loading
المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : الخامس ، الصفحة : 266

مذكرة المشروع التمهيدي :

1- لما كان المفروض في الوديعة أن يحفظها الودیع ويردها عيناً ، فإذا رخص له في استعمالها ، وجب أن تكون مما لا يملك الأول إستعمال ، وإلا تعذر بهذا الإستعمال ردها بعينها ، ولزم رد مثلها . وفي هذه الحالة يكون العقد أقرب إلى القرض منه إلى الوديعة . وهذا هو شأن وديعة النقود وكل شيء آخر مما يهلك بالإستعمال ، فقد نصت المادة 1011 على أن العقد يعتبر في هذه الحالة قرضاً مالم يقض العرف بغير ذلك.

وهي منقولة عن المادة 649 من المشروع الفرنسي الإيطالي ، مع تعديل بسيط ينحصر في أن هذا المشروع يشترط لذلك ، إلى جانب الإذن بالإستعمال ، أن يكون الشيء مما يهلك لأول إستعمال في حين أن المشروع الفرنسي الإيطالى يتطلب فيما يتعلق بالشرط الأخير أن يكون الشيء من المثليات. وقد أدخل هذا التعديل لأن السبب في تغيير حكم العقد هو أن الإذن بإستعمال الشيء الذي يملك بالإستعمال كالنقود والحبوب وغيرها لا يمكن معه رده بعينه ( أنظر المادة 2223 من التقنين الأرجنتيني ) أما المثلى الذي لا يهلك بالإستعمال كقلم أو کتاب ، يجوز الإذن بإستعماله دون أن تستحيل الوديعة إلى قرض ، ويكون العقد في هذه الحالة أقرب إلى العارية منه إلى القرض ( أنظر المادة 960 من التقنين النمساوي ).

2- وقد أنشأ المشروع في الفقرة الثانية من المادة قرينة قانونية على حصول الإذن بإستعمال الشيء إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود ( أنظر المادة 2255 من التقنين الأرجنتيني والمادة 997 من التقنين التونسي والمادة 783 من التقنين المراكشي) ولكن هذه القرينة بسيطة تقبل إثبات العكس .(ملحوظة: تم حذف الفقرة الثانية من المشروع التمهيدي لهذه المادة في المناقشات التالية لترك الحرية للقاضي لاستخلاص ما إذا كان قصد المتعاقدان قد انصرف إلى أستعمال النقود من عدمه، وذلك من طبيعة المعاملة والظروف الملابسة).

الأحكام

1- أن علاقة البنك بالعميل الذى يقوم بإيداع مبالغ فى حسابه لديه ، هى علاقة وديعة ناقصة تعتبر بمقتضى المادة 726 من القانون المدنى قرضاً وبالتالى ينطبق بشأنها القواعد ذاتها التى تحكم عقد القرض ومنها ما يتعلق بالتقادم ومدته وانقطاعه وباعتبار الوديعة فى هذه الحالة حق شخص يسرى فى شأنه التقادم المسقط والتى تبدأ مدته من وقت استحقاق الدين أى من وقت حلول أجله هذا إذا كانت الوديعة لأجل .

(الطعن رقم 14197 لسنة 77 جلسة 2016/05/12)

2- إذ كانت الوديعة لأجل هى علاقة وديعة ناقصة تعتبر بمقتضى المادة 726 من القانون المدنى قرضاً من العميل للمصرف المودع لديه تخضع لأحكام عقد القرض ، فيما لم يرد بشأنه نص فى العقد ، وكان عقد القرض لا ينتهى بوفاة أحد طرفيه وإنما ينصرف أثره إلى ورثته لعدم قيامه على علاقة شخصية بحته كما لا تحول وفاة المقرض دون استعمال المقترض لمبلغ القرض . لما كان ذلك ، وكان الثابت فى الأوراق أن مورث المطعون ضدهن الثلاثة الأول فتح حساب ودائع الأولى بمبلغ مقداره 132899.43 دولار أمريكى حتى 9 من أكتوبر سنة 1981 وعائد قدره 18.87% سنوياً مع التعويض عن الأضرار التى لحقت بها والوديعة الثانية بمبلغ مقداره 131865.17 دولار أمريكى وعائد قدره 16.50% سنوياً اعتباراً من 16 من سبتمبر سنة 1981 مع التعويض وذلك باسم المطعون ضدها الثانية باعتباره ولياً طبيعياً عليها والوديعة الثالثة بمبلغ 132257.71 دولار أمريكى وعائد قدره 16.25% سنوياً اعتباراً من 26 من أغسطس سنة 1981 حتى تمام السداد مع التعويض باسم المطعون ضدها الثالثة بصفته ولياً طبيعياً عليها وقد توفى المورث أثناء سريان هذه العقود ولم يخطر المصرف من ورثة المودع بعدم رغبتهم فى امتداد العقد ، فإن ذلك العقد يمتد ما لم يصل المصرف الإخطار المشار إليه ، وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر وانتهى إلى تقرير حق ورثة المودع المطعون ضدهن فى التمسك بشروط عقود الودائع المبرمة بين مورثهن والمصرف ورتب على ذلك استحقاقهم للفوائد طوال مدة بقاء الودائع بالمصرف ، فإنه يكون قد انتهى إلى النتيجة الصحيحة فى القانون والنعى عليه بهذا الوجه فى غير محله .

(الطعن رقم 8479 لسنة 82 جلسة 2014/04/08)

3- إذ كانت الوديعة لأجل - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - هى علاقة وديعة ناقصة تعتبر بمقتضى المادة 726 من القانون المدنى قرضاً من العميل للبنك المودع لديه يخضع لأحكام عقد القرض فيما لم يرد بشأنه نص فى العقد ، و كان عقد القرض لا ينتهى بوفاة أحد طرفيه و إنما ينصرف أثره إلى ورثته لعدم قيامه على علاقة شخصية بحته ، كما لا تحول وفاة المقرض دون استعمال المقترض لمبلغ القرض ، لما كان ذلك و كان الثابت بالأوراق و المسلم به بين الطرفين أن مورث المطعون ضدهم فتح حساب وديعة لأجل بمبلغ 4250 جنيهاً لدى البنك الطاعن فى 29 / 10 / 1976 بفائدة 4 % سنوياً تتجدد تلقائياً لمدد مماثلة ما لم يخطر البنك بعدم الرغبة فى التجديد و أن هذا العقد قد امتد لمدة سنة أخرى حال حياة المورث تنتهى فى 30 / 10 / 1968 إلا أنه توفى قبل نهايتها فى 12 / 6 / 1968 و لم يخطر البنك من ورثة المودع بعدم رغبتهم فى إمتداد العقد ، فإن العقد يمتد ما لم يصل البنك الإخطار المشار إليه ، و لا يكون ثمة محل للتحدى بالقرار الصادر من اللجنة الفنية للبنوك الصادر بتاريخ 26 / 6 / 1967 الذى سلفت الإشارة إليه طالما كان عقد الوديعة قد تضمن نصوصاً تحكم أمر امتداده .

(الطعن رقم 1657 لسنة 49 جلسة 1985/03/11 س 36 ع 1 ص 367 ق 80)

4- أن علاقة البنك بالعميل الذى يقوم بإيداع مبالغ فى حسابه لدى البنك هى علاقة وديعة ناقصة تعتبر بمقتضى المادة 726 من القانون المدنى قرضاً ، وإذ يلتزم المقترض وفقاً لحكم المادة 538 من القانون المدنى بأن يرد للمقرض مثل ما إقترض ، فإن البنك يلتزم فى مواجهة عميله بأن يرد إليه مبلغاً نقدياً مساوياً لما قام بإيداعه فى حسابه لديه من مبالغ ، و إذا قام البنك بناء على أمر عميله بسحب شيك على بنك آخر و تسليمه مقابل كل أو بعض رصيده لديه كان ذلك بالنسبة للبنك وفاء بإلتزامه فى هذا الصدد قبل العميل .

(الطعن رقم 1894 لسنة 49 جلسة 1983/03/20 س 35 ع 1 ص 752 ق 143)

5- الأصل أن النقود المودعة تنتقل ملكيتها إلى البنك الذى يلتزم برد مثلها فتكون علاقة البنك بالعميل الذى يقوم بإيداع مبالغ فى حسابه لدى البنك هى - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - علاقة وديعة ناقصة ، تعتبر بمقتضى المادة 726 من القانون المدنى قرضاً ، والعملية على هذه الصورة منبتة الصلة بالحساب الجارى الذى يتفق الطرفان على فتحه ، إذ يقوم العميل فى الوديعه لأجل ، بإيداع مبالغ فى الحساب دون أن يكون من حقه سحبها خلال فترة معينة فيظل دائماً دائناً للبنك بمبلغ القرض ، ويعتبر الحساب مجمداً ، الأمر الذى لا يتوافر معه شرط تبادل المدفوعات ، وهو من خصائص الحساب الجارى .

(الطعن رقم 113 لسنة 36 جلسة 1973/10/31 س 24 ع 3 ص 1035 ق 180)

6- علاقة البنك بالعميل الذي يقوم بإيداع مبالغ فى حسابه لدى البنك ليست علاقة وكالة وإنما هي علاقة وديعة ناقصة تعتبر بمقتضي المادة 726 من القانون المدني قرضاً ومن ثم فالإيصال الصادر من البنك بإيداع مبلغ لحساب شخص آخر - دون تحديد للمودع - لا يمكن اعتباره مبدأ ثبوت بالكتابة يجوز تكملته بالبينة لأن الورقة التي تعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة يجب أن تكون صادرة من الخصم المراد إقامة الدليل عليه أو ممن ينوب عنه فى حدود نيابته وأن يكون من شأنها أن تجعل الحق المدعى به قريب الاحتمال وهو ما لا يتوافر فى الإيصال المذكور.

(الطعن رقم 372 لسنة 30 جلسة 1965/11/04 س 16 ع 3 ص 973 ق 154)

شرح خبراء القانون

تنص المادة 726 من التقنين المدني على ما يأتي :

"إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالإستعمال ، وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله ، اعتبر العقد قرضاً " .

ويخلص من هذا النص أنه إذا كان محل الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالإستعمال، وأذن المودع للمودع عنده في إستعمال هذا الشيء ، فلا مناص من أن يستهلك المودع عنده الشيء بالإستعمال ، ومن ثم لا يستطيع أن يرد الشيء بعينه كما هو الأمر في الوديعة ، ويتعين أن يرد مثل الشيء كما هو الأمر في القرض .

ولذلك خرج المشرع بهذا النوع من الوديعة وتسمى الوديعة الناقصة - عن أن تكون وديعة إلى أن تكون قرضاً .

وأكثر ما ترد الوديعة الناقصة على ودائع النقود في المصارف حيث تنتقل ملكية النقود إلى المصرف ويرد مثلها، بل ويدفع في بعض الأحيان فائدة عنها، فيكون العقد في هذه الحالة قرضاً أو حساباً جارياً .

وترد الوديعة الناقصة كذلك على الأسهم والسندات تودع في المصارف، وتنتقل ملكيتها إلى المصرف على أن يرد مثلها وقد ترد الوديعة الناقصة على أشياء أخرى مما يهلك بالاستعمال، كالقطن والحبوب .

على أن هناك من الفقهاء من يميز بين الوديعة الناقصة والقرض، ونرى فيما يلي ألا جدوى من هذا التمييز، وأن المشروع المصري أحسن صنعاً بإعتباره الوديعة الناقصة قرضاً .

الوديعة الاضطرارية : كان المشروع التمهيدي للتقنين المدني يشتمل على نص في الوديعة الاضطرارية ، فكانت المادة 1012 من هذا المشروع تجرى على الوجه الآتي :

1- إذا كان المودع قد اضطر أن يودع الشيء درءاً لخطر نشأ عن حريق أو تهد بناء أو نهب أو غرق أو إغارة أو ما شابه ذلك من الحوادث ، جاز له أن يثبت الوديعة بجميع طرق الإثبات مهما بلغت قيمة الشيء المودع .

2- ويكون للوديع في هذه الحالة أجر ، ما لم يقض الإتفاق أو العرف بغير ذلك .

وعليه أن يبذل في حفظ الشيء عناية الرجل المعتاد ، وكل إتفاق يقصد به الحد من مسئوليته أو الإعفاء من المسئولية يكون باطلاً . وقد حذف هذا النص في لجنة المراجعة إكتفاء بالقواعد العامة ولما كان النص المحذوف يمكن اعتباره تطبيقاً للقواعد العامة ، إذ هو يساير نية المتعاقدين مستخلصة من الظروف الاضطرارية التي تمت فيها الوديعة ، لذلك يصح العمل بأحكام هذا النص بالرغم من حذفه .(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : السابع ، المجلد : الأول ، الصفحة : 975)

 

الأصل في الوديعة أن يلتزم المودع عنده بحفظ الشئ المودع وألا يتصرف فيه وإلا كان مبدداً، فإن كان الشئ نقوداً ورخص المودع للمودع لديه في إستعمالها فانه يتعذر على الأخير ردها بعينها وإنما يرد مقدارها فتكون الوديعة في هذه الحالة قرضاً ومثل النقود أي شئ يهلك بالاستعمال، وبذلك تخرج هذه الوديعة عن الودائع المألوفة فتكون وديعة شاذة أو وديعة ناقصة. وهي كثيرة الإستعمال في ان المصارف ودفاتر توفير البريد، كما ترد على الأسهم والسندات والحبوب، وتنتقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده على أن يرد شيئاً مثله أو قيمته فيصبح الشئ المودع ديناً في ذمة المودع عنده ومن ثم تجوز فيه المقاصة وتستحق الفوائد من وقت المطالبة القضائية بها لأن الشي أصبح ديناً في الذمة ولم يظل عيناً معينة حتى تستحق الفوائد من وقت الأعذار وفقاً لما أوضحناه بالمادة 722 ، ولا تقوم جريمة التبديد فالمودع لديه أصبح مالكاً ، وبذلك تختلط هذه الوديعة اختلاطاً تاماً بالقرض وتنأى عن أحكام الوديعة العادية وتكون تبعة الهلاك على المودع عنده الأن الهلاك على المالك .

وكانت المادة المقابلة في المشروع التمهيدي تتضمن فقرة ثانية تنص على أنه يفترض حصول الإذن في استعمال الشئ إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود، إلا أن هذه الفقرة قد حذفت، وترك للقاضي إستخلاص ما إذا كان قصد المتعاقدان قد انصرف إلى أستعمال النقود من عدمه، وذلك من طبيعة المعاملة والظروف الملابسة، فأحل المشرع بذلك، القرينة القضائية محل القرينة القانونية التي كانت الفقرة الملغاة تتضمنها، وبالتالي فإذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود، فقد تكون وديعة تامة، يلتزم معها المودع لديه بردها وفقاً لما تم الإتفاق عليه، سواء للمودع أو لشخص عينه المودع، وسواء تم تحديد ميعاد للرد أو لم يحدد، إذ لا تلازم بين الإذن بإستعمال النقود وتحديد ميعاد للرد، فقد يودع شخص مبلغاً من النقود ويكلف المودع عنده بتسليمه لآخر خلال ميعاد معين، فتظل النقود وديعة رغم تحديد ميعاد لردها. ولا يلزم رد النقود بعينها، إذ يكفي ردها بقيمتها.

وإذا استخلص القاضي من ظروف التعامل، انصراف قصد المتعاقدين إلى إستعمال النقود، كان ذلك قرضاً وليس وديعة، ويمكن إستخلاص هذا القصد من وجود إتفاق على فائدة، أو طول المدة التي يلتزم فيها المودع عنده بالرد، أو من الظروف الملابسة لتسليم النقود، فقد يكون المودع عنده مهدداً بإشهار إفلاسه لحلول موعد الوفاء بكمبيالة، أو مهدداً بإتخاذ إجراء جنائي لعدم وجود رصيد يسمح بالوفاء بقيمة شيك أصدره، أو حلول قسط، أو توافر مسالة عاجلة وضرورية وتتطلب مبلغاً من النقود، ففي هذه الحالات وما يماثلها قد يضطر الشخص إلى تحرير إيصال أمانة يفيد تسلمه المبلغ على سبيل الوديعة ليقع تحت طائلة الجزاء الجنائي إذا أمتنع عن الرد، وحينئذ تتوافر الصورية التدليسية، ويتصدى القاضي لها ويعتبر العقد فرضاً وليس وديعة ، وفقاً لما أوضحناه فيما تقدم.

كما جرى العرف على أن الوديعة البنكية أو البريدية، تضمن إذناً للبنك أو مكتب البريد بإستعمال النقود، فتعتبر الوديعة قرضاً.

ويسرى ذلك أيضاً بالنسبة للمثليات التي تهلك بأول استعمال لها، كالحبوب فتسليمها قد يكون على سبيل الوديعة أو القرض، فان لم تكن تلك بأول إستعمال فلا يكون قرضاً ولا وديعة، إنما عارية إستعمال، کالكتاب والسيارة والعقار.

ثانياً : الوديعة الاضطرارية :

الوديعة الاضطرارية، هي التي يضطر المودع إليها في ظروف صعبة، فلا يملك اختيار المودع عنده فيضطر إلى الإبداع لديه خشية هلاك الشيئ أو ضياعه، كما لو فوجئ المودع بحريق أو نهب أو تخريب أو تهدم بناء أو لصوص يقطعون الطريق أو حوادث أخرى طارئه، فيضطر إلى الإيداع عند الشخص الذي يصادفه دون أن تسمح هذه الظروف من الحصول على عقد مكتوب، فالشرط الأساسي لهذه الوديعة هو أن يجير عليها المودع بحادث جسيم لا يتمكن معه من الحصول على كتابة، فإن انتفى ذلك كانت الوديعة عادية وسرت عليها أحكام الوديعة العادية فلا يكفي ضيق الوقت للحصول على إيصال بالوديعة أو أن يجد المودع مشقة كبيرة في العثور على من يودع عنده المال ويرى البعض أن ما يودع بالفنادق وبقطارات السكك الحديدية هو من قبيل الودائع الاضطرارية والأرجح اعتبارها وديعة عادية جرى العرف بشأنها على أن أيداعها يكون بغیر سند مكتوب ومن ثم يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات القانونية.

ولا تختلف الوديعة الاضطرارية عن الوديعة العادية إلا من حيث الاثبات، اذ يجوز للمودع أن يثبتها بكافة طرق الإثبات القانونية ومنها شهادة الشهود مهما كانت قيمتها، لأن المودع يكون في ظروف يستحيل عليه أن يحصل فيها على كتابة، ولكن متى ثبت حصول الوديعة الاضطرارية فإن القواعد العامة في الإثبات هي التي تتبع فيما يتعلق برد الوديعة، ويضيف الدكتور السنهورى أحكاماً أخرى، استناداً الى ما جاء بالمذكرة الإيضاحية، وهي استحقاق الأجر ما لم يوجد إتفاق أو عرف بأن تكون بغير أجر، وأن يلتزم المودع عنده يبذل عناية الشخص العادي ولو كانت الوديعة بغير أجر، ولا يجوز إعفاء المودع عنده من المسئولية ولا تخفيفها عنه لأن الإتفاق هنا يشوبه الاكراه من جانب المودع عنده من الودائع الإضطرارية - عند البعض - ما يودع لدى أمين التنقل وبأمانات المحطات والجمارك والمسارح والملاعب والنوادي وكابينات الإستحمام. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : العاشر ، الصفحة : 225)

 

فهذا النص يتناول الوديعة الناقصة أو الوديعة الشاذة وهی الإتفاق الذي يسلم شخص بموجبه إلى آخر مبلغاً من النقود أو شيئاً آخر يهلك بالإستعمال، ويصرح له بإستهلاكها، على أن يرد له شيئاً مماثلاً له عند أول طلب منه. كما هو الأمر في القرض، ولذلك خرج المشرع بهذا النوع من الوديعة عن أن تكون وديعة إلى أن تكون قرضاً.

ويتحقق ذلك عملاً بصدد إيداع النقود في المصارف وصناديق التوفير وخزائن المحاكم، حيث تنتقل ملكية النقود إلي هذه الجهات وتلتزم برد مثلها، بل ويدفع في بعض الأحيان فائدة عنها فيكون العقد في هذه الحالة قرضاً أو حساباً جارياً.

أما إذا كان الشيء المودع مثلياً ولكن لا يهتك بالإستعمال كقلم أو كتاب، فإنه يجوز الإذن بإستعماله دون أن تستحيل الوديعة إلى قرض، ويكون العقد في هذه الحالة أقرب إلى العارية منه إلى القرض.

الأصل أن تكون وديعة النقود والأشياء الأخرى التي تهلك بالاستعمال وديعة ناقصة، وهذا واضح من نص المادة 724 مدني.

إلا أنه لا يوجد ما يمنع - كما ذكرنا من قبل - أن تكون النقود والأشياء الأخرى القابلة للإستهلاك وديعة عادية، إذا اتفق الطرفان على ذلك، كما يحدث في وديعة القطع الذهبية أو الفضية أو كيس مغلق من النقود، فتحفظ بذاتها لدى الوديع ولا تنتقل ملكيتها له، ويجب عليه ردها عيناً إلى المودع، فقد تختلف عن مثيلاتها من ناحية مواعيد الإستهلاك ومن ناحية استحقاق الجوائز .

وبصفة عامة إذا وضعت النقود في صندوق أو كيس مغلق بحيث تبقى لها ذاتيتها، فإنه يجب ردها عيناً.

يترتب على إعتبار الوديعة، وديعة ناقصة ما يأتي :

(1) جواز الإحتجاج بالمقاصة :

يجوز الإحتجاج بالمقاصة، لأن ملكية الشيء المودع في الوديعة الناقصة تنتقل إلى الوديع، وأصبح الشيء ديناً في ذمته ومن ثم فالمقاصة جائزة، وهي لم تحظر في الوديعة العادية إلا لأن الشيء المودع احتفظ بذاتيته ولم تنتقل ملكيته إلى الوديع ويجب على الأخير رده بعينه.

(2) سريان الفوائد من تاريخ المطالبة القضائية :

تسرى الفوائد القانونية في الوديعة الناقصة من تاريخ المطالبة القضائية برد مثلها عملاً بالقواعد العامة، نظراً لإنتقال ملكية الشيء المودع إلى الوديع، مما يصبح معه الوديع غير ملزم برد الوديعة بعينها، كالقرض تماماً. كل هذا ما لم يتفق العاقدان على وجوب الرد عند أول طلب يحصل من الدائن ولا يترتب على مثل هذا الإتفاق نفي صفة القرض عن العقد إذ ليس هناك ما يحول دون اشتراط رد المبلغ المقترض بمجرد طلبه.

(3) تحديد أجل للرد :

المقرر أنه يجب رد الوديعة العادية بمجرد طلب المودع. أما المقترض فلا يلزم برد المبلغ عند طلب المقرض مباشرة، ولو لم يحدد أجل للرد، بل يحدد له القاضى ميعاداً مناسباً لحلول الأجل (مادة 272 مدنی ). ومن ثم يسري ذلك على الوديعة الناقصة وهذا الاتجاه يحقق قصد العاقدين، إذ يفترض فيمن صرح الغيره بإستلام ما له، أنه لا يقصد مفاجأته برده بمجرد طلبه، بل يجب أن يمهله وقتاً مناسباً لتجهيز مقابل هذا المال الذي لا يوجد تحت يده، مراعياً في ذلك موارده الحالية والمستقبلة.

وهذا كله إذا لم يتفق المتعاقدان على وجوب الرد عند أول طلب يحصل من الدائن ولا يترتب على مثل هذا الإتفاق نفي صفة القرض عن العقد، إذ ليس هناك ما يحول دون اشتراط رد المبلغ المقترض بمجرد طلبه .

(4) انتفاء جريمة خيانة الأمانة :

إذا بدد الوديع الشيء المودع في الوديعة العادية إضراراً بالمودع فإنه يعاقب بعقوبة خيانة الأمانة المنصوص عليها بالمادة 341 من قانون العقوبات.

أما في الوديعة الناقصة، فإن الوديع لا يتسلم الشيء المودع على سبيل الوديعة الناقصة ، فإن الوديع لا يتسلم الشئ إلي ملكه علي أن يرد مثله ، ومن ثم فلا جريمة إذا تصرف في الشيء المودع.

(5) تبعة هلاك الشيء المودع:

إذا هلك الشيء المودع في الوديعة الناقصة بسبب أجنبي فإن تبعة هلاكه تكون على الوديع، لأن ملكية الشيء المودع قد انتقلت إليه، كالقرض تماماً ، أما في الوديعة العادية فالهلاك - على المودع.

فيمكن على ضوء ما تقدم تعريف الوديعة الإضطرارية بأنها تلك التي يضطر فيها المودع إلى أن يودع الشيء درءاً لخطر يلحق بالشيء نشأ عن حريق أو تهدم بناء أو نهب أو غرق أو إغارة أو ما شابه ذلك من الحوادث، أو أي خطر بصفة عامة.

شرط الوديعة الاضطرارية :

يشترط لكي توصف الوديعة بأنها اضطرارية أن يقوم بها المودع في ظروف يخشى معها خطراً داهماً على الشئ، فيضطره لأن يودع الشيء على عجل عند أول شخص يستطيع أن يعهد إليه بالوديعة.

ومثل هذه الظروف ما ورد بالمادة 1012 من المشروع التمهيدي - المحذوفة - الخطر الناشئ عن حريق أو تهدم بناء أو نهب أو غرق أو إغارة، ويضاف إليها أمثلة أخرى كالثورة والاضطرابات والزلازل أو لصوص يقطعون الطريق. فيرى المودع نفسه مضطراً حتى يدرء الخطر عن ماله إيداعه لدى أول شخص يقبل إيداعه، فهو ليس له خیار في أن يودع الشيء لدى أول . شخص يقبل إيداعه أو لدى غيره، وهذه الوديعة لا تبرم کالوديعة العادية بعقد صریح .

ويجب بالإضافة إلى توافر الظرف الملجئ إلى الإيداع واضطرار المودع إلى هذا الإيداع، ألا يكون هناك وقت أو وسيلة للحصول على كتابة.

ويغلب أن تكون هذه الحوادث تعسة، ومن أجل ذلك سمى الرومان هذه الوديعة بالوديعة التعسفية أو الوديعة البائسة أو وديعة البائس .

ولا يكفي لتكون الوديعة إضطرارية أن يجد المودع مشقة كبيرة في العثور على وديع، ولا ألا يكون عند المودع الوقت الكافي للحصول على إيصال بالوديعة .

ولكن الاضطرار هنا لا يصل إلى حد الإكراه الذي يصيب الإرادة، ومن ثم تكون الوديعة الاضطرارية عقداً صحيحاً يتكون من إرادتين صحيحتين ولا يجوز إبطاله للإكراه، ولكنه يخضع لقواعد خادمة تترتب على واقعة الإضطرار التي تصل إلى حد الإكراه.

الوديعة الاضطرارية تخضع لسائر أحكام الوديعة العادية، فتنشأ عنها سائر الإلتزامات والحقوق التي تنشأ عن الوديعة العادية والتي تناولناها فيما تقدم .

إلا أن هناك بعض الأحكام التي تنفرد بها الوديعة الاضطرارية نوردها فيما يلى :

(1) إثبات الوديعة :

تطبيقاً للمادة (63 / أ) من قانون الإثبات التي تقضي بأنه يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بدلیل كتابي إذا وجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي. يجوز للمودع إذا أثبت وجود الظرف الملجئ إلى الإيداع واضطراره إلى هذا الإيداع، كان له أن يثبت الوديعة بالبينة والقرائن ولو زادت قيمتها على ألف جنيه، بإعتبار هذا الظرف مانعاً مادياً من الحصول على دليل كتابي.

كما يجوز للقاضي أن يوجه اليمين المتممة إلى الوديع ولو زادت قيمة الوديعة على النصاب المتقدم.

والأصل في الوديعة الإضطرارية أن تكون مأجورة - بعكس الوديعة العادية - وعلى هذا نصت الفقرة الثانية من المادة (1012) من المشروع التمهيدي للتقنين المدني - المحذوفة - بقولها : " ويكون للوديع في هذه الحالة أجر ما لم يقض الإتفاق أو العرف بغير ذلك ... إلخ". ذلك أنه لا يسوغ إسناد نية التبرع إلى من يتلقى الوديعة في مثل هذه الظروف الاضطرارية، ما لم يبد منه ما يفيد اتجاه نيته إلى هذا الأمر صراحة أو كان العرف قد جرى على ذلك .

(3) مسئولية الوديع:

تكون مسئولية الوديع في الوديعة الإضطرارية مشددة لكونه مأجوراً عليها . فيلزمه إذن أن يبذل في حفظ الشيء وصيانته عناية الرجل المعتاد على الأقل، وذلك نظراً لظروف الوديعة الاضطرارية.

وكانت المادة ( 2 / 1012) من المشروع التمهيدي للتقنين المدني - المحذوفة تنص على ذلك بقولها : ".... وعليه أن يبذل في حفظ الشیء عناية الرجل المعتاد.... الخ".


لا يجوز الإتفاق في الوديعة الإضطرارية على إعفاء الوديع من المسئولية ولا تخفيف هذه المسئولية عنه ذلك أن مثل هذا الإتفاق يكون مشوباً بالإكراه من جانب الوديع للظروف التي تتم فيها الوديعة.(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : التاسع ، الصفحة : 503)

الفقه الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والأربعون ، الصفحة / 52

التِّجَارَةُ بِالْوَدِيعَةِ:

50 - الاِتِّجَارُ بِالْوَدِيعَةِ مَكْرُوهٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِاعْتِبَارِهِ تَجَاوُزًا لِلْحَقِّ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ رَبُّهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنَ النُّقُودِ والْمِثْلِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْعَرُوضِ والْقِيمِيَّاتِ. وَرَجَّحَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ حُرْمَتَهُ فِي الْمَالَيْنِ، وَفَصَّلَ الْبَعْضُ الآْخَرُ فَقَالَ بِحُرْمَتِهِ فِي الْعَرُوضِ وَكَرَاهَتِهِ فِي النُّقُودِ .

وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الاِتِّجَارَ بِالْوَدِيعَةِ بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا تَعَدٍّ يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الضَّمَانَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلاَفٌ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ النَّاتِجَ عَنِ اتِّجَارِ الْوَدِيعِ، وَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:

الأْوَّلُ: أَنَّ الرِّبْحَ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، لأِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الأْصُولِ وَالْقَوَاعِدِ أَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، فَيَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ لَهُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَنَافِعٍ مَوْلاَهُ، وَأَبِي قِلاَبَةَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .

الثَّانِي: أَنَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَلأِنَّ الْوَدِيعَ عِنْدَ الْبَيْعِ يُخْبِرُ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ فِي التِّجَارَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ «قَيْسِ بْنِ أَبِي غُرْزَةَ الْكِنَانِيِّ، قَالَ:«كُنَّا نَبْتَاعُ الأْوْسَاقَ بِالْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ، قَالَ: فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ، وَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِمَّا كُنَّا نُسَمِّي بِهِ أَنْفُسَنَا فَقَالَ: يَا مَعْشَر التُّجَّارِ، إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ، فَشَوِّبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» .

فَعَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ فِي إِيجَابِ التَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ .

الرَّابِعُ: أَنَّ الرِّبْحَ لِلْوَدِيعِ، إِذْ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِهِ وَجُهْدِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِضَمَانِهِ، لأِنَّ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ وَقْتَ الاِتِّجَارِ بِهَا مِنْهُ، وَلأِنَّهُ لاَ يَكُونُ أَسْوَأَ حَالاً مِنَ الْغَاصِبِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا اتَّجَرَ بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ فَرَبِحَ فَهُوَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ لَهُ الرِّبْحُ فَالْوَدِيعُ أَوْلَى، وَلأِنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَدْفَعِ الْمَالَ إِلَيْهِ بِغَرَضِ طَلَبِ الْفَضْلِ وَالرِّبْحِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَصْلُ مَالِهِ دُونَ الرِّبْحِ.

وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَيَحْيَى الأْنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .

غَيْرَ أَنَّ الإْمَامَ أَبَا يُوسُفَ قَيَّدَ اسْتِحْقَاقَهُ الرِّبْحَ بِرَدِّهِ الْوَدِيعَةَ أَوْ أَدَائِهِ الضَّمَانَ لِلْمُودِعِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَطِيبُ لِلْوَدِيعِ الرِّبْحُ إِذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ سَلَّمَ عَيْنَهَا، بِأَنْ بَاعَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، وَدَفَعَهَا إِلَى مَالِكِهَا.

وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ إِذَا رَدَّ رَأْسَ الْمَالِ كَمَا هُوَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ قَلِيلٌ وَلاَ كَثِيرٌ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ .

الْخَامِسُ: أَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بَيْنَ الْوَدِيعِ وَالْمُودِعِ عَلَى قَدْرِ النَّفْعَيْنِ، بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَيَقْتَسِمَانِهِ بَيْنَهُمَا كَالْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَبِهِ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. إِلاَّ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعُدْوَانِ، مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَالُ نَفْسِهِ، فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَهُنَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بِلاَ رَيْبٍ .

اسْتِقْرَاضُ الْوَدِيعَةِ:

51 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ اقْتِرَاضَ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ يَجْعَلُهَا مَضْمُونَةً فِي ذِمَّتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا اقْتِرَاضُهُ مِنْهَا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ:

فَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالُوا: يَحْرُمُ عَلَى الْوَدِيعِ أَنْ يَتَسَلَّفَ الْوَدِيعَةَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ أَمْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِتَضَرُّرِ مَالِكِهَا بِعَدَمِ الْوَفَاءِ، نَظَرًا لإِعْدَامِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَيَنْظُرُ: فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ عَرْضًا قِيمِيًّا، فَيَحْرُمُ عَلَى الْوَدِيعِ اقْتِرَاضُهَا. قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: لأِنَّ مِثْلَهُ لَيْسَ كَعَيْنِهِ، لاِخْتِلاَفِ الأْغْرَاضِ بِاخْتِلاَفِ أَفْرَادِهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ وَشِرَاءَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا هُوَ مَظِنَّةُ عَدَمِ رِضَاهُ .

وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ نَقْدًا فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَذَلِكَ لأِنَّ مِثْلَهُ كَعَيْنِهِ، فَالتَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ فِيهِ كَلاَ تَصَرُّفٍ، أَوْ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِمَا هُوَ مَظِنَّةُ أَنْ لاَ يَأْبَاهُ رَبُّهُ، فَلَمَّا لَمْ يُرَدْ لِذَاتِهِ، كَانَ أَخَفَّ مِنَ الْمُقَوَّمِ. وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ تَسَلُّفِ النَّقْدِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُبِحْ لَهُ رَبُّهُ ذَلِكَ أَوْ يَمْنَعُهُ، بِأَنْ جَهِلَ، وَإِلاَّ أُبِيحَ فِي الأْوَّلِ، وَمُنِعَ فِي الثَّانِي .

وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِيهِ وَفَاءٌ، وَأَشْهَدَ عَلَى الاِقْتِرَاضِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ: أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لاَ تَتَعَيَّنُ، فَكَأَنَّهُ لاَ مَضَرَّةَ عَلَى الْمُودِعِ فِي انْتِفَاعِ الْوَدِيعِ بِهَا إِذَا رَدَّ مِثْلَهَا، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهَا، وَيَتَمَسَّكَ بِهَا مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا، وَلأِنَّ الْمُودِعَ قَدْ تَرَكَ الاِنْتِفَاعَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَجَازَ لِلْوَدِيعِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا. وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الاِنْتِفَاعِ بِظِلِّ حَائِطِهِ وَضَوْءِ سِرَاجِهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ الأْخْرَى ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَكْثُرُ اخْتِلاَفُهُ وَلاَ يَتَحَصَّلُ أَمْثَالُهُ، فَيَحْرُمُ تَسَلُّفُهَا، كَالْقِيمِيَّاتِ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ سَلَفُهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الأْظْهَرُ عِنْدِي الْمَنْعُ، وَقَدْ عَلَّقَ اللَّخْمِيُّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي الْجَوَازِ، فَقَالَ: وَأَرَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمُودِعِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَدِيعِ، أَوْ مَعَهُ كَرَمُ طَبْعٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ الْكَرَاهِيَةَ لَمْ يَجُزْ.

وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَإِذَا تَسَلَّفَ مَا لاَ يَحْرُمُ تَسَلُّفُهُ، ثُمَّ رَدَّ مَكَانَهَا مِثْلَهَا، فَتَلِفَ الْمِثْلُ، بَرِئَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ رَجُلاً دَرَاهِمَ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَتَسَلَّفَهُ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ مَكَانَهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّدِّ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنْ كَانَ الَّذِي رَدَّ مَكَانَهُ يَتَمَيَّزُ مِنْ دَنَانِيرِهِ وَدَرَاهِمِهِ، فَضَاعَتِ الدَّنَانِيرُ كُلُّهَا، ضَمِنَ مَا تُسُلِّفَ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَضَعَ بَدَلاً مِمَّا أَخَذَ لاَ يَتَمَيَّزُ وَلاَ يُعْرَفُ، فَتَلِفَتِ الدَّنَانِيرُ، ضَمِنَهَا كُلَّهَا .

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنْ عَلِمَ الْوَدِيعُ عِلْمًا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ رَاضٍ بِذَلِكَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ رَجُلٍ اخْتَبَرْتَهُ خِبْرَةً تَامَّةً، وَعَلِمْتَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَهُ، وَمَتَى وَقَعَ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، لَمْ يَجُزِ الاِقْتِرَاضُ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة الأحكام العدلية

مادة (3) العبرة في العقود

العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، ولذا يجري حكم الرهن في البيع بالوفاء.