلآْخَرِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَوْدَعَ شَخْصٌ اثْنَيْنِ وَغَابَ، فَتَنَازَعَا فِيمَنْ تَكُونُ بِيَدِهِ، جُعِلَتْ بِيَدِ الأْعْدَلِ مِنْهُمَا، فَإِنْ حَصَلَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ، كَانَ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ. وَيُحْتَمَلُ مِنَ الآْخَرِ أَيْضًا، لِكَوْنِهِ مُودَعًا أَيْضًا مِنْ رَبِّهَا. فَإِنْ تَسَاوَيَا عَدَالَةً، جُعِلَتْ بِأَيْدِيهِمَا .
الاِخْتِلاَفُ فِي الْوَدِيعَةِ:
لِلاِخْتِلاَفِ فِي الْوَدِيعَةِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
الصُّورَةُ الأْولَى: الاِخْتِلاَفُ فِي أَصْلِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ:
71 - إِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ آخَرَ مَالاً، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الآْخَرُ: أَمَرْتَنِي أَنْ أُنْفِقَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ أَدْفَعَهُ لِفُلاَنٍ، وَأَنْكَرَ الْمُودِعُ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْوَدِيعِ الْبَيِّنَةُ بِمَا ادَّعَى، لأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ الإْذْنِ لَهُ بِذَلِكَ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَوْدَعَنِي رَجُلٌ وَدِيعَةً، فَجَاءَ يَطْلُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى فُلاَنٍ، وَقَدْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: مَا أَمَرْتُكَ بِذَلِكَ. قَالَ: هُوَ ضَامِنٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِنِ ادَّعَى الْوَدِيعُ أَنَّهُ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ عَلَى عِيَالِ الْمُودِعِ بِأَمْرِهِ، وَصَدَّقَهُ عِيَالُهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: لَمْ آمُرْكَ بِذَلِكَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ، لأِنَّ الْوَدِيعَ بَاشَرَ سَبَبَ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ الإْنْفَاقُ ، وَادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ، وَهُوَ إِذْنُ الْمَالِكِ، فَلاَ يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ لإِنْكَارِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ يَهَبَهَا لِفُلاَنٍ .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَدِيعِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَذَلِكَ لأِنَّهُ ادَّعَى دَفْعًا يَبْرَأُ بِهِ مِمَّنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى رَدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا، وَلاَ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ غَيْرُ الْيَمِينِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الاِخْتِلاَفُ فِي صِفَةِ الْمَقْبُوضِ:
72 - إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً، وَعَلَى الْوَدِيعِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أُخْرَى قَرْضًا لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا، ثُمَّ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَقَالَ الْوَدِيعُ: هَذِهِ الأْلْفُ الَّتِي قَضَيْتُكَ هِيَ الْقَرْضُ. وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ فَقَدْ تَلِفَتْ. وَقَالَ الْمُودِعُ: إِنَّمَا قَبَضْتُ مِنْكَ الْوَدِيعَةَ، وَالْقَرْضُ عَلَى حَالِهِ. فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَدِيعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا . قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لأِنَّهُ هُوَ الدَّافِعُ لِلأْلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عَنْ أَيِّ جِهَةٍ دَفَعَهُ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ عَنْ جِهَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَبَرِئَ بِهِ، وَبَقِيَتِ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهَلاَكِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى أَخْبَرَ بِهَلاَكِ الْوَدِيعَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ أَدَاءُ الأْلْفِ بَدَلَ الْقَرْضِ فَكَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ بِهَلاَكِ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الأْلْفِ وَفِي الْمُحِيطِ: بِأَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الأْلْفِ الْمَرْدُودِ، لأِنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْمَالِكِ، أَيُّ شَيْءٍ كَانَ.
وَإِنَّمَا اخْتِلاَفُهُمَا فِي الأْلْفِ الْهَالِكِ، فَالْمَالِكُ يَدَّعِي فِيهِ الأْخْذَ قَرْضًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدَّعِي الأْخْذَ وَدِيعَةً، وَفِي هَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْوَدِيعَةِ .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الاِخْتِلاَفُ فِي مِلْكِيَّةِ الْوَدِيعَةِ:
73 - إِذَا تَنَازَعَ الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً، فَجَاءَهُ رَجُلاَنِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ الْوَدِيعُ: أَوْدَعَهَا أَحَدُكُمَا، وَلَسْتُ أَدْرِي أَيَّكُمَا هُوَ؟ فَهَذَا فِي الأْصْلِ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَصْطَلِحَ الْمُتَدَاعِيَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الأْلْفَ، وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا. وَإِمَّا أَنْ لاَ يَصْطَلِحَا، وَيَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الأْلْفَ لَهُ خَاصَّةً، لاَ لِصَاحِبِهِ.
فَإِنِ اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ، فَلَهُمَا ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْوَدِيعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الأْلْفِ إِلَيْهِمَا، لأِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الأْلْفَ لأِحَدِهِمَا . وَإِذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا، لاَ يَمْنَعَانِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَا الْوَدِيعَ بَعْدَ الصُّلْحِ.
وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا، وَادَّعَى أَنْ يُنَكِّلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الأْلْفَ لَهُ، لاَ يَدْفَعُ لأِحَدِهِمَا شَيْئًا، لِجَهَالَةِ الْمُقِرِّ لَهُ بِالْوَدِيعَةِ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْوَدِيعَ، فَإِنِ اسْتَحْلَفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالأْمْرُ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ لأِحَدِهِمَا وَيُنَكِّلَ لِلآْخَرِ.
فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا، فَقَدِ انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا لِلْحَالِ إِلَى وَقْتِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، كَمَا فِي سَائِرِ الأْحْكَامِ .
وَإِنْ نَكَّلَ لَهُمَا، يَقْضِي بِالأْلْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَضْمَنُ أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا، فَيَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ، لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ الأْلْفِ لَهُ، فَإِذَا نَكَّلَ لَهُ، وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إِقْرَارٌ، فَكَأَنَّهُ بَذَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، أَوْ أَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا بِأَلْفٍ، وَيَضْمَنُ أَيْضًا أَلْفًا أُخْرَى تَكُونُ بَيْنَهُمَا، لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ.
وَلَوْ حَلَفَ لأِحَدِهِمَا ، وَنَكَّلَ لِلآْخَرِ، قُضِيَ بِالأْلْفِ لِلَّذِي نَكَّلَ لَهُ، وَلاَ شَيْءَ لِلَّذِي حَلَفَ لَهُ، لأِنَّ النُّكُولَ حُجَّةُ مَنْ نَكَّلَ لَهُ، لاَ حُجَّةُ مَنْ حَلَفَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَنَازَعَ الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ، فَيَنْظُرُ: إِنْ صَدَّقَ الْوَدِيعُ أَحَدَهُمَا، فَلِلآْخَرِ تَحْلِيفُهُ. فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَى الآْخَرِ. وَإِنْ نَكَّلَ حَلَفَ الآْخَرُ، وَغَرِمَ لَهُ الْقِيمَةَ.
وَقِيلَ: تُوقَفُ الْوَدِيعَةُ بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يَصْطَلِحَا.
وَقِيلَ: تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمَا.
وَإِنْ صَدَّقَهُمَا، فَالْيَدُ لَهُمَا، وَالْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا قُضِيَ لَهُ، وَلاَ خُصُومَةَ لِلآْخَرِ مَعَ الْوَدِيعِ لِنُكُولِهِ. وَإِنْ نَكَّلاَ أَوْ حَلَفَا، جُعِلَ بَيْنَهُمَا، وَحُكْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ الآْخَرِ كَالْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُقِرِّ لَهُ.
وَإِنْ قَالَ: هِيَ لأِحَدِ كُمَا وَأَنْسَيْتُهُ. فَإِنْ كَذَّبَاهُ فِي النِّسْيَانِ ضَمِنَ - كَالْغَاصِبِ - لِتَقْصِيرِهِ بِنِسْيَانِهِ. وَإِنْ صَدَّقَاهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ قَالَ: هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدِي، وَلاَ أَدْرِي أَهُوَ لَكُمَا أَوْ لأِحَدِ كُمَا أَمْ لِغَيْرِكُمَا. حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ إِنِ ادَّعَيَاهُ، وَتَرَكَ فِي يَدِهِ لِمَنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِهِ، وَلَيْسَ لأِحَدِهِمَا تَحْلِيفُ الآْخَرِ، لأِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدٌ وَلاَ اسْتِحْقَاقٌ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ادَّعَى الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ، فَأَقَرَّ الْوَدِيعُ لأِحَدِهِمَا بِهَا، فَهِيَ لَهُ بِيَمِينِهِ، لأِنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْوَدِيعِ، وَقَدْ نَقَلَهَا إِلَى الْمُدَّعِي، فَصَارَتِ الْيَدُ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْيَدُ لَهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ.
وَيَحْلِفُ الْوَدِيعُ لِلآْخَرِ الَّذِي أَنْكَرَهُ، لأِنَّهُ مُنْكِرٌ لِدَعْوَاهُ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَّلَ لَزِمَهُ بَدَلُهَا، لأِنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا، فَهِيَ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمَا وَتَدَاعَيَاهَا، وَيَحْلِفُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا عَلَى نِصْفِهَا.
فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، لَزِمَهُ عِوَضُهَا فَيَقْتَسِمَانِهِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ. وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لأِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، لَزِمَهُ لِمَنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُ عِوَضُ نِصْفِهَا، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَلِفُ لِصَاحِبِهِ، لأِنَّهُ مُنْكِرٌ لِدَعْوَاهُ.
وَإِنْ قَالَ الْوَدِيعُ: هِيَ لأِحَدِ كُمَا وَلاَ أَعْرِفُ صَاحِبَهَا مِنْكُمَا. فَإِنْ صَدَّقَاهُ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا أَوْ سَكَتَا عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ، فَلاَ يَمِينَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ لاَ اخْتِلاَفَ، وَتُسَلَّمُ لأِحَدِهِمَا بِقُرْعَةٍ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَذَّبَاهُ فَقَالَ: بَلْ تَعْرِفُ أَيُّنَا صَاحِبُهَا. حَلَفَ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُهُ، لأِنَّهُ مُنْكِرٌ، وَكَذَا إِذَا كَذَّبَهُ أَحَدُهُمَا.
فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَأُلْزِمَ تَعْيِينَ صَاحِبِهَا، فَإِنْ أَبَى التَّعْيِينَ أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ عِوَضِهَا - الْمِثْلَ إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً وَالْقِيمَةَ إِنْ كَانَتْ قِيمِيَّةً فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَدَلُ وَالْعَيْنُ، فَيَقْتَرِعَانِ عَلَيْهِمَا أَوْ يَتَّفِقَانِ.
وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَتَيْنِ، أَيْ حَالَةِ مَا إِذَا صَدَّقَاهُ أَوْ كَذَّبَاهُ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ أَنَّهَا لَهُ، لاِحْتِمَالِ عَدَمِهِ، وَأَخَذَهَا بِمُقْتَضَى الْقُرْعَةِ .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرُوا فَيمَنْ بِيَدِهِ وَدِيعَةٌ، فَأَتَى رَجُلاَنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَدْرِي الْوَدِيعُ لِمَنْ هِيَ مِنْهُمَا؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: تَكُونُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا، فَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمَا فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَهِيَ كُلُّهَا لِمَنْ حَلَفَ . قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: فَلَوْ نَكَلاَ، قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ حَلَفَا .
وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ نَقْلاً عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَسْتَوْدِعُ الرَّجُلَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ يَأْتِي هُوَ وَآخَرُ، فَيَدَّعِيَانِهَا جَمِيعًا، وَيَنْسَى هُوَ مَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ مِنْهُمَا. فَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَحْلِفَانِ جَمِيعًا، وَيَقْتَسِمَانِهَا بَيْنَهُمَا، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنِسْيَانِهِ .
أَمَّا إِذَا قَالَ الْوَدِيعُ: لَيْسَتِ الْوَدِيعَةُ لأِحَدِكُمَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ حَلِفِهِمَا .
__________________________________________________________________
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
(مادة 181)
يشترط لصحة عقود الضمانات ووجوب حفظ الودائع والأمانات والالتزام بأداء الدين المحال به في المداينات أن يكون كل من الضامن والمستودع والملتزم بوفاء الدين المحال به عليه عاقلاً بالغاً غير محجور عليه ولا يشترط العقل والبلوغ في صاحب الدين المضمون أو المحال به ولا في صاحب الوديعة إلا إذا باشر كل منهما العقد بنفسه وهو غير عاقل أو عاقل غير مأذون فإنه لا ينعقد في الأول ولا ينفذ في الثاني إلا إذا أجازه الولي أو الوصي.
( مادة ۷۰۰)
الإيداع هو تسليط المالك غيره على حفظ ماله صراحة أودلالة والوديعة هي المال المودع عند أمين لحفظه.
( مادة ۷۰۱)
يشترط لصحة الابداع کون المال المودع قابلا لاثبات اليد عليه.
( مادة ۷۰۲)
انما يتم الإبداع في حق وجوب الحفظ بالإيجاب والقبول صريعا مع تسليم العين للستودع تسليماحقيقياأوحکميابات يضعها بين يديه أو بالاعجاب والقبول دلالة بان يضع العین بین یدی آخر ولم يقل شيئا وسكت الآخر عند وضعه فإنه يجب عليه حفظها.
( مادة ۷۰۳)
اذا كانت الوديعة موضوعة في صندوق مغلق أو في مظروف مختوم واستلها المستودع صح استلامها وإن لم يدر ما فيها.
وان ادعى صاحبها عند ردها إليه نقصان شيء منها فلا يجب على المستودع اليمين إلا أن يدعى المودع عليه الخيانة.
( مادة ۷۱۳)
يجوز للمستودع السفر بالوديعة براً وان كان لها حمل ما لم ينهه صاحبها عن السفر بها أو يعين مكان حفظها نصاً أو يكن الطريق مخوفاً.
( مادة 714)
إذا نهي صاحب الوديعة المستودع عن السفر بها أو عين له مكان حفظها فالف أو لم ينهه وكان الطريق مخوفا وسار بها سفرا له منه بد فهلكت فعليه الضمان
وإن كان السفر ضروريا بدله منه وسافر بالوديعة بنفسه دون عياله ان كانت له عيال فعليه ضمان هلاكها وان اغربها بنفسه وعياله أو بنفسه وليس له عيال وهلكت فلا ضمان عليه.