loading
المذكرة الإيضاحية

1- إذا كانت الوديعة بغير أجر وجب على المودع عنده أن يبذل من العناية في حفظ الشيء ما يبذله في حفظ ماله، دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتاد. 

2- أما إذا كانت الوديعة بأجر فيجب أن يبذل في حفظ الوديعة عناية الرجل المعتاد.

الأحكام

1- إنتهاء الحكم إلى أن إلتزام الشركة الطاعنة بحفظ الجبن المودع لديها فى ثلاجتها من الإلتزامات الجوهرية وأنه إلتزام ببذل عناية هى عناية الشخص العادى لأن الشركة مأجورة على هذا الإلتزام مؤداه أنه كيف العقد بأنه عقد وديعة مأجورة متفقاً فى ذلك مع عبارات العقد ودون أن تجادل الطاعنة فى هذا التكييف ، لما كان ذلك وكان مقتضى عقد الوديعة أن يلتزم المودع لديه - أساساً- بالمحافظة على الشىء المودع لديه وأن يبذل فى سبيل ذلك - إذا كان مأجوراً - عناية الشخص العادى - ويعتبر عدم تنفيذه لهذا الإلتزام خطأ فى حد ذاته يرتب مسئوليته التى لا يدرأها عنها إلا أن يثت السبب الأجنبى الذى تنتفى به علاقة السببية وكان الخبير المنتدب بعد أن عاين الثلاجة والجبن المخزون فيها وإطلع على دفاتر الثلاجة المعدة لإثبات درجات الحرارة وأطرحها لعدم سلامتها ولعدم مطابقتها الواقع ورجح من واقع فحصه للجبن المخزون ومعاينته الثلاجة من الداخل - أن تلف الجبن يرجع إلى الإرتفاع الكبير والمتكرر فى درجات الحرارة -إستناداً إلى ما لاحظه من تكثف الماء على سطح الجبن والأجولة التى تحتويه ومن تراب الجبن المبلل على أرضية الثلاجة ، وإذ إطمأنت محكمة الموضوع إلى تقرير الخبير فى هذا الشأن  لسلامة أسسه وإستخلصت منه فى حدود سلطتها التقديرية أن الشركة الطاعنة لم تبذل العناية الواجب إقتضاؤها من مثلها فى حفظ الجبن المودع لديها مما أدى إلى تلفه ورتبت على ذلك مسئولياتها عن هذا التلف - فإنها لا تكون ملزمة بعد ذلك ، بالرد إستقلالاً على الطعون التى وجهتها الشركة الطاعنة إلى ذلك التقرير لأن فى أخذها به محمولاً على أسبابه السائغة ما يفيد أنها لم تجد فى تلك الطعون ما يستحق الرد عليها بأكثر مما تضمنه التقرير .

(الطعن رقم 661 لسنة 49 جلسة 1984/02/06 س 35 ع 1 ص 389 ق 77)

2- إن مصلحة الجمارك إذ تتسلم البضائع المستوردة وإذ تستبقيها تحت يدها حتى يوفى المستورد الرسوم المقررة لاتضع اليد على هذه البضائع كمودع لديه متبرع بخدماته لمصلحة المودع بل تحتفظ بها بناء على الحق المخول لها بالقانون ابتغاء تحقيق مصلحة خاصة بها وهى وفاء الرسوم المستحقة ، ومن ثم فانه فى حالة فقد البضائع لا يجوز لها التحدى بأحكام عقد الوديعة و بأن مسئوليتها لا تعدو مسئولية المودع لديه بلا أجر و ذلك لانتفاء قيام هذا العقد الذى لا يقوم إلا إذا كان القصد من تسليم الشىء أساسا هو المحافظة عليه ورده للمودع عند طلبه ، فاذا كانت المحافظة على الشىء متفرعة عن أصل آخر كما هو الشأن فى الرهن الحيازى انتفى القول بوجوب تطبيق أحكام الوديعة .

(الطعن رقم 48 لسنة 22 جلسة 1955/12/08 س 6 ع 4 ص 1545 ق 212)

شرح خبراء القانون

تنص المادة 720 من التقنين المدني ما يأتي :

" 1- إذا كانت الوديعة بغير أجر، وجب على المودع عنده أن يبذل من العناية فى حفظ الشئ ما يبذله في حفظ ماله، دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتاد" .

" 2- أما إذا كانت الوديعة بأجر، فيجب أن يبذل في حفظ الوديعة عناية الرجل المعتاد".

ونرى من ذلك أن القانون قد ميز هنا، كما ميز في الوكالة، بين ما إذا كانت الوديعة بغير أجر أو كانت بأجر، فإن كانت بغير أجر تكون في مصلحة المودع دون المودع عنده، ويكون المودع عنده غير مسئول إلا عن العناية التي يبذلها في حفظ ماله الخاص إذا كانت هذه العناية هي دون عناية الشخص المعتاد، لم يكون مسئولاً إلا عن عناية الشخص المعتاد . فمعيار العناية المطلوبة منه يكون تارة معياراً شخصياً إذا كان مسئولاً عن عنايته الشخصية، ويكون تارة أخرى معياراً موضوعياً إذا كان مسئولاً عن عناية الشخص المعتاد . والسبب في ذلك هو نفس السبب الذي قدمناه في الوكالة، فالمودع عنده غير مأجور فيكون متفضلاً، ومن ثم لا يجوز أن يكون مسئولاً عن أكثر من عناية الشخص المعتاد، كما لا يجوز أن يكون مسئولاً عن أكثر من عنايته الشخصية، فلا يكون مسئولاً إذا غلا عن أدنى العنايتين، أما إذا كانت الوديعة بأجر، فإنه يجب على المودع عنده أن يبذل في حفظ الوديعة عناية الشخص المعتاد، أي أن المعيار هنا يكون موضوعياً لا شخصياً، فإذا لم يبذل هذه العناية، حتى لو اثبت أن العناية الأقل التي بذلها فعلاً هي العناية التي يبذلها في حفظ مال نفسه، كان مع ذلك مسئولاً، لأنه ملزم ببذل عناية الشخص المعتاد ولو كانت هذه العناية تزيد على عنايته الشخصية، أما إذا بذل عناية الشخص المعتاد، فإنه يكون قد نفذ التزامه، حتى لو نزلت هذه العناية بمعيارها الموضوعي عن عنايته هو بمعيارها الشخصي، وقد قدمنا مثل ذلك في الوكالة المأجورة.

عدم مسئولية المودع عنده عن السبب الأجنبي : ولا يكون المودع عنه، ولو كان مأجوراً، مسئولاً عن السبب الأجنبي، حتى لو ثبت أنه لم يبذل العناية المطلوبة . وذلك أن السبب الأجنبي ينفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر، فيكون الضرر منسوباً إلى سبب أجنبي لا إلى خطأ المودع عنده، ومن ثم لا يكون هذا مسئولاً وعبء إثبات السبب الأجنبي يقع على المودع عنده، مأجوراً كان أو غير مأجور، إذ هو لا يستطيع أن يتخلص من المسئولية إلا إذا أثبت أنه بذل العناية المطلوبة، أو أثبت السبب الأجنبي وقد نص تقنين الموجبات والعقود اللبناني على هذه الأحكام، وأن كان لم يحمل المودع عنده عبء الإثبات إلا إذا كان مأجوراً أو كان لم يقبل الوديعة إلا بمقتضى مهنته أو وظيفته، فقضت المادة 714 من هذا التقنين بأنه " لا يكون الوديع مسئولاً عن هلاك الوديعة أو عن تعيبها إذا نجم : 1- عن ماهية الشئ المودع أو عن وجود عيب فيه أو من فعل المودع . 2- عن قوة قاهرة، ما لم يكن في حالة التأخر عن رد الوديعة . أما إقامة البرهان على وجود الأحوال المبينة في الفقرتين ( 1 ) و ( 2 ) المتقدم ذكرهما فهي على الوديع إذا كان يتناول أجراً أو يقبل الودائع بمقتضى مهنته أو وظيفته" .

الإتفاق على تعديل قواعد المسئولية :

وما قدمناه من القواعد في مسئولية المودع عنده عن حفظ الشئ لا يتعلق بالنظام العام، فيجوز الاتفاق على ما يخالفه، وكان المشرع التمهيدي للمادة 720 مدني ينص على ذلك صراحة، في حذف النص في لجنة المراجعة لعدم الحاجة إليه استغناء عنه بالقواعد العامة .

ومن ثم يجوز الاتفاق على تشديد مسئولية المودع عنده، كما يجوز الاتفاق على تخفيفها أو على الإعفاء منها .

مثل تشديد مسئولية المودع عنده أن يشترط المودع مسئوليته عن عناية الشخص المعتاد حتى لو كان غير مأجور، أو أن يشترط مسئوليته إذا كان مأجوراً عن السبب الأجنبي.

ومثل تخفيف مسئولية المودع عنده أن يشترط هذا وهو مأجور عدم مسئوليته إلا عن عنايته الشخصية، أو ألا يكون مسئولاً عن التعويض إلا في حدود مبلغ معين ولو زاد الضرر على هذا المبلغ .

وإعفاء المودع عنده من المسئولية يكون بأن يشترط عن المودع ألا يكون مسئولاً عن خطأه . ويصح هذا الشرط حتى لو كانت الوديعة مأجوراً" . لأن الإعفاء من المسئولية عن الخطأ العقدي جائز ولكن يبقى المودع عنده، بالرغم من شرط الإعفاء مسئولاً عن الغش أو الخطأ الجسيم. (الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : السابع، المجلد : الأول، الصفحة : 911)

يعتبر التزام المودع عنده التزاماً بذل عناية وليس بتحقيق غاية إذ تنتفي مسئوليته متى بذل هذه العناية ولو لم تؤد إلى حفظ الوديعة، وتكون العناية المطلوبة هي عناية الشخص العادي، ومتى كانت الوديعة بأجر، فيلتزم المودع عنده يبذلها حتى لو كانت العناية التي يبذلها في شئونه الخاصة أقل من تلك العناية، أما أن كانت الوديعة بغير أجر فتكون العناية الواجبة في تلك التي يبذلها المودع عنده في شئونه الخاصة ولو كانت أقل من عناية الشخص العادي، ومن ثم فإذا كان الشيء المودع مجوهرات، وكانت الوديعة بأجر، تطلبت عناية الشخص العادي إبداع هذه المجوهرات بمكان آمن مغلق فإن ترکها المودع لديه في دولاب مفتوح فإنه يسأل عن سرقتها، أما أن كانت الوديعة بغير أجر، فلا يسأل المودع عنده عن السرقة إلا إذا كان يضع مثل هذه المجوهرات في مكان آمن مغلق، أما إذا كان الشيء المودع غير ثمين ووضعه المودع عنده في مكان غير مغلق لم يكن مسئولاً عن سرقته إلا إذا ثبت أنه يضع مثل الشئ بمكان مغلق متى كانت الوديعة بغير أجر و تنتفي المسئولية لو كانت الوديعة بأجر لأن الشخص العادي لا يضع مثلها في مكان مغلق.

ويجب على المودع عنده إنفاق المصروفات اللازمة لحفظ الشيء من التلف ثم يرجع بها على المودع، وإذا ضحی المودع بماله في سبيل إنقاذ الشيء المودع رجع على المودع بما لحقه من خسارة وتختلف هذه الحالة عن العارية إذ ورد في شأنها نص خاص وإذا تعدد المودع عندهم فمسئوليتهم عقدية، فلا يكون بينهم تضامن إلا إذا وجد اتفاق على ذلك لخلو القانون من النص عليه.

ولا يكون المودع عنده مسئولاً عن القوة القاهرة، فإذا هلك الشئ بقوة قاهرة لا يكون مسئولاً عن شئ إذ يكون الضرر منسوباً إليها وليس لخطأ المودع عنده مما تنتفي معه علاقة السببية كما لو فقدت الوديعة في اضطرابات أو لأي سبب أجنبي لكن إذا كان المودع عنده آمن على الشيء فيلتزم بدفع مبلغ التأمين للمودع، وإذا أتفق المودع مع المودع لديه على مسئولية الأخير حتی عن القوة القاهرة صح هذا الشرط، كما يكون مسئولاً إذا أعذره المودع برد الوديعة ولم يردها وتلفت بعد الإعذار، وكما يجوز الإتفاق على تشديد مسئولية المودع عنده فإنه يجوز الإتفاق على تخفيفها أو الإعفاء منها كأن يشترط ألا يتجاوز التعويض مبلغ معين أو لا يكون المودع عنده مسئولاً حتى عن خطئه، ولا يصح الإتفاق على الإعفاء من المسئولية عن الغش أو الخطأ الجسيم. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : العاشر، الصفحة : 203)

فالغرض الأساسي من الوديعة هو المحافظة على الشيء المودع، ومن ثم كان طبيعياً أن يكون أهم ما يلتزم به الوديع هو العناية بحفظ الشيء المودع، ويعتبر عقد الوديعة على رأس عقود الحفظ والأمانة.

الإلتزام بحفظ الوديعة التزام ببذل عناية :

تفرق المادة (720) في العناية المطلوبة من الوديع بين ما إذا كانت الوديعة بغير أجر وبين ما إذا كانت الوديعة بأجر. ونعرض لهاتين الحالتين فيما يلي.

(أ) - الوديعة غير المأجورة :

إذا كانت الوديعة غير مأجورة فإنه يجب على الوديع أن يبذل من العناية فى حفظ الشئ ما يبذله في حفظ ماله، دون أن يكلف في ذلك أكثر من عناية الرجل المعتاد.

وقد راعي المشرع في ذلك ألا يثقل أو يتشدد في محاسبة الوديع غير المأجور، لأنه متبرع، فلا يصح أن يلقى من تبرعه هذا عسراً، فتطلب منه بذل العناية التي يبذلها في حفظ ما له، ولو كانت دون عناية الرجل المعتاد. فإذا كانت عنايته في حفظ ماله تفوق عناية الرجل المعتاد، لم يكن مسئولاً إلا عن عناية الشخص المعتاد.

فمعيار العناية المطلوبة منه يكون تارة معياراً شخصياً إذا كان مسئولاً عن عنايته الشخصية، ويكون تارة أخرى معياراً موضوعياً إذا كان مسئولاً عن عناية الشخص المعتاد .

فقد تشدد المشرع في مسئولية الوديع المأجور، وراعى أنه يتقاضى أجراً مقابل حفظه للشيء المودع، فتطلب منه عناية الرجل المعتاد. فالمعيار هنا معيار موضوعي لا شخصي، فإذا كانت عناية الوديع بحفظ ماله الخاص أقل من عناية الرجل المعتاد، فإنه يلتزم ببذل عناية الرجل المعتاد، أما إذا كانت عنايته في حفظ ماله الخاص تزيد على عناية الرجل المعتاد، فإنه لا يطلب منه سوى عناية الرجل المعتاد.

ويلاحظ أنه سواء كانت الوديعة مأجورة أو غير مأجورة فإن إلتزام الوديع يعتبر إلتزاماً بوسيلة، لا إلتزاماً بغاية، فلا يكون ثمة عدم وفاء متى قام الوديع ببذل العناية المطلوبة منه في المحافظة على الشيء حتى لو لم تؤد هذه العناية إلى حفظ الشيء فعلاً.

يكون الوديع مأجوراً أو غير مأجور مسئولاً عما يأتي :

1- إذا وضع المجوهرات المودعة في دولاب غير مغلق فسرقت.

وإذا كان الشيء ليس ثميناً ووضعه الوديع عنده في مكان غير مغلق وكان غير مأجور لم يكن مسئولاً إذا سرق الشيء، ما دام يثبت أنه تعود ذلك في مال نفسه.

2- لا يسأل الوديع ولو كان مأجوراً عن عدم التأمين على الأشياء المودعة، ما لم يجر العرف بذلك. وإذا اضطر أن يحمل الوديعة في سفر ولم يؤمن عليها فسرقت فإن كانت الوديعة من شأنها أن يؤمن عليها عند السفر كان مسئولاً إذا كانت الوديعة بأجر، حتى لو أثبت أنه كان لا يؤمن عليها لو أنها كانت من ماله الخاص. أما إذا كانت الوديعة بغير أجر وأثبت ذلك، فإنه لا يكون مسئولاً.

3- يجب على الوديع أن يواجه النفقات التي تقتضيها المحافظة على الشئ. وعليه أن يخطر المودع بما عساه يظهر في الشيء من عيوب طارئة تهدد بفنائه، وأن يتلقى تعليماته في شأنها، فإن قصر في ذلك لزمه الضمان أما إذا كانت هذه العيوب ظاهرة في الشيء من وقت إيداعه سقط عنه هذا التكليف. ويعتبر تبخر الكحول من العيوب التي تتصل بطبيعة الوديعة والتي يفترض لذلك علم المودع بها.

4- إذا حجزت الوديعة تحت يد الوديع، أو رفعت عليه دعوى باستحقاقها، وجب على الوديع مأجوراً أو غير مأجور، أن يخطر المودع بذلك فوراً، وجاز له أن يحصل على ترخيص في إيداعها على من يثبت له الحق فيها.

5- إذا تهدد الهلاك أموال الوديع والأشياء المودعة على السواء، وكان في الإمكان إنقاذ بعضها فقط، كان على الوديع المأجور أن يؤثر الأخيرة بالإنقاذ إن كانت أخف من أمواله حملاً وأغلى ثمناً. فإن أثر أمواله مع تساوي مخاطر الإنقاذ وتفاوت القيمة، فإنه يكون قد أخل بالعناية التي يبذلها الرجل المعتاد في مثل هذه الحالات، فتنعقد لذلك مسئوليته.

تعدد المودع عندهم :

إذا تعدد المودع عندهم، فلا تضامن بينهم في المسئولية، لأن التضامن في المسئولية العقدية لا يكون إلا بإتفاق أو نص في القانون. وقد خلا القانون من نص على المسئولية التضامنية عند تعدد المودع عندهم.

عدم مسؤولية الوديع عن السبب الأجنبي:

لا يسأل الوديع مأجوراً أو غير مأجور عن فقد الشيء المودع أو هلاكه أو ما يصيبه من أضرار، إذا كان ذلك بسبب أجنبي، سواء كان قوة قاهرة أو حادثاً فجائياً أو خطأ المودع نفسه، أو خطأ الغير، ما لم يكن قد سبقه خطأ من جانب الوديع، أو ضاعف من الضرر تقصير جسيم من جانبه، فلا يعتبر الحريق لذاته سبباً أجنبياً، إنما يعتبر كذلك إذا ثبت انتقاله من منزل الجار أو إذا لم يعرف سببه وأثبت الوديع أنه لم يحدث بخطأ منه أو من أحد تابعيه.

ولا يعفى الوديع من المسئولية عن السرقة، إلا إذا لم يسبقها تقصیر منه سهل على اللصوص مهمتهم، كعدم غلق الأبواب أو ترك المفاتيح بها.

ويقع على عاتق الوديع إثبات السبب الأجنبي وإثبات عدم وجود خطأ من جانبه سابق عليه.

الإتفاق على تعديل المسئولية :

مسئولية الوديع عن حفظ الشيء المودع، لا تتعلق بالنظام العام، ومن ثم فإنه يجوز الإتفاق بين المودع والوديع على تعديل هذه المسئولية، سواء بالتشديد أو التخفيف أو الإعفاء.

ومثل الإتفاق على تشديد المسئولية، أن تكون مسئولية المودع غير المأجور عن عناية الرجل المعتاد أو أن يتحمل الوديع تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة (م 217 / 1 مدنی) ومثل الاتفاق على تخفيف المسؤولية الإتفاق على عدم مسئولية الوديع المأجور إلا عن عنايته الشخصية، أو تحديد التعويض قبله بمبلغ محدد.

ويجوز الإتفاق على إعفاء الوديع من المسئولية كلية إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطئه الجسيم، ومع ذلك يجوز له أن يشترط عدم مسئوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه (م 217 / 2 مدنی ).

التزام الوديع بعدم إستعمال الشيء المودع :

رأينا أن الفقرة الثانية من المادة 719 تنص على أنه : وليس له المودع عنده أن يستعملها دون أن يأذن له المودع في ذلك صراحاً أو ضمناً.

ذلك أنه لما كان الغرض الأساس من الوديعة هو المحافظة على الشيء المودع، كان طبيعياً أن يمنع الوديع من إستعماله. وإذا كان الشيء ينتج ثماراً، سواء كانت ثماراً مدنياً أو طبيعياً، إلتزام الوديع بالحفاظ على هذه الثمار، وعليه أيضاً تقديم حساب المودع عنها.

غير أنه يجوز للوديع إستثناء من هذا الأصل إستعمال الشيء المودع في حالتين :

الحالة الأولى :

أن يأذن المودع للوديع باستعمال الشيء المودع. ويراعى أنه إذا كان الشيء المودع مما يهلك لأول استعمال، فإن استعماله يعني استهلاكه، وبالتالى يلتزم الوديع برد مثله، ولما كان الوديع يلتزم برد الشيء المودع بعينه، فإن العقد ينقلب إلى قرض وتسري عليه أحكامه لا أحكام الوديعة (م 726 مدنی ).

أما إذا كان الشيء مما يقبل الإستعمال فإن المرجع في تكييف العقد إلى قصد المتعاقدين. فإن كان هدفهما الأساسي المحافظة على الشيء مع التصريح باستعماله، أي يكون الإستعمال أمراً ثانوياً بجانب الغرض الأساسي وهو الحفظ، كان العقد وديعة.

وبالعكس إن كان الغرض الأساسي من تسليم الشيء هو تحقيق منفعة للمستلم كان العقد عارياً استعمال، ولو أطلق عليه المتعاقدان اسم الوديعة. فالمسألة متروكة لتقدير القاضي.

والتصريح للوديع بإستعمال الشيء المودع يجعل الوديعة بأجر .

والإذن بالاستعمال يكون صريحاً، كما يجوز أن يكون ضمنياً يستخلص من الظروف. فإذا أودع شخص ساعة مثلاً، فالغالب أن المودع لا يمانع في أن ينظر الوديع في الساعة ليعرف الوقت.

وكذلك إذا أودع شخص كتباً عند آخر، فلا مانع من أن يقرأ الوديع في هذه الكتب بشرط ألا يترك فيها أثراً من القراءة، وهذا ما لم يطلب منه المودع عدم القراءة فيها صراحاً أو ضمناً .

والإذن بالاستعمال لا يفترض، ويلتزم الوديع الذي يدعى صدور الإذن بالاستعمال إثباته.

الحالة الثانية :

أن يكون إستعمال الشيء ضرورياً للمحافظة عليه.

ومثال ذلك أن يودع شخص سيارة عند شخص آخر لسفره في رحلة طويلة الأمد، فيقوم باستعمالها في فترات متباعدة حتى لا يعلو الصدأ آلاتها بعدم الإستعمال.

إنما يجب أن يكون الإستعمال لمجرد المحافظة على الشيء فلا يتجاوز الحد المألوف في هذا الصدد.

جزاء مخالفة عدم الإستعمال :

إذا استعمل المودع عنده الشيء المودع في غير الحالتين سالفتي الذكر، فإنه يسأل مدنياً عن الضرر الذي يلحق بالشئ المودع أو عن تلفه أو هلاكه.

كما يعاقب بعقوبة خيانة الأمانة المنصوص عليها بالمادة 341 من قانون العقوبات، إذا تصرف في الشيء المودع.

كما أن تصرف المودع عنده في الشيء المودع يكون جريمة النصب المنصوص عليها في المادة 336 عقوبات.(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : التاسع، الصفحة : 446)

الفقه الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 234

التَّعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ :

4 - الأْصْلُ فِي الْوَدِيعَةِ: أَنَّهَا أَمَانَةٌ، لقوله تعالي : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)، وَأَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ فِي الْوَدِيعَةِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ» وَلأِنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا فَلَوْ ضُمِنَتْ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَذَلِكَ مُضِرٌّ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.

وَيَضْمَنُ الْوَدِيعُ فِي حَالَيْنِ:

الأْوَّلُ: إِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ؛ لأِنَّ الْمُفَرِّطَ مُتَسَبِّبٌ بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا.

الثَّانِي: أَنْ يَتَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ، لأِنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ إِيدَاعٍ.

وَمِنْ صُوَرِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا: انْتِفَاعُهُ بِهَا، كَأَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ الْمُودَعَةَ لِغَيْرِ نَفْعِهَا، أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمُودَعَ فَيَبْلَى. وَمِنْ صُوَرِ التَّعَدِّي أَيْضًا: جُحُودُهَا .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث عشر ، الصفحة / 279

التَّلَفُ فِي عُقُودِ الأْمَانَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:

21 - الأْصْلُ فِي عُقُودِ الأْمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ أَنَّ مَا تَلِفَ فِيهَا مِنَ الأْعْيَانِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ فِيهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه سلم «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه سلم قَالَ: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ» وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى تِلْكَ الْعُقُودِ وَفِي إِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ تَنْفِيرٌ عَنْهَا.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْعَارِيَّةَ، فَقَالُوا بِضَمَانِهَا مُطْلَقًا إِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه سلم قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» . «وَعَنْ صَفْوَانَ أَنَّهُ صلي الله عليه سلم اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرُعًا وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ».

وَلأِنَّهُ مَالٌ يَجِبُ رَدُّهُ لِمَالِكِهِ فَيَضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهِ كَالْمُسْتَامِ.

وَأَشَارَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَخَذْتَهَا بِالْيَدِ، وَالْوَدِيعَةَ دُفِعَتْ إِلَيْكَ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ التَّلَفَ الْمُنْمَحِقَ - أَيْ مَا يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الاِسْتِعْمَالِ - وَالْمُنْسَحِقُ - أَيْ مَا يَتْلَفُ بَعْضُهُ عِنْدَ الاِسْتِعْمَالِ - إِذَا تَلِفَ بِاسْتِعْمَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: كُلْ طَعَامِي. وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ بِضَمَانِ الْمُنْمَحِقِ دُونَ الْمُنْسَحِقِ، لأِنَّ مُقْتَضَى الإْعَارَةِ الرَّدُّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمُنْمَحِقِ، فَيَضْمَنُهُ بِخِلاَفِ الْمُنْسَحِقِ .

وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الضَّمَانَ بِتَلَفِ الْعَارِيَّةِ الْمُغَيَّبِ عَلَيْهَا - أَيْ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ - كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ بِخِلاَفِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِتَلَفِهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ تَلَفَهُ أَوْ ضَيَاعَهُ بِلاَ سَبَبِهِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ خِلاَفًا لأِشْهَبَ الْقَائِلِ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا .

22 - وَهُنَاكَ عُقُودٌ فِيهَا مَعْنَى الأْمَانَةِ كَالْمُضَارَبَةِ وَالإْجَارَةِ وَالرَّهْنِ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ إِلاَّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ أَمِينٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.

فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا تَلِفَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلاَ يَضْمَنُهُ الْمُضَارِبُ، فَهُوَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، لأِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَصِيرُ ضَامِنًا لِرَأْسِ الْمَالِ إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ شَرْطِ رَبِّ الْمَالِ، كَأَنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ أَلاَّ يُسَافِرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَسَافَرَ فَغَرِقَ الْمَالُ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ حِينَئِذٍ ضَامِنٌ لَهُ لِمُخَالَفَتِهِ شَرْطَ رَبِّ الْمَالِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ .

وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء فِي أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا حَقَّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّهْنِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، هَلْ يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لاَ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالأْقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، وَإِنْ سَاوَتْ قِيمَتُهُ الدَّيْنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَحُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَكُتُبٍ مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَكَتْمُهُ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ كَتْمُهُ كَحَيَوَانٍ وَعَقَارٍ، وَهَذَا إِنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهِ أَوْ هَلاَكِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الضَّمَانَ هُنَا ضَمَانُ تُهْمَةٍ، وَهِيَ تَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ تَفْرِيطٍ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَرضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه سلم قَالَ «لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» . وَلأِنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَعْطِيلِ الْمُدَايَنَاتِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس عشر ، الصفحة / 74

أثرُ الْجائحة في الْوديعة:

13 - الأْصْلُ أنّ الْوديعة إذا تلفتْ بأمْرٍ سماويٍّ فلا يضْمنُها الْمُودعُ لأنّ يدهُ يد أمانةٍ فلا يضْمنُ إلاّ بتعْداد تفْريطٍ، وانْظُرْ للتّفاصيل مُصْطلح إلا بتعداد تفريط .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن والعشرون ، الصفحة / 258

يَدُ الأْمَانَةِ وَيَدُ الضَّمَانِ:

66 - الْمَشْهُورُ تَقْسِيمُ الْيَدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: يَدِ أَمَانَةٍ، وَيَدِ ضَمَانٍ.

وَيَدُ الأْمَانَةِ، حِيَازَةُ الشَّيْءِ أَوِ الْمَالِ، نِيَابَةً لاَ تَمَلُّكًا، كَيَدِ الْوَدِيعِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالشَّرِيكِ، وَالْمُضَارِبِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَالْوَصِيِّ.

وَيَدُ الضَّمَانِ، حِيَازَةُ الْمَالِ لِلتَّمَلُّكِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْحَائِزِ، كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَالِكِ، وَالْمُقْتَرِضِ.

وَحُكْمُ يَدِ الأْمَانَةِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ أَمَانَةً، لاَ يَضْمَنُ مَا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، كَالْوَدِيعِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ مَنْ لاَ يُودَعُ مِثْلُهَا عِنْدَ مِثْلِهِ يَضْمَنُهَا.

وَحُكْمُ يَدِ الضَّمَانِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ، عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، يَضْمَنُهُ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ وَالإْتْلاَفِ.

فَالْمَالِكُ ضَامِنٌ لِمَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، أَوْ بِإِذْنِهِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَالْمَغْصُوبِ، فَالضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ.

وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ، بِعَقْدِ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةً، فَالضَّمَانُ - أَيْضًا - عَلَى الْمَالِكِ .

أَهَمُّ الأْحْكَامِ وَالْفَوَارِقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ:

أ - تَأْثِيرُ السَّبَبِ السَّمَاوِيِّ:

67 - إِذَا هَلَكَ الشَّيْءُ بِسَبَبٍ لاَ دَخْلَ لِلْحَائِزِ فِيهِ وَلاَ لِغَيْرِهِ، انْتَفَى الضَّمَانُ فِي يَدِ الأْمَانَةِ، لاَ فِي يَدِ الضَّمَانِ، فَلَوْ هَلَكَتِ الْعَارِيَّةُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِسَبَبِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ، لاَ يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ، لأِنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ.

بِخِلاَفِ يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لاَ يَنْتَفِي الضَّمَانُ بِهَلاَكِهِ بِذَلِكَ، بَلْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ بَقَائِهِ، لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ كُلَّمَا طَالَبَ بِالثَّمَنِ، فَامْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَارْتَفَعَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ .

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ مَالِكٍ، انْتِقَالُ الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ .

ب - تَغَيُّرُ صِفَةِ وَضْعِ الْيَدِ:

68 - تَتَغَيَّرُ صِفَةُ يَدِ الأْمِينِ وَتُصْبِحُ يَدَ ضَمَانٍ بِالتَّعَدِّي، فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ التَّلَفِ، وَلَوْ سَمَاوِيًّا.

أ - فَفِي الإْجَارَةِ، يُعْتَبَرُ الأْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ أَمِينًا - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - وَالْمَتَاعُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، لاَ يُضْمَنُ إِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ، إِلاَّ إِنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ، كَالْوَدِيعِ إِذَا قَصَّرَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَوْ تَعَمَّدَ الإْتْلاَفَ، أَوْ تَلِفَ الْمَتَاعُ بِفِعْلِهِ، كَتَمَزُّقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ .

ب - وَفِي الْوَدِيعَةِ، يَضْمَنُ إِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ، كَأَنْ رَأَى إِنْسَانًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ، فَتَرَكَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَنْعِ، أَوْ خَالَفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ، أَوْ أَوْدَعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ لاَ تُودَعُ عِنْدَ مِثْلِهِ، أَوْ سَافَرَ بِهَا، أَوْ جَحَدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَدِيعَة).

ج - وَفِي الْعَارِيَّةِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا عَدَا الْحَنَابِلَةَ، لاَ تُضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ بِالاِنْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ، وَتُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، كَأَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا سَارِقًا أَوْ يُتْلِفَهَا أَوْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُعِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا يُغَابُ وَمَا لاَ يُغَابُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .

ج - الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ:

69 - مَعْنَى التَّجْهِيلِ: أَنْ لاَ يُبَيِّنَ حَالَ الأْمَانَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُ حَالَهَا، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فَالْوَدِيعُ إِذَا مَاتَ مُجْهِلاً حَالَ الْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَوَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُ حَالَهَا، يَضْمَنُهَا بِذَلِكَ.

وَمَعْنَى ضَمَانِهَا - كَمَا يَقُولُ ابْنُ نُجَيْمٍ - صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ .

وَكَذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ، إِذَا مَاتَ مُجْهِلاً لِحَالِ بَدَلِ الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.

وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ .

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الإْيصَاءِ فِي الْوَدِيعَةِ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، وَقَالُوا: إِذَا مَرِضَ الْمُودَعُ مَرَضًا مَخُوفًا، أَوْ حُبِسَ لِيُقْتَلَ لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، لأِنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ، لأِنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْعَيْنِ، وَلاَ بُدَّ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ بَيَانِ الْوَدِيعَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عِنْدِي لِفُلاَنٍ ثَوْبٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، ضَمِنَ لِعَدَمِ بَيَانِهِ . (ر: تَجْهِيل).

د - الشَّرْطُ:

70 - لاَ أَثَرَ لِلشَّرْطِ فِي صِفَةِ الْيَدِ الْمُؤْتَمَنَةِ عِنْدَ الأْكْثَرِينَ.

قَالَ الْبَغْدَادِيُّ: اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بَاطِلٌ، وَقِيلَ: تَصِيرُ مَضْمُونَةً .

وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الأْمِينِ بَاطِلٌ، بِهِ يُفْتَى فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ.

وَلَوْ شَرَطَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلاَ ضَمَانَ لَوْ تَلِفَتْ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الأْمَانَاتِ .

وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، بِأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لأِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَوْ قَالَ الْوَدِيعُ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَقْصِيرٍ، لأِنَّ ضَمَانَ الأْمَانَاتِ غَيْرُ صَحِيحٍ .

وَنَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الأْمَانَةِ فِي الْعَارِيَّةِ - وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الاِسْتِعْمَالِ - هُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَشَرْطُ أَنْ لاَ ضَمَانَ فِيهَا فَاسِدٌ لاَ مُفْسِدٌ .

وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ: كُلُّ مَا كَانَ أَمَانَةً لاَ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، لأِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَوْنُهُ أَمَانَةً، فَإِذَا شَرَطَ ضَمَانَهُ، فَقَدِ الْتَزَمَ ضَمَانَ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ ضَمَانَ مَالٍ فِي يَدِ مَالِكِهِ. وَمَا كَانَ مَضْمُونًا لاَ يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ، لأِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الضَّمَانُ، فَإِذَا شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهِ لاَ يَنْتَفِي مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَالأْوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الضَّمَانِ:

الْقَوَاعِدُ فِي الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ، نُشِيرُ إِلَى أَهَمِّهَا ، بِاخْتِصَارٍ فِي التَّعْرِيفِ بِهَا، وَالتَّمْثِيلِ لَهَا، كُلَّمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ أَوَائِلِ حُرُوفِهَا:

الْقَاعِدَةُ الأْولَى: «الأْجْرُ وَالضَّمَانُ لاَ يَجْتَمِعَانِ » :

71 - الأْجْرُ هُوَ: بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ. وَالضَّمَانُ - هُنَا - هُوَ: الاِلْتِزَامُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، هَلَكَتْ أَوْ لَمْ تَهْلَكْ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ.

فَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ سَيَّارَةً، لِحَمْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَحَمَّلَهَا شَيْئًا آخَرَ أَوْ أَثْقَلَ مِنْهُ بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، كَأَنْ حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ حَدِيدًا فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلاَ أَجْرَ عَلَيْهِ، لأِنَّ هَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.

وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا، لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَذَهَبَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فَهَلَكَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلاَ أَجْرَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الأْجْرَ وَالضَّمَانَ لاَ يَجْتَمِعَانِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .

لَكِنِ الْقَاعِدَةُ مَشْرُوطَةٌ عِنْدَهُمْ، بِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الأْجْرِ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الدَّابَّةِ - مَثَلاً - فِعْلاً، ثُمَّ تَجَاوَزَ فَصَارَ غَاصِبًا، وَضَمِنَ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ مَا سَمَّى عِنْدَهُمْ، إِذَا سَلِمَتِ الدَّابَّةُ وَلَمْ تَهْلَكْ .

وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الأْجْرَ كُلَّمَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ، لأِنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوِّمَةٌ كَالأْعْيَانِ، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَتْلَفَهَا فَقَدْ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالأْعْيَانِ وَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ، وَجَبَ مَعَ الأْجْرَةِ أَرْشُ نَقْصِهِ لاِنْفِرَادِ كُلٍّ بِإِيجَابٍ .

وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ: وَافَقُوا فِي بَعْضِهَا الْحَنَفِيَّةَ، وَفِي بَعْضِهَا الْجُمْهُورَ وَانْفَرَدُوا بِتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا .

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ .

72 - الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْلِ: هُوَ الْفَاعِلُ لَهُ بِالذَّاتِ، وَالْمُتَسَبِّبُ هُوَ الْمُفْضِي وَالْمُوَصِّلُ إِلَى وُقُوعِهِ، وَيَتَخَلَّلُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الأْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْمُبَاشِرُ يَحْصُلُ الأْثَرُ بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ.

وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمُبَاشِرُ لأِنَّهُ أَقْرَبُ لإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَسَبِّبِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُرْدِي فَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ وَلِيِّ الأْمْرِ، فَأَلْقَى شَخْصٌ حَيَوَانَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ، ضَمِنَ الَّذِي أَلْقَى الْحَيَوَانَ، لأِنَّهُ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ، دُونَ حَافِرِ الْبِئْرِ، لأِنَّ التَّلَفَ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ.

وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِيهِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، ضَمِنَ الْحَافِرُ، لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَتَاعٍ، فَسَرَقَهُ الْمَدْلُولُ، ضَمِنَ السَّارِقُ لاَ الدَّالُّ.

وَلِذَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ، لاَ يَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِتَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ. وَلَوْ وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى رِجْلِ الصَّبِيِّ فَجَرَحَهَا ضَمِنَ الدَّافِعُ .

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: «الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ» .

73 - تَطَّرِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِضْطِرَارُ فِطْرِيًّا كَالْجُوعِ، أَمْ غَيْرَ فِطْرِيٍّ كَالإْكْرَاهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الإْثْمُ، وَعُقُوبَةُ التَّجَاوُزِ، أَمَّا حَقُّ الآْخَرِينَ فَلاَ يَتَأَثَّرُ بِالاِضْطِرَارِ، وَيَبْقَى الْمَالُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. فَلَوِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ إِلَى أَكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَضَمِنَ قِيمَتَهُ، لِعَدَمِ إِذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا الَّذِي وُجِدَ هُوَ إِذْنُ الشَّرْعِ الَّذِي أَسْقَطَ الْعُقُوبَةَ فَقَطْ .

الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: «الأْمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ» .

74 - الأْمْرُ: هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ جَزْمًا، فَإِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ أَوْ بِإِتْلاَفِهِ عَلَيْهِ فَلاَ عِبْرَةَ بِهَذَا الأْمْرِ، وَيَضْمَنُ الْفَاعِلُ.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيَّدَةٌ:

بِأَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَاقِلاً بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَغِيرًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الآْمِرِ. وَأَنْ لاَ يَكُونَ الآْمِرُ ذَا وِلاَيَةٍ وَسُلْطَانٍ عَلَى الْمَأْمُورِ.

فَلَوْ كَانَ الآْمِرُ هُوَ السُّلْطَانَ أَوِ الْوَالِدَ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا .

الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: «جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ».

75 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، لأِنَّ هَا لاَ تُفْصِحُ، وَمَعْنَى جُبَارٌ: أَنَّهُ هَدَرٌ وَبَاطِلٌ.

وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً حَيْثُ تُسَيَّبُ الْحَيَوَانَاتُ، وَلاَ يَدَ عَلَيْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَيَضْمَنُ، فَلَوِ اصْطَادَتْ هِرَّتُهُ طَائِرًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ .

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يَأْتِي فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ.

الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: «الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ يُنَافِي الضَّمَانَ» .

76 - يَعْنِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْلِ الْجَائِزِ الْمُبَاحِ شَرْعًا، ضَرَرٌ لِلآْخَرِينَ، لاَ يُضْمَنُ الضَّرَرُ. فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَتَرَدَّى فِيهَا حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، لاَ يَضْمَنُ الْحَافِرُ شَيْئًا. وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطَيْنِ:

1 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُبَاحُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، فَيَضْمَنُ - مَثَلاً - رَاكِبُ السَّيَّارَةِ وَقَائِدُ الدَّابَّةِ أَوْ رَاكِبُهَا فِي الطَّرِيقِ .

2 - أَنْ لاَ يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ إِتْلاَفُ الآْخَرِينَ وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا.

فَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ لِلْمَخْمَصَةِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ لأِجْلِهَا جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ .

الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»

77 - الْخَرَاجُ: هُوَ غَلَّةُ الشَّيْءِ وَمَنْفَعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ. كَسُكْنَى الدَّارِ، وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ.

وَالضَّمَانُ: هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ عَنِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنَافِعَ الشَّيْءِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ لَوْ هَلَكَ، فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي مُقَابِلِ تَحَمُّلِ خَسَارَةِ هَلاَكِهِ، فَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لاَ يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» .

الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ: «الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ» .

78 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ التَّكَلُّفَاتِ وَالْغَرَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّيْءِ، تَجِبُ عَلَى مَنِ اسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ:

1 - نَفَقَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لأِنَّهُ هُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَا.

2 - وَنَفَقَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ، لأِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْ حِفْظِهَا.

3 - وَأُجْرَةِ كِتَابَةِ عَقْدِ الْمِلْكِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأِنَّ هَا تَوْثِيقٌ لاِنْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ.

الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ: «لاَ يَجُوزُ لأِحَدٍ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ بِلاَ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ» .

79 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» .

فَيَحْرُمُ أَخْذُ أَمْوَالِ الآْخَرِينَ بِالْبَاطِلِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا.

أَحْكَامُ الضَّمَانِ:

أَحْكَامُ الضَّمَانِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - تُقَسَّمُ إِلَى هَذِهِ الأْقْسَامِ.

1 - ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الأْنْفُسِ وَالْجِرَاحِ).

2 - ضَمَانُ الْعُقُودِ.

3 - ضَمَانُ الأْفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالأْمْوَالِ ، كَالإْتْلاَفَاتِ، وَالْغُصُوبِ.

وَحَيْثُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَمَحَلِّهِ، فَنَقْصِرُ الْقَوْلَ عَلَى ضَمَانِ الدِّمَاءِ، وَضَمَانِ الأْفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالأْمْوَالِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والأربعون ، الصفحة / 22

كَوْنُ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً:

18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَالثَّوْرِيُّ وَالأْوْزَاعِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالْقَاضِي شُرَيْحٌ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ، فَإِنْ تَلِفَتَ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ مَالِهِ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْهُ .

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُودِعَ إِذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ أَنْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ .

أَمَّا إِذَا تَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَيْهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأِنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ .

وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَوْنِهَا أَمَانَةً بِالسُّنَّةِ وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ وَالإْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ:

فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ» .

وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» . وَالْمُغِلُّ هُوَ الْخَائِنُ.

وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابَةِ: فَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ .

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدَ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الأْمْصَارِ عَلَى كَوْنِهَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأِنَّ الْوَدِيعَ إِنَّمَا يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا، فَتَكُونُ يَدُهُ كَيْدِهِ .

وَلأِنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ بِإِذْنِ مَالِكِهَا، لاَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَلاَ الْوَثِيقَةِ، فَلاَ يَضْمَنُهَا، إِذْ لاَ مُوجِبَ لِلضَّمَانِ .

وَلأِنَّ الأْصْلَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ الْوَدِيعِ، فَلَوْ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ أَوْ تَقْصِيرٍ لَزَهِدَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا، وَرَغِبُوا عَنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَعْطِيلٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا .

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْوَدِيعَ ضَامِنٌ إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ ضَمَّنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدِيعَةً ذَهَبَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي كَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ، لاَ تُضَمَنُ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَجْرٍ أَوْ بِدُونِهِ، حَيْثُ إِنَّ أَخْذَ الأْجْرَةِ فِي الْوَدِيعَةِ لاَ يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الأْمَانَةِ أَوِ الضَّمَانِ فِيهَا .

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ فَرَّقُوا فِي مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ فِيهَا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ أَوْ بِدُونِ أَجْرٍ، مَعَ اعْتِبَارِهَا فِي الْحَالَيْنِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ، فَقَالُوا: إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ بِمَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنَ الأْسْبَابِ - كَحَرِيقٍ غَالِبٍ وَغَرَقٍ غَالِبٍ وَلُصُوصٍ مُكَابِرِينَ - فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِأَجْرٍ أَمْ مَجَّانًا.

أَمَّا إِذَا هَلَكَتْ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَيَنْظُرُ: إِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الضَّمَانُ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا .

جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (777) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ:

الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ. وَبِنَاءً عَلَيْهِ: إِذَا هَلَكَتْ بِلاَ صُنْعِ الْوَدِيعِ أَوْ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فِي الْحِفْظِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الإْيدَاعُ بِأُجْرَةٍ عَلَى حِفْظِ الْوَدِيعَةِ، فَهَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، لَزِمَ الْوَدِيعَ ضَمَانُهَا.

فَوَجْهُ تَضْمِينِ الْوَدِيعِ بِأَجْرٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لأِنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ عَلَى الْحِفْظِ قَصْدًا، إِذِ الْعَقْدُ عِقْدُ الْحِفْظِ، وَالأْجْرُ فِي مُقَابِلِ الْحِفْظِ، وَالْمَتَاعِ فِي يَدِ الأْجِيرِ . وَيَتَفَرَّعُ عَنِ الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً مَا يَلِي:

أ - اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ أَوْ عَدَمِهِ:

19 - إِذَا اشْتَرَطَ رَبُّ الِوَدِيعَةِ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَهَا، فَقَبِلَ، أَوْ قَالَ لِلْمُودِعِ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا، فَتَلِفَتْ أَوْ سُرِقَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الأْمِينِ بَاطِلٌ، وَجَعْلَ مَا أَصْلُهُ أَمَانَةٌ مَضْمُونًا بِالشَّرْطِ لاَ يَصِحُّ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ. وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ .

وَقَدْ عَلَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُفَوِّتٌ لِمُوجِبِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ.

قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: شَرْطُ ضَمَانِهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَيُخَالِفُ مَا يُوجِبُهُ الْحُكْمُ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأِنَّ شَرْطَ ضَمَانِ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَمَانَ مَا يَتْلَفُ فِي يَدٍ مَالِكِهِ .

وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ بِضَمَانِهِ بِالشَّرْطِ .

وَلَوْ أَوْدَعَهَا بِشَرْطِ عَدَمِ ضَمَانِ الْوَدِيعِ إِذَا تَعَدَّى عَلَيْهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، لأِنَّهُ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهَذَا فِي صَحِيحِ الْوَدِيعَةِ وَفَاسِدِهَا .

ب - قَبُولُ قَوْلِ الْوَدِيعِ فِي هَلاَكِ الْوَدِيعَةِ:

20 - فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ قَبُولَ قَوْلِهِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ ادِّعَاءِ هَلاَكِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ إِذَا كَذَّبَهُ الْمَالِكُ، سَوَاءٌ قَبَضَهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرٍ بَيِّنَةٍ، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ .

وَعَلَّلَ الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَى الأْمِينِ أَمْرًا عَارِضًا، وَهُوَ التَّعَدِّي، وَالْوَدِيعُ مُسْتَصْحِبٌ لِحَالِ الأْمَانَةِ، فَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالأْصْلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ؛ لأِنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ .

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ بِسَبٍّ ظَاهِرٍ - كَحَرِيقٍ وَغَرَقٍ وَغَارَةٍ - لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِهِ ضَمِنَ؛ لأِنَّهُ لاَ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَالأْصْلُ عَدَمُهُ.

أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْهَلاَكَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ - كَسَرِقَةٍ وَضَيَاعٍ - أَوْ لَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي هَلاَكِهَا، لِتَعَذُّرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لاَمْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَّةِ إِلَيْهَا .

وَحَيْثُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْوَدِيعِ فِي دَعْوَى التَّلَفِ، فَهَلْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ دُونَ يَمِينِهِ، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ مَعَهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

الأْوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ . قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ، فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ .

الثَّانِي: لأِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي ادِّعَاءِ تَلَفِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ .

وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُحَلَّفُ الْمُتَّهَمُ دُونَ غَيْرِهِ .

قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَعَلَى الْمَشْهُورِ مَحَلُّ كَوْنِهِ لاَ يُحَلَّفُ إِلاَّ الْمُتَّهَمُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الدَّعْوَى دَعْوَى تَحْقِيقٍ، وَأَمَّا دَعْوَى التَّحْقِيقِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مُتَّهَمٍ وَغَيْرِهِ. وَغُرِّمَ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ فِي دَعْوَى الاِتِّهَامِ الْقَاصِرَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ، وَبَعْدَ حَلْفِ الْمُودِعِ فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ الَّتِي لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْمُتَّهَمِ .

وُجُوبُ الْحِفْظِ عَلَى الْوَدِيعِ:

25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ حِفْظُ الْوَدِيعَةِ وَصِيَانَتُهَا لِصَاحِبِهَا. فَإِنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهَا أَوْ تَعَدَّى، فَهَلَكَتْ، ضَمِنَهَا .

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفِي الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي حَقِّ وُجُوبِ حِفْظِهَا عَلَى الْوَدِيعِ حَتَّى يُثَبِّتَ يَدَهُ عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ؛ لأِنَّ حِفْظَ الشَّيْءِ بِدُونِ إِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ مُحَالٌ، قَالُوا: وَإِنَّ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْوَدِيعَةِ مَا لَوْ وَضَعَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْوَدِيعِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْ دُكَّانِهِ، فَرَآهُ وَسَكَتَ، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ ضَعْهَا هُنَاكَ .

وَيَتَعَلَّقُ بِوُجُوبِ الْحِفْظِ عَلَى الْوَدِيعِ مَسْأَلَتَانِ:

26 - الْمَسْأَلَةُ الأْولَى: كَيْفِيَّةُ الْحِفْظِ:

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عَلَى الْوَدِيعِ أَنْ يَصُونَ الْوَدِيعَةَ بِمَا يَصُونُ بِهِ مَالَهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

(الأْولَى) أَنْ يُعَيِّنَ الْمُودِعُ الْحِرْزَ، كَمَا إِذَا قَالَ لِلْوَدِيعِ: احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْهُ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فِيهِ، فَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى مَا دُونَهُ ضَمِنَ؛ لأِنَّ مَنْ رَضِيَ حِرْزًا، لَمْ يَرْضَ بِمَا دُونَهُ. وَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى مِثْلِهِ أَوْ إِلَى مَا هُوَ أَحْرَزُ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ، لأِنَّ تَعْيِينَ الْحِرْزِ يَقْتَضِي الإْذْنَ فِي مِثْلِهِ وَفِيمَا هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الأوْلَى .

(وَالثَّانِيَةُ) أَلاَّ يُعَيِّنَ الْمُودِعُ الْحِرْزَ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، وَهُوَ: مَا لاَ يُعَدُّ الْوَاضِعُ فِيهِ مُضَيِّعًا لِمَا لَهُ، وَذَلِكَ لأِنَّ الإْطْلاَقَ يَقْتَضِيهِ، فَتُوضَعُ الدَّرَاهِمُ فِي الصُّنْدُوقِ، وَالأْثَاثُ فِي الْبَيْتِ، وَالْغَنَمُ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .

فَإِنْ أَخَّرَ إِحْرَازَهَا فَتَلِفَتْ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ، لأِنَّ تَرْكَ الْحِفْظِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تَفْرِيطٌ مُوجِبٌ لِتَضْمِينِهِ. وَإِنْ وَضَعَهَا فِي حِرْزٍ دُونَ حِرْزِ مِثْلِهَا ضَمِنَ؛ لأِنَّ الإْيدَاعَ يَقْتَضِي الْحِفْظَ، فَلَمَّا أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ حِرْزُ الْمِثْلِ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِيمَا دُونَهُ كَانَ مُفَرِّطًا، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ.

وَإِنْ وَضَعَهَا فِي حِرْزٍ فَوْقَ حِرْزِ مِثْلِهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ مَنْ رَضِيَ بِحِرْزِ الْمِثْلِ رَضِيَ بِمَا فَوْقَهُ.

وَلاَ يَخْفَى أَنَّ ضَابِطَ حِرْزِ الْمِثْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عُرْفِيٌّ، أَيْ بِحَسَبِ عَادَةِ النَّاسِ وَمَا يَرَوْنَهُ مُنَاسِبًا لِحِفْظِ الأْشْيَاءِ بِحَسَبِ نَفَاسَتِهَا وَدَنَاءَتِهَا، وَكَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا، وَهَذِهِ الأْمُورُ تَخْتَلِفُ كَثِيرًا بِحَسَبِ الأْقَالِيمِ وَالْحَوَاضِرِ وَالْبَوَادِي، وَبِاعْتِبَارِ الأْزْمِنَةِ وَالأْمْكِنَةِ ، وَكَثْرَةِ السَّرِقَةِ فِي الْبَلَدِ أَوْ نُدْرَتِهَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الاِعْتِبَارَاتِ وَقَدْ أَفْصَحَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَإِذَا اسْتَوْدَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الْوَدِيعَةَ، فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِهِ يُحْرِزُ مِنْهُ مَالَهُ، وَيَرَى النَّاسُ مِثْلَهُ حِرْزًا - وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ دَارِهِ أَحْرَزَ مِنْهُ - فَهَلَكَتْ، لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ وَضَعَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِهِ لاَ يَرَاهُ النَّاسُ حِرْزًا، وَلاَ يُحْرَزُ فِيهِ مِثْلُ الْوَدِيعَةِ، فَهَلَكَتْ، ضَمِنَ .

فَضَابِطُ الْحِرْزِ فِي الْوَدِيعَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ تُحْرَزَ فِيمَا يُحْرَزُ فِيهِ أَمْثَالُهَا مَعَ مُرَاعَاةِ الأْعْرَافِ وَالأْزْمَانِ وَالأْمَاكِنِ .

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ ذَكَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ لِلْوَدِيعِ أَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ عِنْدَ مَنْ يَأْتَمِنُهُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ مِنْ عِيَالِهِ، كَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ وَنَحْوِهِمْ، لأِنَّ الإْنْسَانَ لاَ يَلْتَزِمُ بِحِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ عَادَةً إِلاَّ بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ مَرَّةً وَبِيَدِ هَؤُلاَءِ أُخْرَى، فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ بِيَدِهِمْ أَيْضًا .

وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا وَضَعَهَا عِنْدَ مَنْ لاَ يَأْتَمِنُهُ مِنْهُمْ وَلاَ يَحْفَظُ مَالَهُ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا، لأِنَّهُ تَفْرِيطٌ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ نَهَاهُ عَنْ دَفْعِهَا إِلَى بَعْضِ عِيَالِهِ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ضَمِنَ إِنْ كَانَ لَهُ بُدٌّ بِأَنْ كَانَ لَهُ عِيَالُ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْهُ لاَ يَضْمَنُ .

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعِيَالِ الَّذِينَ يَجُوزُ لِلْوَدِيعِ دَفْعُ الْوَدِيعَةِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ غَلْقِهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ وَالِدَةٍ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَوْدَعَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ بِلاَ عُذْرٍ مِنْ غَيْرِ إِذَنِ الْمَالِكِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ ضَامِنًا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عِيَالِهِ كَزَوْجَتِهِ وَابْنِهِ وَنَحْوِهِمْ. أَوْ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ؛ لأِنَّ الْمُسْتَوْدِعَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ لاَ بِأَمَانَةِ غَيْرِهِ، وَلَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَى أَنْ يُودِعَهَا غَيْرَهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَيَلْزَمَهُ ضَمَانُهَا .

مُدَّةُ حِفْظِ الْوَدِيعَةِ:

27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْوَدِيعِ أَنْ يَحْفَظَ بِهَا الْوَدِيعَةَ إِذَا غَابَ رَبُّهَا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً، أَيْ فُقِدَ بِحَيْثُ لاَ يُدْرَى أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، وَمَاذَا يَفْعَلُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(الأْوَّلُ) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا حَتَّى يَعْلَمَ مَوْتَ صَاحِبِهَا أَوْ حَيَاتَهُ؛ لأِنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا لَهُ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ لِحَدِيثِ «وَفَاءً لاَ غَدْرًا» وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي اللُّقَطَةِ؛ لأِنَّ مَالِكَ اللُّقَطَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُلْتَقِطِ فَبَعْدَ التَّعْرِيفِ يَكُونُ التَّصَدُّقُ بِهَا طَرِيقًا لإِيصَالِهَا إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ مَالِكَهَا مَعْلُومٌ، فَكَانَ طَرِيقُ إِيصَالِهَا الْحِفْظَ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ أَوْ يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ، فَيَطْلُبُهَا وَارِثُهُ، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ. قَالُوا: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ مِمَّا يَفْسُدُ أَوْ يَتْلَفُ بِالْمُكْثِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْوَدِيعِ بِيعُهَا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، وَحِفْظُ ثَمَنِهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ مِثْلَ أَصْلِهَا؛ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَبِعْهَا، فَفَسَدَتْ بِالْمُكْثِ لاَ يَضْمَنُ؛ لأِنَّهُ حَفِظَ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ .

(الثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ بِهَا إِلَى أَقْصَى مَا يَحْيَى الْمُودِعُ إِلَى مِثْلِهِ، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، تَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُ .

(الثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا مَالٌ ضَائِعٌ، فَمَتَى لَمْ يَيْأَسْ مِنْ مَالِكِهِ أَمْسَكَهُ لَهُ أَبَدًا، مَعَ التَّعْرِيفِ بِهِ نَدْبًا، أَوْ أَعْطَاهُ لِلْقَاضِي الأْمِينِ، فَيَحْفَظُهُ لَهُ كَذَلِكَ، وَمَتَى أَيِسَ مِنْهُ، أَيْ بِأَنْ يَبْعُدَ فِي الْعَادَةِ وُجُودُهُ فِيمَا يَظْهَرُ، صَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَيَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِهَا مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، أَوْ يَدْفَعُهُ لِلإْمَامِ مَا لَمْ يَكُنْ جَائِرًا فِيمَا يَظْهَرُ .

وَأَفْتَى الشَّيْخُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَيِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَالِكِهَا بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ، أَنْ يَصْرِفَهَا فِي أَهَمِّ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَهَمُّهَا، وَلْيُقَدِّمْ أَهْلَ الضَّرُورَةِ وَمَسِيسِي الْحَاجَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلاَ يَبْنِي بِهَا مَسْجِدًا، وَلاَ يَصْرِفُهَا إِلاَّ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الإْمَامِ الْعَادِلِ صَرْفُهَا فِيهِ. فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ، فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ أَوْرَعَ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْرَفَهُمْ بِالْمَصَالِحِ الْوَاجِبَةِ التَّقْدِيمِ .

(الرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي فُقِدَ مَالِكُهَا، وَلَمْ يُطَّلِعْ عَلَى خَبَرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَرَثَةٌ - وَكَذَا الْوَدِيعَةُ الَّتِي جُهِلَ مَالِكُهَا - يَجُوزُ لِلْوَدِيعِ بِدُونِ إِذْنِ الْحَاكِمِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا بِنِيَّةِ غُرْمِهَا إِذَا عَرَفَهُ أَوْ عَرَفَ وَارِثَهُ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، وَيَلْزَمَ الْحَاكِمِ قَبُولُهَا .

مُوجِبَاتُ ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ:

35 - الأْصْلُ فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّهَا أَمَانَةٌ، وَأَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ فِي الْوَدِيعَةِ إِلاَّ إِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا؛ لأِنَّ الْمُفَرِّطَ مُتَسَبِّبٌ بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا أَوْ تَعَدَّى عَلَى الْوَدِيعَةِ؛ لأِنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ فَيَضْمَنُهُ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

أ - إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ:

36 - إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْوَدِيعُ بِالْوَدِيعَةِ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَهَابِهَا وَضَيَاعِهَا، أَوْ إِخْرَاجِهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهَا الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهَا عَادَةً، كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ، وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَدِيعِ اقْتِرَافُ هَذَا الْعَمَلِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ وَالاِخْتِيَارِ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» .

وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِتْلاَفَ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا؛ لِكَوْنِهِ تَعَدِّيًا عَلَيْهَا يُنَافِي الْمُوجَبَ الأْصْلِيَّ لِعَقْدِ الإْيدَاعِ، وَهُوَ الْحِفْظُ، وَلأِنَّ إِتْلاَفَ مَالِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (787) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا هَلَكَتِ الْوَدِيعَةُ أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِسَبَبِ تَعَدِّي الْمُسْتَوْدَعِ أَوْ تَقْصِيرِهِ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ.

وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِإِتْلاَفِ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ هِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الأْولَى: إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا:

37 - لَوْ أَمَرَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْوَدِيعَ بِإِتْلاَفِهَا، بِأَنْ يُلْقِيَهَا فِي الْبَحْرِ أَوْ يَحْرِقَهَا فِي النَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْلاَفِهَا . وَلَوْ فَعَلَ، فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلاَنِ:

أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لإِذْنِ الْمَالِكِ لَهُ بِذَلِكَ، لأِنَّ الْحَقَّ فِي الْوَدِيعَةِ ثَابِتٌ لِصَاحِبِهَا، وَقَدْ أَسْقَطَهُ حِينَ أَذِنَ لَهُ بِإِتْلاَفِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَنَابَهُ فِي مُبَاحٍ، فَلاَ يَغْرَمُ الْوَدِيعُ لَهُ شَيْئًا.

وَلأِنَّ لتَحْرِيمِ الْفِعْلِ أَثَرَهُ فِي بَقَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ التَّأْثِيمُ، أَمَّا حَقُّ الآْدَمِيِّ، فَلاَ يَبْقَى مَعَ الإْذْنِ فِي تَفْوِيتِهِ. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ .

وَالثَّانِي: هُوَ ضَامِنٌ، كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْتُلْنِي أَوْ وَلَدِي، فَفَعَلَ، وَلأِنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْوَدِيعَةِ وُجُوبُ حِفْظِهَا عَلَى الْوَدِيعِ، فَصَارَ الإْذْنُ لَهُ فِي إِتْلاَفِهَا، كَشَرْطٍ مُنَاقِضٍ لِمُقْتَضَى عَقْدِهَا، فَيُلْغَى . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلأِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلاَفِ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، لأِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَفَاعِلُهُ عَاصٍ، يَجِبُ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ، فَأَمْرُهُ وَسُكُوتُهُ سِيَّانِ.

وَلَوْ كَانَ هَذَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لَكَانَ الْمُسْلِمُ إِذَا قَالَ لأِخِيهِ الْمُسْلِمِ: اضْرِبْ عُنُقِي، فَقَطَعَهُ، أَنْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا قَاتَلٌ ظَالِمٌ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ وَمِنْ دَمِهِ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بَيْنَ تَحْرِيمِهِمَا . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِتْلاَفُ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ رَدُّ بَدَلِهَا:

38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ تَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ فَأَتْلَفَهَا، ثُمَّ رَدَّ بَدَلَهَا، فَهَلْ يَبْقَى ضَامِنًا لَهَا بِمُوجِبِ إِتْلاَفِهَا أَمْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ؟

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ، فَأَتْلَفَهَا الْوَدِيعُ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهَا مَكَانَهَا، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ تَلِفَ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ ثِيَابًا أَوْ عُرُوضًا قِيمِيَّةً، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا مِنْ سَاعَةِ أَتْلَفَهَا، سَوَاءٌ رَدَّ بَدَلَهَا إِلَى مَكَانِهَا أَمْ لاَ؛ لأِنَّهُ بِإِتْلاَفِهَا لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا، وَلاَ يَبْرَأُ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ إِلاَّ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، لاَ أَنْ يَرُدَّهَا فِي يَدِهِ وَدِيعَةً .

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَبْقَى ضَامِنًا لَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ أَوِ الْقِيمِيَّاتِ، مِنَ النُّقُودِ أَوِ الْعُرُوضِ، لأِنَّ حُكْمَ الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ الاِسْتِئْمَانُ، قَدِ ارْتَفَعَ بِالإْتْلاَفِ ، فَلاَ يَعُودُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْوِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ لَيْسَ عَوْدًا لِلْوِفَاقِ عِنْدَهُمْ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، لاَ بِعَيْنِ الْوَدِيعَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَعُودُ الاِسْتِئْمَانُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ .

وَلَوْ أَتْلَفَ الْوَدِيعُ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ تَعَدِّيًا، فَهَلْ يَضْمَنُ مِقْدَارَ مَا أَتْلَفَ، أَمْ يَضْمَنُ سَائِرَهَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: إِذَا أَتْلَفَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اتِّصَالٌ بِالْبَاقِي، كَأَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ الْمُتْلَفَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ اتِّصَالٌ، كَتَحْرِيقِ بَعْضِ الثَّوْبِ، وَقَطْعِ طَرَفِ الْبَهِيمَةِ، نُظِرَ: إِنْ كَانَ عَامِدًا، فَهُوَ جَانٍ عَلَى الْكُلِّ، فَيَضْمَنُ الْجَمِيعَ. وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، ضَمِنَ الْمُتْلَفَ، وَلاَ يَضْمَنُ الْبَاقِيَ عَلَى الأْصَحِّ . وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا طَرَأَ نُقْصَانٌ عَلَى قِيمَتِهَا لَزِمَهُ النُّقْصَانُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَلَفُ الْوَدِيعَةِ لِعَدَمِ دَفْعِ الْمُسْتَوْدَعِ الْهَلاَكَ عَنْهَا:

39 - إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ بِسَبَبِ امْتِنَاعِ الْوَدِيعِ عَنْ دَفْعِ الْهَلاَكِ عَنْهَا، كَمَا إِذَا وَقَعَ حَرِيقٌ فِي بَيْتِهِ، فَلَمْ يَنْقُلِ الْوَدِيعَةَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؟ اخْتُلِفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا لَهَا. وَذَلِكَ لأِنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ طَرِيقًا لِحِفْظِهَا، وَبِتَرْكِهِ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ وَالْمُتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، صَارَ كَالْمُتْلِفِ لَهَا .

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لأِنَّ النَّارَ أَتْلَفَتْهَا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ تُحِيطُ بِهِ النَّارُ، وَرَجُلٌ مُسْلِمٌ قَادِرٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَهُوَ عَاصٍ، وَلاَ عَقْلَ عَلَيْهِ وَلاَ قَوَدَ .

 

تَضْيِيعُ الْوَدِيعَةِ

61 - الْمُرَادُ بِتَضْيِيعِ الْوَدِيعَةِ تَعْرِيضُهَا لِلذَّهَابِ وَالتَّوَى عَلَى صَاحِبِهَا، كَأَنْ يُلْقِيَهَا الْوَدِيعُ فِي مَفَازَةٍ، أَوْ يَجْعَلَهَا فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهَا، أَوْ يُؤَخِّرَ إِحْرَازَهَا مَعَ التَّمَكُّنِ، فَتَهْلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا. وَذَلِكَ لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا بِالتَّحَرُّزِ عَنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ، وَقَدْ أَتَى بِنَقِيضِ مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ، فَكَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى تَضْمِينِهِ .

وَأَنْوَاعُ التَّضْيِيعِ كَثِيرَةٌ لاَ تَنْحَصِرُ، وَالْمَرْجِعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يُعَدُّ تَضْيِيعًا لِلْوَدِيعَةِ وَمَا لاَ يُعَدُّ إِلَى الْعُرْفِ، وَإِنَّهُ لَيَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الأْزْمِنَةِ وَالأْمْكِنَةِ وَعَوَائِدِ النَّاسِ .

وَقَدْ عَدَّ الشَّافِعِيَّةُ مِنْهُ الصُّوَرَ التَّالِيَةَ:

أ) مَا لَوْ وَقَعَتْ دَابَّةٌ فِي مَهْلَكَةٍ، وَهِيَ مَعَ وَدِيعٍ، فَتَرَكَ تَخْلِيصَهَا الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ كَبِيرُ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، أَوْ ذَبَحَهَا بَعْدَ تَعَذُّرِ تَخْلِيصِهَا، فَمَاتَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا .

ب) أَنْ يَنَامَ الْوَدِيعُ عَنْهَا، وَهِيَ مَعَهُ فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ مَعَهُ رُفْقَةٌ مُسْتَيْقِظُونَ يَحْفَظُونَهَا، فَتَضِيعَ .

ج) أَنْ يَدُلَّ الْوَدِيعُ عَلَيْهَا، أَوْ يُعْلِمَ بِهَا مَنْ يُصَادِرُ الْمَالِكَ وَيَأْخُذُ أَمْوَالَهُ، وَيُعَيِّنَ لَهُ مَوْضِعَهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِذَلِكَ .

وَعَدَّ الْحَنَابِلَةُ مِنَ التَّضْيِيعِ: مَا لَوْ سَلَّمَهَا الْوَدِيعُ بِطَرِيقِ الْخَطَأِ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ صَاحِبُهَا فَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، لأِنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَى رَبِّهَا .

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ التَّضْيِيعِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ مَا لَوْ دَلَّ الْوَدِيعُ لِصًّا عَلَى مَكَانِ الْوَدِيعَةِ، فَسَرَقَهَا، وَذَلِكَ لإِتْيَانِهِ بِنَقِيضِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْحِفْظِ .

غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ضَمَانَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْوَدِيعِ وَاللِّصِّ، أَمَّا الْوَدِيعُ، فَلِمُنَافَاةِ دَلاَلَتِهِ لِلْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهُمَا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا اللِّصُّ، فَلأِنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ لَهَا. وَعَلَى اللِّصِّ قَرَارُ الضَّمَانِ لِمُبَاشَرَتِهِ .

وَهُنَاكَ صُورَتَانِ لِتَضْيِيعِ الْوَدِيعَةِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِ الْوَدِيعِ بِهَا:

الصُّورَةُ الأْولَى:

إِذَا أُكْرِهَ الْوَدِيعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ لِغَاصِبٍ أَوْ ظَالِمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي غَيْرِ الأْصَحِّ : وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ لأِنَّ الإْكْرَاهَ عُذْرٌ يُبِيحُ دَفْعَهَا لِمَنْ أَكْرَهَهُ، فَكَانَ كَمَا لَوْ أُخِذَتْ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ .

الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ ، وَهُوَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَيْهِ تَضْيِيعٌ مُوجِبٌ لِضَمَانِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْوَدِيعَ، لِمُبَاشَرَتِهِ التَّسْلِيمَ - وَلَوْ مُضْطَرًّا، إِذْ لاَ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ عَلَى ضَمَانِ الْمُبَاشِرِ - لأِنَّهُ فَوَّتَ الْوَدِيعَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَنْفَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِخَوْفِ التَّلَفِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَدِيعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا غَرِمَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الظَّالِمُ الْمُكْرَهَ .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: نِسْيَانُ الْوَدِيعَةِ، كَمَا إِذَا قَعَدَ الْوَدِيعُ فِي طَرِيقٍ، وَهِيَ مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ فَنَسِيَهَا، أَوْ دَفَنَهَا بِحِرْزٍ ثُمَّ نَسِيَهُ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ كِيسُ دَرَاهِمَ وَدِيعَةً، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَامَ وَنَسِيَهُ، فَضَاعَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ حَبِيبٍ وَمُطَرِّفٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ، إِذَا ضَيَّعَهَا بِالنِّسْيَانِ. لأِنَّ نِسْيَانَهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْوَدِيعَةِ. وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَابْنُ الْحَاجِّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ .

وَالثَّانِي: لِلْبَاجِيِّ وَالْعَبْدُوسِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: اخْتُلِفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي ضَمَانِهَا بِالنِّسْيَانِ، مِثْلَ أَنْ يَنْسَاهَا فِي مَوْضِعِ إِيدَاعِهَا، أَوْ يَنْسَى مَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَيَدَّعِيَهَا رَجُلاَنِ.

فَقِيلَ: يَحْلِفَانِ، وَتُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .

(ل) - تَرْكُ تَعَهُّدِ الْوَدِيعَةِ:

62 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَوْدَعَ دَابَّةً، فَلَمْ يَأْمُرْهُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِهَا وَلاَ عَلْفِهَا وَلَمْ يَنْهَهُ، فَتَرَكَهَا دُونَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا .

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لأِنَّ عَلْفَهَا وَسَقْيَهَا مِنْ كَمَالِ الْحِفْظِ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالاِسْتِيدَاعِ، بَلْ هُوَ الْحِفْظُ بِعَيْنِهِ، إِذِ الْحَيَوَانُ لاَ يَبْقَى عَادَةً بِدُونِهِمَا، فَيَلْزَمَانِهِ . وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ: وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُودِعَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حِرَاسَتَهَا فِيمَا يَعْلِفُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ رَآهَا فِي بِئْرٍ لَلَزِمَهُ رَدُّهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِي تَرْكِ عَلْفِهَا تَلَفُهَا، فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ .

وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، لِمَا جَاءَ فِي قُرَّةِ عُيُونِ الأْخْيَارِ نَقْلاً عَنِ الْحَاوِي لِلزَّاهِدِيِّ: وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِلاَ أَمْرٍ قَاضٍ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ. وَلَوْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا الْمُودِعُ حَتَّى هَلَكَتْ يَضْمَنُ، لَكِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الْمُودِعِ .

أَمَّا إِذَا نَهَاهُ مَالِكُهَا عَنْ سَقْيِهَا وَعَلْفِهَا، فَتَرَكَهَا بِدُونِ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:

الأْوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لاِمْتِثَالِهِ أَمْرَ مَالِكِهَا، لأِنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا يَجِبُ لِحَقِّ الْمَالِكِ، وَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: اقْتُلْ دَابَّتِي. لَكِنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ، لأِنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ، لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .

الثَّانِي: لأِبِي سَعِيدٍ الإْصْطَخْرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا. إِذْ لاَ اعْتِبَارَ لِنَهْيِهِ، لأِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ سَقْيُهَا وَعَلْفُهَا شَرْعًا لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ، صَارَ مُتَعَدِّيًا بِعِصْيَانِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ أَمْرُ مَالِكِهَا وَسُكُوتُهُ سَوَاءً .

كَذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ الصُّوفِ الَّتِي يُفْسِدُهَا الْعُثُّ، يَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ نَشْرُهَا وَتَعْرِيضُهَا لِلرِّيحِ، بَلْ يَلْزَمُهُ لُبْسُهَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِأَنْ تُلْبَسَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفَسَدَتْ، ضَمِنَ، سَوَاءً أَمَرَهُ الْمَالِكُ بِذَلِكَ أَوْ سَكَتَ .

وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، فَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى الْوَدِيعِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا بِعَدَمِ ضَمَانِهِ لَوْ فَسَدَتْ. فَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى: وَتَارِكُ نَشْرِ الصُّوفِ صَيْفًا فَعَثَّ، لَمْ يَضْمَنْ . وَفِي الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ لاِبْنِ عَابِدِينَ: الإْنْسَانُ إِذَا اسْتَوْدَعَ عِنْدَهُ مَا يَقَعُ فِيهِ السُّوسُ فِي زَمَانِ الصَّيْفِ، فَلَمْ يُبَرِّدْهَا بِالْهَوَاءِ، حَتَّى وَقَعَ فِيهِ السُّوسُ وَفَسَدَ، لاَ يَضْمَنُ .

أَمَّا إِذَا نَهَاهُ صَاحِبُهَا عَنْ نَشْرِهَا وَتَعْرِيضِهَا لِلرِّيحِ، فَامْتَنَعَ حَتَّى فَسَدَتْ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ امْتِثَالُهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ .

الْمُخَالَفَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ:

65 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةً لأِمْرِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ إِذَا اشْتَرَطَ عَلَى الْوَدِيعِ شَرْطًا يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ حِفْظِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ مُفِيدًا وَمُرَاعَاتُهُ مُمْكِنَةً. أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ، أَوْ كَانَ مُفِيدًا لَكِنَّ مُرَاعَاتَهُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَهُوَ لَغْوٌ لاَ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ.

فَإِذَا أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسِكَ الْوَدِيعَةَ بِيَدِهِ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَلاَ يَضَعَهَا، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ أَوْ فِيمَا يُحْرِزُ فِيهِ مَالَهُ عَادَةً، فَضَاعَتْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لأِنَّ إِمْسَاكَ الْوَدِيعَةِ بِيَدِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَضَعُهَا أَصْلاً غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ عَادَةً، فَكَانَ شَرْطًا لاَ يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ، فَيَلْغُو.

وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ، وَنَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى امْرَأَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ عَادَةً، نَظَرَ فِيهِ: إِنْ كَانَ لاَ يَجِدُ بُدًّا مِنَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ، لأِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، كَانَ النَّهْيُ عَنِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ نَهْيًا عَنِ الْحِفْظِ، فَكَانَ سَفَهًا، فَلاَ يَصِحُّ نَهْيُهُ.

وَإِنْ كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ، وَلَوْ دَفَعَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، لأِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِ، أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ، وَهُوَ مُفِيدٌ، لأِنَّ الأْيْدِيَ فِي الْحِفْظِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالأْصْلُ فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ.

وَلَوْ قَالَ لَهُ: لاَ تُخْرِجْهَا مِنْ هَذَا الْبَلَدِ. فَخَرَجَ بِهَا، تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، لأِنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ، وَهُوَ مُفِيدٌ، لأِنَّ الْحِفْظَ فِي السَّفَرِ مَوْضِعُ الْخَطَرِ، إِلاَّ إِذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَيْهَا، فَاضْطَرَّ إِلَى الْخُرُوجِ بِهَا فَخَرَجَ، لاَ تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، لأِنَّ الْخُرُوجَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِلْحِفْظِ، كَمَا إِذَا وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ، أَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ، فَخَافَ الْغَرَقَ، فَدَفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ.

وَلَوْ قَالَ لَهُ: احْفَظِ الْوَدِيعَةَ فِي دَارِكَ هَذِهِ. فَحَفِظَهَا فِي دَارٍ لَهُ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَتِ الدَّارَانِ فِي الْحِرْزِ سَوَاءً، أَوْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ أَحْرَزَ، لاَ تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، لأِنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَإِنْ كَانَتِ الأْولَى أَحْرَزَ مِنَ الثَّانِيَةِ، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، لأِنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْحِرْزِ مُفِيدٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي دَارِهِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَضَعَهَا فِي دَارِهِ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عَيَّنَ لَهُ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْحِرْزَ، فَقَالَ لَهُ: احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَعَلَيْهِ حِفْظُهَا فِيهِ، فَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى مَا دُونَهُ ضَمِنَ، لأِنَّ مَنْ رَضِيَ حِرْزًا، لَمْ يَرْضَ بِمَا دُونَهُ.

وَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى مِثْلِهِ أَوْ إِلَى مَا هُوَ أَحْرَزُ مِنْهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأِنَّ تَعْيِينَ الْحِرْزِ يَقْتَضِي الإْذْنَ فِي مِثْلِهِ، وَفِيمَا هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الأوْلَى .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا خَالَفَ الْوَدِيعُ فِي وَجْهِ الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْمُودِعِ، بِأَنْ أَمَرَهُ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، فَعَدَلَ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَتَلِفَتْ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْمُخَالَفَةِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَإِنْ وَقْعَ التَّلَفُ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ ضَمِنَ، إِذَا كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ تَقْصِيرًا. وَذَلِكَ لِحُصُولِ التَّلَفِ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ وَتَقْصِيرِهِ.

وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: لَوْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ فِي صُنْدُوقٍ، وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: لاَ تَرْقُدْ عَلَى الصُّنْدُوقِ، فَرَقَدَ عَلَيْهِ، وَانْكَسَرَ بِثِقْلِهِ، وَتَلِفَ مَا فِيهِ، ضَمِنَ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى التَّلَفِ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ ثِقْلِهِ، فَلاَ يَضْمَنُ عَلَى الصَّحِيحِ، لأِنَّ التَّلَفَ لَمْ يَأْتِ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: لاَ تَقْفِلْ عَلَيْهَا. فَخَالَفَ، فَقَفَلَ. أَوْ: لاَ تَقْفِلْ عَلَيْهَا إِلاَّ قُفْلاً وَاحِدًا. فَقَفَلَ عَلَيْهَا قُفْلَيْنِ، فَلاَ يَضْمَنُ فِي الْحَالَيْنِ، لأِنَّهُ زَادَ فِي الْحِفْظِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّلَفُ مِمَّا عُدِلَ إِلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا خَالَفَ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ، بِأَنْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً، وَقَالَ لَهُ: اجْعَلْهَا فِي بَيْتِكَ. فَنَقَلَهَا إِلَى مَا دُونَهُ، ضَمِنَ - حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حِرْزًا لِمِثْلِهَا - لأِنَّ مَنْ رَضِيَ حِرْزًا، لَمْ يَرْضَ بِمَا دُونَهُ. وَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى مِثْلِهِ أَوْ إِلَى مَا هُوَ أَحْرَزُ مِنْهُ، فَمَاتَتْ فَجْأَةً أَوْ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوَهُ، لَمْ يَضْمَنْ، لأِنَّ مَنْ رَضِيَ حِرْزًا، رَضِيَ مِثْلَهُ وَمَا هُوَ أَحْرَزُ مِنْهُ. وَإِنِ انْهَدَمَ عَلَيْهَا الْحِرْزُ الْمُمَاثِلُ لِبَيْتِهِ أَوِ الأْحْرَزُ مِنْهُ، أَوْ سُرِقَتْ مِنْهُ، ضَمِنَ لِلْمُخَالَفَةِ، لأِنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِهَا.

وَلَوْ نَهَاهُ الْمُودِعُ عَنْ نَقْلِهَا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَنَقَلَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، ضَمِنَ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْمَكَانُ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ أَحْرَزَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِصَرِيحِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. فَإِنْ كَانَ النَّقْلُ لِضَرُورَةٍ - كَخَوْفِ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ غَلَبَةِ لُصُوصٍ - لَمْ يَضْمَنْ، لِتَعَيُّنِ حِفْظِهَا بِنَقْلِهَا. بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَقْلُهَا إِلَى حِرْزِ مِثْلِهَا إِنْ وُجِدَ، وَإِلاَّ فَلِدُونِهِ، لأِنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ سِوَاهُ. فَلَوْ تَرَكَ النَّقْلَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ ضَمِنَ، لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ قَصَدَ بِالنَّهْيِ عَنِ النَّقْلِ الاِحْتِيَاطَ فِي حِفْظِهَا، وَالاِحْتِيَاطُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تُنْقَلَ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ.

أَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ: لاَ تَنْقُلْهَا وَإِنْ وَقَعَ خَوْفٌ، فَلاَ يَنْقُلُهَا وَإِنْ وَقَعَ الْخَوْفُ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ نَقْلِهَا حِينَئِذٍ، لأِنَّ نَهْيَهُ عَنْهُ مَعَ خَوْفِ الْهَلاَكِ أَبْرَأَ الْوَدِيعَ مِنَ الضَّمَانِ، إِذِ الضَّمَانُ إِنَّمَا يَجِبُ لِحَقِّ صَاحِبِهَا، فَسَقَطَ بِقَوْلِهِ. وَإِنْ نَقَلَهَا الْوَدِيعُ، لَمْ يَضْمَنْ أَيْضًا، لأِنَّ قَصْدَهُ الصِّيَانَةُ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا عَيَّنَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْحِرْزَ، بِأَنْ قَالَ: احْفَظْهَا بِهَذَا الْبَيْتِ أَوِ الْحَانُوتِ، فَأَحْرَزَهَا بِدُونِهِ رُتْبَةً فِي الْحِفْظِ، فَضَاعَتْ، ضَمِنَ لِمُخَالَفَتِهِ، لأِنَّ الْبُيُوتَ وَالْحَوَانِيتَ تَخْتَلِفُ فِي دَرَجَةِ الْحِفْظِ. وَحَتَّى لَوْ رَدَّهَا إِلَى الْحِرْزِ الْمُعَيَّنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَلِفَتْ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ بِوَضْعِهَا فِي الدُّونِ أَوَّلاً، فَلاَ تَعُودُ أَمَانَةً إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.

أَمَّا إِذَا أَحْرَزَهَا بِمِثْلِ الْحِرْزِ الْمُعَيَّنِ أَوْ فَوْقَهُ فِي الْحِفْظِ، وَلَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَلاَ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إِنْ تَلِفَتْ. لأِنَّ تَعْيِينَ الْحِرْزِ يَقْتَضِي الإْذْنَ فِي مِثْلِهِ، وَفِيمَا هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ بِالأوْلَى . فَإِنْ نَهَاهُ رَبُّ الْوَدِيعَةِ عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِحِفْظِهَا، فَأَخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ شَيْءٍ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلاَكُ، كَحَرِيقٍ وَنَهْبٍ، فَتَلِفَتْ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِنَقْلِهَا إِنْ وَضَعَهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهِ أَوْ فَوْقَهُ، لأِنَّ نَقْلَهَا تَعَيَّنَ حِفْظًا لَهَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا. فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مِثْلُ حِرْزِهَا الأْوَّلِ أَوْ فَوْقَهُ، فَأَحْرَزَهَا بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْحِفْظِ، فَتَلِفَتْ بِهِ، لَمْ يَضْمَنْ، لأِنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ تَرْكِهَا بِمَكَانِهَا، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ سِوَاهُ. وَإِنْ تَرَكَهَا فِي مَكَانِهَا مَعَ غَشَيَانِ مَا الْغَالِبُ مَعَهُ الْهَلاَكُ فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ، لأِنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، حَيْثُ إِنَّ حِفْظَهَا فِي نَقْلِهَا، وَتَرْكَهَا تَضْيِيعٌ لَهَا. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ أَخْرَجَهَا لِغَيْرِ خَوْفٍ مِنْ حِرْزٍ نَهَاهُ مَالِكُهَا عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ فَتَلِفَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ سَوَاءً أَخْرَجَهَا إِلَى مِثْلِهِ أَوْ أَحْرَزَ مِنْهُ، لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ صَاحِبِهَا بِلاَ حَاجَةٍ.

فَإِنْ قَالَ لَهُ مَالِكُهَا: لاَ تُخْرِجْهَا، وَإِنْ خِفْتَ عَلَيْهَا. فَحَصَلَ خَوْفٌ وَأَخْرَجَهَا خَوْفًا عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يُخْرِجْهَا، فَتَلِفَتْ - مَعَ إِخْرَاجِهَا أَوْ تَرْكِهِ - لَمْ يَضْمَنْهَا. لأِنَّهُ إِنْ تَرَكَهَا، فَهُوَ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ صَاحِبِهَا، فَكَانَ مَأْذُونًا فِي تَرْكِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَالإْذْنُ وَالضَّمَانُ لاَ يَجْتَمِعَانِ. وَإِنْ أَخْرَجَهَا فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا وَحِفْظًا، إِذْ مَقْصُودُهُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِهَا لَهُ، فَلَمْ يَضْمَنْ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلَفَهَا. فَلَمْ يُتْلِفْهَا حَتَّى تَلِفَتْ. أَمَّا إِذَا أَخْرَجَهَا بِلاَ خَوْفٍ، فَتَلِفَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ .

الْخُصُومَةُ بِالْوَدِيعَةِ:

69 - إِذَا غُصِبَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ يَدِ الْوَدِيعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّهِ بِأَنْ يُخَاصِمَ فِيهَا مَنْ غَصَبَهَا لاِسْتِرْجَاعِهَا أَوْ لِتَضْمِينِهِ بَدَلَهَا إِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَدِيعِ مُخَاصَمَةَ الْغَاصِبِ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ الْمَالِ الْمُودَعِ وَذَلِكَ لأِنَّ لِلْوَدِيعِ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ أَزَالَهَا الْغَاصِبُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِهِ لإِعَادَةِ الْيَدِ الَّتِي أَزَالَهَا بِالْغَصْبِ. وَلأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ، وَلاَ يَتَأَتَّى لَهُ الْحِفْظُ إِلاَّ بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ مِنَ الْغَاصِبِ، أَوِ اسْتِرْدَادِ قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلاَكِ الْعَيْنِ، لِيَحْفَظَ مَالِيَّتَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ دَلاَلَةً.

وَفِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِفْظِ، لأِنَّ الْغَاصِبَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْوَدِيعَ لاَ يُخَاصِمُهُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودِعِ، تَجَاسَرَ عَلَى أَخْذِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْوَدِيعُ فِيهِ خَصْمًا .

فَلَهُ حَقُّ الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةِ بِالْوَدِيعَةِ إِذْ غُصِبَتْ.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَمَا أَنَّ لِلْوَدِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ الْغَاصِبَ بِالْوَدِيعَةِ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ سَارِقَهَا وَمُتْلِفَهَا وَمُلْتَقِطَهَا إِذَا ضَاعَتْ مِنْهُ .

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَدِيعِ بِأَنْ يُخَاصِمَ بِالْوَدِيعَةِ، لأِنَّ الْمَالَ الْمُودَعَ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يُخَاصِمُ لاِسْتِرْدَادِهِ أَوْ بَدَلِهِ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ، وَالْوَدِيعُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ، فَلاَ يُخَاصِمُ فِي الاِسْتِرْدَادِ، كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.

وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الإْيدَاعَ اسْتِحْفَاظٌ وَائْتِمَانٌ، فَلاَ يَتَضَمَّنُ الْخُصُومَةَ .

___________________________________________________________________

كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله )محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية(بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه

( مادة 704)

ليس للمستودع أن يأخذ أجرة على حفظ الوديعة ما لم يشترط ذلك في العقد.

مادة 705)
يجب على المستودع أن يعتني بحفظ الوديعة بما يحفظ به ماله وأن يضعها في حرز مثلها على حسب نفاستها.
وله أن يحفظها بنفسه أو بمن يأتمنه على حفظ ماله ممن في عياله.

( مادة 706)

انما يجب حفظ الوديعة على المستودع اذا كان عاقلاً بالغاً أما لوكان صبياً أو مجنوناً فلا ضمان عليه في استهلاك الوديعة إلا إذا كان الصبي مأذوناً بالتجارة أو قبض الوديعة باذن وليه فإنه يضمنها بالاستهلاك.

( مادة ۷۰۷)

الوديعة أمانة لانضمن بالهلاك مطلقا سواء أمكن التزام لا وإنما يضمنها المستودع تعذیه عليها أو بتقصيره في حفظها.

( مادة ۷۰۸)

اذا كان الايداع بأجرة فهلكت الوديعة أوضاعت بسبب يمكن التحرز منه فضمانها على الوديع.

 

مجلة الأحكام العدلية

مادة (792) استعمال الوديعة

كما أنه يسوغ للمستودع استعمال الوديعة بإذن صاحبها فله أن يؤجرها أو يعيرها لآخر وأن يرهنها أيضاً وأما لو آجرها أو أعارها لآخر أو رهنها بدون إذن صاحبها فهلكت أو نقصت قيمتها في يد المستأجر أو المستعير أو المرتهن ضمن.

 

مادة (858) تعيين الموهوب

يلزم أن يكون الموهوب معلوماً ومعيناً بناء عليه لو وهب احد من المال شيئاً أو من الفرسين أحدهما لا على التعيين لا تصح ولو قال أيما أردت من هاتين الفرسين فهي لك فإن عين الموهوب له. في مجلس الهبة إحداهما تصح وإلا فلا فائدة في تعيينه بعد المفارقة من مجلس الهبة.