مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : الخامس، الصفحة : 300
المقامرة والرهان
المذكرة الإيضاحية :
نظرة عامة :
حرم المشروع المقامرة تحريماً أبعد أثراً من تحريم التقنين الفرنسي فكل إتفاق على مقامرة أو رهان يكون باطلاً، ويستطيع من خسر أن يسترد مادفعه، وله أن يثبت الدفع بجميع الطرق أما التقنين الفرنسي فقد منع الخاسر من أن يسترد مادفع إلا إذا كان هناك غش من الطرف الآخر، وهذا من شأنه أن يضعف من أثر تحریم المقامرة، فإن المقامرين يعتبرون دین القمار متعلقاً بالشرف ويحتمون دفعه في مدة وجيزة، فإذا ما دفع لا يسترد.
واستثني المشروع من تحريم المقامرة الألعاب الرياضية إذا كان الرهان بين المتبارين أنفسهم، ولكنه أعطى الحق للقاضي في تخفيض قيمة الرهان إذا كان مبالغة فيه واستثنى كذلك ما رخص فيه القانون من أوراق النصيب .
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- المقامرة والرهان يتوقفان على الحظ . لذلك كان الاتفاق الخاص بهما باطلاً لمخالفته للآداب وللنظام العام والبطلان مطلق لا ترد عليه الإجازة واستثناء من القاعدة التي تقضي بأنه لا يجوز أن وفي بالتزام مخالف للآداب أن يسترد ما دفعه إلا إذا كان هو في التزامه لم يخالف الآداب (م 201 فقرة 3 من المشروع )، أجاز المشروع : توثيقاً في تحريم المقامرة، أن يسترد الخاسر ما دفعه للرابح في خلال سنة من الدفع، وتسهیلاً لاستعمال هذا الحق أجاز المشروع أيضاً أن يكون إثبات الدفع بجميع الطرق، بما في ذلك البينة والقرائن، حتى لو كان المبلغ المدفوع يزيد على عشرة جنيهات والقاعدة التي تقضي بجواز الاسترداد تعتبر من النظام العام، فلا يجوز الإتفاق على ما يخالفها وبذلك سد المشروع الطريق على التحايل، إذ أجاز الاسترداد، وحرم الاتفاق على عدم جوازه، وأباح إثبات الدفع بجميع الطرق .
2- وغنى عن البيان أن الحق في الاسترداد ينتقل إلى الورثة فإذا مات الخاسر بعد أن أدى ما خسره، ولم يمض عام على الدفع، جاز للورثة أن يستردوا هم ما دفعه مورثهم واستعمال الورثة لهذا الحق بعد موت مورثهم أكثر احتمالاً من استعمال المورث للحق حيال حياته ( لذلك يحسن أن تطال مدة الاسترداد إلى ثلاث سنوات حتى بنفس الوقت أمام الورثة ).
1- إذا كان الحكم قد أقام قضاءه برفض إعمال نظرية الحوادث الطارئة على أن عقود بيع القطن الآجلة " الكونتراتات " تقوم بطبيعتها على فكرة المخاطرة والمضاربة على المستقبل وأنه يتعين على المتعاقد أن يتوقع فيها جميع الإحتمالات والحوادث الطارئة التى قد تؤثر فى إلتزامه سواء كانت متوقعة أو غير متوقعة فإنه لا يكون قد خالف صحيح القانون ويحمل الرد على ما أثاره الطاعن من بطلان العقد لإنطوائه على مقامرة ذلك أنه مادام العقد بطبيعته من شأنه أن يعرض أحد المتعاقدين لخسارة جسيمة أو مكسب كبير فإنه لا يجوز إبطاله لمجرد إنطوائه على المقامرة أو المضاربة كما لا يجوز إعمال نظرية الحوادث الطارئة فى شأنه لأن المتعاقد يعلم سلفاً أنه يتعاقد بعقد إحتمالى مبناه فكرة المخاطرة .
(الطعن رقم 117 لسنة 31 جلسة 1966/02/15 س 17 ع 1 ص 287 ق 38)
2- لما كانت لعبة "الشيش بيش" التى كان يزاولها المحكوم عليهما الأخران بمقهى الطاعن وفى حضرته وتحت سمعه وبصره ، هى من ألعاب القمار المحظور لعبها فى المحال العامة طبقاً لنص المادة 19 من القانون رقم 371 لسنة 1956 - فى شأن المحال العامة - وقرار وزير الداخلية رقم 37 لسنة 1957 ، وكان الربح كما يتحقق فى صورة المقامرة على مبلغ من النقود قد يتحقق أيضاً فى المقامرة على طعام أو شراب ثمنه مستحق الاداء لصاحب المقهى أو على أى شيء أخر يقوم بمال ، فإن مسئولية الطاعن بإعتباره مستغلاً للمقهى عن هذه المخالفة تكون قد تحققت على مقتضى المادة 38 من القانون رقم 371 لسنة 1956 سالف الذكر ، سواء أعادت عليه فائدة من وراء المقامرة أم لا .
(الطعن رقم 10336 لسنة 62 جلسة 1997/12/03 س 48 ع 1 ص 1340 ق 203 ( جنائى ) )
المقامرة عقد يتعهد بموجبه كل مقامر أن يدفع، إذا خسر المقامرة، للمقامر الذي كسبها مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر يتفق عليه والرهان عقد يتعهد بموجبه كل من المتراهنين أن يدفع، إذا لم يصدق قوله في واقعة غير محققة، للمتراهن الذي يصدق قوله فيها مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر يتفق عليه .
ويتبين من ذلك أن المقامرة توافق الرهان في أن حق المتعاقد في كل منهما يتوقف على واقعة غير محققة، هي أن يكسب المقامر اللعب في المقامرة أو أن يصدق قول المتراهن في الرهان ولكن المقامرة تفارق الرهان في أن المقامر يقوم بدور إيجابي في محاولة تحقيق الواقعة غير المحققة، أما المتراهن فلا يقوم بأي دور في محاولة تحقيق صدق قوله.
تنص المادة 739 من التقنين المدني على ما يأتي :
"1- يكون باطلاً كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان" .
"2- ولمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره، ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك وله أن يثبت ما أداه بجميع الطرق.
تقول الفقرة الأولى من المادة 739 مدني فيما رأينا : " يكون باطلاً كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان" . فعقد المقامرة أو الرهان عقد باطل بطلاناً مطلقاً، لمخالفته للآداب والنظام العام هو مخالف للآداب، لأن المقامر أو المتراهن يقوي في نفسه الإثراء لا عن طريق العمل والكد، بل عن طريق المصادفة . ثم إن عقد المقامرة أو الرهان مخالف للنظام العام، فإن الثروات التي يتداولها المقامرون والمتراهنون، وكثيراً ما ينجم عن تداولها خراب بيوت عامرة والعصف بأسر آمنة تلقى في الحضيض من وهدة الفقر، ليست بالثروات التي يقوم تداولها على العمل والإنتاج .
فالمقامر أو المتراهن لا يعمل ولا ينتج، بل يختطف مالاً لم يبذل جهداً مشروعاً في كسبه ولو أن مجتمعاً انصرفت الناس فيه إلى المقامرة والرهان دون غيرها من الأعمال، لما زادت ثروة هذا المجتمع شيئاً، ولا يقتصر الأمر على أن تنتقل الثروة دون أن تزيد من يد إلى يد، لا لفضل العمل فيمن كسب، بل لمجرد الحظ والمصادفة والمقامر ينصرف عن العمل المنتج، وتتأصل في نفسه كالمرابي غريزة الجشع وإذا كان المرابي يعتمد على استغلال حاجة الناس، فإن المقامر يعتمد على حسن طالعه مواتاة الحظ له .
على أن القانون، إذا آنس خيراً في بعض ضروب المقامرة أو الرهان، أحلها . كما فعل عندما أباح المباراة في الألعاب الرياضية، وأجاز للفائز الكسب المادي تشجيعاً لهذه الألعاب النافعة ولكي يكونه هناك حافز للتفوق فيها، وكما فعل عندما رخص في النصيب للجمعيات الخيرية، حتى يوفر لها مورداً من المال تنفق منه في أعمال الخير، وسنبحث ذلك تفصيلاً فيما يلي .
ما يترتب على البطلان - الجزاء المدني : ويترتب على بطلان عقد المقامرة أو الرهان جزاؤه المدني، وهو ألا ينتج العقد أثراً، وهذا من ناحيتين الناحية الأولى هي أن من خسر في مقامرة أو رهان لا يلتزم بشيء، فلا يجبر على دفع الخسارة لمن فاز وإذا رفع هذا الأخير عليه دعوى يطالبه بالوفاء، كان له أن يدفع هذه الدعوى ببطلان العقد، وهذا ما يسمى بدفع المقامرة والناحية الثانية هي أن من خسر، لو أنه دفع خسارته طوعاً عن بينة وإختيار، كان له مع ذلك أن يسترد ما دفع، إذ أن عقد المقامرة أو الرهان باطلاً لا يلزمه بشيء، فيكون قد دفع ما هو غير مستحق في ذمته، فيسترده بدعوى استرداد ما دفع بغير حق .
والناحية الأولى واضحة من النص صراحة على بطلان عقد المقامرة أو الرهان في الفقرة الأولى من المادة 739 من التقنين المدني الجديد وكان القضاء، في عهد التقنين المدني القديم، يجري أيضاً حكم البطلان فلا يجيز الإجبار على دفع الخسارة، وذلك دون نص إعتماداً على تطبيق القواعد العامة في العقود المخالفة للآداب العام أما التقنين المدني الفرنسي فينص صراحة في المادة 1965 منه على أن "القانون لا يخول أية دعوى في دين المقامرة أو في دفع الرهان".
والناحية الثانية واضحة أيضاً من النص عليها صراحة في الفقرة الثانية من المادة 739 من التقنين المدني الجديد.
وهي بعد ليست إلا تقريراً للقواعد العامة في العقود الباطلة وفي إسترداد ما دفع دون حق.
وبطلان المقامرة والرهان من النظام العام كما قدمنا، فلا يجوز النزول عنه ولا الإتفاق على ما يخالفه.
كذلك لا يلحق العقد الإجازة :
أما التقنين المدني الجديد فقد خرج على تقاليد عهد التقنين المدني القديم المستمدة من القانون الفرنسي كما قدمنا، ونص في الفقرة الثانية من المادة 739 منه كما رأينا على ما يأتي : "ولمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره، ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك وله أن يثبت ما أداه بجميع الطرق" فيجوز إذن للخاسر، طبقاً لأحكام التقنين المدني الجديد، وخلافاً لتقاليد التقنين المدني القديم على النحو الذي بيناه، أن يسترد ما دفعه.
وليس في هذا إلا تطبيق سليم لأحكام البطلان والقاعدة استرداد ما دفع دون حق فعقد المقامرة او الرهان باطل لمخالفته للآداب والنظام العام كما قدمنا؛ ويترتب على بطلانه أنه لا ينتج أي أثر، فإذا دفع الخاسر ما خسره يكون قد دفع ما هو غير مستحق في ذمته، فيكون له الحق في استرداد ما دفع دون حق ولا يمن أن يكون هناك التزام طبيعي في ذمة الخاسر، فإن المادة 200 مدني تقول في صراحة : "وفي كل حال لا يجوز أن يقوم التزام طبيعي يخالف النظام العام" . وقد علمنا أن دين المقامرة أو الرهان مخالف للنظام العام، فلا يمكن أن يتخلف عنه التزام طبيعي.
والحكم بجواز الاسترداد يتمشى أيضاً مع قاعدة استرداد ما دفع دون حق كما قدمنا، وإذا كان الخاسر قد دفع ما خسره وهو عالم ببطلان عقد المقامرة أو الرهان، فإن علمه بالبطلان لا يمنعه من استرداد ما دفع، طبقاً للأحكام المقررة في قاعدة دفع غير المستحق.
جواز الاسترداد من النظام العام : وما أن بطلان عقد المقامرة أو الرهان مقرر للنظام العام، كذلك جواز استرداد الخاسر ما دفعه من خسارة مقرر للنظام العام . ويترتب على ذلك أنه لا يجوز الإتفاق على ما يخالف قاعدة جواز الاسترداد، ويبقى للخاسر حق استرداد ما دفع حتى لو كان هناك إتفاق بينه وبين من كسب على أنه لا يجوز له أن يسترد ما دفع، ويعتبر هذا الاتفاق باطلاً لمخالفته للنظام العام . والنص صريح في هذا المعنى، إذ تقول المادة 739/2 مدني كما رأينا : "ولمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك" .
وهكذا تتأكد فكرة الاسترداد، إذ أحاطها القانون بضمانات ثلاثة تسد الطريق على التحايل : فهو قد أجاز الاسترداد صراحة، وحرم الاتفاق على عدم جوازه، وأباح إثبات الدفع بجميع الطرق.
تقادم دعوى الاسترداد :
تتقادم دعوى الاسترداد بانقضاء ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه الخاسر ما خسره، وتقرر المادة 739/2 مدني هذا الحكم إذ تقول كما رأينا : "ولمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره" .
وقد كان المشروع التمهيدي يجعل التقادم سنة واحدة، ولكن المذكرة الإيضاحية لهذا المشروع أشارت في الوقت نفسه إلى أنه يحسن أن تطال مدة الاسترداد إلى ثلاث سنوات وقد أدخل هذا التعديل فعلاً في لجنة المراجعة، إذ جعلت مدة الاسترداد ثلاث سنوات بدلاً من سنة واحدة .
وبذلك اتسقت أحكام استرداد دين المقامرة أو الرهان مع الأحكام العامة المقررة في دفع غير المستحق، إذ مدة الاسترداد طبقاً لهذه الأحكام العامة هي ثلاث سنوات.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ السابع، المجلد : الثاني، الصفحة : 1257)
المقامرة عقد يتعهد بموجبه شخصان أو أكثر بدفع مبلغ معين أو شيء معين لمن يربح منهم، والرهان عقد بين شخصين أو أكثر اختلفوا على أمر ما بمقتضاه يتفقون على أن من يظهر صواب رأيه منهم يستلم من الآخرين مبلغاً أو أي شيء آخر وعقود المقامرة والرهان باطلة بطلاناً مطلقاً لمخالفته للنظام العام ويترتب على ذلك:
أولاً : لا تنتج هذه العقود أثراً فلا يجبر من خسر على دفع الخسارة وله رفع الدعوى ببطلان العقد، وأن دفع خسارته طواعية كان له استرداد ما دفع بدعوى استرداد ما دفع بغير حق، وهناك أيضاً جزاء جنائي في تشريعات متعددة وقد يقترض المقامر أو المتراهن ليتمكن من الاستمرار في المقامرة أو الرمان ومن ثم يكون سبب القرض غير مشروع فيقع باطلاً ولا يلتزم حينئذ المقرض بتسليم المبالغ للمقامر أو المتراهن وإن كان قد سلمه فيسترده لا بموجب عقد القرض لبطلانه وإنما بموجب قاعدة إسترداد ما دفع بغير حق دون مراعاة للأجل، ويراعى أن القرض لا يكون باطلة إلا إذا كان المقترض عالم بسبب القرض وهو الرغبة في الإستمرار في المقامرة أو الرهان إذ أن السبب غير المشروع لا يبطل العقد إلا إذا كان معلوماً أو ينبغي أن يكون معلومة من المتعاقدين، ويكون الإقتراض صحيحاً إذا كان بقصد سداد الخسارة ويحق له استرداد ما دفعه.
ثانياً : لا يجبر من خسر على دفع الخسارة ويستطيع رفع دعوى ببطلان العقد أو يدفع دعوى المطالبة التي ترفع عليه بدفع يسمى دفع المقامرة وله أن يثبت دعواه أو دفعه بكافة طرق الإثبات القانونية بما فيها البينة والقرائن حتى لو كانت الخسارة تجاوز نصاب البينة أو حرر بها سنداً لم يذكر فيه سبب الإلتزام أو ذکر على أنه سبب مشروع كقرض إذ له إثبات السبب الحقيقي غير المشروع بكافة الطرق حتى لو كان المبلغ يجاوز نصاب البينة أو كان ثابتاً بالكتابة، ودفع المقامرة يجوز التمسك به في أية حالة كانت عليها الدعوى ولو لأول مرة أمام محكمة الإستئناف وأمام محكمة النقض وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها، ولكل ذي مصلحة أن يتمسك به كالمقامر أو المتراهن الذي خسر والخلف العام کالواراث والموصى له والخلف الخاص متى وردت الخسارة على غين انتقلت ملكيتها إليه وللدائن بموجب الدعوى غير المباشرة أو بدعوى مباشرة ببطلان العقد، وعقد المقامرة أو الرهان لا تلحقه الاجازة إذ أنها قاصرة على العقد الباطل بطلاناً نسبياً ومن ثم لا يصح الإقرار أو التعهد بالدفع أو تحرير كمبيالة أو سند أو شيك على أنه إذا ظهرت لحامل حسن النية التزم من خسر بالوفاء ويرجع بما وفي على من کسب بل له إدخال هذا الأخير ضامنة في الدعوى المرفوعة عليه، كما يجوز استرداد هذه الأوراق بدعوى البطلان، وبناءً على ذلك فلا يصح ادماج دين المقامرة او الرهان في حساب جار أو حولته أو تجديده أو المقاصة به أو اتحاد الذمة فيه أو كفالته أو ضمانه برهن أو الصلح عليه أو التحكيم فيه.
ثالثاً : إذا كان من خسر قد دفع خسارته فله استردادها وهذا الحكم متعلق بالنظام العام فيقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك ويجوز إثبات الخسارة بكافة طرق الإثبات القانونية بما فيها البينة والقرائن.
وتتقادم دعوى الاسترداد بانقضاء ثلاث سنوات من وقت دفع الخسارة.
إثبات الوفاء بالتزام الخاسر : ما يقع التزام المقامر أو المراهن باطلاً بطلاناً مطلقاً لمخالفته الآداب والنظام العام، - ولذلك يكون الوفاء به بدوره باطلاً بطلاناً مطلقاً، فلا يجوز إجباره عليه حتى لو تعهد المقامر أو المراهن على الوفاء به وحرر بذلك سنداً كسند إذنی أو كمبيالة أو إيصال أمانة سواء ذكر به سبب مشروع للإلتزام، کوصول القيمة نقداً أو بضاعة، أو لم يذكر به سبب، إذ يكون المحرر حينئذ مشوبة بالصورية التدليسية فيما يتعلق بسبب الإلتزام مما يجوز معه إثبات السبب الحقيقي بكافة الطرق المقررة قانوناً ومنها البينة والقرائن .
أما إن تمثل المحرر في شيك، فإن إثبات حقيقة سببه ينحصر في المطالبة بقيمته مدنياً، وبالتالي لا يجوز إثارة هذا الدفاع أمام المحكمة الجنائية، إذ لا تهدر حجية الشيك جنائية إلا بموجب بياناته، لكن إذا أدين المقامر أو المراهن، جاز له الرجوع بدعوى التعويض على خصمه وفقاً لقواعد المسئولية التقصيرية، لتوافر الخطأ التقصيري لتقديم شيك لا حق له في قيمته.
أما إيصال الأمانة، فللمحكمة أن تتحقق من صبيه الحقيقي إذا أيدي أمامها دفاع يتعلق بذلك، ولها إستخلاص السبب الحقيقي من القرائن ولو كانت قيمة الايصال تجاوز نصاب البينة، لأن الإثبات بالقرائن جائز طالما كان ثبات بالبينة جائزة، والصورية التدليسية يجوز إثباتها بكافة الطرق على التفصيل الذي أوضحنا بالمادة 244 .
وقد ترد الصورية التدليسية في عقد بيع أو إيجار أو هبة أو حوالة حق أو غيرها من العقود، ومن ثم يجوز إثبات صورية السبب بجميع طرق الإثبات حتى لو تم تسجيل العقد أو إفراغه في الشكل الرسمي، إذ ليس من شأن ذلك تصحيح البطلان الذي شاب العقد.
تقادم دعوى بطلان المقامرة أو الرهان :
يجب على الخاسر أو ورثته من بعده، رفع دعوى بطلان المقامرة أو الرهان خلال ثلاث سنوات من تاريخ الوفاء بالإلتزام أي من تاريخ أداء ما خسره سواء تعلق الأداء بمنقول أو عقار، ويتم الأداء بالتسليم في المنقول والعقار دون حاجة الى التسجيل في العقار، لأن كلمة "أدي" الواردة بالمادة 739 سالفة البيان، تنصرف إلى التسليم والتخلي عن المال ما يقرع إنتباه الخاسر إلى حقه في استرداده، وبالتالى يبدأ تقادم دعوى البطلان والإسترداد اعتباراً من تاريخ الأداء بتسليم المال سواء كان منقولاً أو عقاراً أو حقاً شخصياً كالإيجار، ولما كان الشيك يعتبر وفاء، فإن تسليمة يعتبر أداء للخسارة.
ويخضع التقادم للقواعد العامة، فيرد عليه الوقف والإنقطاع وفقاً لما تضمنته تلك القواعد.
وإن كان طلب البطلان واسترداد ما دفعه الخاسر، يتعلق بالنظام العام، فإن سقوط الحق في ذلك بالتقادم، لا يتعلق بالنظام العام، ولذلك لا تقضي المحكمة بالتقادم من تلقاء نفسها إذا كانت مدته قد اكتملت، فإن لم تكن قد إكتملت تعين عليها، ولو من تلقاء نفسها أن تقضى ببطلان عقد الرهن أو المقامرة.
ومتى اكتملت مدة التقادم انقلب العقد الباطل إلى عقد صحيح بقوة القانون، وكان البطلان المطلق لا يرد عليه التقادم في ظل القانون المدني القديم، وقد خالف الشرع هذه القاعدة في القانون المدني الحالي، وأخضع هذا البطلان للتقادم الطويل عملاً بالفقرة الثانية من المادة 141 ما لم يوجد نص يقرر مدة أقل، كنص المادة 739 سالف البيان، متى كان تاريخ العقد هو تاريخ الأداء، فإن لم يكن الأداء قد تم، احتسب التقادم من تاريخ العقد عملاً بالفقرة الثانية من المادة 141 وفي هذه الحالة قد توافر شروط التقادم لدى الخاسر إذ تظل له حيازة المال مما يجوز معه الدفع بسقوط الحق في الدعوى التي تقام بإلزامه بتنفيذ التزامه بتسليم المال، بإعتبار أن كل حق يسقط بالتقادم الطويل وتتبعه الدعوى التي كانت تحميه. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : العاشر، الصفحة : 353)
المقامرة (Lejeu) عقد بمقتضاه يتعهد شخصان أو أكثر بدفع مبلغ معين لمن يربح منهم.
والرهان (Pari) عقد بمقتضاه يتفق شخصان أو أكثر اختلفوا على أمر ما على أن من يظهر صواب رأيه منهم يتسلم من الآخرين مبلغاً من النقود أو أي شئ آخر.
ويجب أن تكون الواقعة غير المحققة في الرهان أجنبية عن حالة المتراهنين بحيث لا تحملهم خسارة أو تجلب لهم كسباً. فإذا إتفق وارثان على أن أياً منهما يوصى له المورث يدفع للآخر الذي لم يوص له مبلغاً من المال لم يكن هذا الإتفاق رهاناً، بل هو تأمين جائز .
أوجه الشبه والاختلاف بين عقدي المقامرة والرهان :
يتشابه العقدان في أن في كل منهما يعد شخصان أو أكثر كل منهما الآخر تحت شرط متشابه بدفع مبلغ معين أو شئ معين بحيث أن أحدهما يصبح في النهاية دائناً للآخر.
ومن يستحق المبلغ منهما هو الرابح، والآخر هو الخاسر.
ولكن المقامرة تختلف عن الرهان في أن المقامر يقوم بدور إيجابي في محاولة تحقيق الواقعة غير المحققة أما المتراهن فلا يقوم بأي دور في محاولة تحقيق صدق قوله.
ومثال ذلك ما يتفق عليه اللاعبون في مباراة ألعاب الورق کالبوكر والكونكان وغيرها من الألعاب كالشطرنج والطاولة، وفي الألعاب الرياضية کالجري والقفز وغيره، إذ يتفق المتبارون على من يكسب اللعب منهم يحصل من الخاسرين على مبلغ معين من النقود. وهذا الإتفاق عقد مقامرة لأن كلا من المتعاقدين قد اشترك في المباراة وبذل جهداً فيها. أما إذا تراهن عدد من المشاهدين للمباراة على من يكون الكاسب من اللاعبين، فهذا هو الرهان لأن أحداً منهم لم يقم بأي دور في محاولة تحقيق الواقعة غير المحققة.
غير أن هناك صوراً تدق فيها التفرقة بين المقامرة والرهان. فمن يشتري ورقة نصيب يغلب أن يكون مراهناً لا مقامراً لأنه لا يقوم بأي دور إيجابي في تحقيق الكسب الذي يظفر به. ومن يضارب في البورصة يغلب أن يكون مراهناً لا مقامراً لأنه وإن تنبأ بالصعود أو النزول إلا أنه لم يبذل ثمة دور إيجابي في تحقيق ذلك.
خصائص عقود المقامرة والرهان :
تتميز عقود المقامرة والرهان بالخصائص الآتية:
1- الرضائية : فالعقد ينعقد بالتراضي بإيجاب وقبول وتشترط الأهلية الكاملة لصحة التراضي في العقود التي يجيزها المشرع.
2- عقد ملزم للجانبين : ذلك أن كلا من المقامرين أو المتراهنين يلتزم نحو الأخر بدفع المال المتفق عليه إذا خسر المقامرة أو الرهان.
أما عند التنفيذ فيكون العقد ملزماً للجانب الذي يخسر فقط، إذ يقع على عاتقه أداء المبلغ المتفق عليه إلى المتعاقد الآخر.
3- عقد احتمالی : فهو من عقود الغرر، إذ لا يستطيع أحد المتعاقدين أن يحدد وقت إبرام العقد، ما إذا كان سيحصل على المبلغ المتفق عليه أم أنه سيدفعه للمتعاقد الآخر، إذ لا يبين ذلك إلا في المستقبل.
4- عقد معاوضة : ذلك أن المقامر أو المتراهن إذا كسب شيئاً فذلك في مقابل تعرضه للخسارة، وإذا خسر شيئاً فذلك في مقابل احتمال الكسب.
بطلان المقامرة والرهان :
المقامرة والرهان يتوقفان على الحظ ولذلك كان الإتفاق الخاص بهما باطلاً لمخالفته للآداب والنظام العام، والبطلان هنا مطلق لا ترد عليه الإجازة.
فيجوز لكل ذي مصلحة التمسك بالبطلان، فيجوز هذا للمتعاقد الخاسر وخلفه العام من وارث وموصى له بجزء من التركة، وخلفه الخاص إذا كانت الخسارة واردة على عين انتقلت ملكيتها إلى خلف خاص. ويجوز ذلك أيضاً الدائن المقامر أو المتراهن الذي خسر، لا فحسب بموجب الدعوى غير المباشرة، بل أيضاً بطريق مباشر حتى يقرر بطلان العقد فلا يزاحمه من كسب في التنفيذ على أموال المدين.
كما يجوز للمتعاقد الآخر التمسك بالبطلان. ويجوز التمسك بالبطلان ولو لأول مرة أمام محكمة النقض. ويجب على المحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها.
وقد عمد المشرع إلى تقرير هذا البطلان المطلق لأن المقامر أو المتراهن يقوي في نفسه الإثراء لا عن طريق العمل والكد، بل عن طريق المصادفة وهو ما يدعو إلى التكاسل والتواكل، والانصراف عن الإنتاج، فضلاً عما تؤدي له من استنزاف أموال طائلة طمعاً في كسب غير محقق.
يجوز إثبات المقامرة والرهان بكافة طرق الإثبات القانونية، ولو كانت قيمة المبلغ تجاوز ألف جنيه، لأن العقد غير مشروع لمخالفته النظام العام والآداب.
والبطلان يقع دون إثبات غش من الطرف الآخر.
ويقع أحياناً التحايل للإفلات من البطلان المطلق، وذلك عن طريق تجديد الدين بتغيير الدائن أو المدين أو الدين أو مصدر الدين، ومثل هذا التجديد يكون أيضاً باطلاً بطلاناً مطلقاً، لأن العقد الباطل لا ينتج أي أثر، فلا يمكن أن يكون هناك تجديد لهذا الإلتزام الباطل.
وإذا حصل الدائن من المدين في دين المقامرة أو الرهان على اعتراف بالدين أو مصادقة عليه، أو سند يثبت هذا الدين أو ورقة تجارية لأمر الدائن أو للحامل أو حتى لأمر غير الدائن، فإن هذه الأوراق جميعها تمثل التزاماً باطلاً فتبطل هي أيضاً، وللمدين أن يحتج بهذا البطلان تجاه الدائن وتجاه الغير الذي انتقلت إليه وهو يعلم ببطلان العلاقة الأصلية، أما إذا كان لا يعلم فلا يحتج عليه حينئذ بالبطلان وإنما يكون على المدين أن يفي بقيمة الورقة وأن يرجع بعد ذلك على الدائن بما وفاه ليسترده. ومن وسائل التحايل أيضاً أن يتفق الطرفان على أن يكون الوفاء بمقابل".
ومن ثم يقع باطلاً تصالح المتعاقدين على مبلغ معين على أنه مقدار الخسارة، ولا يجوز للكاسب مطالبة الخاسر بهذا المبلغ.
وتنص المادة 11 من القانون رقم 27 لسنة 1994 (المعدل) بإصدار قانون في شأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية على أنه لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح. ولما كان الصلح لا يجوز- كما تقدم - في المسائل المتعلقة بالنظام العام، ومن ثم فإنه لا يجوز التحكيم في دين المقامرة أو الرهان .
آثار البطلان :
تخضع آثار البطلان للقواعد العامة المنصوص عليها في المادة 1/142 مدنی. فيعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد.
فإذا كان الخاسر لم يدفع إلى العاقد الآخر المبلغ المتفق عليه. فإنه لا يجوز إجباره على دفعه. وإذا رفعت عليه دعوى المطالبة من المتعاقد الآخر، كان له دفعها ببطلان العقد، وهذا ما يسمى بدفع المقامرة.
وإذا كان الخاسر قد دفع المبلغ المتفق عليه كان له استرداد ما دفعه.
إذا كان الخاسر في المقامرة أو الرهان قد دفع المبلغ المتفق عليه كان له استرداد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره، لأنه يكون قد دفع ما هو غير مستحق. ولا يمكن أن يكون هناك التزام طبيعي لأن المادة (200) مدني تقضي بأنه وفي كل حال لا يجوز أن يقوم التزام طبیعی يخالف النظام العام".
ولا يحول من الإسترداد أن يكون الخاسر عالماً وقت الدفع ببطلان العقد، لأن علمه بالبطلان لا يمنعه من الاسترداد طبقاً للأحكام المقررة في دفع غير المستحق.
وينتقل الحق في الاسترداد إلى ورثة الخاسر.
وأحكام الاسترداد مما يتعلق بالنظام العام.
وبالبناء على ذلك إذا اتفق العاقدان على أنه لا يجوز للخاسر استرداد ما دفعه من دين المقامرة او الرهان، فإن هذا الإتفاق يقع باطلاً ويحوز له استرداد ما دفعه.
فدعوى الاسترداد لا تسقط إلا بانقضاء ثلاث سنوات من الوقت الذي دفع فيه الخاسر ما اتفق عليه.
وتتفق هذه المدة مع مدة تقادم دعوى الاسترداد الواردة في القواعد العامة (م 187 مدنی ).
القرض للمقامرة أو الرهان :
يعتبر من ديون اللعب، ليس الدين الناشئ مباشرة من عقد المقامرة أو المراهنة فحسب، بل أيضاً كل دين يعقد بمناسبة اللعب، مع أحد اللاعبين أو مع شخص له فيه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة، مثل الدين الناشئ من نقود يقرضها في أثناء اللعب أحد اللاعبين للآخر، أو الدين الناشئ من نقود يقترضها الخاسر من شخص آخر .
فالقرض في هذه الحالة يكون سببه غير مشروع، فإذا كان المقرض عالماً بسبب القرض، وأنه يقصد تمكين المقترض من المقامرة أو الرهان، فإن العقد يقع باطلاً. ويحوز له استرداد ما دفعه إلى أحد المتعاقدين بموجب قاعدة استرداد ما دفع دون حق .
أما إذا كان القرض لاحقاً للمقامرة أو الرهان، والقصد منه سداد الخسارة فإن الدفع يكون غير قائم على حق ملزم ويجوز للمقرض استرداد ما دفعه، ولكن هذا لا يعني أن نفع الخسارة أمر غير مشروع وهذا في العلاقة فيما بين المقترض ومن كسب في المقامرة. أما في العلاقة بين المقرض والمقترض، فيحكمها عقد القرض المبرم بينهما، وهذا العقد لم يشبه بطلان فينعقد صحيحاً .(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : التاسع، الصفحة : 909)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / التاسع، الصفحة / 88
بَيْعُ الْحَصَاةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - بَيْعُ الْحَصَاةِ: هُوَ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَكَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْغَرَرِ، فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ.
2 - فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ: أَنْ يُلْقِيَ حَصَاةً، وَثَمَّةَ أَثْوَابٌ، فَأَيُّ ثَوْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ الْمَبِيعَ بِلاَ تَأَمُّلٍ وَلاَ رَوِيَّةٍ، وَلاَ خِيَارَ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ:
أ - فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: هُوَ بَيْعٌ مُلْزِمٌ عَلَى مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ مِنَ الثِّيَابِ - مَثَلاً - بِلاَ قَصْدٍ مِنَ الرَّامِي لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَيَّدَهُ الدَّرْدِيرُ بِاخْتِلاَفِ السِّلَعِ أَوِ الثِّيَابِ .
ب - وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأْثْوَابِ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ .
ج - وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ: أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَكَ بِكَذَا .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ رَمْيِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، كَمَا يَقُولُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ .
3 - وَهُنَاكَ تَفْسِيرٌ ثَانٍ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ، وَهُوَ: أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأْرْضِ مِنْ مَحَلِّ وُقُوفِي أَوْ وُقُوفِ فُلاَنٍ إِلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ رَمْيَةُ هَذِهِ الْحَصَاةِ بِكَذَا. نَصَّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَيَّدَهُ الأْوَّلُونَ، بِأَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى اللُّزُومِ .
4 - وَفِي تَفْسِيرٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: إِذَا رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَهَذَا الثَّوْبُ مَبِيعٌ مِنْكَ بِعَشَرَةٍ، أَيْ يَجْعَلُ الرَّمْيَ صِيغَةَ الْبَيْعِ .
5 - وَفِي تَفْسِيرٍ رَابِعٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، عَلَى أَنِّي مَتَى رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ وَجَبَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ .
6 - وَطَرَحَ الْمَالِكِيَّةُ تَفْسِيرًا خَامِسًا:
أ - أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: ارْمِ بِالْحَصَاةِ فَمَا خَرَجَ وَوُجِدَ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْحَصَاةِ الَّتِي تَكَسَّرَتْ كَانَ لِي بِعَدَدِهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ.
ب - أَوْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: ارْمِ بِالْحَصَاةِ فَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ حَالَ رَمْيِهَا، كَانَ لَكَ بِعَدَدِهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ.
ج - وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَصَاةِ الْجِنْسَ، أَيْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: خُذْ جُمْلَةً مِنَ الْحَصَى، فِي كَفِّكَ أَوْ كَفَّيْكَ، وَحَرِّكْهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - مَثَلاً - فَمَا وَقَعَ فَلِي بِعَدَدِهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ .
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ هَذَا الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْمُفَسِّرَةِ لِلْحَدِيثِ كُلِّهَا، وَقَدْ وَضَعُوا إِزَاءَ كُلِّ صُورَةٍ مَا يُشِيرُ إِلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فِيهَا.
7 - فَفِي الصُّورَةِ الأْولَى: عَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَسَادَ فِيهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْجَهَالَةِ، وَتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ
بِالْخَطَرِ، لأِنَّهَا فِي مَعْنَى: إِذَا وَقَعَ حَجَرِي عَلَى ثَوْبٍ فَقَدْ بِعْتُهُ مِنْكَ، أَوْ بِعْتَنِيهِ بِكَذَا، وَالتَّمْلِيكَاتُ لاَ تَحْتَمِلُهُ، لأِدَائِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ .
وَيُقَرِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْفَسَادَ لِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوطٌ بِسَبْقِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الثَّمَنَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، كَانَ الْفَسَادُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، إِنْ سَكَتَ عَنْهُ. لأِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْبَيْعَ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، وَمَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ فَاسِدٌ .
وَكَذَلِكَ عَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَسَادَ فِيهَا، بِالْجَهْلِ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ، لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا كَمَا رَأَيْنَا - عِلاَوَةً عَلَى اخْتِلاَفِ السِّلَعِ، عَدَمَ قَصْدِ الرَّامِي لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ الرَّمْيُ بِقَصْدٍ جَازَ، إِنْ كَانَ الرَّمْيُ مِنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ، وَجُعِلَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.
كَمَا أَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَتِ السِّلَعُ، جَازَ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ وُقُوعُ الْحَصَاةِ بِقَصْدٍ أَمْ بِغَيْرِهِ .
8 - وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ بَيْعُ قَدْرٍ مِنَ الأْرْضِ، مِنْ حَيْثُ يَقِفُ الرَّامِي إِلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ رَمْيَةُ الْحَصَاةِ، فَالْفَسَادُ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ، لاِخْتِلاَفِ الرَّمْيِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَرَّرُوا أَنَّ مَحَلَّ الْفَسَادِ بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى اللُّزُومِ .
9 - وَفِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ: عَلَّلُوا فَسَادَهَا بِعَدَمِ وُجُودِ صِيغَةِ الْبَيْعِ، إِذْ جَعَلَ الرَّمْيَ لِلْحَصَاةِ بَيْعًا، اكْتِفَاءً بِهِ عَنِ الصِّيغَةِ .
10 - وَفِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ لُزُومُ الْبَيْعِ بِوُقُوعِ الْحَصَاةِ، مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا: الْفَسَادُ لِتَعْلِيقِ لُزُومِ الْبَيْعِ عَلَى السُّقُوطِ فِي زَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِلْجَهْلِ بِزَمَنِ وُقُوعِهَا، فَفِيهِ تَأْجِيلٌ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ - كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ - أَوْ جَهْلٌ بِزَمَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ .
أَمَّا لَوْ عَيَّنَ لِوُقُوعِهَا بِاخْتِيَارِهِ أَجَلاً مَعْلُومًا، وَكَانَ الأْجَلُ قَدْرَ زَمَنِ الْخِيَارِ، وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ - كَمَا يَقُولُ الْعَدَوِيُّ - كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ وَقَعَتِ الْحَصَاةُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ، أَوْ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى غَدٍ، قَصْدًا، كَانَ الْبَيْعُ لاَزِمًا وَلاَ يَفْسُدُ .
11 - وَفِي الصُّورَةِ الْخَامِسَةِ الَّتِي طَرَحَهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهِيَ الْبَيْعُ بِعَدَدِ مَا يَتَنَاثَرُ مِنَ الْحَصَى، دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ: فَسَادُ الْبَيْعِ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، إِذْ لاَ يُعْلَمُ قَدْرُ الْمُتَنَاثَرِ مِنَ الْحَصَى.
فَلاَ خِلاَفَ إِذًا فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالْحَصَاةِ، بِالْقُيُودِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا وَتَعْلِيلاَتِهَا.
وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكُلُّ هَذِهِ الْبُيُوعُ فَاسِدَةٌ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهْلِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا.
بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ
1 - الْمُحَاقَلَةُ فِي اللُّغَةِ: بَيْعُ الزَّرْعِ فِي سُنْبُلِهِ بِالْبُرِّ أَوْ بِحِنْطَةٍ - كَمَا يَقُولُ الْفَيُّومِيُّ -
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا . وَالْخَرْصُ: الْحَزْرُ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنْبَلِيَّةُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ، وَقَالُوا: هِيَ بَيْعُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ بِجِنْسِهِ .
2 - وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ، فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُحَاقَلَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَاطِلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» .
وَلأِنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ خَرْصًا؛ لأِنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا الْمُلْحَقَةَ بِالْحَقِيقَةِ فِي التَّحْرِيمِ .
وَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ - بِتَعْبِيرِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ مَعْنَى الْبُطْلاَنِ - وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي تَمَامِ التَّعْلِيلِ: وَالْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ .
وَأَيْضًا تَزِيدُ الْمُحَاقَلَةُ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُزَابَنَةِ - بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَبِيعِ فِيهَا مَسْتُورٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ صَلاَحِهِ فَانْتَفَتِ الرُّؤْيَةُ أَيْضًا .
وَيُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ، التَّعْلِيلُ الْعَامُّ لِفَسَادِ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهِمَا بِالْغَرَرِ وَالرِّبَوِيَّةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ .
وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (مُحَاقَلَة).
بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ
1 - الْمُزَابَنَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الزَّبْنِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الدَّفْعُ لأِنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْمُدَافَعَةِ. أَيْ بِسَبَبِ الْغَبْنِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: عَرَّفَهَا الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ، مِثْلِ كَيْلِهِ خَرْصًا . (أَيْ ظَنًّا وَتَقْدِيرًا) وَالْخَرْصُ: الْحَزْرُ . وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ الرُّطَبُ الَّذِي عَلَى النَّخْلِ بِمِقْدَارِ مِائَةِ صَاعٍ مَثَلاً، بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَالْحَزْرِ، فَيَبِيعَ بِقَدْرِهِ مِنَ التَّمْرِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ رُطَبًا فَهُوَ جَائِزٌ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ . وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا: بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَعْلُومٍ، رِبَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ. أَوْ: بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَجْهُولٍ مِنْ جِنْسِهِ .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ جُزَيٍّ، مِنْهُمْ أَيْضًا، بِأَنَّهَا: بَيْعُ شَيْءٍ رُطَبٍ، بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رِبَوِيًّا، أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ .
حُكْمُ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ:
2 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ. فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَلاَ يَصِحُّ، وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي:
(أ) حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» .
(ب) وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا، لأِنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ، مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بِالْكَيْلِ .
وَيُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ فِيهِمَا الرِّبَا، لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ فِيهِمَا .
(ج) وَلِلْغَرَرِ - كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ جُزَيٍّ -.
وَمِثْلُ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، بَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، زِيَادَةً عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَعَنْ كُلِّ تَمْرٍ بِخَرْصِهِ»
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ (لَعَلَّهُ لِذَلِكَ) عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ كُلِّ رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، لاَ مُتَفَاضِلاً وَلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، حَتَّى الْحُبُوبِ .
بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ
انْظُرْ: مُزَايَدَة
بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ
انْظُرْ: مُسَاوَمَة
بَيْعُ الْمُسْتَرْسِلِ
انْظُرْ: اسْتِرْسَال
بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ
1 - الْمُلاَمَسَةُ مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا. وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ». وَفَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ: أَمَّا الْمُلاَمَسَةُ: فَأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ. وَالْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ ثَوْبَهُ إِلَى الآْخَرِ، وَلاَ يَنْظُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلُبْسَتَيْنِ: نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ. وَالْمُلاَمَسَةُ: لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الآْخَرِ بِيَدِهِ، بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ، وَلاَ يُقَلِّبُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ. وَالْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ثَوْبَهُ، وَيَنْبِذَ الآْخَرُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ بَيْعُهُمَا، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلاَ تَرَاضٍ» .
2 - وَفُسِّرَتِ الْمُلاَمَسَةُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْفِقْهِ بِصُوَرٍ:
أ - أَنْ يَلْمِسَ ثَوْبًا مَطْوِيًّا، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ عَلَى أَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ إِذَا رَآهُ، اكْتِفَاءً بِلَمْسِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ. أَوْ يَلْمِسَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ - كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ - وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَارَكَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ خِلاَفًا لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الدَّرْدِيرُ، وَخَالَفَهُ فِيهِ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ .
ب - أَوْ يَكُونُ الثَّوْبُ مَطْوِيًّا، فَيَقُولُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: إِذَا لَمَسْتَهُ فَقَدْ بِعْتُكَهُ، اكْتِفَاءً بِلَمْسِهِ عَنِ الصِّيغَةِ .
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَاللِّمَاسِ، أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: إِذَا لَمَسْتُ ثَوْبَكَ أَوْ لَمَسْتَ ثَوْبِي، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ .
ج - أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَانْقَطَعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ.
3 - وَهَذَا الْبَيْعُ بِصُوَرِهِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا، فَاسِدٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا وَذَلِكَ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي الصُّورَةِ الأْولَى، مَعَ لُزُومِ الْبَيْعِ، اكْتِفَاءً بِاللَّمْسِ عَنِ الرُّؤْيَةِ . وَلِعَدَمِ الصِّيغَةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةِ . وَلِتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَسَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الثَّالِثَةِ، فِي تَعْبِيرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالتَّمَلُّكِيَّاتُ لاَ تَحْتَمِلُهُ لأِدَائِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ .
وَعَلَّلَ الْحَنَابِلَةُ الْفَسَادَ بِعِلَّتَيْنِ: الأْولَى: الْجَهَالَةُ. وَالأْخْرَى: كَوْنُهُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ لَمْسُ الثَّوْبِ . وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْغَرَرُ الْمَقْصُودُ فِي تَعْبِيرِ ابْنِ قُدَامَةَ. وَأَجْمَلَ الشَّوْكَانِيُّ التَّعْلِيلَ، بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَإِبْطَالِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ .
4 - هَذَا، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ فِي فُرُوعِهِمُ التَّفْصِيلِيَّةِ هُنَا، عَلَى أَنَّ الاِكْتِفَاءَ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، وَتَحَقُّقِهِ بِاللَّمْسِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشَرَ الثَّوْبُ وَيُعْلَمَ مَا فِيهِ، هُوَ الْمُفْسِدُ: قَالُوا: فَلَوْ بَاعَهُ قَبْلَ التَّأَمُّلِ فِيهِ، عَلَى شَرْطِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْجَبَهُ أَمْسَكَهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ، كَانَ جَائِزًا .
بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ
1 - بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ أَيْضًا مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي صِحَاحِ الأْحَادِيثِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَفُسِّرَتْ فِي بَعْضِهَا. وَصَوَّرَهَا الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ ثَوْبَهُ إِلَى الآْخَرِ، وَلاَ يَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ - أَوْ يَنْبِذَهُ إِلَيْهِ بِلاَ تَأَمُّلٍ كَمَا عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ - عَلَى جَعْلِ النَّبْذِ بَيْعًا . وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلاَ تَرَاضٍ» وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله تعالي
.
ب - أَنْ يَجْعَلاَ النَّبْذَ بَيْعًا، اكْتِفَاءً بِهِ عَنِ الصِّيغَةِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَنْبِذُ إِلَيْكَ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ، فَيَأْخُذَهُ الآْخَرُ (وَالصُّورَةُ الأْولَى فِيهَا مُشَارَكَةٌ بِخِلاَفِ هَذِهِ).
ج - أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، عَلَى أَنِّي إِذَا نَبَذْتُهُ إِلَيْكَ، لَزِمَ الْبَيْعُ وَانْقَطَعَ الْخِيَارُ .
د - أَنْ يَقُولَ: أَيَّ ثَوْبٍ نَبَذْتَهُ إِلَيَّ فَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ - رحمه الله تعالي .
هَذَا وَلاَ بُدَّ أَنْ يَسْبِقَ تَرَاوُضُهُمَا عَلَى الثَّمَنِ مَعَ ذَلِكَ، وَإِلاَّ كَانَ الْمَنْعُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الثَّمَنِ. وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الثَّمَنِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، وَنَفْيُهُ عَنْهُ مُبْطِلٌ لَهُ.
2 - وَكُلُّ هَذِهِ الصُّوَرِ فَاسِدَةٌ، بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ، مُعَلِّلِينَ الْفَسَادَ:
- بِالنَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ.
- وَالْجَهَالَةِ، وَعَلَّلَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
وَتَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ، لأِنَّهُ - فِي الصُّورَةِ الأْولَى الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ - فِي مَعْنَى: إِذَا نَبَذْتُ إِلَيْكَ الثَّوْبَ فَقَدِ اشْتَرَيْتَهُ، وَالتَّمْلِيكَاتُ لاَ تَحْتَمِلُهُ، لأَِدَائِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ .
وَلِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ عَدَمِ الصِّيغَةِ، أَوْ لِلشَّرْطِ الْفَاسِدِ، كَمَا عَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ .
الأْسْبَابُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ
وَهِيَ:
الرِّبَا، وَمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، وَالْغَرَرُ.
وَفِيمَا يَلِي أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّبَا.
36 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ - وَلَوْ حُكْمًا - خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، مَشْرُوطٌ لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فِي الْمُعَاوَضَةِ . وَقَيْدُ الْحُكْمِيَّةِ، لإِدْخَالِ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَكْثَرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ؛ لأِنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ: رَبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ.
وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأْمَّةِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَتِ الأْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِنَوْعَيْهِ: الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ، وَيَجْرِي رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النَّسِيئَةِ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الصَّرْفِ وَتَفْصِيلُهُ فِي (الصَّرْفِ).
وَالرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يَحِلَّ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لقوله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) وَفِي الْحَدِيثِ «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ. وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» وَلَيْسَ الْقَصْدُ هُنَا ذِكْرُ أَحْكَامِ الرِّبَا وَشُرُوطِهِ وَمَسَائِلِهِ، بَلْ يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عِنْوَانِ (رِبا).
وَالْقَصْدُ هُنَا التَّعَرُّفُ عَلَى أَحْكَامِ بَعْضِ الْبُيُوعِ الرِّبَوِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي السُّنَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ مَا يَلِي:
أ - بَيْعُ الْعِينَةِ:
37 - هُوَ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ زَائِدٍ نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَقَلَّ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُنَاكَ تَعْرِيفَاتٌ وَصُوَرٌ أُخْرَى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا وَفِي حُكْمِهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ).
ب - بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ.
38 - الْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلَ كَيْلِهِ خَرْصًا (أَيْ ظَنًّا وَتَقْدِيرًا) وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ الرُّطَبُ الَّذِي عَلَى النَّخِيلِ بِمِقْدَارِ مِائَةِ صَاعٍ مَثَلاً بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَالْحَزْرِ، فَيَبِيعَهُ بِقَدْرِهِ مِنَ التَّمْرِ .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ).
ج - بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ:
39 - الْمُحَاقَلَةُ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُحَاقَلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ».
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ)
د - بَيْعُ الْعَرَايَا:
40 - هُوَ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ فِي الأْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْعَرَايَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْعَرَايَا)
هـ - بَيْعُ الْعُرْبُونِ:
41 - بَيْعُ الْعُرْبُونِ هُوَ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ وَيَدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ احْتَسَبَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَهُوَ لِلْبَائِعِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (بَيْعُ الْعُرْبُونِ).
و - النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ:
42 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه. قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» .
وَفِي مَعْنَاهُ وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ «عُثْمَانَ رضي الله عنه. قَالَ: كُنْتُ أَبْتَاعُ التَّمْرَ مِنْ بَطْنٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَأَبِيعُهُ بِرِبْحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ إِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكْتَلْ، وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ» .
كَمَا وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنهما. كَانَا يَبْتَاعَانِ التَّمْرَ، وَيَجْعَلاَنِهِ فِي غَرَائِرَ، ثُمَّ يَبِيعَانِهِ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَاهُ حَتَّى يَكِيلاَ لِمَنِ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا» .
وَهَذِهِ الأْحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً، وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ بِالْكَيْلِ الأْوَّلِ ، حَتَّى يَكِيلَهُ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي .
وَنَصَّ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رضي الله عنهم .
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ الْقَبْضَ قَبْلَ بَيْعِ الْمَبِيعِ فِي الْجُمْلَةِ. فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ - كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ هُوَ شَرْطٌ فِي (صِحَّةِ) قَبْضِ الْمَنْقُولِ مَعَ نَقْلِهِ. كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ .
لَكِنْ قَامَ الإْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ فِيمَا بِيعَ جُزَافًا. وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزَافِ مِنَ الشَّرْطِ كَانَ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، أَوْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ .
43 - وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الأْمْثِلَةِ التَّطْبِيقِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِتَقَارُبِهِمَا فِيهَا.
الْمِثَالُ الأْوَّلُ:
لَوْ كَانَ لِبَكْرٍ طَعَامٌ مُقَدَّرٌ عَلَى زَيْدٍ، كَعَشَرَةِ آصُعٍ، وَلِعَمْرٍو عَلَى بَكْرٍ مِثْلُهُ، فَلْيَطْلُبْ بَكْرٌ مِنْ زَيْدٍ أَنْ يَكِيلَهُ لَهُ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ يَكِيلُ بَكْرٌ لِعَمْرٍو، لِيَكُونَ الْقَبْضُ وَالإْقْبَاضُ صَحِيحَيْنِ؛ لأِنَّ الإْقْبَاضَ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ الْكَيْلُ، فَلَزِمَ تَعَدُّدُهُ؛ لأِنَّ الْكَيْلَيْنِ، قَدْ يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ .
فَلَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: اقْبِضْ يَا عَمْرُو مِنْ زَيْدٍ عَنِّي مَالِي عَلَيْهِ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ عَمْرٌو، فَالْقَبْضُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لِوُجُودِ الإْذْنِ، وَهُوَ إِذْنُ الدَّائِنِ، وَهُوَ بَكْرٌ فِي الْقَبْضِ مِنْهُ لَهُ بِطَرِيقِ الاِسْتِلْزَامِ، فَأَشْبَهَ قَبْضُهُ قَبْضَ وَكِيلِهِ.
لَكِنَّ هَذَا الْقَبْضَ فَاسِدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمْرٍو، لِكَوْنِهِ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ؛ لأِنَّ قَبْضَهُ مَشْرُوطٌ بِتَقَدُّمِ قَبْضِ بَكْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلاَ يُمْكِنُ حُصُولُهُمَا، لِمَا فِيهِ مِنَ اتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، وَمَا قَبَضَهُ عَمْرٌو مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكِيلُهُ الْمَقْبُوضُ لَهُ، وَهُوَ بَكْرٌ، لِلْقَابِضِ، وَهُوَ عَمْرٌو، وَيَصِحُّ قَبْضُهُ لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هِيَ: أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لأِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَلَمْ يَقَعْ لَهُ، بِخِلاَفِ الْوَكِيلِ.
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ، وَهُوَ زَيْدٌ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ الصَّحِيحِ.
بِخِلاَفِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِبَكْرٍ.
وَيَبْدُو أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الأْخِيرَةَ هِيَ الرَّاجِحَةُ، فَعَلَيْهَا مَتْنُ الإْقْنَاعِ.
وَلَوْ قَالَ: اقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، صَحَّ الْقَبْضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، لأِنَّهُ اسْتَنَابَهُ فِي قَبْضِهِ لَهُ، وَإِذَا قَبَضَهُ لِمُوَكِّلِهِ جَازَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَذِنَهُ فِي قَبْضِهَا عَنْ دَيْنِهِ.
هَذَا، وَإِنْ يَكُنِ الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ الْمِثَالُ الأْوَّلُ، فِي السَّلَمِ، لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ، لأِنَّهُ الَّذِي فِي كَلاَمِ الأْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِثْلُ السَّلَمِ - كَمَا قَالُوا - دَيْنُ الْقَرْضِ وَالإْتْلاَفِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي:
44 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرِ اكْتِيَالِي مِنْ زَيْدٍ لأِقْبِضَهُ لَكَ، فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ لِعَمْرٍو، لِعَدَمِ كَيْلِهِ، وَيَكُونُ بَكْرٌ قَابِضًا لِنَفْسِهِ لاِكْتِيَالِهِ إِيَّاهُ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ:
45 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو، خُذْهُ بِهَذَا الْكَيْلِ الَّذِي قَدْ شَاهَدْتَهُ، فَأَخَذَهُ بِهِ صَحَّ، لأِنَّهُ شَاهَدَ كَيْلَهُ وَعَلِمَهُ، فَلاَ مَعْنَى لاِعْتِبَارِ كَيْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ» ...
وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ.
وَلأِنَّهُ قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ جُزَافًا.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ:
46 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرْنَا حَتَّى أَكْتَالَهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ تَكْتَالَهُ أَنْتَ، وَفَعَلاَ، صَحَّ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ.
وَلَوِ اكْتَالَ بَكْرٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَمْرٌو بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الْمِكْيَالِ، وَدَفَعَهُ إِلَى عَمْرٍو، لِيُفَرِّغَهُ لِنَفْسِهِ صَحَّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْضًا صَحِيحًا؛ لأِنَّ اسْتِدَامَةَ الْكَيْلِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ، وَلاَ مَعْنَى لاِبْتِدَاءِ الْكَيْلِ هَاهُنَا، إِذْ لاَ يَحْصُلُ بِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ.
وَمَعَ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ أَسْنَدَ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَقَرَّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ فِي الْمِكْيَالِ إِجْرَاءً لِصَاعِهِ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَصَّ عَلَى أَنَّ الاِسْتِدَامَةَ فِي نَحْوِ الْمِكْيَالِ كَالتَّجْدِيدِ، فَتَكْفِي .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ:
47 - لَوْ دَفَعَ بَكْرٌ إِلَى عَمْرٍو دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ لَكِ بِهَا مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي لَكِ عَلَيَّ، فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّهُ فُضُولِيٌّ إِذِ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ؛ لأِنَّ دَرَاهِمَ بَكْرٍ لاَ يَكُونُ عِوَضُهَا لِعَمْرٍو.
وَالشَّافِعِيَّةُ يُعَلِّلُونَ بِأَنَّهُ: لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَالدَّرَاهِمُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهَا بَطَلَ الشِّرَاءُ، وَإِنِ اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَفَعَلَ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لِنَفْسِهِ .
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ حَقَّ الإْنْسَانِ لاَ يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنْ قَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، وَضَمِنَهُ الْغَرِيمُ الْقَابِضُ لاِسْتِيلاَئِهِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قَبْضَهُ لِنَفْسِهِ فَرْعٌ عَنْ قَبْضِ مُوَكِّلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا (وَاقْبِضْهُ لِي) ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ، جَازَ، لأِنَّهُ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: صَحَّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ الأْوَّلُ دُونَ الثَّانِي، لاِتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، دُونَ الأْوَّلِ .
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَاسُوهُ عَلَى مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْوَالِدِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَهِبَتِهِ لَهُ، وَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَمْنَعُونَ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ بِوَكَالَةٍ عَنْهُمَا.
كَمَا يَمْنَعُهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لأِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، فَقَبْضُهُ كَلاَ قَبْضٍ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ:
48 - اشْتَرَى اثْنَانِ طَعَامًا، فَقَبَضَاهُ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الآْخَرِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ:
أ - فَيُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يَجُوزَ ذَلِكَ، لأِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَهُ مُنْفَرِدًا، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ.
ب - وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، لأِنَّهُ مَقْبُوضٌ لَهُمَا، يَجُوزُ بَيْعُهُ لأِجْنَبِيٍّ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِشَرِيكِهِ، كَسَائِرِ الأْمْوَالِ.
وَلَوْ تَقَاسَمَاهُ وَافْتَرَقَا، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي كَالَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا، فَاكْتَالَهُ وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ بَاعَهُ إِيَّاهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ.
أَمَّا لَوْ تَقَاسَمَاهُ وَلَمْ يَفْتَرِقَا، وَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمِثَالِ الرَّابِعِ.
49 - وَقَدْ تَنَاوَلَ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَنَاوُلاً خَاصًّا، بِالنَّصِّ وَالتَّفْصِيلِ وَالتَّعْلِيلِ. فَقَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ مِنْهُمْ: مَنِ اشْتَرَى مَكِيلاً مُكَايَلَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْكَيْلِ) أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْوَزْنِ) فَاكْتَالَهُ أَوِ اتَّزَنَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً، لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلاَ أَنْ يَأْكُلَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَذَلِكَ لِحَدِيثَيْ جَابِرٍ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما الْمَذْكُورَيْنِ سَابِقًا
وَلأِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الآْخَرِينَ حَرَامٌ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
وَلأِنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْعَدَّ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَأَصْلُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَكَذَا تَمَامُهُ .
وَقَدْ قَيَّدَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالشِّرَاءِ، لأِنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ.
كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الإْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ، حَتَّى لَوْ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا، بَعْدَ قَبْضِهِ مُكَايَلَةً، لَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى إِعَادَةِ الْكَيْلِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لأِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، كَالْقَرْضِ .
كَمَا أَلْحَقُوا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَعْدُودَ الَّذِي لاَ يَتَفَاوَتُ، كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ، إِذَا اشْتَرَى مُعَادَّةً. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْعَدِّ ثَانِيًا لاِتِّحَادِ الْجَامِعِ، وَهُوَ: وُجُوبُ تَعَرُّفِ الْمِقْدَارِ، وَزَوَالُ احْتِمَالِ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لِلْبَائِعِ، خِلاَفًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْلَ الْعَدِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَعْدُودَ مَعَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي مَتْنِ الْكَنْزِ وَالتَّنْوِيرِ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنَ الْمَوْزُونِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ قَبْلَ الْوَزْنِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ أَوِ السَّلَمِ، كَبَيْعِ التَّعَاطِي، فَإِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ فِي الْمَوْزُونَاتِ إِلَى وَزْنِ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا، لأِنَّهُ صَارَ بَيْعًا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْوَزْنِ.
وَيُلاَحَظُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ - كَغَيْرِهِمْ - الْمَبِيعَ مُجَازَفَةً، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ اشْتَرَى مُكَايَلَةً، لأِنَّ كُلَّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِلْمُشْتَرِي، فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ اخْتِلاَطُ الْمِلْكَيْنِ.
وَكَذَلِكَ مَا إِذَا بَاعَ الثَّوْبَ مُذَارَعَةً، لأِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي، إِذِ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بِخِلاَفِ الْقَدْرِ .
وَيَبْدُو أَنَّ تَحْدِيدَ الأْذْرُعِ لَيْسَ لَهُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ فِي أَيَّامِهِمْ؛ لأِنَّ الثَّوْبَ فِي زَمَانِهِمْ، يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكْفِي كِسَاءً وَاحِدًا، فَلاَ تَضُرُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ، وَلاَ تَخْتَلِطُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، بِخِلاَفِ الأْثْوَابِ وَالأْقْمِشَةِ فِي أَيَّامِنَا، حَيْثُ تُقْتَطَعُ مِنْهَا أَذْرُعٌ لِتُخَاطَ ثِيَابًا، فَإِنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالثَّمَنِ، وَتُعْتَبَرُ مِنَ الْقَدْرِ.
وَمَعَ أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ أَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ قَبْلَ إِعَادَةِ الْكَيْلِ، لَكِنَّ الشُّرَّاحَ فَسَّرُوهُ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ لأِنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَبَرُ آحَادٍ، لاَ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
وَمَعَ ذَلِكَ، فَلاَ يُقَالُ لآِكِلِهِ: إِنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا، فَقَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ أَكَلَهُ، وَقَدْ قَبَضَهُ بِلاَ كَيْلٍ، لاَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا، لأِنَّهُ أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ آثِمٌ، لِتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْكَيْلِ.
50 - وَمَعَ أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ إِعَادَةِ الْكَيْلِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِفَسَادِهِ.
وَهَذِهِ عِبَارَةُ الإْمَامِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: إِذَا اشْتَرَيْتَ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ، فَاشْتَرَيْتَ مَا يُكَالُ كَيْلاً، وَمَا يُوزَنُ وَزْنًا، وَمَا يُعَدُّ عَدًّا، فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَكِيلَهُ وَتَزِنَهُ وَتَعُدَّهُ، فَإِنْ بِعْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَفْعَلَ، وَقَدْ قَبَضَتْهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ .
وَعَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله تعالي عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْفَاسِدَ هُوَ الْبَيْعُ الثَّانِي، وَهُوَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ كَيْلِهِ، وَأَنَّ الأْوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ بَيْعٍ حَتَّى يَكِيلَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ، وَقَعَ الْبَيْعُ الثَّانِي فَاسِدًا؛ لأِنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُ الْكَيْلِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ، فَكَأَنَّهُ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ قَبْضِهِ لاَ يَصِحُّ .
51 - وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَّخِذَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ شِرَائِهِ هَذِهِ الصُّوَرَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
الأْولَى: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْمُشْتَرِي الأْوَّلِ أَنْ يَبِيعَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ لِنَفْسِهِ، كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الأْوَّلِ، لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلاِحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ كَذَلِكَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ، لِعَدَمِ الاِفْتِقَارِ إِلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى كَيْلٍ، لأِنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً، مَلَكَ جَمِيعَ مَا كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ، فَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً، فَيَحْتَاجَ إِلَى كَيْلٍ وَاحِدٍ، إِمَّا كَيْلُ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَيْلُ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ؛ لأِنَّ الْكَيْلَ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً، لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إِلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ الْوَاقِعِ مَبِيعًا، وَأَمَّا الْمُجَازَفَةُ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
فَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الأْخِيرَةِ، تَخْرُجُ هَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي حَقَّقَهَا ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله - وَهِيَ:
إِذَا مَلَكَ زَيْدٌ طَعَامًا، بِيعَ مُجَازَفَةً أَوْ بِإِرْثٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ عَمْرٍو مُكَايَلَةً سَقَطَ هُنَا صَاعُ الْبَائِعِ؛ لأِنَّ مِلْكَهُ الأْوَّلَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْكَيْلِ، وَبَقِيَ الاِحْتِيَاجُ إِلَى كَيْلٍ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِنْ عَمْرٍو بِلاَ كَيْلٍ، فَهُنَا فَسَدَ الْبَيْعُ الثَّانِي فَقَطْ. ثُمَّ إِذَا بَاعَهُ عَمْرٌو مِنْ بَكْرٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ كَيْلٍ آخَرَ لِبَكْرٍ، فَهُنَا فَسَدَ الْبَيْعُ الأْوَّلُ وَالثَّانِي، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا .
52 - وَبِصَدَدِ الْكَيْلِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا، نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ:
أ - لاَ مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ كَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي عَنْ شِرَائِهِ هُوَ، لأِنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ.
ب - وَلاَ مُعْتَبَرَ بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي، بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي؛ لأِنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ؛ لأِنَّ بِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلاَ تَسْلِيمَ إِلاَّ بِحَضْرَتِهِ.
ج - وَإِنْ كَالَهُ أَوْ وَزَنَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ، بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ اخْتِلاَفُ الْمَشَايِخِ:
- قِيلَ: لاَ يُكْتَفَى بِهِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ مَرَّتَيْنِ، احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
- وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: كَفَاهُ ذَلِكَ، حَتَّى يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ إِذَا قَبَضَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لأِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ صَيْرُورَةُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِكَيْلٍ وَاحِدٍ، وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ.
وَقَدْ بَحَثَ الْبَابَرْتِيُّ، فِي الاِكْتِفَاءِ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَنَظَرَ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي الأْصْلِ، بِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَقَرَّرَ: أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الاِكْتِفَاءُ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا، وَقَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَيْلَيْنِ عَزِيمَةٌ، وَالاِكْتِفَاءَ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ رُخْصَةٌ، أَوْ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، لَكَانَ ذَلِكَ مَدْفَعًا جَارِيًا عَلَى الْقَوَانِينِ (أَيِ الْقَوَاعِدِ) لَكِنْ لَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ .
ز - بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ:
53 - الْكَالِئُ مَأْخُوذٌ مِنْ: كَلأَ الدَّيْنَ يَكْلأَ، مَهْمُوزٌ بِفَتْحَتَيْنِ، كُلُوءًا: إِذَا تَأَخَّرَ، فَهُوَ كَالِئٌ بِالْهَمْزِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ، فَيَصِيرُ مِثْلَ الْقَاضِي.
وَكَانَ الأْصْمَعِيُّ لاَ يَهْمِزُهُ. قَالَ: هُوَ مِثْلُ الْقَاضِي، وَلاَ يَجُوزُ هَمْزُهُ.
وَبَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ هُوَ: بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: صُورَتُهُ: أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الأْجَلُ يَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ: لَيْسَ عِنْدِي طَعَامٌ وَلَكِنْ بِعْنِي إِيَّاهُ إِلَى أَجَلٍ. فَهَذِهِ نَسِيئَةٌ انْقَلَبَتْ إِلَى نَسِيئَةٍ. فَلَوْ قَبَضَ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ كَالِئًا بِكَالِئٍ .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»، وَقَالَ: «هُوَ النَّسِيئَةُ بِالنَّسِيئَةِ» .
وَفُسِّرَ أَيْضًا بِبَيْعِ الدَّيْنِ، كَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةٍ.
وَفِي بَيْعِ الدَّيْنِ صُورَتَانِ: بَيْعُهُ مِنَ الْمَدِينِ نَفْسِهِ، وَبَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَجُمْهُورُهُمْ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - لاَ يُجِيزُهُ، إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
وَفِيمَا يَلِي عَرْضٌ لأِهَمِّ الصُّوَرِ وَالتَّقَاسِيمِ الَّتِي يَطْرَحُهَا الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الصَّدَدِ، مَعَ تِبْيَانِ أَحْكَامِهَا.
54 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَتَّخِذُ الْعَقْدُ عَلَى الدَّيْنِ عِنْدَهُمْ صُوَرًا شَتَّى:
أ - فَسْخُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ أَيْ إِسْقَاطُهُ فِي شَيْءٍ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، سَوَاءٌ أَحَلَّ الدَّيْنُ الْمَفْسُوخُ أَمْ لاَ، إِنْ كَانَ الْمُؤَخَّرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَفْسُوخُ فِيهِ مُعَيَّنًا كَالْعَقَارِ، أَمْ كَانَ مَنَافِعَ ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَرُكُوبِ دَابَّةٍ. فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ الأْنْوَاعِ تَحْرِيمًا، وَتَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ.
ب - بَيْعُ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَوْ حَالاً: وَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالسُّنَّةِ.
فَمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى زَيْدٍ، وَلآِخَرَ دَيْنٌ عَلَى عَمْرٍو، فَبَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَيْنَهُ بِدِينٍ صَاحِبِهِ، كَانَ مُحَرَّمًا بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ.
أَمَّا بَيْعُهُ بِمُعَيَّنٍ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَعَقَارٍ، أَوْ بِمَنْفَعَةِ ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ دَيْنٌ عَلَى عَمْرٍو، فَبَاعَ زَيْدٌ ذَلِكَ الدَّيْنَ لِخَالِدٍ بِمَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ.
وَقَدِ اعْتُبِرَ الْعَقَارُ وَمَنَافِعُ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ قَبِيلِ الْحَاضِرِ وَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُهُ؛ لأِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُضْمَنُ فِي الذِّمَّةِ إِذْ لاَ تَثْبُتُ الْمُعَيَّنَاتُ فِي الذِّمَّةِ فَهُمَا نَقْدٌ بِهَذَا الْمَعْنَى. أَيْ حَاضِرٌ يُنْقَدُ وَلاَ يَثْبُتُ بِالذِّمَّةِ.
ج - تَأْخِيرُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ عَيْنٌ، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ ابْتِدَاءِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا مِنَ ابْتِدَاءِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَغَلَ ذِمَّةَ صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ .
أَمَّا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَرْطٍ.
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلاَثِ يُقَالُ لَهُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لُغَةً، إِلاَّ أَنَّ فُقَهَاءَ الْمَالِكِيَّةِ سَمُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاسْمٍ يَخُصُّهُ.
هَذِهِ أَقْسَامُ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْكَامُهَا.
أَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالنَّقْدِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ حَيًّا حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، وَأَقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَأْخُذُهُ الأَْحْكَامُ (أَيْ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ)، وَبِيعَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بِيعَ بِجِنْسِهِ وَكَانَ مُتَسَاوِيًا، لاَ أَنْقَصَ وَلاَ أَزْيَدَ، وَلَيْسَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَلاَ عَكْسَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَدِينِ عَدَاوَةٌ.
وأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنْ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ وُجِدَتْ تِلْكَ الشُّرُوطُ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا مُنِعَ الْبَيْعُ .
55 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: جَوَازُ الاِسْتِبْدَالِ عَنِ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ.
وَمَذْهَبُهُ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَنْعُ .
وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ نَفْسُهُ دَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الإْبِلَ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إِذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ».
قَالُوا: وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ .
وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: حَدِيثُ: «إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ» .
فَإِنِ اسْتَبْدَلَ بِمُوَافِقٍ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، كَدَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، اشْتُرِطَ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ.
وَإِنِ اسْتَبْدَلَ بِغَيْرِ مُوَافِقٍ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ .
أَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، فَبَاطِلٌ فِي الأْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ. كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ زَيْدٍ بِمِائَةٍ لَهُ عَلَى عَمْرٍو، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، يَصِحُّ، وَصَحَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، مُخَالِفًا لِلرَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، نَظَرًا لاِسْتِقْرَارِ الدَّيْنِ، كَبَيْعِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.
لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا قَبْضُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِهِمَا فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الأْكْثَرِينَ يُخَالِفُهُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمَحَلِّيُّ .
أَمَّا لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو دَيْنَانِ عَلَى شَخْصٍ، فَبَاعَ زَيْدٌ عَمْرًا دَيْنَهُ بِدَيْنِهِ، بَطَلَ قَطْعًا بِلاَ خِلاَفٍ، اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» .
56 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ بُطْلاَنُ بَيْعِ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا.
وَذَكَرُوا لَهُ صُوَرًا، سِوَى مَا وَافَقُوا فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الصُّوَرِ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَقَالَ فِي ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعٌ
57 - بَقِيَ أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَوْقِفِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُتَمَيِّزِ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ بَيْعِ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ التَّصَرُّفَ الْجَائِزَ فِي الدَّيْنِ، هُوَ تَمْلِيكُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَوْ بِعِوَضٍ، وَلاَ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا نَقَلَهُ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ ابْنِ مَلِكٍ.
وَاسْتَثْنَوْا ثَلاَثَ صُوَرٍ أَجَازُوا فِيهَا تَمْلِيكَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.
الأْولَى: إِذَا سَلَّطَ الدَّائِنُ غَيْرَهُ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ وَكِيلاً قَابِضًا لِلْمُوَكِّلِ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ.
الثَّانِيَةُ: الْحَوَالَةُ وَاسْتِثْنَاءُ جَوَازِهَا إِجْمَاعٌ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ.
الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ.
وَمَعْنَى عَدَمِ الْجَوَازِ هُنَا: عَدَمُ الاِنْعِقَادِ، وَبِذَلِكَ عَبَّرَ الْكَاسَانِيُّ فَقَالَ: وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لأِنَّ الدَّيْنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ. وَلَوْ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَدِينِ لاَ يَصِحُّ أَيْضًا، لأِنَّهُ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ.
وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْعَجْزُ عَنِ التَّسْلِيمِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّسْلِيمِ هَاهُنَا.
وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ الْغَاصِبُ مُنْكِرًا، وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ .
وَيُمْكِنُ لِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، فِي بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، مُرَاجَعَةُ مُصْطَلَحِ: (رِبا، صَرْف، دَيْن).
بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ:
58 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» وَفِي لَفْظٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيِّ بِالْمَيِّتِ» وَيَتَوَزَّعُ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: هَلِ اللَّحْمُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ؟
59 - هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خِلاَفِيَّةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ كَالأْصْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَهَا.
(أ) فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالأْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هُوَ أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ، بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ:
فَالإْبِلُ بِأَنْوَاعِهَا - الْعَرَّابِ وَالْبَخَاتِيِّ وَالْهَجِينِ، وَذِي السَّنَامَيْنِ، وَذِي السَّنَامِ الْوَاحِدِ - كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَكَذَا لُحُومُهَا.
وَالْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ جِنْسٌ وَاحِدٌ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صِنْفَيْنِ؛ لأِنَّ الْقُرْآنَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَقَالَ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ).. (وَمِنَ الإْبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)
وَالْوَحْشُ أَصْنَافٌ: بَقَرُهَا صِنْفٌ، وَغَنَمُهَا صِنْفٌ، وَظِبَاؤُهَا صِنْفٌ.
وَالطَّيْرُ أَصْنَافٌ، كُلُّ مَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ وَصِفَةٍ فَهُوَ صِنْفٌ.
ب - وَالأْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ .
(ج) وَيَبْدُو مِنْ تَمْثِيلِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِبَيْعِ لَحْمٍ بَقَرِيٍّ بِكَبْشٍ حَيٍّ، وَلِغَيْرِ الْجِنْسِ بِبَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ بِلَحْمِ طَيْرٍ أَوْ سَمَكٍ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ لُحُومَ الأْنْعَامِ جِنْسًا، وَلُحُومَ الطَّيْرِ جِنْسًا، وَلُحُومَ الأْسْمَاكِ جِنْسًا.
وَنَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ عِنْدَ مَالِكٍ ثَلاَثُهُ أَصْنَافٍ: فَلَحْمُ ذَوَاتِ الأْرْبَعِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الطُّيُورِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْحِيتَانِ صِنْفٌ .
ثَانِيًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ:
60 - لاَ يَسْتَجِيزُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، كَلَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةٍ، وَذَلِكَ:
لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ - كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ - وَلأِنَّهُ مَالٌ رِبَوِيٌّ، بِيعَ بِمَا فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ جَهَالَةِ الْمِقْدَارِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبَيْعِ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ.
وَلأِنَّهُ بَيْعُ مَعْلُومٍ - وَهُوَ اللَّحْمُ - بِمَجْهُولٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ، وَهُوَ الْمُزَابَنَةُ، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ .
فَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ: أَنْ يُبَاعَ حَيَوَانٌ مُبَاحُ الأْكْلِ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِلاَ خِلاَفٍ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْبَيْعَ، وَلَكِنْ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (لأِنَّ أَحَدَهُمَا مَوْزُونٌ، وَالآْخَرُ مَعْدُودٌ) فَبَنَوْا عَلَيْهِ جَوَازَ بَيْعِهِمَا مُجَازَفَةً، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لأِنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِخِلاَفِ الْجِنْسِ.
وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَبَنَوْا مَذْهَبَهُمَا - أَيْ مَذْهَبَ الشَّيْخَيْنِ - عَلَى أَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ بِمَوْزُونَةٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ، مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً؛ لأِنَّ رِبَا الْفَضْلِ يَعْتَمِدُ اجْتِمَاعَ الْوَصْفَيْنِ: الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّعْيِينِ كَمَا عَبَّرَ الْحَصْكَفِيُّ (أَيِ التَّقَابُضَ) أَوْ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا عَبَّرَ الْكَاسَانِيُّ - وَقَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ - وَالْبَابَرْتِيُّ.
أَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ يَجُوزُ، لأِنَّهُمَا عِنْدَئِذٍ سَلَمٌ، وَهُوَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ.
لَكِنَّ الإْمَامَ مُحَمَّدًا، شَرَطَ فِي جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي فِي الشَّاةِ، لِيَكُونَ لَحْمُ الشَّاةِ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ، وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ الإْسْقَاطِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَمَلاً بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَلأِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ نَسِيئَةً، فَكَذَا مُتَفَاضِلاً، كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ .
. ثَالِثًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ:
61 - كَبَيْعِ الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِلَحْمِ الإْبِلِ أَوِ الْبَقَرِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَبَيْعِ الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِلَحْمِ طَيْرٍ أَوْ سَمَكٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
أَجَازَ هَذِهِ الصُّورَةَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، عَلَيْهَا مَتْنُ الإْقْنَاعِ.
وَعَلَّلَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، بِأَنَّهُمَا أَصْلاَنِ مُخْتَلِفَانِ، فَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا (مُطْلَقًا) مُجَازَفَةً، نَقْدًا وَنَسِيئَةً، لاِنْعِدَامِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَصْلاً .
وَمَعَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا - عَلَى اصْطِلاَحِهِمْ فِي أَجْنَاسِ اللُّحُومِ - بَيْعَ اللَّحْمِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُطْلَقًا، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِأَنْ يَكُونَ حَالاً. أَمَّا إِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَلاَ يَجُوزُ، إِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ لاَ يُرَادُ لِلْقَنِيَّةِ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لأَِجَلٍ.
كَمَا قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ، وَعَلَّلُوا الْجَوَازَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ. قَالُوا: وَهَذَا فِي الْمَأْكُولِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَوَجْهُ الْجَوَازِ فِيهِ هُوَ: أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا.
وَعَلَّلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِجَوَازِهِ: بِأَنَّهُ مَالُ الرِّبَا بِيعَ بِغَيْرِ أَصْلِهِ فَجَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِالأْثْمَانِ.
وَلَمْ يُجِزْ هَذِهِ الصُّورَةَ - أَعْنِي بَيْعَ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلاَ الْحَنَابِلَةُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَصَرَّحُوا بِالْبُطْلاَنِ، وَذَلِكَ: لِعُمُومِ نَصِّ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقِينَ.
وَلأِنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ .
وَيُلاَحَظُ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الْحَنْبَلِيِّ صَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ الاِخْتِلاَفِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي اللَّحْمِ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لاَ يُجِيزُونَ الْبَيْعَ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَجْنَاسٌ يُجِيزُونَهُ .
كَمَا يُلاَحَظُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ: أَطْلَقُوا اللَّحْمَ فِي الْحَدِيثِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَحْمَ سَمَكٍ أَوْ أَلْيَةٍ أَوْ كَبِدًا أَوْ طِحَالاً. وَأَطْلَقُوا الْحَيَوَانَ، حَتَّى لَوْ كَانَ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا، مَأْكُولاً كَالإْبِلِ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْحِمَارِ، فَبَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ مُطْلَقًا فِي الأْظْهَرِ .
رَابِعًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ.
62 - الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى جَوَازِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ جَازَ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ .
كَمَا عَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: بِأَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ هُوَ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا. لَكِنَّ الأَْظْهَرَ عِنْدَهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - تَحْرِيمُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ بِإِطْلاَقٍ لِلْحَدِيثِ .
بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ:
63 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم: سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلاَ إِذًا» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يُبَاعُ رُطَبٌ بِيَابِسٍ»
وَلاَ يَسْتَجِيزُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْبَيْعَ، وَنَحْوَهُ: كَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَاللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَالْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَذَلِكَ:
لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، قَالُوا: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ، وَإِلاَّ فَالنَّقْصُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ الآْنَ .
وَلأِنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا، بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَلَمْ يَجُزْ.
وَعِبَارَةُ الْخِرَقِيِّ وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرَّطْبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، إِلاَّ الْعَرَايَا .
وَرُبَّمَا اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ - بِتَفْسِيرِ ابْنِ جُزَيٍّ - بَيْعُ شَيْءٍ رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رِبَوِيًّا أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ، فَتَمْتَنِعُ فِي الرِّبَوِيِّ، لِتَوَقُّعِ التَّفَاضُلِ وَالْغَرَرِ، وَتَمْتَنِعُ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيِّ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ، وَلِلْغَرَرِ .
64 - وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ - رحمه الله تعالي - بِالْقَوْلِ بِالْجَوَازِ - كَمَا يَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ وَمُتُونُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ.
وَنَصَّ الْحَصْكَفِيُّ عَلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ، أَوْ بِتَمْرٍ مُتَمَاثِلاً.. فِي الْحَالِ لاَ الْمَآلِ، خِلاَفًا لَهُمَا، فَلَوْ بَاعَ مُجَازَفَةً لَمْ يَجُزِ اتِّفَاقًا .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» .
فَفِي وَجْهِ الاِسْتِدْلاَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ:
الرُّطَبُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا، أَوْ لاَ يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ تَمْرًا، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ»، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:
«إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ». وَلَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيثِ النَّهْيِ السَّابِقِ لأِنَّهُ دَائِرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ مِمَّنْ لاَ يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ
وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً» وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا .
وَلاِسْتِكْمَالِ مَبْحَثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ التَّفَاصِيلِ وَالأَْحْكَامِ. يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (رِبا).
بَيْعٌ وَسَلَفٌ:
65 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ » وَفِي رِوَايَةٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَحَادِيثَ، أَفَتَأْذَنُ لَنَا بِكِتَابَتِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَكَانَ أَوَّلَ مَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: لاَ يَجُوزُ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَاحِدٍ، وَلاَ بَيْعٌ وَسَلَفٌ جَمِيعًا، وَلاَ بَيْعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ»... الْحَدِيثَ .
وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رحمه الله تعالي السَّلَفَ وَالْبَيْعَ بِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: أَبِيعُكَ دَارِي هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي كَذَا وَكَذَا.
وَبِهَذَا تَئُولُ الْمَسْأَلَةُ إِلَى مَوْضُوعِ الْبَيْعِ بِشَرْطٍ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِذَلِكَ، فِي الْجُمْلَةِ.
وَصَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ الْبَيْعَ بِاشْتِرَاطِ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ يَكُنْ بُطْلاَنُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ رِوَايَةً وَاحْتِمَالاً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
وَالْمَالِكِيَّةِ، حِينَمَا تَحَدَّثُوا عَنْ بُيُوعِ الآْجَالِ - وَهِيَ بُيُوعٌ ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، لَكِنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى مَمْنُوعٍ - مَنَعُوا بَيْعَ مَا كَثُرَ قَصْدُ النَّاسِ إِلَيْهِ، تَوَصُّلاً إِلَى الرِّبَا الْمَمْنُوعِ، كَأَنْ كَانَ جَائِزًا فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِلتُّهْمَةِ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَمَثَّلُوا لَهَا: بِاجْتِمَاعِ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، أَوْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، أَوْ ضَمَانٍ بِجُعْلٍ.
وَصَوَّرُوا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ بِصُوَرٍ ثَلاَثٍ:
الأْولَى: بَيْعٌ جَائِزٌ فِي الظَّاهِرِ يُؤَدِّي - كَمَا يَقُولُ الدَّرْدِيرُ - إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ لِلتُّهْمَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ الْمَمْنُوعَ.
وَذَلِكَ كَأَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ لِشَهْرٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ نَقْدًا، فَآلَ الأْمْرُ إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ سِلْعَةً وَدِينَارًا نَقْدًا؛ لأِنَّ السِّلْعَةَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهَا مُلْغَاةٌ كَمَا يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُمَا عِنْدَ الأْجَلِ دِينَارَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنِ السِّلْعَةِ وَهُوَ بَيْعٌ، وَالآْخَرُ عَنِ الدِّينَارِ وَهُوَ سَلَفٌ.
فَهَذِهِ الصُّورَةُ تُؤَدِّي إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي مَنْعِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ بَشِيرٍ وَتَابِعُوهُ، وَغَيْرُهُمْ .
وَحَيْثُ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَيْعُ، مُنِعَتْ عِنْدَهُمْ، لِتُهْمَةِ قَصْدِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ.
الثَّانِيَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِشَرْطٍ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَمْنُوعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لأِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْقَرْضِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ، إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْبَائِعِ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُثَمَّنِ - أَيِ الْمَبِيعِ - إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا.
الثَّالِثَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِلاَ شَرْطٍ، لاَ صَرَاحَةً وَلاَ حُكْمًا، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ .
بَيْعٌ وَشَرْطٌ:
66 - وَرَدَ النَّهْيُ فِي السُّنَّةِ عَنْ (بَيْعٍ وَشَرْطٍ) وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، وَشَرْط)
أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَرِ
67 - هَذَا هُوَ السَّبَبُ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ، وَكَانَ الأْوَّلُ هُوَ الرِّبَا.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَغَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي.
وَالْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْخَطَرُ.
وَلَهُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ شَتَّى.
فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا طُوِيَ عَنْكَ عِلْمُهُ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْغَرَضِ، وَالثَّانِي عَلَى خِلاَفِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ، أَوْ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبِهِمَا أَخْوَفُهُمَا.
وَيَرَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا جُهِلَتْ عَيْنُهُ.
وَيَرَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ: فَالْخَطَرُ: مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ وُجُودُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي فَرَسَكَ بِمَا أَرْبَحُ غَدًا.
وَالْغَرَرُ: مَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ، وَيُشَكُّ فِي تَمَامِهِ، كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا .
68 - وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صُوَرٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا الْغَرَرُ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ، مِنْهَا: كَوْنُ الْمَبِيعِ مَالاً مَوْجُودًا مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلاَ مَا سَيُخْرِجُهُ الصَّيَّادُ فِي شَبَكَتِهِ، وَلاَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ الْجَمَلِ الشَّارِدِ. إِلَخْ.
وَالْغَرَرُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ مِلْكِيَّةِ الْبَائِعِ لَهُ، أَوْ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَهَذَا يُوجِبُ بُطْلاَنَ الْبَيْعِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَالآْخَرُ: مَا يَرْجِعُ إِلَى وَصْفٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ مِقْدَارِهِ، أَوْ يُورِثُ فِيهِ أَوْ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الأْجَلِ جَهَالَةً.
فَهَذَا مَحَلُّ خِلاَفٍ. تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (غَرَر).
وَفِيمَا يَلِي صُوَرُ الْغَرَرِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ فِيهَا بِخُصُوصِهَا، وَالْحُكْمُ الْفِقْهِيُّ فِيهَا، مِنَ الْبُطْلاَنِ أَوِ الْفَسَادِ. إِذِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ - كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . مِنْهَا: بَيْعُ الْحَصَاةِ وَبَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ. وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَمِنْهَا مَا يَلِي:
أ - بَيْعُ الْجَنِينِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ:
69 - وَهُوَ بَيْعُ الْحَمْلِ، كَمَا عَبَّرَتْ بَعْضُ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ .
وَالْجَنِينُ هُوَ: الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَجِنَّةً، كَدَلِيلٍ وَأَدِلَّةٍ. وَمِثْلُ الْجَنِينِ أَيْضًا: الْمَلْقُوحُ وَالْمَلْقُوحَةُ، وَجَمْعُهُمَا مَلاَقِيحُ، وَهِيَ: مَا فِي الأْرْحَامِ وَالْبُطُونِ مِنَ الأْجِنَّةِ، بِتَفْسِيرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَلاَقِيحِ بِمَا فِي ظُهُورِ الْفُحُولِ .
وَوَرَدَ النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَيْعِ الْجَنِينِ مَا دَامَ مُجْتَنًّا حَتَّى يُولَدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأْنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ» .
وَتَقَدَّمَ الإْجْمَاعُ - كَمَا صَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ - عَلَى بُطْلاَنِ هَذَا الْبَيْعِ (ر: ف 5) لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَلِلْغَرَرِ، فَعَسَى أَنْ لاَ يُولَدَ، وَلأِنَّ فِيهِ جَهَالَةً فِي صِفَتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَلأِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
وَذِكْرُهُ هُنَا لِلْغَرَرِ فَقَطْ، لَكِنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الأْوَّلِ مِنْهُ، وَهُوَ الْغَرَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ أَصْلُ وُجُودِهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ مُسْتَوْجِبًا لِلْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، حَتَّى فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ، الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ - وَبَيْنَ الْفَسَادِ.
ب - بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ:
70 - وَيُسَمَّى أَيْضًا الْمُخَاضَرَةَ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ.
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ»
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا» .
وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، قِيلَ: مَا يَزْهُو؟ قَالَ: يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ حَتَّى تُزْهَى، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهَى؟ قَالَ: تَحْمَرُّ ..
كَمَا جَاءَ بُدُوُّ الصَّلاَحِ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا». «وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاَحِهَا، قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهَا» .
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» .
وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ التَّعْبِيرُ بِلَفْظٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ: التَّشْقِيحُ، وَهَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ: مَا تُشَقِّحُ؟. قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا» .
مَعْنَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ:
71 - فَسَّرَ الْفُقَهَاءُ بُدُوَّ الصَّلاَحِ بِمَعَانٍ شَتَّى: فَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْ تُؤْمَنَ الْعَاهَةُ وَالْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ - كَالْكَرْلاَنِيِّ - فَسَّرَهُ بِأَنْ تَصْلُحَ الثَّمَرَةُ لِتَنَاوُلِ بَنِي آدَمَ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ .
وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَّرُوهُ تَفْسِيرًا مُخْتَلِفًا نِسْبِيًّا: فَهُوَ فِي التَّمْرِ: أَنْ يَحْمَرَّ وَيَصْفَرَّ وَيَزْهُوَ، وَفِي الْعِنَبِ: أَنْ يَسْوَدَّ وَتَبْدُوَ الْحَلاَوَةُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الثِّمَارِ: حُصُولُ الْحَلاَوَةِ، وَفِي الْخَسِّ وَالْعُصْفُرِ: أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِمَا، وَفِي سَائِرِ الْبُقُولِ: أَنْ تَطِيبَ لِلأْكْلِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالْحَبِّ: أَنْ يَيْبَسَ وَيَشْتَدَّ .
وَأَرْجَعَ الشَّافِعِيَّةُ بُدُوَّ الصَّلاَحِ فِي الثَّمَرِ وَغَيْرِهِ كَالزَّرْعِ، إِلَى ظُهُورِ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ، فِيمَا لاَ يَتَلَوَّنُ مِنْهُ، أَمَّا فِيمَا يَتَلَوَّنُ فَبِأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ أَوِ الصُّفْرَةِ. وَذَكَرُوا ثَمَانِي عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا بُدُوُّ الصَّلاَحِ. أَحَدُهَا: اللَّوْنُ، فِي كُلِّ ثَمَرٍ مَأْكُولٍ مُلَوَّنٍ، إِذَا أَخَذَ فِي حُمْرَةٍ، أَوْ سَوَادٍ أَوْ صُفْرَةٍ، كَالْبَلَحِ وَالْعُنَّابِ وَالْمِشْمِشِ وَالإْجَّاصِ.
ثَانِيهَا: الطَّعْمُ، كَحَلاَوَةِ الْقَصَبِ وَحُمُوضَةِ الرُّمَّانِ.
ثَالِثُهَا: النُّضْجُ وَاللِّينُ، كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ.
رَابِعُهَا: بِالْقُوَّةِ وَالاِشْتِدَادِ، كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ.
خَامِسُهَا: بِالطُّولِ وَالاِمْتِلاَءِ، كَالْعَلَفِ وَالْبُقُولِ.
سَادِسُهَا: الْكِبَرُ كَالْقِثَّاءِ، بِحَيْثُ يُؤْكَلُ.
سَابِعُهَا: انْشِقَاقُ أَكْمَامِهِ، كَالْقُطْنِ وَالْجَوْزِ.
ثَامِنُهَا: الاِنْفِتَاحُ، كَالْوَرْدِ. وَمَا لاَ أَكْمَامَ لَهُ كَالْيَاسَمِينِ، فَظُهُورُهُ، وَيُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الأَْخِيرِ. وَوَضَعَ لَهُ الْقَلْيُوبِيُّ هَذَا الضَّابِطَ، وَهُوَ: بُلُوغُ الشَّيْءِ إِلَى صِفَةٍ أَيْ حَالَةٍ يُطْلَبُ فِيهَا غَالِبًا .
وَوَضَعَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الضَّابِطَ: مَا كَانَ مِنَ الثَّمَرَةِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عِنْدَ صَلاَحِهِ، كَثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ الأْسْوَدِ وَالإْجَّاصِ، فَبُدُوُّ صَلاَحِهِ بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَبُ أَبْيَضَ فَصَلاَحُهُ بِتَمَوُّهِهِ، وَهُوَ: أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ الْمَاءُ الْحُلْوُ وَيَلِينَ وَيَصْفَرَّ لَوْنُهُ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَلَوَّنُ كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَحْلُوَ وَيَطِيبَ. وَإِنْ كَانَ بِطِّيخًا أَوْ نَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَيُؤْكَلُ طَيِّبًا صِغَارًا وَكِبَارًا، كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، فَصَلاَحُهُ بُلُوغُهُ أَنْ يُؤْكَلَ عَادَةً .
وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ: هِيَ خَوْفُ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثُ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا .
وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟»
حُكْمُ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ:
72 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - عَلَى أَنَّ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ، غَيْرُ جَائِزٍ وَلاَ صَحِيحٍ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَصَّلُوا فِيهِ الْقَوْلَ، تَبَعًا لِتَقْيِيدِ الْعَقْدِ بِشَرْطٍ وَإِطْلاَقِهِ، وَلاَ يَخْلُو بَيْعُ الثَّمَرَةِ مِنْ هَذِهِ الأْحْوَالِ:
الأْولَى: أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الظُّهُورِ وَالْبُرُوزِ، أَيْ قَبْلَ انْفِرَاكِ الزَّهْرِ عَنْهَا وَانْعِقَادِهَا ثَمَرَةً، فَهَذَا الْبَيْعُ لاَ يَصِحُّ اتِّفَاقًا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، بِشَرْطِ التَّرْكِ وَالتَّبْقِيَةِ عَلَى الشَّجَرِ حَتَّى تَنْضَجَ، فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ إِجْمَاعًا، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ.
أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ أَوْ هُوَ إِعَارَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ فِي بَيْعٍ.
وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
قَالُوا: وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ التَّرْكِ، بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ .
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ بِالإْجْمَاعِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِهِ وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَارِّ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فِيهِ: «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟» وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلاَحُهُ.
قَالُوا: وَالإْجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْمَنْعِ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَفَارَقَ مَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، لأِمْنِ الْعَاهَةِ فِيهِ غَالِبًا، بِخِلاَفِ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَبِهَذَا الْفَارِقِ يُشْعِرُ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ وَهُوَ: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ - أَيْ آفَةٌ أَهْلَكَتِ الثَّمَرَةَ - فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ» .
73 - غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، بِقُيُودٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا انْفَرَدَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، نُشِيرُ إِلَيْهَا فِيمَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُنْتَفَعًا بِهِ:
أ - فَالْحَنَفِيَّةُ - فِي الأْصَحِّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ - وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطْلاَقِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِشُمُولِ الاِنْتِفَاعِ لِمَا هُوَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَآلُ، أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ - كَمَا يُعَبِّرُونَ.
فَمِثْلُ الْقَصِيلِ (وَهُوَ الْفَصْفَصَةُ الَّتِي يُعْلَفُ بِهَا الْحَيَوَانُ) وَالْحِصْرِمِ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لاِنْتِفَاعِ الْحَيَوَانِ وَانْتِفَاعِ الإْنْسَانِ بِهِ .
ب - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ فِي الْحَالِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ تَقْيِيدَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ مِنْهُ كَمَا فِي الْحِصْرِمِ، بِخِلاَفِ الْكُمَّثْرَى؛ لأِنَّ قَطْعَهُ فِي الْحَالِ إِضَاعَةُ مَالٍ - كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ - وَبِخِلاَفِ ثَمَرَةِ الْجَوْزِ، وَزَرْعِ التُّرْمُسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ النَّفْعِ بِالْمَبِيعِ - كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكْثُرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلاَ يَتَمَالَئُوا عَلَيْهِ.
وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنْ تَخَلَّفَ وَاحِدٌ، مُنِعَ الْبَيْعُ كَمَا يُمْنَعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ الْمَارِّ أَوِ الإْطْلاَقِ، كَمَا يَأْتِي.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ مَا بِيعَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ مُشَاعًا، بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا مُشَاعًا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ قَطْعُ مَا يَمْلِكُهُ، إِلاَّ بِقَطْعِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
74 - وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا، إِضَافَةً إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْجَائِزَةِ، وَهِيَ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، هَذِهِ الصُّوَرَ:
(1) أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا مَعَ الشَّجَرِ، أَوِ الزَّرْعِ الأَْخْضَرِ مَعَ الأْرْضِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْفُقَهَاءُ؛ لأِنَّ الثَّمَرَ فِيهَا وَالزَّرْعَ تَابِعَانِ لِلشَّجَرِ وَالأْرْضِ، اللَّذَيْنِ لاَ تَعْرِضُ لَهُمَا عَاهَةٌ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.
(2) أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ لِمَالِكِ الأْصْلِ وَهُوَ الشَّجَرُ، أَوْ يَبِيعَ الزَّرْعَ لِمَالِكِ الأْرْضِ، لأِنَّهُ إِذَا بِيعَ مَعَ أَصْلٍ دَخَلَ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضَعِ احْتِمَالَ الْغَرَرِ فِيهِ، كَمَا احْتُمِلَتِ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ.
نَصَّ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَابِلَةُ، كَمَا نَصَّ عَلَى الأْولَى الْجَمِيعُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الصُّورَةَ التَّالِيَةَ:
(3) أَنْ يَبِيعَ الأْصْلَ ، وَهُوَ الشَّجَرُ أَوِ الأْرْضُ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِفَتْرَةٍ مَا، قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ، وَقَبْلَ خُرُوجِهِمَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، يَلْحَقُ الثَّمَرُ أَوِ الزَّرْعُ بِالأْصْلِ الْمَبِيعِ قَبْلَهُ .
75 - الرَّابِعَةُ مِنْ أَحْوَالِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ:
أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ - عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَفْسِيرِهِ: بِظُهُورِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ وَالتَّمَوُّهِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَبِأَمْنِ الْعَاهَةِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هُوَ نَصُّ ابْنِ الْهُمَامِ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ.
وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ الْمَذْهَبِيِّ فِيمَا إِذَا تَنَاهَى عِظَمُ الثَّمَرَةِ أَوْ لَمْ يَتَنَاهَ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ فِي هَذِهِ الْحَالِ - زِيَادَةً عَلَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِتَفْسِيرِهِ عِنْدَهُمْ - بِأَنْ لاَ يَسْتَتِرَ بِأَكْمَامِهِ، كَالْبَلَحِ وَالتِّينِ وَالْعِنَبِ، وَالْفُجْلِ وَالْكَرَّاتِ وَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ. فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَوَزْنًا بِالأْوْلَى.
أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِأَكْمَامِهِ - أَيْ بِغِلاَفِهِ - كَالْقَمْحِ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَحْدَهُ جُزَافًا، وَيَجُوزُ كَيْلاً. وَإِنْ بِيعَ بِقِشْرِهِ أَيْ تِبْنِهِ، جَازَ جُزَافًا وَكَذَا كَيْلاً بِالأْوْلَى.
أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِوَرَقِهِ كَالْفُولِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، لاَ مُنْفَرِدًا وَلاَ مَعَ وَرَقِهِ، وَيَجُوزُ كَيْلاً .
76 - الْخَامِسَةُ: أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ مُطْلَقًا، فَلاَ يَشْتَرِطُ قَطْعًا وَلاَ تَبْقِيَةً، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَلُّ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
(أ) فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَإِنْ صَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ - أَنَّ بَيْعَهَا كَذَلِكَ بَاطِلٌ: لإِطْلاَقِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَلأِنَّ الْعَاهَةَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ، لِضَعْفِهِ، فَيَفُوتُ بِتَلَفِهِ الثَّمَنُ، مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ .
(ب) وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَرَّرُوا أَنَّهُ:
إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الأْكْلِ وَلاَ فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ: قِيلَ: لاَ يَجُوزُ، وَنَسَبَهُ قَاضِيخَانُ لِعَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ لِلنَّهْيِ، وَلأِنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَالثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لأِنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ (أَيِ الْمَآلِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ.
وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَوْ مُطْلَقًا .
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلاَثِ السَّابِقَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، هَذِهِ الصُّورَةَ أَيْضًا.
77 - السَّادِسَةُ: إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ، وَقَدْ بَدَا صَلاَحُهَا وَنُضْجُهَا، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، وَشَرَطَ التَّرْكَ وَالتَّبْقِيَةَ إِلَى أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهَا:
(أ) فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ - كَمَا يَنُصُّ ابْنُ قُدَامَةَ - جَوَازُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ جَوَازُهُ بِإِطْلاَقٍ.
- لأِنَّ الْحَدِيثَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ لِبُدُوِّ الصَّلاَحِ غَايَةٌ، وَلاَ فَائِدَةٌ فِي ذِكْرِهِ.
- «وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَتَأْمَنَ الْعَاهَةَ» وَتَعْلِيلُهُ بِأَمْنِ الْعَاهَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّبْقِيَةِ؛ لأِنَّ مَا يُقْطَعُ فِي الْحَالِ لاَ يُخَافُ الْعَاهَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا بَدَا الصَّلاَحُ فَقَدْ أُمِنَتِ الْعَاهَةُ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ مُبْقًى، لِزَوَالِ عِلَّةِ الْمَنْعِ.
وَلأِنَّ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ يَجِبُ فِي الْمَبِيعِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، فَإِذَا شَرَطَهُ جَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَقْلَ الطَّعَامِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ .
(ب) وَالْحَنَفِيَّةُ قَرَّرُوا مُفَصِّلِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
إِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ الْعِظَمُ وَالنُّضْجُ، فَقَدْ شَرَطَ فِيهِ الْجُزْءَ الْمَعْدُومَ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ بِمَعْنًى مِنَ الأْرْضِ وَالشَّجَرِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، فَكَأَنَّهُ ضَمَّ الْمَعْدُومَ إِلَى الْمَوْجُودِ، وَاشْتَرَاهُمَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ .
وَإِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَقَدْ تَنَاهَى عِظَمُهَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ أَيْضًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا لأِنَّهُ يَحْصُلُ فِي الْمَبِيعِ زِيَادَةُ جَوْدَةٍ وَطَرَاوَةٍ، وَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ نَفْعٌ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَدِ اسْتَحْسَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ كَمَا قَالَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: لاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، لِتَعَارُفِ النَّاسِ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، لأِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْجُزْءِ الْمَعْدُومِ.
وَمَعَ أَنَّ الْبَابَرْتِيَّ وَالْكَرْلاَنِيَّ، مِنْ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ، لَمْ يُسَلِّمَا بِالتَّعَامُلِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْكِ، بَلْ قَرَّرَا أَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ التَّرْكُ بِلاَ شَرْطٍ، وَالإْذْنُ فِي تَرْكِهِ بِلاَ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، لاَ شَرْطِ التَّرْكِ. فَفِي نَقْلِ الْكَرْلاَنِيِّ عَنِ الأْسْرَارِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى .
78 - وَإِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ مُطْلَقًا، فَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْكَ وَلاَ الْقَطْعَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا: فَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الْبَائِعِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ وَالأْكْلُ. وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ فِي ضِمْنِ الإْجَارَةِ ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ الأْشْجَارَ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لأِنَّ الإْجَارَةَ بَاطِلَةٌ، لِعَدَمِ التَّعَارُفِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الأْشْجَارِ، وَلِعَدَمِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي إِلَى اسْتِئْجَارِ الأْشْجَارِ، لأِنَّهُ يُمْكِنُهُ شِرَاءُ الثِّمَارِ مَعَ أُصُولِهَا، وَالأْصْلُ فِي الْقِيَاسِ بُطْلاَنُ الإْجَارَةِ ، وَأُجِيزَتْ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَلاَ تَعَامُلَ فِي إِجَارَةِ الأَْشْجَارِ الْمُجَرَّدَةِ، فَبَقِيَ الإْذْنُ.
أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ، لِحُصُولِهِ بِجِهَةِ مَحْظُورِهِ، وَهِيَ حُصُولُهَا بِقُوَّةِ الأْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، فَيُقَوَّمُ ذَلِكَ قَبْلَ الإْدْرَاكِ وَبَعْدَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا، وَتَرَكَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ؛ لأِنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ، لاَ تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ .
هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بُدُوُّ صَلاَحِ كُلِّهِ؟
79 - يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوَجْهٍ عَامٍّ، أَنَّهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بُدُوُّ صَلاَحِ بَعْضِهِ - وَإِنْ قَلَّ - لِبَيْعِ كُلِّهِ، بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْعَقْدِ وَالْجِنْسِ وَالْبُسْتَانِ، وَالْحَمْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - كَالشَّافِعِيَّةِ - أَوِ الْجِنْسِ عِنْدَ آخَرِينَ - كَالْمَالِكِيَّةِ - وَإِنْ شَرَطَ بَعْضُهُمْ خِلاَفًا لآِخَرِينَ صَلاَحَ كُلِّهِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: إِنْ كَانَتْ شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَدَا الصَّلاَحُ فِي بَعْضِ ثَمَرِهَا، جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلاَفًا.
ثَانِيًا: وَإِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ:
الأْوَّلُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الأْظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ الثَّمَرِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَوَجْهُهُ:
- أَنَّهُ بَدَا الصَّلاَحُ مِنْ نَوْعِهِ مِنَ الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَجَازَ بَيْعُ جَمِيعِهِ، كَالشَّجَرَةِ الْوَاحِدَةِ.
- وَأَنَّ اعْتِبَارَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فِي جَمِيعِهِ يَشُقُّ، وَيُؤَدِّي إِلَى الاِشْتِرَاكِ وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ شَرَطُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنْ لاَ تَكُونَ النَّخْلَةُ بَاكُورَةً، وَهِيَ الَّتِي تَسْبِقُ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ، بِحَيْثُ لاَ يَحْصُلُ مَعَهُ تَتَابُعُ الطَّيِّبِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاكُورَةً لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ثِمَارِ الْبُسْتَانِ بِطَيِّبِهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَحْدَهَا .
الآْخَرُ: هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ (وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ.
لأِنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَلأِنَّهُ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، فَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الآْخَرَ، وَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ - كَمَا سَيَأْتِي -
80 - ثَالِثًا: إِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ أَشْجَارٍ مِنْ نَوْعٍ مَا، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ؟
فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْجُهٌ:
الْوَجْهُ الأْوَّلُ: لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، هُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ، قَرَّرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ الأْوْلَى، وَذَلِكَ:
- لأِنَّ النَّوْعَيْنِ قَدْ يَتَبَاعَدُ إِدْرَاكُهُمَا، فَلَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي بُدُوِّ الصَّلاَحِ، كَالْجِنْسَيْنِ.
- وَلأِنَّ الْمَعْنَى هُنَا هُوَ تَقَارُبُ إِدْرَاكِ أَحَدِهِمَا مِنَ الآْخَرِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالاِشْتِرَاكِ، وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، وَلاَ يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي النَّوْعَيْنِ، فَصَارَا فِي هَذَا كَالْجِنْسَيْنِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مُتَقَارِبَ الإْدْرَاكِ، فَبُدُوُّ صَلاَحِ بَعْضِهِ يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إِدْرَاكُ بَعْضِهِ تَأَخُّرًا كَثِيرًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِيمَا أَدْرَكَ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْبَاقِي .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلأِبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، قَاسُوهُ عَلَى إِكْمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي التَّكْمِيلِ، فَيَتْبَعُهُ فِي
جَوَازِ الْبَيْعِ، وَيُصْبِحُ كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ .
81 - رَابِعًا: إِنْ بَدَا صَلاَحُ الثَّمَرِ فِي أَحَدِ بُسْتَانَيْنِ (مُتَقَارِبَيْنِ) مِنْ دُونِ الآْخَرِ، وَقَدْ بَاعَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَالثَّمَرَةُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ بُدُوَّ الصَّلاَحِ فِي شَجَرَةٍ مِنَ الْقَرَاحِ (الْمَزْرَعَةِ) صَلاَحٌ لَهُ وَلِمَا قَارَبَهُ وَجَاوَرَهُ، فَيَتْبَعُهُ، وَذَلِكَ: لأِنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الصَّلاَحِ، فَأَشْبَهَا الْقَرَاحَ الْوَاحِدَ. وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ الأْمْنُ مِنَ الْعَاهَةِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَلاِجْتِمَاعِهِمَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَّرُوا الْقُرْبَ هُنَا وَالْجِوَارَ، بِتَلاَحُقِ الطَّيِّبِ بِالطَّيِّبِ عَادَةً، أَوْ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.
وَابْنُ كِنَانَةَ مِنْهُمْ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي الْبَسَاتِينِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَلاَحَقُ طَيِّبَهُ بِطَيِّبِهِ.
وَابْنُ الْقَصَّارِ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمُتَجَاوِرَاتِ مِنَ الْبَسَاتِينِ، فَشَمِلَ الْبَلَدَ.
وَلَهُمْ قَوْلاَنِ فِي اشْتِرَاطِ تَلاَصُقِ الْبَسَاتِينِ، لَكِنَّهُمُ اسْتَظْهَرُوا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْبَسَاتِينُ الْمُجَاوِرَةُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ الَّذِي فِيهِ الشَّجَرَةُ الْبَاكُورَةُ الَّتِي بَدَا صَلاَحُهَا. لَكِنَّهُمْ قَصَرُوا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الثِّمَارِ، وَمِثْلُهَا الْمَقْثَأَةُ، أَمَّا الزُّرُوعُ فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ يُبْسِ جَمِيعِ الْحَبِّ .
الآْخَرُ: أَنْ لاَ يَتْبَعَ أَحَدُ الْبُسْتَانَيْنِ الآْخَرَ، وَهَذَا هُوَ الأْصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَوْ كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ، وَذَلِكَ:
- لأِنَّ مِنْ شَأْنِ اخْتِلاَفِ الْبِقَاعِ اخْتِلاَفُ وَقْتِ التَّأْبِيرِ - كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ - فَلاَ بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ.
- أَنَّ إِلْحَاقَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ بِاَلَّذِي بَدَا صَلاَحُهُ، هُوَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الاِشْتِرَاكِ، وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، وَهَذَا الضَّرَرُ مُنْتَفٍ فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ، فَوَجَبَ امْتِنَاعُ التَّبَعِيَّةِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْبُسْتَانَيْنِ الْمُتَبَاعِدَيْنِ .
82 - خَامِسًا: إِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي جِنْسٍ مِنَ الثَّمَرِ، لَمْ يَكْفِ فِي حِلِّ بَيْعِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، فَبُدُوُّ صَلاَحِ الْبَلَحِ لاَ يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِ نَحْوِ الْعِنَبِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبُسْتَانِ عِنَبٌ وَرُمَّانٌ، فَبَدَا صَلاَحُ الْعِنَبِ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الرُّمَّانِ
حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ - نَصَّ عَلَى هَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ بَاعَ كَذَلِكَ وَجَبَ شَرْطُ الْقَطْعِ فِي ثَمَرِ الآْخَرِ.
83 - أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَقَاثِئَ بِالثَّمَرِ، فِي الاِكْتِفَاءِ بِبُدُوِّ بَعْضِهَا، لِجَوَازِ بَيْعِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكْبُرَ وَتَطِيبُ لِلأَْكْلِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهِمَا، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَلاَ يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِهِ يُبْسُ بَعْضِهِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ يُبْسِ جَمِيعِ حَبِّهِ، وَذَلِكَ:
- لأِنَّ حَاجَةَ النَّاسِ لأِكْلِ الثِّمَارِ رَطْبَةً لِلتَّفَكُّهِ بِهَا أَكْثَرُ.
- وَلأِنَّ الثَّمَرَ إِذَا بَدَا صَلاَحُ بَعْضِهِ، يَتْبَعُهُ الْبَاقِي سَرِيعًا غَالِبًا، وَمِثْلُهُ نَحْوُ الْقِثَّاءِ، بِخِلاَفِ الزَّرْعِ، وَلَيْسَتِ الْحُبُوبُ كَذَلِكَ، لأِنَّهَا لِلْقُوتِ لاَ لِلتَّفَكُّهِ .
وَبَقِيَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الأْصْلِ، وَهُوَ الاِكْتِفَاءُ فِي الْحَبِّ بِبُدُوِّ صَلاَحِ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ، بَلْ صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ بِالاِكْتِفَاءِ بِاشْتِدَادِ بَعْضِ الْحَبِّ، وَلَوْ سُنْبُلَةً وَاحِدَةً، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَيْنَا بِطِيبِ الثِّمَارِ عَلَى التَّدْرِيجِ، إِطَالَةً لِزَمَنِ التَّفَكُّهِ، فَلَوْ شَرَطَ طِيبَ جَمِيعِهِ، لأَدَّى إِلَى أَنْ لاَ يُبَاعَ شَيْءٌ؛ لأِنَّ السَّابِقَ قَدْ يَتْلَفُ، أَوْ تُبَاعُ الْحَبَّةُ، بَعْدَ الْحَبَّةِ، وَفِي كُلٍّ حَرَجٌ شَدِيدٌ .
84 - وَلَمْ يُوَاجِهِ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ اشْتِرَاطُ بُدُوِّ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ لِصِحَّةِ بَيْعِهِ، وَلاَ التَّفْصِيلاَتِ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِيهَا؛ لأِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي أَصْلِهَا، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ (وَكَذَا الْحَبُّ وَنَحْوُهُ) أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا، وَيَجِبُ قَطْعُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ.
وَكُلُّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ خِلاَفِ الأْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ فِي اشْتِرَاطِ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ، وَصَلاَحِ كُلِّ الْحَبِّ، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكُلُّهُ جَائِزُ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَكْلاً وَلاَ عَلَفًا، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ:
فَذَهَبَ السَّرَخْسِيُّ (وَشَيْخُ الإْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ) إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، لِلنَّهْيِ وَعَدَمِ التَّقَوُّمِ.
وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ - وَالأْصَحُّ عِنْدَ الْمَرْغِينَانِيِّ - جَوَازُ بَيْعِهِ أَيْضًا، لأِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ مَآلاً، وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ حَالاً، بِاعْتِبَارِهِ مَالاً .
لِهَذَا لَمْ يَبْحَثِ الْحَنَفِيَّةُ شَرْطِيَّةَ بُدُوِّ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ وَلاَ بَعْضِهِ (وَكَذَا الْحَبُّ) وَعِبَارَةُ مُتُونِهِمْ فِي هَذَا صَرِيحَةٌ، وَنَصُّهَا:
وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، أَوْ قَدْ بَدَا، جَازَ الْبَيْعُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى النَّخْلِ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَقِيلَ: لاَ إِذَا تَنَاهَتْ، وَبِهِ يُفْتَى
بَيْعُ الْمُتَلاَحِقِ مِنَ الثَّمَرِ وَنَحْوِهِ:
85 - وَيَتَّصِلُ بِبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ - عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي فِيهِ - مَسْأَلَةُ مَا إِذَا بَاعَ ثَمَرَةً قَدْ بَدَا صَلاَحُهَا، وَكَانَتْ مِمَّا تُطْعَمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ.
وَيَغْلِبُ تَلاَحُقُ ثَمَرِهَا، وَيَخْتَلِطُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا بِالْمَوْجُودِ، كَالتِّينِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ، وَكَذَا فِي الزَّرْعِ كَالْبِرْسِيمِ (وَهُوَ الْفَصْفَصَةُ) وَكَذَا فِي الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَتُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ الثَّمَرِ الْمُتَلاَحِقِ، وَفِيهَا بَعْضُ الْخِلاَفِ.
(أ) فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَهُمْ قِيَاسًا: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَذَلِكَ:
لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ، فَأَشْبَهَ هَلاَكَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، كَمَا يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى صَدْرِ التَّعْلِيلِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَقْبَلُ الْبَيْعَ، وَحِصَّةُ الْمَوْجُودِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ .
وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ ثَمَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا قَبْلَ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِبَيْعِ أُصُولِهِ.
وَمَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ، وَإِنْ كَانَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلاَحُهُ، لأِنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فِي بَعْضِ الأْحْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُخْلَقْ فَلاَ .
86 - (ب) وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُهُ، وَهُوَ أَيْضًا مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْحَلْوَانِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وَآخَرِينَ اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ أَصْلاً فِي الْعَقْدِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ تَبَعًا لَهُ، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَوَجَّهَهُ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ هُوَ تَعَامُلُ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا بِبَيْعِ ثِمَارِ الْكَرْمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَفِي نَزْعِ النَّاسِ مِنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الإْمَامِ مُحَمَّدٍ - رحمه الله - أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الْوَرْدِ عَلَى الأْشْجَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَرْدَ لاَ يَتَفَتَّحُ جُمْلَةً، بَلْ يَتَلاَحَقُ بَعْضُهُ إِثْرَ بَعْضٍ .
وَبَدَا مِنْ هَذَا أَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الْمُتَلاَحِقَاتِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِحْسَانِ الضَّرُورَةِ، عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالَّذِينَ ذَهَبُوا مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ تَمَسَّكُوا بِالنُّصُوصِ، وَنَفَوُا الضَّرُورَةَ هُنَا:
- لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ الأْصُولَ.
- أَوْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي الْمَوْجُودَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، وَيُؤَخِّرَ الْعَقْدَ فِي الْبَاقِي إِلَى وَقْتِ وُجُودِهِ.
- أَوْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيُبِيحُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الاِنْتِفَاعَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ. وَلِهَذَا قَرَّرُوا أَنَّهُ لاَ ضَرُورَةَ إِلَى تَجْوِيزِ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، وَهُوَ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإْنْسَانِ .
وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله تعالي : لاَ يَخْفَى تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فِي زَمَانِنَا، وَلاَ سِيَّمَا فِي مِثْلِ دِمَشْقِ الشَّامِ، كَثِيرَةِ الأْشْجَارِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى النَّاسِ، لاَ يُمْكِنُ إِلْزَامُهُمْ بِالتَّخَلُّصِ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ النَّاسِ لاَ يُمْكِنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَامَّتِهِمْ، وَفِي نَزْعِهِمْ عَنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ - كَمَا عَلِمْتَ - وَيَلْزَمُ تَحْرِيمُ أَكْلِ الثِّمَارِ فِي هَذِهِ الْبُلْدَانِ، إِذْ لاَ تُبَاعُ إِلاَّ كَذَلِكَ.
وَالنَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم إِنَّمَا رَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلضَّرُورَةِ، مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، فَحَيْثُ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا أَيْضًا، أَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِالسَّلَمِ بِطَرِيقِ الدِّلاَلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، فَلِهَذَا جَعَلُوهُ مِنَ الاِسْتِحْسَانِ؛ لأِنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الْجَوَازِ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْفَتْحِ الْمَيْلُ إِلَى الْجَوَازِ، وَلِذَا أَوْرَدَ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، بَلْ إِنَّ الْحُلْوَانِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَمَا ضَاقَ الأْمْرُ إِلاَّ اتَّسَعَ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُسَوِّغٌ لِلْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
87 - وَالْمَالِكِيَّةُ، الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ، قَسَّمُوا هَذِهِ الْمُتَلاَحِقَاتِ، وَهِيَ ذَاتُ الْبُطُونِ، إِلَى قِسْمَيْنِ:
- مَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ.
- وَمَا لاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ.
وَالَّذِي لاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ قِسْمَانِ: مَا لَهُ آخِرٌ، وَمَا لاَ آخِرَ لَهُ.
وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُهَا:
أَوَّلاً: مَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ، وَهُوَ الْمُنْفَصِلُ غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ. وَذَلِكَ فِي الشَّجَرِ الَّذِي يُطْعِمُ فِي السَّنَةِ بَطْنَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ. فَهَذَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْبَطْنُ الثَّانِي بَعْدَ وُجُودِهِ وَقَبْلَ صَلاَحِهِ بِبُدُوِّ صَلاَحِ الْبَطْنِ الأْوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَنْقَطِعُ الأْوَّلُ حَتَّى يَبْدُوَ طِيبُ الثَّانِي. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ.
وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ قَوْلاً بِالْجَوَازِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَطْنَ الثَّانِي يَتْبَعُ الأْوَّلَ فِي الصَّلاَحِ، لَكِنِ ابْنَ جُزَيٍّ جَعَلَ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اتِّفَاقًا .
ثَانِيًا: مَا يَخْلُفُ وَيُطْعِمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ، وَلَهُ آخِرٌ. (أَيْ نِهَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا) كَالْوَرْدِ وَالتِّينِ، وَكَالْمَقَاثِئِ مِنَ الْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجُمَّيْزِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الْبُطُونِ بِبُدُوِّ صَلاَحِ الأْوَّلِ .
قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: خِلاَفًا لَهُمْ، أَيْ لِلأْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ. فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ، يُقْضَى لَهُ بِالْبُطُونِ كُلِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي الْعَقْدِ.
وَلاَ يَجُوزُ فِي هَذَا التَّوْقِيتِ بِشَهْرٍ وَنَحْوِهِ، لاِخْتِلاَفِ حَمْلِهَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ .
ثَالِثًا: مَا يُخْلَفُ وَيُطْعَمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ وَهِيَ مُتَتَابِعَةٌ، لَكِنْ لاَ آخِرَ وَلاَ نِهَايَةَ لَهُ، أَيْ أَنَّ إِخْلاَفَهُ مُسْتَمِرٌّ، فَكُلَّمَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ خَلَفَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَهُ آخِرٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ طُولَ الْعَامِ، كَالْمَوْزِ - فِي بَعْضِ الأْقْطَارِ - فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلاَّ بِضَرْبٍ مِنَ الأْجَلِ، وَهُوَ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ، وَلَوْ كَثُرَ الأْجَلُ - عَلَى الْمَشْهُورِ - خِلاَفًا لاِبْنِ نَافِعٍ الَّذِي حَصَرَ الْجَوَازَ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِمَنْ نَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى سَنَتَيْنِ.
وَمِثْلُ ضَرْبِ الأْجَلِ فِي الْجَوَازِ، اسْتِثْنَاءُ بُطُونٍ مَعْلُومَةٍ .
ج - بَيْعُ السِّنِينَ:
88 - رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» . وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَبِيعَ مَا سَوْفَ تُثْمِرُهُ نَخْلَةُ الْبَائِعِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ مَنْعِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا .
د - بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ:
89 - وَمِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهِ لِلْغَرَرِ: السَّمَكُ فِي الْمَاءِ. وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: لاَ تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ غَرَرٌ» .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ اصْطِيَادِهِ، كَمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ إِذَا صِيدَ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ، وَأَنَّهُ فَاسِدٌ، لأِنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُمْلَكْ، وَفِيهِ غَرَرٌ كَثِيرٌ فَلاَ يُغْتَفَرُ إِجْمَاعًا، وَلأِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلاَّ بَعْدَ اصْطِيَادِهِ، فَأَشْبَهَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ، كَمَا أَنَّهُ مَجْهُولٌ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ - بِاصْطِلاَحِهِمْ فِيهِ - وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ، إِذَا بِيعَ بِعَرْضٍ؛ لأِنَّ السَّمَكَ يَكُونُ حِينَئِذٍ ثَمَنًا وَالْعَرَضُ مَبِيعًا، وَاذَا دَخَلَتِ الْجَهَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلَمْ يَكُنْ بَاطِلاً. فَإِنْ بِيعَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ، إِذْ يَتَعَيَّنُ كَوْنُ السَّمَكِ حِينَئِذٍ مَبِيعًا، وَالدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ ثَمَنًا.
وَفِيهِ صُوَرٌ مِنَ الْجَوَازِ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ وَأَحْكَامٍ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ مُصْطَلَحِ (غَرَرٌ).
90 - وَمِثْلُ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِهِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ - خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ يَرْجِعُ بَعْدَ الإْرْسَالِ فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لاَ يَرْجِعُ بَعْدَ الإْرْسَالِ، فَلاَ يَصِحُّ.
أَمَّا بَيْعُهُ قَبْلَ صَيْدِهِ، فَبَاطِلٌ عِنْدَهُمْ، كَمَا هُوَ الإْجْمَاعُ .
وَانْظُرْ بَعْضَ أَحْكَامِهِ، وَتَفْصِيلاَتِهِ، وَتَعْلِيلاَتِ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ فِي مُصْطَلَحِ (غَرَر، بَيْع)
هـ - بَيْعُ الْعَبْدِ الآْبِقِ:
91 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ» فَيَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْعَهُ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْجَوَازَ بِبَيْعِهِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ بِلاَ مَشَقَّةٍ لاَ تُحْتَمَلُ عَادَةً، وَبِلاَ مُؤْنَةٍ لَهَا وَقْعٌ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الْجَوَازِ، وَلَوْ عَلِمَ مَكَانَهُ أَوْ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ، جَازَ، لإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ.
وَقِيسَ عَلَيْهِ: الْجَمَلُ الشَّارِدُ، وَالْفَرَسُ الْعَائِرُ وَالضَّالُّ إِلاَّ مَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَالْمَغْصُوبُ إِلاَّ لِقَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَبَيْعُهُ مِنَ الْغَاصِبِ صَحِيحٌ قَطْعًا .
وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، غَرَر).
و - بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ:
92 - وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ ثَمَرٌ حَتَّى يُطْعَمَ، أَوْ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ، أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ» .
وَالشَّوْكَانِيُّ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى فَسَادِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، فَأَشْبَهَ الْحَمْلَ.
وَتَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْلِ بِفَسَادِهِ لاِخْتِلاَطِ الْمِلْكَيْنِ، أَوْ بُطْلاَنِهِ لِلشَّكِّ فِي وُجُودِهِ.
وَوَضَعَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذَا وَأَمْثَالِهِ ضَابِطًا، وَهُوَ: أَنَّ كُلَّ مَا بِيعَ بِغِلاَفِهِ لاَ يَجُوزُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحُبُوبِ فِي قِشْرِهَا وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي (بَيْع، غَرَر).
ز - بَيْعُ الصُّوفِ وَهُوَ عَلَى الظَّهْرِ:
93 - وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا. (ف \ 92).
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى فَسَادِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، بِشَرْطِ جَزِّهِ فِي الْحَالِ، وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: فِيهِ قُوَّةٌ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ بِشَرْطِ جَزِّهِ خِلاَلَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ كَنِصْفِ شَهْرٍ. وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْفَسَادِ: النَّهْيُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ لاَ تُفْرَدُ بِالْبَيْعِ، وَاخْتِلاَطُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ لأِنَّهُ يَنْبُتُ مِنَ الأْسْفَلِ، أَوِ اتِّصَالُهُ بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ كَأَعْضَائِهِ، أَوِ الْجَهَالَةُ وَالتَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ.
وَأَبُو يُوسُفَ - رحمه الله - يَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْقَصِيلِ (الْفَصْفَصَةُ، أَوِ الْبِرْسِيمُ) وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ الشَّعِيرُ يُجَزُّ أَخْضَرَ لِعَلَفِ الدَّوَابِّ . وَفِيهِ تَفْصِيلاَتٌ وَصُوَرٌ تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع، غَرَر، جَهَالَة).
ح - بَيْعُ السَّمْنِ فِي اللَّبَنِ:
94 - وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمُ «... أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ » وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لاَ يَمْتَازُ عَنْهُ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ وَغَرَرٌ، ثُمَّ هُوَ مِنَ الأْشْيَاءِ الَّتِي فِي غُلُفِهَا، وَالَّتِي لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهَا وَتَسْلِيمُهَا إِلاَّ بِإِفْسَادِ الْخِلْقَةِ. كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِاسْتِثْنَاءِ الْحُبُوبِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ .
ط - الثُّنْيَا (أَوِ اسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ فِي الْبَيْعِ):
95 - وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالثُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ» وَمَعْنَى الثُّنْيَا: الاِسْتِثْنَاءُ، وَهِيَ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، كَشَجَرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ أَشْجَارٍ بِيعَتْ، صَحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً كَبَعْضِ الأْشْجَارِ، لَمْ يَصِحَّ .
فَوَضَعَ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ: أَنَّ مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ. وَعَلَّقَ عَلَيْهَا ابْنُ عَابِدِينَ قَوْلَهُ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، مُفَرَّعٌ عَلَيْهَا مَسَائِلُ .
وَأَشَارَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَسَمَّاهَا صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ ضَابِطًا. فَقَالَ: وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا .
96 - وَإِلَيْكَ بَعْضُ التَّطْبِيقَاتِ:
(أ) لَوْ بَاعَ هَذَا الْقَطِيعَ إِلاَّ شَاةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ، وَلأِنَّهُ مَبِيعٌ مَجْهُولٌ فَلَمْ يَصِحَّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ شَاةً تَخْتَارُهَا مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ بُسْتَانًا إِلاَّ شَجَرَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ .
وَمَالِكٌ - رحمه الله - أَجَازَ ذَلِكَ، فَلِلْبَائِعِ عِنْدَهُ أَنْ يَبِيعَ الْبُسْتَانَ، وَيَسْتَثْنِيَ خَمْسًا مِنْ شَجَرَاتِهِ؛ لأِنَّ الْبَائِعَ - فِي الْغَالِبِ - يَعْرِفُ جَيِّدَ شَجَرِ بُسْتَانِهِ وَرَدِيئَهُ، فَلاَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ أَنَّهُ يَخْتَارُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، بِخِلاَفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يُتَوَهَّمُ فِيهِ التَّنَقُّلُ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ بَيْنَ الطَّعَامَيْنِ إِنْ كَانَا رِبَوِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا؛ لأِنَّ الْمُنْتَقِلَ إِلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا، وَالشَّكُّ فِي التَّمَاثُلِ كَتَحَقُّقِ التَّفَاضُلِ، وَيُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ إِنْ كَانَا مَكِيلَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا .
(ب) لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ قَفِيزًا أَوْ رِطْلاً: - جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لأِنَّ الثُّنْيَا هُنَا مَعْلُومَةٌ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى مِنْهَا جُزْءًا مُشَاعًا - كَمَا سَيَأْتِي-.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا عُلِمَ بِالْمُشَاهَدَةِ لاَ بِالْقَدْرِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمُشَاهَدَةِ، لأِنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَبْقَى فِي حُكْمِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَمْ يَجُزْ .
(ج) لَوْ بَاعَ هَذَا الْقَطِيعَ إِلاَّ شَاةً مُعَيَّنَةً، أَوْ بَاعَ هَذَا الْبُسْتَانَ إِلاَّ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ؛ لأِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومٌ، وَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ. وَالْمَبِيعُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِكَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، فَانْتَفَى الْمُفْسِدُ .
(د) - لَوْ بَاعَ الصُّبْرَةَ إِلاَّ أَرْطَالاً مَعْلُومَةً: - جَازَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّهُ يَصِحُّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَبْقَى أَكْثَرُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَيَكُونُ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ، كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى رِطْلاً وَاحِدًا. وَكَذَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ لَوْ كَانَ اسْتِثْنَاءُ الأْرْطَالِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ ثَمَرٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
- وَعِنْدَ أَحْمَدَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ الأْقْيَسُ بِمَذْهَبِهِ - لاَ يَجُوزُ هُنَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الأْولَى، إِنْ جَهِلَ الْمُتَعَاقِدَانِ كَمِّيَّةَ أَرْطَالِهَا، لأِنَّ الْجَهْلَ بِذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِمَا يَبْقَى بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى .
(هـ) لَوِ اسْتَثْنَى جُزْءًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ بَلْ شَائِعًا، كَرُبُعٍ وَثُلُثٍ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالاِتِّفَاقِ، لِلْعِلْمِ بِالْمَبِيعِ فِي أَجْزَائِهِ، وَلِصِحَّةِ إِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا .
(و) َلَوْ بَاعَهُ أَرْضًا أَوْ دَارًا أَوْ ثَوْبًا، إِلاَّ ذِرَاعًا:
- فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ يَعْلَمَانِ عِدَّةَ أَذْرُعِ الأْرْضِ أَوِ الدَّارِ أَوِ الثَّوْبِ، كَعَشَرَةٍ - مَثَلاً - صَحَّ الْبَيْعُ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ مُشَاعًا فِيهَا، كَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَشَرَ، وَإِنْ كَانَا لاَ يَعْلَمَانِ (كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا) لَمْ يَصِحُّ؛ لأِنَّ الْمَبِيعَ لَيْسَ مُعَيَّنًا وَلاَ مُشَاعًا، فَيَكُونُ مَجْهُولاً .
97 - وَيُمْكِنُ تَطْبِيقُ قَاعِدَةِ: مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ، عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَهِيَ: مَا إِذَا بَاعَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ هِيَ مِائَةُ ذِرَاعٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَمْ لاَ:
- فَأَبُو حَنِيفَةَ لاَ يُجِيزُ الْعَقْدَ لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الأْرْضِ لاَ عَلَى شَائِعٍ، وَالدَّارُ تَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهَا وَأَجْزَاؤُهَا، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى النِّزَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ، لِعَدَمِ تَفَاوُتِ أَجْزَائِهَا.
- وَالصَّاحِبَانِ يَقُولاَنِ: إِذَا سَمَّى جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ صَحَّ، وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ، لِلْجَهَالَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ -
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا جَوَازُ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا جُمْلَةَ مِسَاحَةِ الأْرْضِ بِالذُّرْعَانِ؛ لأِنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إِزَالَتُهَا فَتُقَاسُ وَتُعْلَمُ نِسْبَةُ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ مِنْهَا، وَيَكُونُ الْبَيْعُ شَائِعًا فِي الأْرْضِ كُلِّهَا .
وَإِذَا صَحَّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى الْعَشَرَةِ، جَازَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْهُ.
98 - لَوْ بَاعَ شَاةً وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوِ اسْتَثْنَى بَعْضَ أَعْضَائِهَا، لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِفْرَادُ الْمَذْكُورِ بِالْعَقْدِ، فَكَذَا لاَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، فَصَارَ شَرْطًا فَاسِدًا - كَمَا يَقُولُ ابْنِ عَابِدِينَ - وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ .
وَجَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ رَأْسِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَجِلْدِهِ وَسَوَاقِطِهِ وَسَلَبِهِ وَأَطْرَافِهِ، لأِنَّ «النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ - أَيْ مُهَاجِرًا - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ رضي الله عنهما مَرُّوا بِرَاعِي غَنْمٍ، فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً، وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا » وَيُلْحَقُ الْحَضَرُ بِالسَّفَرِ عِنْدَهُمْ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ. وَعَنْ مَالِكٍ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ؛ لأِنَّ الْمُسَافِرَ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ وَالسَّوَاقِطِ، فَجُوِّزَ لَهُ شِرَاءُ اللَّحْمِ دُونَهَا .
أَسْبَابُ النَّهْيِ غَيْرِ الْعَقْدِيَّةِ:
99 - وَيُرَادُ بِهَا: مَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَلاَ بِوَصْفٍ مُلاَزِمٍ لِلْعَقْدِ بِحَيْثُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، فَمَا هُوَ بِرُكْنٍ وَلاَ بِشَرْطٍ .
وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ هَذِهِ الأْسْبَابِ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ:
النَّوْعُ الأْوَّلُ: مَا يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيقٍ أَوْ إِيذَاءٍ أَوْ ضَرَرٍ: مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ. وَذَلِكَ كَالْغَبْنِ، وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.
النَّوْعُ الآْخَرُ: مَا يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةٍ دِينِيَّةٍ بَحْتَةٍ، أَوْ عِبَادِيَّةٍ مَحْضَةٍ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَبَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنَ الْكَافِرِ.
النَّوْعُ الأْوَّلُ: الأْسْبَابُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ الْمُطْلَقِ
100 - مِنْ أَهَمِّ مَا يَشْمَلُهُ هَذَا النَّوْعُ، الْبُيُوعُ الآْتِيَةُ:
أ - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأْمِّ وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ:
101 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ هَذَا الْبَيْعِ، لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي السُّنَّةِ فَمِنْ ذَلِكَ: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا» .
وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ هَذَا التَّفْرِيقِ:
102 - هَذَا التَّفْرِيقُ غَيْرُ جَائِزٍ - بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَعَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي فِي أَحْوَالِهِ - عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ:
مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بِالْبَيْعِ حَرَامٌ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: يَجِبُ فَسْخُهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهُمَا فِي حَوْزٍ (أَوْ مِلْكٍ وَاحِدٍ). عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا سَيَأْتِي:
وَعِنْدَهُمَا (الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ): الْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يُمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيقِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْبَائِعُ آثِمٌ بِالتَّفْرِيقِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، جَائِزٌ فِي سَائِرِ ذَوِي الأْرْحَامِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيلُ أَدِلَّةِ هَذِهِ الاِتِّجَاهَاتِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِق).
103 - هَذَا وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعْمِيمُ التَّحْرِيمِ، بِحَيْثُ يَشْمَلُ كُلَّ تَفْرِيقٍ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَصْرُهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بِالْبَيْعِ بَيْنَ الأْمِّ الْوَالِدَةِ وَبَيْنَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ (أَيْ لَمْ يُبَدِّلْ أَسْنَانَهُ) فَقَطْ.
وَالشَّافِعِيَّةُ قَصَرُوهُ عَلَى قَرَابَةِ الْوِلاَدِ مَهْمَا نَزَلَ، إِذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا حَتَّى يُمَيِّزَ وَيَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ، فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ .
وَتَفْصِيلُ الأْدِلَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (رِق).
حُكْمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أُمِّهِ:
104 - الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَوَازُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ وَبَيْنَ أُمِّهِ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ الْمَمْنُوعَ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْهُمْ: الْمَنْعُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الأْمِّ وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي الْحَيَوَانِ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ أُمِّهِ بِالرَّعْيِ.
فَعَلَى هَذَا، لَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ لَمْ يُفْسَخْ. وَيُجْبَرَانِ عَلَى جَمْعِهِمَا فِي حَوْزٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَتَفْرِيقِ الْعَاقِلِ .
105 - وَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا حَرَامٌ.
ثُمَّ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَالُوا:
يُكْرَهُ ذَبْحُ الأْمِّ الَّتِي اسْتَغْنَى الْوَلَدُ عَنْ لَبَنِهَا، وَيَحْرُمُ ذَبْحُهَا إِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لَبَنِهَا، وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلاَ التَّصَرُّفُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَيَوَانُ مَأْكُولاً وَذَبْحُ الصَّغِيرِ وَهُوَ مَأْكُولٌ حَلاَلٌ قَطْعًا. وَبَيْعُهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَذْبَحُهُ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الأْمِّ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ بَاطِلٌ - وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِحِلِّهِ - لأِنَّهُ رُبَّمَا لاَ يَقَعُ الذَّبْحُ حَالاً أَوْ أَصْلاً، فَيُوجَدُ الْمَحْذُورُ، وَشَرْطُ الذَّبْحِ عَلَى الْمُشْتَرِي غَيْرُ صَحِيحٍ .
نَعَمْ، إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ نَذَرَ ذَبْحَهُ، وَشَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الذَّبْحَ، صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ ذَلِكَ افْتِدَاءً، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي ذَبْحُهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ ذَبَحَهُ الْقَاضِي، وَفَرَّقَهُ الذَّابِحُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَبَيْعُ الْوَلَدِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ أُمِّهِ مَكْرُوهٌ إِلاَّ لِغَرَضِ الذَّبْحِ. وَذَبْحُهُمَا كِلَيْهِمَا لاَ يَحْرُمُ .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:
106 - الْمُرَادُ بِالْعَصِيرِ: عَصِيرُ الْعِنَبِ، أَيْ مَعْصُورُهُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ هَذَا الْبَيْعِ، وَهُوَ الأْصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَيْلُولَتَهُ إِلَى الْخَمْرِ، فَإِنْ شَكَّ كُرِهَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ لِلصَّاحِبَيْنِ - أَشَارَ الْحَصْكَفِيُّ لِتَضْعِيفِهِ - بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةُ إِنْ أُطْلِقَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلتَّحْرِيمِ .
وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ: وَحُرِّمَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ) قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ «لُعِنَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: بِعَيْنِهَا، وَعَاصِرِهَا، وَمُعْتَصِرِهَا، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعِهَا، وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَةِ إِلَيْهِ، وَآكِلِ ثَمَنِهَا، وَشَارِبِهَا، وَسَاقِيهَا ».
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَلِ كَمَا يَقُولُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّسَبُّبِ إِلَى الْحَرَامِ .
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ قَيِّمًا كَانَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي أَرْضٍ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ عِنَبٍ أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ زَبِيبًا، وَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يُبَاعَ إِلاَّ لِمَنْ يَعْصِرُهُ، فَأَمَرَهُ بِقَلْعِهِ، وَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إِنْ بِعْتُ الْخَمْرَ. وَلأِنَّهُ يُعْقَدُ الْبَيْعُ عَلَى عَصْرٍ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ لِلْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ إِجَارَةَ الرَّجُلِ أَمَتَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا .
وَالْقَوْلُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ هَذَا قَوْلَهُ: «بِعِ الْحَلاَلَ مِمَّنْ شِئْتَ» وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) وَقَدْ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ.
وَلأِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ، بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِشُرْبِهِ، وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ؛ لأِنَّ الشُّرْبَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ، لأِنَّ الْحَمْلَ قَدْ يُوجَدُ لِلإْرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ بِالصَّبِّ فِي الْخَلِّ، فَلَيْسَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَمْلِ، وَصَارَ كَالاِسْتِئْجَارِ لِعَصْرِ الْعِنَبِ، وَهَذَا قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ كَمَا قَالَ الْكَرْلاَنِيُّ. لَكِنْ يَبْدُو أَنَّ الْمَذْهَبَ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَأَنَّهُ خِلاَفُ الأْوْلَى، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَكَلِمَةُ لاَ بَأْسَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى.
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا، هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتُونُ.
اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْبَائِعِ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْعَصِيرِ لِلْخَمْرِ:
107 - اشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِلْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْبَيْعِ: أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْخَمْرِ مِنَ الْعَصِيرِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُكْرَهْ بِلاَ خِلاَفٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ صَرِيحُ كَلاَمِ الْمَرْغِينَانِيِّ الآْنِفِ الذِّكْرِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ إِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ: إِمَّا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَاكْتَفَوْا بِظَنِّ الْبَائِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَعْصِرُ خَمْرًا أَوْ مُسْكِرًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ .
108 - أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ بِحَالِ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا، أَوْ كَانَ الْبَائِعُ يَشُكُّ فِي حَالِهِ، أَوْ يَتَوَهَّمُ:
- فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَالِ الشَّكِّ أَوِ التَّوَهُّمِ مَكْرُوهٌ .
حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِذِمِّيٍّ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:
109 - إِنَّ مُقْتَضَى الْعُمُومِ وَالإْطْلاَقِ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَكَذَا مَا عَلَّلَتْهُ الشُّرُوحُ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ - أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنْهُمَا، وَأَنَّ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، يَرَوْنَ جَوَازَ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنَ الْكَافِرِ. وَالأْصَحُّ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَلاَ فَرْقَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا.
وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا بِحُرْمَةِ الْبَيْعِ لِلْعَاصِرِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، لِحُرْمَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنَّا لاَ نَتَعَرَّضُ لَهُ بِشَرْطِهِ، أَيْ عَدَمَ إِظْهَارِهِ .
الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ وَشُمُولِهِ لِغَيْرِهِ:
110 - عَمَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحُكْمَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلَمْ يُقْصِرُوهُ عَلَى الْعَصِيرِ، بَلْ عَدَّوْهُ إِلَى الْعِنَبِ نَفْسِهِ وَإِلَى الرُّطَبِ وَالزَّبِيبِ، فَهِيَ مِثْلُ الْعَصِيرِ فِي التَّحْرِيمِ، كُلَّمَا قُصِدَ بِهَا اتِّخَاذُ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ.
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَبَيْعُ نَحْوِ رُطَبٍ، كَعِنَبٍ، لِمُتَّخِذِهِ مُسْكِرًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا قُصِدَ بِهِ الْحَرَامُ، كَعِنَبٍ وَكَعَصِيرٍ لِمُتَّخِذِهِمَا خَمْرًا، وَكَذَا زَبِيبٌ وَنَحْوُهُ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَا يُمْنَعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ، عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ.
وَتَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ: - فَذَهَبَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْهُمْ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ وَالْكَرْمِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا لاَ يُكْرَهُ. - وَنَقَلَ الْقُهُسْتَانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ هُوَ أَيْضًا عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
فَعِنْدَهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا. وَعِنْدَهُمَا يُمْنَعُ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا .
حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمُتَّخِذِهِ خَمْرًا، مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلاَنُ:
111 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ: إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ. وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ النَّهْيَ - الْمُسْتَفَادَ مِنْ حَدِيثِ لَعْنِ الْعَاصِرِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ أَوِ التَّحْرِيمَ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِمَعْصِيَةٍ مُتَحَقِّقَةٍ أَوْ مُتَوَهَّمَةٍ - لاَ يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ هُنَا، لأِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَنْ لاَزِمِهَا، لَكِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِهِ، نَظِيرُ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ لاَ لاَزِمِهَا، بَلْ هُوَ لِخَشْيَةِ تَفْوِيتِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَنَصُّوا عَلَى: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، بِأَنْ عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي الْخَمْرِ بِشِرَاءِ الْعِنَبِ، بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ الْعِلْمُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَلَمْ يَصِحَّ، وَلأِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ .
بَيْعُ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلُ مُحَرَّمٍ:
112 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ، وَكُلَّ تَصَرُّفٍ يُفْضِي إِلَى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَيَمْتَنِعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ .
113 - فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: بَيْعُ الأْمَةِ لأِهْلِ الْفَسَادِ، وَالأْرْضِ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً أَوْ خَمَّارَةً، وَبَيْعُ الْخَشَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ صَلِيبًا، وَالنُّحَاسُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَكَذَا يُمْنَعُ أَنْ يُبَاعَ لِلْحَرْبِيَّيْنِ آلَةُ الْحَرْبِ، مِنْ سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سَرْجٍ، وَكُلُّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ مَاعُونٍ.
وَأَمَّا بَيْعُ الطَّعَامِ لَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ يُونُسَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ: يَجُوزُ فِي الْهُدْنَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْهُدْنَةِ فَلاَ يَجُوزُ. وَالَّذِي فِي الْمِعْيَارِ عَنِ الشَّاطِبِيِّ: أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الَّذِي عَزَاهُ ابْنُ فَرْحُونَ فِي التَّبْصِرَةِ، وَابْنُ جُزَيٍّ فِي الْقَوَانِينِ لاِبْنِ الْقَاسِمِ.
وَذَكَرَ فِي الْمِعْيَارِ أَيْضًا عَنِ الشَّاطِبِيِّ: أَنَّ بَيْعَ الشَّمْعِ لَهُمْ مَمْنُوعٌ، إِذَا كَانُوا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى إِضْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لأِعْيَادِهِمْ فَمَكْرُوهٌ .
114 - وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بَيْعُ مُخَدِّرٍ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَعَاطَاهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ، وَخَشَبٍ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ آلَةَ لَهْوٍ، وَثَوْبِ حَرِيرٍ لِرَجُلٍ يَلْبَسُهُ بِلاَ نَحْوِ ضَرُورَةٍ. وَكَذَا بَيْعُ سِلاَحٍ لِنَحْوِ بَاغٍ وَقَاطِعِ طَرِيقٍ، وَدِيكٍ لِمَنْ يُهَارِشُ بِهِ، وَكَبْشٍ لِمَنْ يُنَاطِحُ بِهِ، وَدَابَّةٍ لِمَنْ يُحَمِّلُهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا.
كَمَا نَصَّ الشِّرْوَانِيُّ وَابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ مُسْلِمٍ كَافِرًا طَعَامًا، عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: لأِنَّ ذَلِكَ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ
115 - وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بَيْعُ السِّلاَحِ لأِهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الْفِتْنَةِ، أَوْ إِجَارَةُ دَارِهِ لِبَيْعِ الْخَمْرِ فِيهَا، أَوْ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَهَذَا حَرَامٌ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ رحمه الله تعالي - عَلَى مَسَائِلَ نَبَّهَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي الْقَصَّابِ وَالْخَبَّازِ: إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، يَدْعُو عَلَيْهِ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ، لاَ يَبِيعُهُ، وَمِنْ يَخْتَرِطُ (يَصْنَعُ) الأْقْدَاحَ لاَ يَبِيعُهَا مِمَّنْ يَشْرَبُ فِيهَا (أَيِ الْخَمْرَ) وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّيبَاجِ (أَيِ الْحَرِيرِ) لِلرِّجَالِ .
116 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يُكْرَهُ بَيْعُ مَا لَمْ تَقُمِ الْمَعْصِيَةُ بِهِ، كَبَيْعِ الْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ، وَالْخَشَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُ مِنْهُ الْمَعَازِفَ. بِخِلاَفِ بَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لأِنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ، وَهِيَ الإْعَانَةُ عَلَى الإْثْمِ
وَالْعُدْوَانِ، وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. بِخِلاَفِ بَيْعِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلاَحُ كَالْحَدِيدِ، لأِنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّا لِلْقِتَالِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الإْعَانَةِ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لأِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمَا، خِلاَفًا لِلإْمَامِ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، خِلاَفًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ .
وَبَحَثَ الْحَنَفِيَّةُ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الإْجَارَةِ ، كَمَا سَبَقَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا لَوْ آجَرَ شَخْصٌ نَفْسَهُ لِيَعْمَلَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ، أَوْ لِيَحْمِلَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ، أَوْ لِيَرْعَى لَهُ الْخَنَازِيرَ، أَوْ آجَرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ بَيْتَ نَارٍ، أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً، أَوْ يُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأِنَّهُ لاَ مَعْصِيَةَ فِي عَيْنِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ كَشُرْبِهِ الْخَمْرَ وَبَيْعِهَا، فَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنَّ الإْجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ (وَنَحْوِهِ) وَلِهَذَا تَجِبُ الأْجْرَةُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَلاَ مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ، فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ .
وَيَرَى الصَّاحِبَانِ كَرَاهَةَ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَطَرَحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الضَّابِطَ: وَهُوَ أَنَّ مَا قَامَتِ الْمَعْصِيَةُ بِعَيْنِهِ، يُكْرَهُ بَيْعُهُ تَحْرِيمًا (كَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ) وَمَا لَمْ تَقُمْ بِعَيْنِهِ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا.
حُكْمُ بَيْعِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلاَنُ:
117 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) وَهُوَ أَيْضًا احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، لأِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا وَلاَ شَرْطًا.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا مَعَ ذَلِكَ، فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ السِّلاَحِ، عَلَى إِجْبَارِ الْمُشْتَرِي عَلَى إِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ.
يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: يُمْنَعُ أَنْ يُبَاعَ لِلْحَرْبِيَّيْنِ آلَةُ الْحَرْبِ، مِنْ سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سَرْجٍ، وَكُلِّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ مَاعُونٍ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ.
كَمَا نَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ أَمَةً لِمَنْ يُكْرِهُهَا عَلَى الزِّنَى، وَدَابَّةً لِمَنْ يُحَمِّلُهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ هَذَيْنِ عَلَى مَالِكِهِمَا قَهْرًا عَلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ، لأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، فَلَمْ يَصِحَّ .
ج - بَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ:
118 - مِنْ صُوَرِهِ أَنْ يَتَرَاضَى الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى ثَمَنِ سِلْعَةٍ، فَيَجِيءَ آخَرُ، فَيَقُولَ: أَنَا أَبِيعُكَ مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِأَنْقَصَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ، أَوْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ خَيْرًا مِنْهَا بِثَمَنِهَا أَوْ بِدُونِهِ - أَيْ بِأَقَلَّ مِنْهُ - أَوْ يَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي سِلْعَةً رَغِبَ فِيهَا الْمُشْتَرِي، فَفَسَخَ الْبَيْعَ وَاشْتَرَى هَذِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» .
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «لاَ يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ» .
وَفِي لَفْظٍ: «لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ» .
وَفِي لَفْظٍ: «لاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ» .
وَفِي لَفْظٍ: «لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» .
حُكْمُهُ:
119 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُحَرَّمٌ، لَكِنَّهُ لاَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِرُجُوعِ النَّهْيِ إِلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنِ الذَّاتِ وَعَنْ لاَزِمِهَا، إِذْ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا وَلاَ شَرْطًا، لَكِنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى مُقْتَرِنٍ بِهِ، وَهُوَ خَارِجٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَهُوَ الإْيذَاءُ هُنَا. هَذَا تَعْلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَتَعْلِيلُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ عَرْضُ سِلْعَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ قَوْلُهُ الَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ مِنْ أَجْلِهِ، وَذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَلأِنَّهُ إِذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصَّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى، وَلأِنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذِهِ الْكَرَاهَاتُ كُلُّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ، لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي الإْثْمِ، وَذَلِكَ لِلأْحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الإْيحَاشِ وَالإْضْرَارِ .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ حَرَامٌ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ لأِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ وَالإِْفْسَادِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ .
120 - وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْبَيْعَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِمَا يَلِي:
(1) أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ لُزُومِ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِبَقَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ، وَكَذَا بَعْدَ اللُّزُومِ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْعَيْبِ، إِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ، فَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ مُضِيِّ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ لاَ يَحْرُمُ، لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفَسْخِ إِذًا، وَلاَ مَعْنًى لَهُ.
(2) أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي زَكَرِيَّا - (أَيْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ الأْوَّلِ ، لِلَّذِي بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ).
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ بِمَا إِذَا تَرَاضَى الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْبَيْعِ .
121 - وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ بَعْضَ الْفُرُوعِ وَالأْحْكَامِ، فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَقَرَّرُوا:
- أَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا فِي صَفْقَتِهِ، إِذِ النَّصِيحَةُ الْوَاجِبَةُ تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ. وَقَيَّدَ الْقَلْيُوبِيُّ الْحُرْمَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الرِّضَا بَاطِنًا.
- مِثْلُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ، أَنْ يَبِيعَ بَائِعٌ الْمُشْتَرِيَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ سِلْعَةً مِثْلَ الَّتِي اشْتَرَاهَا.
وَسَبَبُ الْمَنْعِ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ السِّلْعَةَ الأْولَى، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه.
- يُمْنَعُ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الأْمْرُ ، بِأَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ أَوْ يُعْرِضَ الْمُشْتَرِي عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ أَعْرَضَ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْمَنْعِ، وَجَازَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَبِيعَهُ.
- مِثْلُ الْبَيْعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى الْبَيْعِ غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْعُقُودِ، كَالإْجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ (أَيِ الاِسْتِعَارَةِ) وَالاِقْتِرَاضِ وَالاِتِّهَابِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْجَعَالَةِ. قَالَ الْحَنَابِلَةُ: فَتَحْرُمُ وَلاَ تَصِحُّ إِذَا سَبَقَتْ لِلْغَيْرِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإْيذَاءِ.
بَلْ نَصَّ الْبِرْمَاوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِكِتَابٍ (عَارِيَّةً) لِيُطَالِعَ فِيهِ، حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَسْأَلَ صَاحِبَهُ فِيهِ، أَيْ يَطْلُبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ لِيُطَالِعَ فِيهِ هُوَ أَيْضًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْيذَاءِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا حُرْمَةَ طَلَبِ الْعَارِيَّةِ بَعْدَ عَقْدِهَا مُطْلَقًا .
د - السَّوْمُ، وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ.
122 - أَمَّا السَّوْمُ عَلَى السَّوْمِ فَمِنْ صُوَرِهِ:
مَا إِذَا تَسَاوَمَ رَجُلاَنِ، فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرَ، وَدَخَلَ عَلَى سَوْمِ الأْوَّلِ ، فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ نَفْسِهِ. لَكِنَّهُ رَجُلٌ وَجِيهٌ، فَبَاعَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ لِوَجَاهَتِهِ.
123 - وَأَمَّا الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ فَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يَأْمُرَ شَخْصٌ الْبَائِعَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ لِيَشْتَرِيَهُ هُوَ بِأَكْثَرَ، أَوْ يَجِيءَ شَخْصٌ إِلَى الْبَائِعِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ، لِيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتُرِيَ بِهِ، لِيَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ .
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَ هَذَا الشِّرَاءِ أَوِ السَّوْمِ بِمَا إِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الثَّمَنِ أَوْ تَرَاضَيَا، أَوْ جَنَحَ الْبَائِعُ إِلَى الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجْنَحْ وَلَمْ يَرْضَهُ، فَلاَ بَأْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَزْيَدَ؛ لأِنَّ هَذَا بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْمَنْعَ بِأَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ قَبْلَ اللُّزُومِ، أَيْ زَمَنَ الْخِيَارِ - كَمَا عَبَّرَ الْقَاضِي - أَوْ يَكُونَ بَعْدَ اللُّزُومِ، وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ - كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ -
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلِلسَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ عِنْدَهُمْ صُوَرٌ:
الأْولَى: أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْبَائِعِ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا بِالْبَيْعِ، فَهَذَا يَحْرُمُ السَّوْمُ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا فَلاَ يَحْرُمُ السَّوْمُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ لاَ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا أَوْ عَدَمِهِ، فَلاَ يَجُوزُ السَّوْمُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. فَقَالَ الْقَاضِي: لاَ يَحْرُمُ السَّوْمُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَحْرُمُ .
كَمَا قَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ وَقَعَ الإْذْنُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَحْرُمْ؛ لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَقَدْ أَسْقَطَاهُ، وَلِمَفْهُومِ الْخَبَرِ السَّابِقِ: «حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ» .
وَقَرَّرُوا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِذْنُ الْمَالِكِ، لاَ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ الْجَوَازِ مَعَ الإْذْنِ إِذَا دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى الرِّضَا بَاطِنًا، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ ضَجَرًا وَحَنَقًا فَلاَ، كَمَا قَالَهُ الأْذْرَعِيُّ مِنْهُمْ .
حُكْمُهُ:
124 - هَذَا الشِّرَاءُ أَوِ السَّوْمُ بِهَذِهِ الصُّوَرِ وَالْقُيُودِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لَكِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِي وَجْهٍ مُحْتَمِلٍ لِلصِّحَّةِ عِنْدَهُمْ كَالْجُمْهُورِ. وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْنُونَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، لاَ الْحُرْمَةَ.
أ - فَدَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الْمُحْتَمَلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ. حَدِيثُ «لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» الْمُتَقَدِّمُ .
فَقَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ.
وَأَشَارَ الْبُهُوتِيُّ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ، وَلأِنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا.
وَلأِنَّ فِيهِ إِيذَاءً، قَالَ الْمَحَلِّيُّ: الْمَعْنَى فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ: الإْيذَاءُ لِلْعَالِمِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ.
وَلأِنَّهُ إِذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصِّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى. وَلأِنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ .
ب - وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلاَ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا، وَعَنِ النَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» .
وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي النَّهْيِ عَنِ الاِسْتِيَامِ، فَلاَ حَاجَةَ - كَمَا أَوْضَحَ ابْنُ الْهُمَامِ - إِلَى جَعْلِ لَفْظِ الْبَيْعِ فِي حَدِيثِ: «لاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» جَامِعًا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَجَازًا، إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرِدْ حَدِيثُ الاِسْتِيَامِ، وَلأِنَّ فِي ذَلِكَ إِيحَاشًا وَإِضْرَارًا بِهِ فَيُكْرَهُ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، وَهُوَ الإِْيذَاءُ، فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا، فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ .
ج - وَدَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلاَنِ، أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ .
125 - وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْفُرُوعِ وَالتَّفْصِيلاَتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّوْمِ، وَالشِّرَاءِ عَلَى شِرَاءِ الآْخَرِينَ:
أ - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّوْمَ عَلَى سَوْمِ الآْخَرِينَ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَامُ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا. وَقَالُوا: ذِكْرُ الأْخِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ قَيْدًا، بَلْ لِزِيَادَةِ التَّنْفِيرِ؛ لأِنَّ السَّوْمَ عَلَى السَّوْمِ يُوجِبُ إِيحَاشًا وَإِضْرَارًا، وَهُوَ فِي حَقِّ الأْخِ أَشَدُّ مَنْعًا، فَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الْغِيبَةِ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» إِذْ لاَ خَفَاءَ فِي مَنْعِ غِيبَةِ الذِّمِّيِّ .
وَقَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الأْخِ لإِثَارَةِ الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَسُرْعَةِ امْتِثَالِهِ، فَغَيْرُهُمَا مِثْلُهُمَا.
فَالذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ مِثْلُ الْمُسْلِمِ. وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ فَلاَ يَحْرُمُ .
ب - أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ الإْجَارَةَ بِالْبَيْعِ فِي مَنْعِ السَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ، إِذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ .
كَمَا أَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ جُمْلَةً مِنَ الْعُقُودِ، كَالْقَرْضِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَكُلُّهَا تَحْرُمُ وَلاَ تَصِحُّ لِلإْيذَاءِ .
ج - أَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ، تَحْرِيمَ طَلَبِ السِّلْعَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَكْثَرَ - وَالْبَائِعُ حَاضِرٌ - قَبْلَ اللُّزُومِ، لأِدَائِهِ إِلَى الْفَسْخِ أَوِ النَّدَمِ.
د - وَكَذَلِكَ قَاسَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَلاَمِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي التَّحْرِيمِ، مَا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنَ الْبَائِعِ، فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، شَيْئًا مِنْ جِنْسِ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ، بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ، لاَ سِيَّمَا إِنْ طَلَبَ مِنْهُ مِقْدَارًا لاَ يَكْمُلُ إِلاَّ بِانْضِمَامِ مَا بِيعَ مِنْهَا.
هـ - وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِحُرْمَةِ مَا ذُكِرَ، سَوَاءٌ أَبَلَغَ الْمَبِيعُ قِيمَتَهُ أَمْ نَقَصَ عَنْهَا - عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
و - وَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ تَعْرِيفِ الْمَغْبُونِ فِي الشِّرَاءِ بِغَبْنِهِ، فَصَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لاَ مَحْذُورَ فِيهِ، لأِنَّهُ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ، لَكِنَّهُ اسْتَظْهَرَ أَنَّ مَحَلَّهُ فِي غَبْنٍ نَشَأَ عَنْ نَحْوِ غِشِّ الْبَائِعِ، فَلَمْ يُبَالَ بِإِضْرَارِهِ، لأِنَّهُ آثِمٌ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا نَشَأَ لاَ عَنْ نَحْوِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ؛ لأِنَّ الْفَسْخَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَالُ بِالضَّرَرِ.
وَصَرَّحَ الشِّرْوَانِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، وَجَبَ إِعْلاَمُ الْمُشْتَرِي بِهِ، وَهَذَا صَادِقٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ جَاهِلاً بِالْعَيْبِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ تَقْصِيرَ مِنْهُ حِينَئِذٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْغَبْنِ؛ لأِنَّ الْمَلْحَظَ حُصُولُ الضَّرَرِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ النَّصِيحَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تَعْرِيفِ الْمَغْبُونِ، وَإِنْ نَشَأَ الْغَبْنُ مِنْ تَقْصِيرِهِ، وَلَكِنَّهَا تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ .
126 - وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ بِالْمُنَادَاةِ، وَيُسَمَّى بَيْعَ الدَّلاَلَةِ . وَيُسَمَّى أَيْضًا: الْمُزَايَدَةَ. اسْتَثْنَوْهَا مِنَ الشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ، وَمِنَ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ. وَهِيَ: أَنْ يُنَادَى عَلَى السِّلْعَةِ، وَيَزِيدَ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ - زَائِدٍ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا.
وَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، فَصَحَّحُوهُ وَلَمْ يَكْرَهُوهُ. وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ قَصْدُ الإِْضْرَارِ بِأَحَدٍ، وَبِإِرَادَةِ الشِّرَاءِ، وَإِلاَّ حَرُمَتِ الزِّيَادَةُ، لأِنَّهَا مِنَ النَّجْشِ .
127 - وَدَلِيلُ جَوَازِ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ:
- مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ: مَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ يُلْبَسُ بَعْضُهُ، وَيُبْسَطُ بَعْضُهُ، وَقَعْبٌ يُشْرَبُ فِيهِ الْمَاءُ. قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا. فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الأْنْصَارِيَّ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآْخَرِ قَدُومًا، فَائْتِنِي بِهِ. فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» .
قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لِيَبِيعَ بَيْعًا مَكْرُوهًا .
- وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَالُوا يَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُزَايَدَةِ .
- وَأَنَّهُ بَيْعُ الْفُقَرَاءِ، كَمَا قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ، وَالْحَاجَةُ مَاسَةٌ إِلَيْهِ .
- وَلأِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنِ السَّوْمِ حَالَ الْبَيْعِ، وَحَالُ الْمُزَايَدَةِ خَارِجٌ عَنِ الْبَيْعِ .
وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ (الْمُزَايَدَةِ) فِي مُصْطَلَحِهَا.
هـ - النَّجْشُ:
128 - النَّجْشُ هُوَ بِسُكُونِ الْجِيمِ مَصْدَرٌ، وَبِالْفَتْحِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَمِنْ مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ: الإْثَارَةُ. يُقَالُ: نَجَشَ الطَّائِرَ: إِذَا أَثَارَهُ مِنْ مَكَانِهِ. قَالَ الْفَيُّومِيُّ: نَجَشَ الرَّجُلُ يَنْجُشُ نَجْشًا: إِذَا زَادَ فِي سِلْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، بَلْ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ، فَيُوقِعَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ.
وَأَصْلُ النَّجْشِ: الاِسْتِتَارُ؛ لأِنَّ النَّاجِشَ يَسْتُرُ قَصْدَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلصَّائِدِ: نَاجِشٌ لاِسْتِتَارِهِ .
وَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنْ يَزِيدَ الرَّجُلُ فِي الثَّمَنِ وَلاَ يُرِيدُ الشِّرَاءَ، لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ. أَوْ أَنْ يَمْدَحَ الْمَبِيعَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِيُرَوِّجَهُ .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَصُرُّوا الْغَنَمَ» .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّجْشِ»
أ - فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ حَرَامٌ، وَذَلِكَ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، عَلَى مَا سَبَقَ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ خَدِيعَةِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ حَرَامٌ.
ب - وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا إِذَا بَلَغَتِ السِّلْعَةُ قِيمَتَهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ تَبْلُغْ فَلاَ يُكْرَهُ، لاِنْتِفَاءِ الْخِدَاعِ .
ذَلِكَ حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ. أَمَّا حُكْمُهُ الْوَضْعِيُّ:
أ - فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ؛ لأِنَّ النَّجْشَ فِعْلُ النَّاجِشِ لاَ الْعَاقِدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، وَالنَّهْيُ لِحَقِّ الآْدَمِيِّ فَلَمْ يَفْسُدِ الْعَقْدُ، كَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَبَيْعِ الْمَعِيبِ وَالْمُدَلَّسِ، بِخِلاَفِ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ؛ لأِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَنْجَبِرُ بِالْخِيَارِ أَوْ زِيَادَةِ الثَّمَنِ.
ب - وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ النَّجْشِ، لأِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ فِي هَذَا الْبَيْعِ:
- فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ وَسَكَتَ، فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ، فَإِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ فَالْوَاجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى ثَمَنَ النَّجْشِ.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ، فَلاَ كَلاَمَ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَالإِْثْمُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ جَعَلُوا لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ عِنْدَ التَّوَاطُؤِ.
- وَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِتَفْرِيطِهِ.
- وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ أَكَانَ النَّجْشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ غَبْنٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإْمْضَاءِ، كَمَا فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَإِنْ كَانَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ فَلاَ خِيَارَ لَهُ .
وَفِيهِ أَحْكَامٌ تَفْصِيلِيَّةٌ تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجْش).
و - تَلَقِّي الْجَلَبِ أَوِ الرُّكْبَانِ أَوِ السِّلَعِ:
129 - عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَلَقِّي الْجَلَبِ، وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَلَقِّي السِّلَعِ. قَالَ خَلِيلٌ: كَتَلَقِّي السِّلَعِ أَوْ صَاحِبِهَا. وَعَبَّرَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنْهُمْ بِتَلَقِّي السِّلْعَةِ.
وَعَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِتَلَقِّي الرُّكْبَانِ.
وَالتَّلَقِّي: هُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي يُجْلَبُ إِلَيْهَا الْقُوتُ (وَنَحْوُهُ).
وَالْجَلَبُ - بِفَتْحَتَيْنِ - بِمَعْنَى الْجَالِبِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَجْلُوبِ، فَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِتَلَقِّي السِّلَعِ فِي تَعْبِيرِ الْمَالِكِيَّةِ.
كَمَا أَنَّ الرُّكْبَانَ - فِي تَعْبِيرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - جَمْعُ رَاكِبٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَالْمُرَادُ الْقَادِمُ وَلَوْ وَاحِدًا أَوْ مَاشِيًا .
حُكْمُ التَّلَقِّي التَّكْلِيفِيُّ:
130 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ التَّلَقِّي مُحَرَّمٌ، لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «لاَ تَلَقُّوا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ أَيْ صَاحِبُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ».
وَالْحَنَفِيَّةُ ذَهَبُوا إِلَى كَرَاهَةِ التَّلَقِّي، وَذَلِكَ لِلضَّرَرِ أَوِ الْغَرَرِ، أَوْ كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ، وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الإْضْرَارُ بِالْعَامَّةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الأْوَّلِ - الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عِنْدَهُمْ - وَتَغْرِيرُ أَصْحَابِ السِّلَعِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرَرٌ أَوْ غَرَرٌ فَلاَ بَأْسَ، وَلاَ يُكْرَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْكَرْلاَنِيُّ وَالْكَاسَانِيُّ وَالزَّيْلَعِيُّ وَالْحَصْكَفِيُّ، لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ .
فَقَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ . لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ. وَفَسْخُ الْمَكْرُوهِ - مِنَ الْبِيَاعَاتِ - وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِرَفْعِ الإْثْمِ، وَهِيَ عِنْدَ الإْطْلاَقِ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ، كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي كُلِّ بَيْعٍ مَكْرُوهٍ.
حُكْمُ التَّلَقِّي الْوَضْعِيُّ:
131 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ التَّلَقِّي صَحِيحٌ، وَلاَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَعَلَّلَ الصِّحَّةَ:
- بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ، وَالْخِيَارُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ.
- وَلأِنَّ النَّهْيَ لاَ لِمَعْنًى فِي الْبَيْعِ، بَلْ يَعُودُ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ الْخَدِيعَةِ، يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمُصَرَّاةِ. وَفَارَقَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْخِيَارِ، إِذْ لَيْسَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
- وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ التَّلَقِّي فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ النَّهْيِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأْوَّلُ أَصَحُّ .
ز - بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:
132 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ سِمْسَارًا لِلْبَادِي، لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ الإِْضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَلَدِ لاِرْتِفَاعِ السِّعْرِ، وَفُسِّرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِلْمَنْعِ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلاَتٌ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ وَالصِّحَّةُ أَوِ الْبُطْلاَنُ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي).
النَّوْعُ الثَّانِي: الأْسْبَابُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ عِبَادِيَّةٍ مَحْضَةٍ
أ - الْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ:
133 - أَمَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ (الأْذَانِ) يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . وَالأْمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ نَهْيٌ عَنْهُ.
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُحَرَّمٌ لِهَذَا النَّصِّ.
غَيْرَ أَنَّ لِلْجُمُعَةِ أَذَانَيْنِ، فَعِنْدَ أَيِّ الأْذَانَيْنِ يُعْتَبَرُ مَوْرِدُ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ.
أ - فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالطَّحَاوِيِّ، أَنَّهُ الأَْذَانُ الَّذِي جَرَى بِهِ التَّوَارُثُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ أَذَانُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ، وَالإْمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَيَنْصَرِفُ النِّدَاءُ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالأْذَانِ الثَّانِي .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
- مَا رُوِيَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإْمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ».
وَفِي رِوَايَةٍ «زَادَ الثَّانِيَ».
وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى دَارٍ فِي السُّوق ِ»، يُقَالُ لَهَا: الزَّوْرَاءُ وَتَسْمِيَةُ الأْذَانِ الأْوَّلِ فِي أَيَّامِنَا، أَذَانًا ثَالِثًا؛ لأِنَّ الإْقَامَةَ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ تُسَمَّى أَذَانًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ» - وَلأِنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ هَذَا الأْذَانِ يَشْغَلُ عَنِ الصَّلاَةِ، وَيَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى فَوَاتِهَا، أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهَا .
ب - وَالْقَوْلُ الأْصَحُّ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الأْئِمَّةِ، أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ الأْذَانِ الأْوَّلِ الَّذِي عَلَى الْمَنَارَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ السَّعْيُ عِنْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله تعالي - إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الزَّوَالِ.
وَعَلَّلُوهُ بِحُصُولِ الإْعْلاَمِ بِهِ. وَلأِنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ الأْذَانَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، يَفُوتُهُ أَدَاءُ السُّنَّةِ وَسَمَاعُ الْخُطْبَةِ، وَرُبَّمَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ إِذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا مِنَ الْجَامِعِ.
بَلْ نَقَلَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْبَحْرِ قَوْلَهُ، فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّحْطَاوِيّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ .
ج - وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، حَكَاهَا الْقَاضِي عَنْهُ، وَهِيَ: أَنَّ الْبَيْعَ يَحْرُمُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسِ الإْمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ قَرَّرَ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ مِنْ وُجُوهٍ، وَهِيَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عَلَى النِّدَاءِ، لاَ عَلَى الْوَقْتِ. وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا إِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالنِّدَاءِ عَقِيبَ جُلُوسِ الإْمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، لاَ بِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ زَوَالُ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسِ الإْمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَلأِنَّهُ لَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ، لَمَا اخْتُصَّ بِالزَّوَالِ، فَإِنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتٌ أَيْضًا، لأِنَّ وَقْتَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ هُوَ مَا بَيْنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ فِيهِ:
134 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأْذَانِ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ، صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ، وَأَنَّ تَرْكَ الْبَيْعِ وَاجِبٌ، فَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَصِحُّ إِطْلاَقُ الْحَرَامِ عَلَيْهِ، كَمَا عَبَّرَ الْمَرْغِينَانِيُّ وَيُفْتَرَضُ تَرْكُهُ، كَمَا عَبَّرَ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ .
قُيُودُ تَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ:
135 - إِنَّ هَذَا النَّهْيَ الَّذِي اقْتَضَى التَّحْرِيمَ أَوِ الْكَرَاهَةَ، مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَغِلُ بِالْبَيْعِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، فَلاَ يَحْرُمُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ وَالْمَرِيضِ، بَلْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ قَدْ خُصَّ مِنْهُ مَنْ لاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِ . وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - رِوَايَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِالْمُخَاطَبِينَ بِالْجُمُعَةِ. وَذَلِكَ: لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ مِنْ أَمْرِهِ بِالسَّعْيِ، فَغَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ بِالسَّعْيِ لاَ يَتَنَاوَلُهُمُ النَّهْيُ. وَلأِنَّ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُعَلَّلٌ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الاِشْتِغَالِ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِمْ.
ب - وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَغِلُ بِالْبَيْعِ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.
ج - انْتِفَاءُ الضَّرُورَةِ إِلَى الْبَيْعِ، كَبَيْعِ الْمُضْطَرِّ مَا يَأْكُلُهُ، وَبَيْعِ كَفَنِ مَيِّتٍ خِيفَ تَغَيُّرُهُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِلاَّ فَلاَ حُرْمَةَ، وَإِنْ فَاتَتِ الْجُمُعَةُ - كَمَا يَقُولُ الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
د - أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي أَذَانِ الْخُطْبَةِ - كَمَا عَبَّرَ الْجُمْهُورُ - أَوْ عِنْدَهُ - كَمَا عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا.
هـ - وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ لِلتَّقْيِيدِ بِغَيْرِ كَوْنِ الأْذَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ .
قِيَاسُ غَيْرِ الْبَيْعِ مِنَ الْعُقُودِ عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيمِ:
136 - النَّهْيُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ شَامِلٌ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَسَائِرَ الْعُقُودِ.
بَلْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ كُلِّ شَيْءٍ يُؤَدِّي إِلَى الاِشْتِغَالِ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، أَوْ يُخِلُّ بِهِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُفْسَخُ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ وَتَوْلِيَةٌ وَشَرِكَةٌ وَإِقَالَةٌ وَشُفْعَةٌ، لاَ نِكَاحٌ وَهِبَةٌ وَصَدَقَةٌ وَكِتَابَةٌ وَخُلْعٌ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الاِشْتِغَالِ بِالْعُقُودِ وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا فِيهِ تَشَاغُلٌ عَنِ الْجُمُعَةِ .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ غَيْرُ الْبَيْعِ مِنَ الْعُقُودِ، كَالإْجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ، لأِنَّهَا عُقُودُ مُعَاوَضَةٍ فَأَشْبَهَتِ الْبَيْعَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَخْصِيصُ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقَطْ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ، بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الأَْذَانِ الثَّانِي، فَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ سَائِرُ الْعُقُودِ مِنَ النِّكَاحِ وَالإْجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا، مِنَ الْقَرْضِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ (الْكَفَالَةِ) وَنَحْوِهَا. لأِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ وَحْدَهُ، وَغَيْرُهُ لاَ يُسَاوِيهِ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِ، فَلاَ تَكُونُ إِبَاحَتُهُ ذَرِيعَةً لِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارٌ، أَوْ فَسْخَهُ يَصِحُّ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ الإْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ فِي الْخِيَارِ بَيْعًا .
اسْتِمْرَارُ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ حَتَّى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ:
137 - لاَ يَكَادُ الْفُقَهَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأَْذَانِ، يَسْتَمِرُّ حَتَّى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَمِنْ نُصُوصِهِمْ فِي ذَلِكَ:
- وَيَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ، مِنْ جُلُوسِ الْخَطِيبِ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ . - يَسْتَمِرُّ التَّحْرِيمُ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْجُمُعَةِ .
- وَيَسْتَمِرُّ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ وَالصِّنَاعَاتِ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الأْذَانِ الثَّانِي أَوْ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي إِذَا سَعَى فِيهِ أَدْرَكَهَا مِنْ مَنْزِلٍ بَعِيدٍ، إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ .
أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الأْذَانِ:
أَوَّلاً: حُكْمُ بَيْعِ مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ مِمَّنْ لاَ تَلْزَمُهُ:
138 - قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ مُسْتَثْنًى مِنْ حُكْمِ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأْذَانِ، إِذَا لَمْ تَجِبِ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمَا مَعًا فَلَوْ تَبَايَعَ اثْنَانِ مِمَّنْ لاَ تَلْزَمُهُمُ الْجُمُعَةُ، لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يُكْرَهْ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ -
أَمَّا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ:
- فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُمَا يَأْثَمَانِ جَمِيعًا؛ لأِنَّ الأْوَّلَ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ ارْتَكَبَ النَّهْيَ، وَالآْخَرَ الَّذِي لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ أَعَانَهُ عَلَيْهِ.
- وَفِي قَوْلٍ ضُعِّفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلآْخَرِ الَّذِي لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، وَلاَ يَأْثَمُ .
- وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ يُفْسَخُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، حَيْثُ كَانَتْ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَلَوْ مَعَ مَنْ لاَ تَلْزَمُهُ .
- وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ. وَيُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ لِلآْخَرِ الَّذِي لاَ تَلْزَمُهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْعَانَةِ عَلَى الإْثْمِ .
ثَانِيًا: حُكْمُ التَّبَايُعِ حَالَ السَّعْيِ إِلَى الْجَامِعِ وَقَدْ سَمِعَ النِّدَاءَ:
139 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بِسَبَبِ تَحْصِيلِ السَّاعِي الْمَقْصُودَ مِنَ النَّهْيِ مَعَ التَّلَبُّسِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ.
أ - فَالرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُمَا إِذَا تَبَايَعَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ، لاَ يَحْرُمُ. وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، نَقْلاً عَنِ السِّرَاجِ: لاَ يُكْرَهُ إِذَا لَمْ. يَشْغَلْهُ. وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لاَ بَأْسَ بِهِ .
لَكِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ وَرَدَ مُطْلَقًا فَتَخْصِيصُهُ بِالرَّأْيِ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ نَسْخٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ بِالرَّأْيِ، وَعَلَّلَ انْتِفَاءَ الْكَرَاهَةِ: بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأَذَانِ، مُعَلَّلٌ بِالإْخْلاَلِ بِالسَّعْيِ، فَإِذَا انْتَفَى الإْخْلاَلُ بِالسَّعْيِ انْتَفَى النَّهْيُ.
وَأَنَّ النَّصَّ الْكَرِيمَ خُصَّ مِنْهُ مَنْ لاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَالْعَامُّ إِذَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ صَارَ ظَنِّيًّا، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ثَانِيًا بِالرَّأْيِ، أَيْ بِالاِجْتِهَادِ .
وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَّلُوا الْجَوَازَ: بِأَنَّ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَشْغَلْهُمَا عَنِ السَّعْيِ، وَنَقَلُوهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما .
ب - وَمَذْهَبُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ - كَصَاحِبِ النَّهْرِ وَالزَّيْلَعِيِّ، وَالْحَصْكَفِيِّ أَوَّلاً فِي بَابِ الْجُمُعَةِ وَالشُّرُنْبُلاَلِيِّ - وُجُوبُ تَرْكِ الْبَيْعِ، وَلَوْ مَعَ السَّعْيِ. وَصَرَّحَ صَاحِبُ النَّهْرِ بِأَنَّهُ الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا نَفْسُهُ قَوْلٌ آخَرُ أَيْضًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدُو مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِذَاتِهَا.
وَلاَ تَعْلِيلَ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ، إِلاَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْ أَنَّهُ يُخِلُّ بِالسَّعْيِ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ لإِطْلاَقِ الأْمْرِ . وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ .
ثَالِثًا: حُكْمُ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ السَّعْيِ:
140 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَرَاهَتِهِ:
أ - فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ فِيهِ عِنْدَ الأْذَانِ الأْوَّلِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنَ الْبَيْعِ مَاشِيًا إِلَى الْجُمُعَةِ.
ب - وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فِي حَقِّ مَنْ جَلَسَ لَهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ فَقَعَدَ فِي الْجَامِعِ، أَوْ فِي مَحَلٍّ قَرِيبٍ مِنْهُ وَبَاعَ، لاَ يَحْرُمُ. لَكِنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، وَصَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ كَلاَمَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ أَقْرَبُ .
ج - وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ شُرْبِ الْمَاءِ بَعْدَ النِّدَاءِ، بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ (كَمَا يَحْدُثُ فِي الْحَرَمَيْنِ) بَلْ أَشَارُوا إِلَى أَنَّ مُقْتَضَى عَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي النِّدَاءِ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هَذَا بَيْعًا حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ إِبَاحَةٌ، ثُمَّ تَقَعُ الإْنَابَةُ عَنْهَا .
رَابِعًا: حُكْمُ الْبَيْعِ قَبْلَ الأْذَانِ الثَّانِي، بَعْدَ الزَّوَالِ
141 - الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ، هُوَ دُخُولُ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا قَيَّدُوا بِهِ الأْذَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَانْبَغَى بِذَلِكَ ثُبُوتُ كَرَاهَةِ الْبَيْعِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَانْتِفَاؤُهَا قَبْلَهُ .
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - كَذَلِكَ - عَلَى كَرَاهَةِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، قَبْلَ الأَْذَانِ الثَّانِي وَالْجُلُوسِ لِلْخُطْبَةِ إِذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ لِدُخُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَمَّا الْعَقْدُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ مُقَيَّدَانِ عِنْدَهُمْ، بِمَا إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ لاَ يَلْزَمُهُ السَّعْيُ حِينَئِذٍ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَ لاَ يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ إِلاَّ بِذَهَابِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَقْدُ .
خَامِسًا: شُمُولُ النَّهْيِ كُلَّ مَا يَشْغَلُ عَنِ الْجُمُعَةِ:
142 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ أَوْ كَرَاهَةِ كُلِّ مَا يَشْغَلُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ بَعْدَ النِّدَاءِ - عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِيهِ - وَيَجِبُ تَرْكُ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُ عَنِ السَّعْيِ إِلَيْهَا: كَإِنْشَاءِ السَّفَرِ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَالأْكْلِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَالصِّنَاعَاتِ كُلِّهَا: كَالْمُسَاوَمَةِ، وَالْمُنَادَاةِ، وَالْكِتَابَةِ، وَكَذَا الاِشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ، وَكَذَا الْمُكْثُ فِي بَيْتِهِ بِعِيَالِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْجَامِعِ عَمَلاً بِالآْيَةِ .
سَادِسًا: هَلِ الْمُعْتَبَرُ فِي الأْذَانِ أَوَّلُهُ أَوْ تَمَامُهُ؟
143 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الأَْذَانِ بِأَوَّلِهِ لاَ بِتَمَامِهِ، فَإِنْ كَبَّرَ الْمُؤَذِّنُ حَرُمَ الْبَيْعُ؛ لأِنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّدَاءِ .
الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ فِيهِ:
144 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، يَرَوْنَ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَقَعُ صَحِيحًا؛ لأِنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، خَارِجٍ عَنْهُ، وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ، فَكَانَ الْبَيْعُ فِي الأْصْلِ مَشْرُوعًا جَائِزًا، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا، لأِنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ .
وَيَتَفَرَّعُ عَنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ الأْمُورُ التَّالِيَةُ:
أ - عَدَمُ وُجُوبِ فَسْخِهِ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْعَدَوِيُّ: وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ يَقُولُ: لاَ فَسْخَ، وَالْبَيْعُ مَاضٍ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.
ب - وُجُوبُ الثَّمَنِ لاَ الْقِيمَةِ.
ج - ثُبُوتُ مِلْكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
لَكِنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُفْسَخُ، وَيُرَدُّ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَفُتْ بِيَدِهِ، فَإِنْ فَاتَ - بِتَغَيُّرِ سُوقٍ - مَضَى الْعَقْدُ، وَلَزِمَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةُ حِينَ الْقَبْضِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ بِالْقِيمَةِ حِينَ الْبَيْعِ .
وَالَّذِينَ نَصُّوا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ الْبَيْعِ، أَلْحَقُوا بِهِ نَحْوَ الْبَيْعِ، مِنَ الإْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالإْقَالَةِ وَالشُّفْعَةِ - إِذَا أَخَذَ بِهَا، لاَ لَوْ تُرِكَتْ - لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِثْلَ: النِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، فَلاَ يُفْسَخُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ حَرُمَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ عِنْدَهُمْ هُوَ: أَنَّ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِمَّا فِيهِ الْعِوَضُ، يَرْجِعُ لِكُلٍّ عِوَضُهُ بِالْفَسْخِ، فَلاَ كَبِيرَ ضَرَرٍ فِيهَا، بِخِلاَفِ مَا لاَ عِوَضَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ أَصْلاً لَوْ فُسِخَ.
وَذَكَرَ الْعَدَوِيُّ فِي النِّكَاحِ عِلَّةً أُخْرَى، وَهِيَ حُصُولُ الضَّرَرِ بِفَسْخِهِ، فَرُبَّمَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ.
وَهِبَةُ الثَّوَابِ عِنْدَهُمْ (وَهِيَ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِشَرْطِ الْمُكَافَأَةِ كَمَا يُعَبِّرُونَ، أَوْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ وَآخَرُونَ) كَالْبَيْعِ.
وَالْخُلْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَمْضِيَ وَلاَ يُفْسَخُ، عَلَى مُقْتَضَى الْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَبْطُلُ أَصْلاً لَوْ فُسِخَ .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا: بِأَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَلاَ يَنْعَقِدُ لِلَّذِي فِي النَّصِّ الْكَرِيمِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ .
ب - بَيْعُ الْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ:
145 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَمْنُوعٌ، وَصَرَّحَ جُمْهُورُهُمْ بِالْحُرْمَةِ، وَيَبْدُو مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ ثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ وَتَعْلِيلِهِمْ لِلتَّحْرِيمِ.
يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَبِيعَ لِلْكَافِرِ مُصْحَفًا أَوْ جُزْأَهُ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ؛ لأِنَّ فِيهِ امْتِهَانَ حُرْمَةِ الإْسْلاَمِ بِمِلْكِ الْمُصْحَفِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ).
وَأَصْلُ هَذَا التَّعْلِيلِ يَرْجِعُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ».
وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ:
أ - فَالأْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ لِكَافِرٍ، وَذَلِكَ لقوله تعالي (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ»، فَلاَ يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْهُ. وَلأِنَّهُ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، فَمُنِعَ مِنَ ابْتِدَائِهِ كَسَائِرِ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلِمَا فِي مِلْكِ الْكَافِرِ لِلْمُصْحَفِ وَنَحْوِهِ مِنَ الإْهَانَةِ . وَفَرَّعَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا فَسْخَ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، وَنَسَبَ هَذَا الرَّأْيَ سَحْنُونٌ إِلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الإْسْلاَمَ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ - فِي الْبَيْعِ إِلاَّ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، وَفِي شِرَاءِ الْمُصْحَفِ .
ب - وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ بَيْعَ الْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لِحِفْظِ كِتَابِ اللَّهِ عَنِ الإْهَانَةِ - كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّحَاوِيِّ - وَلأِنَّ فِيهِ امْتِهَانَ حُرْمَةِ الإْسْلاَمِ بِمِلْكِ الْمُصْحَفِ - كَمَا يَقُولُ الْخَرَشِيُّ - وَلاَ خِلاَفَ فِي التَّحْرِيمِ. كَمَا قَالَ عَمِيرَةُ .
مُلْحَقَاتٌ بِالْبَيْعِ:
146 - وَكَمَا يُمْنَعُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ لَهُمْ - يُمْنَعُ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهِبَتُهُ مِنْهُمْ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ - وَكَذَا ارْتِهَانُهُ مِنْهُمْ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ. وَالأْوَّلُونَ يُجْبِرُونَهُمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِمْ كَمَا فِي الْبَيْعِ، نَصَّ عَلَيْهِ الدُّسُوقِيُّ وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ الآْخَرُونَ.
مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنَ الْبَيْعِ:
147 - وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ حُكْمِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ، أَشْيَاءَ:
- الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، الَّتِي نُقِشَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لِلْحَاجَةِ.
- شِرَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدُّورَ، وَقَدْ كُتِبَ فِي جُدْرَانِهَا أَوْ سُقُوفِهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، فَيَكُونُ مُغْتَفَرًا لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ غَالِبًا، إِذْ لاَ يَكُونُ مَقْصُودًا بِهِ الْقُرْآنِيَّةُ.
- وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ - كَابْنِ عَبْدِ الْحَقِّ - التَّمِيمَةَ لِمَنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ، وَكَذَا الرِّسَالَةُ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صلي الله عليه وسلم.
- وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الثَّوْبَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، لِعَدَمِ قَصْدِ الْقُرْآنِيَّةِ بِمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: الْغَالِبُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَى الثِّيَابِ التَّبَرُّكُ بِلاَ لُبْسٍ، فَأَشْبَهَ التَّمَائِمَ، عَلَى أَنَّ فِي مُلاَبَسَتِهِ لِبَدَنِ الْكَافِرِ امْتِهَانًا لَهُ، بِخِلاَفِ مَا يُكْتَبُ عَلَى السُّقُوفِ.
وَالَّذِي يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْكَافِرِ لِلْمُصْحَفِ، هُوَ الْحَاكِمُ لاَ آحَادُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
حُكْمُ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الْمُصْحَفَ وَشِرَائِهِ لَهُ:
148 - (أ) نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُصْحَفَ وَشِرَاءَهُ لَهُ مَكْرُوهٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمُصْحَفِ هُنَا خَالِصُ الْقُرْآنِ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ - كَمَا يَذْكُرُ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ - هُوَ صَوْنُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى السِّلَعِ الْمُبْتَذَلَةِ، بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ. وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنِ الاِبْتِذَالِ، وَفِي جَوَازِ شِرَائِهِ التَّسَبُّبُ إِلَى ذَلِكَ وَالْمَعُونَةُ عَلَيْهِ.
(ب) وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الْبَيْعُ بِلاَ حَاجَةٍ دُونَ الشِّرَاءِ. وَصَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ وَالْجَمَلُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ. وَعَلَّلَهُ الْجَمَلُ بِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ تَحْصِيلاً بِخِلاَفِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تَفْوِيتٌ وَابْتِذَالٌ وَانْقِطَاعُ رَغْبَةٍ.
وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ، هُوَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، وَقَرَّرَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ وَجَوَازِهِ: أَنَّهَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَّلُوهَا بِأَنَّ الشِّرَاءَ اسْتِنْقَاذٌ لِلْمُصْحَفِ فَجَازَ، كَمَا جَازَ شِرَاءُ رِبَاعِ مَكَّةَ وَاسْتِئْجَارُ دُورِهَا، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا وَلاَ أَخْذُ أُجْرَتِهَا، وَكَذَلِكَ دَفْعُ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ لاَ يُكْرَهُ، مَعَ كَرَاهَةِ كَسْبِهِ. بَلْ جَعَلَهُ الْبُهُوتِيُّ كَشِرَاءِ الأْسِيرِ .
ج - وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ بَيْعَ الْمُصْحَفِ لاَ يَجُوزُ وَلاَ يَصِحُّ. قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ الشِّرَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا بَعْضُهُمْ. وَعَلَّلَ عَدَمَ الْجَوَازِ: - بِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ رُخْصَةً. - وَبِأَنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ - وَلأِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنِ الْبَيْعِ وَالاِبْتِذَالِ .
د - وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ بَيْعَ الْمُصْحَفِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَأَسْنَدَ الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ بَيْعِ الْمُصْحَفِ، وَالتَّرْخِيصَ فِيهِ أَيْضًا إِلَى الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَعَلَّلُوهُ لَهُمْ، بِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ، وَبَيْعُهُ مُبَاحٌ.
وَهُنَاكَ رِوَايَتَانِ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ فِي كَرَاهَةِ مُبَادَلَتِهِ. وَاخْتِيَارُ أَحْمَدَ جَوَازُ إِبْدَالِ الْمُصْحَفِ بِمِثْلِهِ، لأِنَّهُ لاَ يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ عَنْهُ، وَلاَ عَلَى الاِسْتِبْدَالِ بِهِ بِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ، بِخِلاَفِ أَخْذِ ثَمَنِهِ .
وَمِنْ هَذَا الْعَرْضِ يَتَّضِحُ أَنَّ لِلإْمَامِ أَحْمَدَ - بِالإْجْمَالِ - ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَيْعِ الْمُصْحَفِ:
الْحُرْمَةُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْجَوَازُ. وَمِثْلُهَا فِي الشِّرَاءِ. وَفِي الْمُبَادَلَةِ قَوْلاَنِ. وَأَنَّ الْمَذْهَبَ - كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ قُدَامَةَ وَالْبُهُوتِيِّ - هُوَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ، وَعَدَمُ الصِّحَّةِ، وَهَذَا مُعَلَّلٌ أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنَّ الأْيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا، وَلأِنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ، وَفِي الْبَيْعِ تَرْكُ التَّعْظِيمِ وَابْتِذَالٌ لَهُ. وَلاَ يُكْرَهُ الشِّرَاءُ لأِنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ، وَلاَ الاِسْتِبْدَالُ بِمُصْحَفٍ آخَرَ، لأِنَّهُ لاَ دَلاَلَةَ فِيهِ عَلَى الرَّغْبَةِ عَنْهُ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والعشرون ، الصفحة / 171
رِهَان
التَّعْرِيفُ:
يَأْتِي الرِّهَانُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
1 - الْمُخَاطَرَةُ: جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الرِّهَانُ وَالْمُرَاهَنَةُ: الْمُخَاطَرَةُ. يُقَال: رَاهَنَهُ فِي كَذَا، وَهُمْ يَتَرَاهَنُونَ، وَأَرْهَنُوا بَيْنَهُمْ خَطَرًا، وَصُورَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَعَانِي الرِّهَانِ: أَنْ يَتَرَاهَنَ شَخْصَانِ أَوْ حِزْبَانِ عَلَى شَيْءٍ يُمْكِنُ حُصُولُهُ كَمَا يُمْكِنُ عَدَمُ حُصُولِهِ بِدُونِهِ، كَأَنْ يَقُولاَ مَثَلاً: إِنْ لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ غَدًا فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا مِنَ الْمَالِ، وَإِلاَّ فَلِي عَلَيْكَ مِثْلُهُ مِنَ الْمَالِ، وَالرِّهَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِينَ بِأَحْكَامِ الإْسْلاَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ؛ لأِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ .
وَأَمَّا الرِّهَانُ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي تَحْرِيمِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِعُمُومِ الأْدِلَّةِ (ر: مَيْسِر، رِبًا).
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرِّهَانُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ وَالْحَرْبِيِّ، لأِنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقَةٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالاً مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِيأَدْنَى الأْرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأْمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لأِبِي بَكْرٍ: تَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسًا قَالَ: نَعَمْ، فَقَالُوا: أَتُخَاطِرُنَا عَلَى ذَلِكَ؟ فَخَاطَرَهُمْ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ فَفَعَلَ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم ذَلِكَ» . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا هُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (مَيْسِر).
2 - وَيَأْتِي الرِّهَانُ بِمَعْنَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ أَوِ الرَّمْيِ، وَهَذَا جَائِزٌ بِشُرُوطِهِ - (ر: مُسَابَقَة).
3 - وَيَأْتِي بِمَعْنَى: رَهْنٍ، وَالرِّهَانُ جَمْعُهُ، وَهُوَ جَعْلُ مَالٍ وَثِيقَةً بِدَيْنٍ يُسْتَوْفَى مِنْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ وَفَائِهِ. (ر: رَهْن).
4 - وَيُطْلَقُ الرِّهَانُ عَلَى الْمَالِ الْمَشْرُوطِ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ، جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: السَّبَقُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - الْخَطَرُ الَّذِي يُوضَعُ فِي الرِّهَانِ عَلَى الْخَيْلِ وَالنِّضَالِ، وَالرِّهَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّأَهُّبُ لِلْجِهَادِ.
5 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الرِّهَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ فِي الْخَيْلِ، وَالإْبِلِ، وَالْفِيلِ، وَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ فِي الْقَوْلِ الأْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي الْخَيْلِ وَالإْبِلِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ فِي الْخَيْلِ وَالإْبِلِ وَعَلَى الأْرْجُلِ.
شُرُوطُ جَوَازِ الرِّهَانِ فِي السِّبَاقِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الرِّهَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ: عِلْمُ الْمَوْقِفِ الَّذِي يَجْرِيَانِ مِنْهُ، وَالْغَايَةِ الَّتِي يَجْرِيَانِ إِلَيْهَا، وَتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، وَالْعِلْمُ بِالْمَشْرُوطِ، وَتَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمْكَانُ سَبْقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ الْمَالُ مِنْ غَيْرِهِمَا وَمِنْ أَحَدِهِمَا، فَيَقُولُ: إِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُكَ فَلاَ شَيْءَ لِي عَلَيْكَ، وَإِنْ شَرَطَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا فَلَهُ عَلَى الآْخَرِ كَذَا لَمْ يَصِحَّ؛ لأِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ وَأَنْ يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُحَلِّلٌ فَرَسُهُ كُفْءٌ لِفَرَسَيْهِمَا، إِنْ سَبَقَ أَخَذَ مَالَهُمَا، وَإِنْ سَبَقَ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا .
وَالتَّفْصِيلُ وَأَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي (مُسَابَقَة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الحادي والثلاثون ، الصفحة / 149
غَرَر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّغْرِيرِ، وَهُوَ الْخَطَرُ، وَالْخُدْعَةُ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ، يُقَالُ: غَرَّهُ غَرًّا وَغُرُورًا وَغُرَّةً فَهُوَ مَغْرُورٌ وَغَرِيرٌ: خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِلِ، وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا غُرُورًا: خَدَعَتْهُ بِزِينَتِهَا، وَغَرَّرَ بِنَفْسِهِ تَغْرِيرًا وَتَغِرَّةً: عَرَّضَهَا لِلْهَلَكَةِ.
وَالتَّغْرِيرُ: حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْغَرَرِ .
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ: بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَهَالَةُ:
2 - الْجَهَالَةُ لُغَةً: أَنْ تَفْعَلَ فِعْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ .
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الْجَهْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِخَارِجٍ عَنِ الإِْنْسَانِ كَمَبِيعٍ وَمُشْتَرًى وَإِجَارَةٍ وَإِعَارَةٍ وَغَيْرِهَا.
(ر: جَهَالَة ف 1 – 3)
وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَقَالَ: أَصْلُ الْغَرَرِ هُوَ الَّذِي لاَ يُدْرَى هَلْ يَحْصُلُ أَمْ لاَ؟ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَأَمَّا مَا عُلِمَ حُصُولُهُ وَجُهِلَتْ صِفَتُهُ فَهُوَ الْجَهُولُ، كَبَيْعِهِ مَا فِي كُمِّهِ، فَهُوَ يَحْصُلُ قَطْعًا، لَكِنْ لاَ يُدْرَى أَيْ شَيْءٍ هُوَ؟ فَالْغَرَرُ وَالْمَجْهُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ الآْخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ فَيُوجَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ الآْخَرِ وَبِدُونِهِ
أَمَّا وُجُودُ الْغَرَرِ بِدُونِ الْجَهَالَةِ: فَكَشِرَاءِ الْعَبْدِ الآْبِقِ الْمَعْلُومِ قَبْلَ الإِْبَاقِ لاَ جَهَالَةَ فِيهِ، وَهُوَ غَرَرٌ، لأِنَّهُ لاَ يُدْرَى هَلْ يَحْصُلُ أَمْ لاَ؟
وَالْجَهَالَةُ بِدُونِ الْغَرَرِ: كَشِرَاءِ حَجَرٍ يَرَاهُ لاَ يَدْرِي أَزُجَاجٌ هُوَ أَمْ يَاقُوتٌ، مُشَاهَدَتُهُ تَقْتَضِي الْقَطْعَ بِحُصُولِهِ فَلاَ غَرَرَ، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِ يَقْتَضِي الْجَهَالَةَ بِهِ.
وَأَمَّا اجْتِمَاعُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَكَالْعَبْدِ الآْبِقِ، الْمَجْهُولِ الصِّفَةِ قَبْلَ الإْبَاقِ
ب - الْغَبْنُ:
3 - الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ: النُّقْصَانُ، يُقَالُ: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَبْنًا أَيْ: نَقَصَهُ، وَغَبَنَ رَأْيَهُ غَبْنًا: قَلَّتْ فِطْنَتُهُ وَذَكَاؤُهُ.
قَالَ الْفِيْرُوزُ آبَادِيُّ.: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ يَغْبِنُهُ غَبْنًا - وَيُحَرَّكُ - أَوْ بِالتَّسْكِينِ فِي الْبَيْعِ وَبِالتَّحْرِيكِ فِي الرَّأْيِ: خَدَعَهُ .
وَيُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْغَبْنَ إِلَى فَاحِشٍ وَيَسِيرٍ، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا - كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ - هُوَ الدُّخُولُ تَحْتَ التَّقْوِيمِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ بَعْضِ الْمُقَوِّمِينَ، فَالْفَاحِشُ مَا لاَ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْيَسِيرُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ بَعْضِ الْمُقَوِّمِينَ .
ج - التَّدْلِيسُ:
4 - التَّدْلِيسُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: كَتْمُ عَيْبِ السِّلْعَةِ، قَالَ الأْزْهَرِيُّ : سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: لَيْسَ لِي فِي الأْمْرِ وَلْسٌ وَلاَ دَلْسٌ أَيْ: لاَ خِيَانَةٌ وَلاَ خَدِيعَةٌ .
وَالْغَرَرُ أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
5 - الْغَرَرُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ خَدِيعَةً أَوْ تَدْلِيسًا حَرَامٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ كِتَابِ الْبُيُوعِ، يَدْخُلُ فِيهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَقَالَ: وَبَيْعُ مَا فِيهِ غَرَرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَلاَ تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ بَاطِلٌ .
أَقْسَامُ الْغَرَرِ:
6 - يَنْقَسِمُ الْغَرَرُ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُهُ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى: غَرَرٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْعَقْدِ وَغَرَرٍ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُؤَثِّرٍ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِ مُؤَثِّرٍ .
شُرُوطُ الْغَرَرِ الْمُؤَثِّرِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا الشُّرُوطَ الآْتِيَةَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ كَثِيرًا:
7 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَرُ يَسِيرًا فَإِنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ - أَيْ فِي الْبَيْعِ - ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: كَثِيرٌ مُمْتَنِعٌ إِجْمَاعًا، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَقَلِيلٌ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، كَأَسَاسِ الدَّارِ وَقُطْنِ الْجُبَّةِ، وَمُتَوَسِّطٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ يُلْحَقُ بِالأْوَّلِ أَمْ بِالثَّانِي؟ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ فِي الْمَبِيعَاتِ لاَ يَجُوزُ وَأَنَّ الْقَلِيلَ يَجُوزُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقَلَ الْعُلَمَاءُ الإْجْمَاعَ فِي أَشْيَاءَ غَرَرُهَا حَقِيرٌ، مِنْهَا: أَنَّ الأْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوُهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا شَهْرًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْحَمَّامِ بِأُجْرَةٍ، وَعَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَاءِ بِعِوَضٍ مَعَ اخْتِلاَفِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوْ مُكْثِهِمْ فِي الْحَمَّامِ، قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَدَارُ الْبُطْلاَنِ بِسَبَبِ الْغَرَرِ وَالصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ارْتِكَابِ الْغَرَرِ، وَلاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ، أَوْ كَانَ الْغَرَرُ حَقِيرًا جَازَ الْبَيْعُ، وَإِلاَّ فَلاَ .
وَقَدْ وَضَعَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ضَابِطًا لِلْغَرَرِ الْكَثِيرِ فَقَالَ: الْغَرَرُ الْكَثِيرُ هُوَ مَا غَلَبَ عَلَى الْعَقْدِ حَتَّى أَصْبَحَ الْعَقْدُ يُوصَفُ بِهِ
ب - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصَالَةً:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصَالَةً. أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَرُ فِيمَا يَكُونُ تَابِعًا لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ. لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُقَرَّرَةِ: أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي التَّوَابِعِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
1 - أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا مُفْرَدَةً، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَلَكِنْ لَوْ بِيعَتْ مَعَ أَصْلِهَا جَازَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الإْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ، وَقَالَ: وَلأِنَّهُ إِذَا بَاعَهَا مَعَ الأْصْلِ حَصَلَتْ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَالُ الْغَرَرِ فِيهَا .
2 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمَجْرِ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالنَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِ الْجَنِينِ؛ لأِنَّهُ غَرَرٌ، لَكِنْ لَوْ بَاعَ حَامِلاً بَيْعًا مُطْلَقًا صَحَّ الْبَيْعُ، وَدَخَلَ الْحَمْلُ فِي الْبَيْعِ بِالإْجْمَاعِ .
3 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لاَ تَشْتَرُوا اللَّبَنَ فِي ضُرُوعِهَا، وَلاَ الصُّوفَ عَلَى ظُهُورِهَا وَلأِنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، لأِنَّهُ قَدْ يُرَى امْتِلاَءُ الضَّرْعِ مِنَ السِّمَنِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّبَنِ، وَلأِنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ، لأِنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّبَنُ صَافِيًا وَقَدْ يَكُونُ كَدِرًا، وَذَلِكَ غَرَرٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَجُزْ، لَكِنْ لَوْ بِيعَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ مَعَ الْحَيَوَانِ جَازَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ حَيَوَانٍ فِي ضَرْعِهِ لَبَنٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَجْهُولاً؛ لأِنَّهُ تَابِعٌ لِلْحَيَوَانِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ .
وَنَقَلَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ لَبَنِ الْغَنَمِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً إِذَا كَانَ مَا يُحْلَبُ فِيهَا مَعْرُوفًا فِي الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ لَبَنِ الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً، وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلاً شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي إِبَّانِ لَبَنِهَا وَعُلِمَ أَنَّ لَبَنَهَا لاَ يُقْطَعُ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَلِ، إِذَا كَانَ قَدْ عُرِفَ وَجْهُ حِلاَبِهَا.
ج - أَلاَّ تَدْعُوَ لِلْعَقْدِ حَاجَةٌ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْعَقْدِ: أَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ لَمْ يُؤَثِّرِ الْغَرَرُ فِي الْعَقْدِ، وَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ: إِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأْصْلِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا جَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ رضي الله عنه كَانَ يُغْبَنُ فِي التِّجَارَاتِ، فَشَكَا أَهْلُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلاَثَ لَيَالٍ» وَلِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ .
وَقَالَ الْكَمَالُ عَنْ عَقْدِ السَّلَمِ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ. إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إِلَى الاِسْتِرْبَاحِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَهُوَ بِالسَّلَمِ أَسْهَلُ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْبَيْعِ نَازِلاً عَنِ الْقِيمَةِ فَيُرْبِحُهُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ قَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْحَالِ إِلَى السَّلَمِ، وَقُدْرَةٌ فِي الْمَالِ عَلَى الْبَيْعِ بِسُهُولَةٍ، فَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ الْحَالِيَّةُ إِلَى قُدْرَتِهِ الْمَآلِيَّةِ، فَلِهَذِهِ الْمَصَالِحِ شُرِعَ .
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّمَا جُوِّزَ الْجُعْلُ فِي الْعَمَلِ الْمَجْهُولِ وَالْغَرَرُ لِلضَّرُورَةِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الأْصْلُ أَنَّ بَيْعَ الْغَرَرِ بَاطِلٌ. لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه أَنَّ «النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» . وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ غَرَرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، فَأَمَّا مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. وَلاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ كَأَسَاسِ الدَّارِ، وَشِرَاءِ الْحَامِلِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْحَمْلَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَكَامِلُ الأْعْضَاءِ أَوْ نَاقِصُهَا، وَكَشِرَاءِ الشَّاةِ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالإْجْمَاعِ .
وَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ ابْنُ قُدَامَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ قَالَ: وَأَمَّا لَبَنُ الظِّئْرِ فَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَضَانَةِ؛ لأِنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ .
د - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ فِي عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ:
10 - وَقَدِ اشْتَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَطْ، حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَرَرَ الْمُؤَثِّرَ هُوَ مَا كَانَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَأَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعَاتِ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الْغَرَرُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: فَصَلَ مَالِكٌ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الأْمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ مَا لاَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ .
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لَكِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ الْوَصِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ
الْغَرَرُ فِي الْعُقُودِ:
أَوَّلاً - الْغَرَرُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ:
أ - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، أَوْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ.
1 - الْغَرَرُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ:
11 - قَدْ يَنْعَقِدُ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةٍ تَجْعَلُ فِيهِ غَرَرًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْغَرَرَ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ - الإْيجَابِ وَالْقَبُولِ - لاَ بِمَحَلِّهِ - الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - وَيَدْخُلُ فِي الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ عِدَّةُ بُيُوعٍ نَهَى الشَّارِعُ عَنْهَا صَرَاحَةً، مِنْهَا الْبَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَة ف 1 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِنْهَا بَيْعُ الْحَصَاةِ، كَأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: إِذَا رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَهَذَا الثَّوْبُ مَبِيعٌ مِنْكَ بِكَذَا، وَذَلِكَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّمْيَ صِيغَةَ الْبَيْعِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».
(ر: بَيْعُ الْحَصَاةِ ف 4).
وَمِنْهَا بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالي عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ».
(ر: بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ ف 3 و 4، وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ ف 2).
وَيَدْخُلُ أَيْضًا فِي الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ وَإِضَافَتُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ . قَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَمَجِيءِ الشَّهْرِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ؛ لأِنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. فَلَمْ يَجُزْ .
2 - الْغَرَرُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ:
12 - مَحَلُّ الْعَقْدِ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَشْمَلُ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ.
وَالْغَرَرُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ يَرْجِعُ إِلَى الْجَهَالَةِ بِهِ، لِذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ الْعِلْمَ بِالْمَحَلِّ .
وَالْغَرَرُ فِي الْمَبِيعِ يَرْجِعُ إِلَى أَحَدِ الأْمُورِ التَّالِيَةِ: الْجَهْلُ بِذَاتِ الْبَيْعِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ مِقْدَارِهِ أَوْ أَجَلِهِ، أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، أَوِ التَّعَاقُدِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَعْدُومِ، أَوْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ.
13 - فَمِثَالُ الْجَهْلِ بِذَاتِ الْمَبِيعِ: بَيْعُ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ، أَوْ ثَوْبٍ مِنْ ثِيَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْمَبِيعُ هُنَا - وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ - إِلاَّ أَنَّهُ مَجْهُولُ الذَّاتِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى حُصُولِ نِزَاعٍ فِي تَعْيِينِهِ . وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَيْعَ إِنْ جَعَلَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ التَّعْيِينِ، وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ بَيْعَ الاِخْتِيَارِ، وَكَذَا أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِنْ جَعَلَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ التَّعْيِينِ وَكَانَ اخْتِيَارُهُ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَمَا دُونَ.
وَمِثَالُ الْجَهْلِ بِجِنْسِ الْمَحَلِّ: بَيْعُ الْحَصَاةِ عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ، وَبَيْعُ الْمَرْءِ مَا فِي كُمِّهِ وَأَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ سِلْعَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا .
(ر: بَيْعُ الْحَصَاةِ ف 3). وَمِثَالُ الْجَهْلِ بِنَوْعِ الْمَحَلِّ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُكَ كُرًّا - وَهُوَ كَيْلٌ - مِنْ حِنْطَةٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ الْكُرِّ فِي مِلْكِهِ بَطَلَ، وَلَوْ بَعْضُهُ فِي مِلْكِهِ بَطَلَ فِي الْمَعْدُومِ وَفَسَدَ فِي الْمَوْجُودَةِ، وَلَوْ كُلُّهُ فِي مِلْكِهِ لَكِنْ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لاَ يَجُوزُ، وَلَوْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُضِفِ الْبَيْعَ إِلَى تِلْكَ الْحِنْطَةِ .
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ يَقَعَانِ فِي سَبْعَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ قَالَ: رَابِعُهَا النَّوْعُ، كَعَبْدٍ لَمْ يُسَمِّهِ .
وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِذَا جُهِلَ جِنْسُهَا أَوْ نَوْعُهَا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»، وَفِي بَيْعِ مَا لاَ يُعْرَفُ جِنْسُهُ أَوْ نَوْعُهُ غَرَرٌ كَثِيرٌ .
وَمِثَالُ الْجَهْلِ بِصِفَةِ الْمَحَلِّ. بَيْعُ الْحَمْلِ، وَبَيْعُ الْمَضَامِينِ، وَبَيْعُ الْمَلاَقِيحِ، وَبَيْعُ الْمَجْرِ، وَبَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 5، 6، 69)
وَمِثَالُ الْجَهْلِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ: بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَبَيْعُ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ.
وَمِثَالُ الْجَهْلِ بِالأْجَلِ. بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 5)
وَمِثَالُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَحَلِّ: بَيْعُ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَبَيْعُ الإْنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ، وَبَيْعُ الْمَغْصُوبِ.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 32 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِثَالُ التَّعَاقُدِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَعْدُومِ: بَيْعُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ، وَبَيْعُ الْمُعَاوَمَةِ وَالسِّنِينَ، وَبَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ .
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 72، 88).
14 - كَمَا أَنَّ الْغَرَرَ فِي الثَّمَنِ يَرْجِعُ إِلَى الْجَهْلِ بِهِ.
وَالْجَهْلُ بِالثَّمَنِ قَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِالذَّاتِ، كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِمِائَةِ شَاةٍ مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ، فَلاَ يَجُوزُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ .
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِالنَّوْعِ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِدِينَارٍ فِي ذِمَّتِكَ أَوْ قَالَ: بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِكَ، أَوْ أَطْلَقَ الدَّرَاهِمَ، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِنَوْعِهَا .
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِصِفَةِ الثَّمَنِ، فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولِ الصِّفَةِ؛ لأِنَّ الصِّفَةَ إِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً تَحْصُلُ الْمُنَازَعَةُ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأْدْوَنِ وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأْرْفَعَ، فَلاَ يَحْصُلُ مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِلاَ مُنَازَعَةٍ .
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، إِذْ يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُشَارًا إِلَيْهِ. فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولِ الْقَدْرِ اتِّفَاقًا .
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِأَجَلِ الثَّمَنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ . وَقَالَ الْكَمَالُ: جَهَالَةُ الأْجَلِ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ وَذَاكَ فِي بِعِيدِهَا، وَلأِنَّهُ عليه الصلاة والسلام فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الأْجَلِ - وَهُوَ السَّلَمُ - أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ، حَيْثُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».
وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ انْعَقَدَ الإْجْمَاعُ
ب - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الإْجَارَةِ:
15 - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الإْجَارَةِ قَدْ يَرِدُ عَلَى صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَقَدْ يَرِدُ عَلَى مَحَلِّ الْعَقْدِ.
فَمِنَ الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ عَقْدِ الإْجَارَةِ: التَّعْلِيقُ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ آجَرْتُكَ، بِسَبَبِ أَنَّ انْتِقَالَ الأْمْلاَكِ يَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَالرِّضَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَزْمِ، وَلاَ جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِضَهُ عَدَمُ الْحُصُولِ، وَفِي ذَلِكَ غَرَرٌ .
وَأَمَّا الْغَرَرُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ فَلاَ يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْبَيْعِ، لِذَا يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ الإْجَارَةِ مَا يَشْتَرِطُونَهُ فِي مَحَلِّ الْبَيْعِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الأْجْرَةُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَتَيْنِ؛ لأِنَّ جَهَالَتَهُمَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله تعالي عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اسْتِئْجَارِ الأْجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ».
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الإْجَارَةِ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلاَ تَجُوزُ إِجَارَةُ مُتَعَذِّرِ التَّسْلِيمِ حِسًّا، كَإِجَارَةِ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ، أَوْ شَرْعًا كَإِجَارَةِ الْحَائِضِ لِكَنْسِ الْمَسْجِدِ، وَالطَّبِيبِ لِقَلْعِ سِنٍّ صَحِيحٍ، وَالسَّاحِرِ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ .
ج - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ السَّلَمِ:
16 - الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ السَّلَمِ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الشَّارِعُ لِلْحَاجَةِ.
قَالَ الْكَمَالُ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي .
وَيُشْتَرَطُ فِي السَّلَمِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ.
وَزَادَ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا أُخْرَى لِتَخْفِيفِ الْغَرَرِ فِيهِ مِنْهَا: تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: مِنْ شَرَائِطِهِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ جَبْرًا لِلْغَرَرِ فِي الْجَانِبِ .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ إِلَى يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ عِنْدَ مَحَلِّهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لأِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَّ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحَلِّ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ كَبَيْعِ الآْبِقِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ السَّلَمَ اُحْتُمِلَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، فَلاَ يُحْتَمَلُ فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ؛ لِئَلاَّ يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ .
وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ أَوْصَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: لأِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ عَيْنٌ، فَلأََنْ لاَ يَحْتَمِلَهَا السَّلَمُ وَهُوَ دَيْنٌ كَانَ أَوْلَى.
وَعَلَّلَ ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ بِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَقَالَ: لأِنَّهُ دَيْنٌ وَهُوَ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالْوَصْفِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ بِهِ يَكُونُ مَجْهُولاً جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلاَ يَجُوزُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ .
د - الْغَرَرُ فِي الْجَعَالَةِ:
17 - الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ عَقْدِ الْجَعَالَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ؛ لِجَهَالَةِ الْعَمَلِ وَجَهَالَةِ الأْجَلِ حَيْثُ إِنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَهُوَ وَقْتٌ مَجْهُولٌ، إِلاَّ أَنَّهُ جُوِّزَ اسْتِثْنَاءً لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هُوَ فِي الْقِيَاسِ غَرَرٌ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَوَّزَهُ .
لَكِنْ مُنِعَتْ بَعْضُ الصُّوَرِ مِنَ الْجَعَالَةِ، مِنْهَا: مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْ لِي ثَوْبِي وَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينَارٍ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّهُ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا يَبِيعُهُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَعْلُومًا كَأَنْ جَعَلَ الْعَامِلَ مَجْهُولاً، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجَهَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ مَعْلُومًا. قَالَ مَالِكٌ: كُلَّمَا نَقَصَ دِينَارٌ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ نَقَصَ فِي حَقِّهِ الَّذِي سَمَّى لَهُ، فَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَدْرِي كَمْ جُعِلَ لَهُ .
وَمِنْهَا: مَا لَوْ قَالَ لآِخَرَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ فَمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهُوَ لَكَ فَلاَ يَجُوزُ، قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ لأِنَّ الْجُعْلَ مَجْهُولٌ قَدْ دَخَلَهُ غَرَرٌ .
ثَانِيًا - الْغَرَرُ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ:
أ - عَقْدُ الْهِبَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْغَرَرِ عَلَى عَقْدِ الْهِبَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهِبَةِ، كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، يَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْمَوْهُوبِ مَا اشْتَرَطُوهُ فِي الْمَبِيعِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَوْهُوبِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ، فَلاَ تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ، بِأَنْ وَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ الْعَامَ، وَتَلِدُهُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ، وَمَا لاَ - كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ وَضَالٍّ - فَلاَ .
وَعَرَّفَ الْحَنَابِلَةُ الْهِبَةَ: بِأَنَّهَا التَّبَرُّعُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ الْمَعْلُومِ الْمَوْجُودِ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَهُ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: خَرَجَ بِالْمَالِ نَحْوُ الْكَلْبِ، وَبِالْمَعْلُومِ الْمَجْهُولُ، وَبِالْمَوْجُودِ الْمَعْدُومُ، فَلاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهَا .
كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ الْهِبَةِ فِي حَالَةِ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهِبَةِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودُ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ.
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: انْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ فِي قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَمَا لاَ يُجْتَنَبُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالطَّرَفَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلَى مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً،
وَثَانِيهُمَا: مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالإْبْرَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَالِ، بَلْ إِنْ فَاتَتْ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا، بِخِلاَفِ الْقِسْمِ الأْوَّلِ إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالاَتِ ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَةِ فِيهِ، أَمَّا الإِْحْسَانُ الصِّرْفُ فَلاَ ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الإِْحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ، فَإِذَا وُهِبَ لَهُ عَبْدُهُ الآْبِقُ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ فَيَحْصُلَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، لأِنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ الأْحَادِيثَ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الأْقْسَامَ حَتَّى نَقُولَ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، بَلْ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ .
ب - الْوَصِيَّةُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِذَا لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْمُوصَى بِهِ مَا اشْتَرَطُوهُ فِي الْمَبِيعِ، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُولِ؛ لأِنَّ الْوَصِيَّةَ - كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ - لاَ تَمْتَنِعُ بِالْجَهَالَةِ، وَلأِنَّ هَا - كَمَا قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ - احْتَمَلَ فِيهَا وُجُوهٌ مِنَ الْغَرَرِ رِفْقًا بِالنَّاسِ وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةَ بِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ .
ثَالِثًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ:
20 - مَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ شَرِكَةَ الأْبْدَانِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ، إِذْ لاَ يَدْرِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَكْسِبُ أَمْ لاَ . وَمَنَعُوا أَيْضًا شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً فَلاَ بَاطِلَ أَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا. يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِلْغَرَرِ؛ لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَاوَضَ صَاحِبَهُ بِكَسْبٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ بِصِنَاعَةٍ وَلاَ عَمَلٍ مَخْصُوصٍ .
كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ؛ لأِنَّ هَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ - بَلْ مَعْدُومٍ - وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ . وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: الْقِرَاضُ جَائِزٌ مُسْتَثْنًى مِنَ الْغَرَرِ وَالإْجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ .
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ عِدَّةَ شُرُوطٍ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا مَنْعًا لِوُقُوعِ الْغَرَرِ فِيهَا.
وَلِلْوُقُوفِ عَلَى تَعْرِيفِ الشَّرِكَاتِ وَمَا يَعْتَرِيهِ الْغَرَرُ مِنْهَا وَمَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَرِكَة)
رَابِعًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُهُ؛ لأِنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الرَّهْنِ، لِذَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَرْهُونِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمَوْجُودًا وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَجَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَرَرَ فِي الرَّهْنِ. فَقَدْ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ رَهْنِ مَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ فِي وَقْتِ الاِرْتِهَانِ كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، وَلاَ يُبَاعُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا بَدَا صَلاَحُهُ، وَإِنْ حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ .
وَقَيَّدَ الدَّرْدِيرُ الْغَرَرَ الَّذِي يَجُوزُ فِي الرَّهْنِ بِالْغَرَرِ الْيَسِيرَةِ وَمَثَّلَ لَهُ بِالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ الْغَرَرُ - كَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ - فَلاَ يَجُوزُ الرَّهْنُ .
خَامِسًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
22 - تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ هَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ، كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ .
وَلأِنَّ هَا الْتِزَامُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ .
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ إِذَا كَانَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، نَحْوَ: كَفَلْتُ مَالَكَ عَلَى فُلاَنٍ أَوْ فُلاَنٍ وَيَكُونُ التَّعْيِينُ لِلْكَفِيلِ، وَنَحْوُ: إِنْ غَصَبَ مَالَكَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَأَنَا ضَامِنٌ.
أَمَّا لَوْ عَمَّمَ فَقَالَ: إِنْ غَصَبَكَ إِنْسَانٌ شَيْئًا فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ لاَ يَصِحُّ، كَمَا لاَ تَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْكَفَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ نَحْوُ: أَنَا ضَامِنٌ زَيْدًا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ لِلنَّاسِ .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْعِلْمَ بِالْمَضْمُونِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَعَيْنًا، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ .
وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ مَعْرِفَةَ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ وَلاَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ .
سَادِسًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ، فَأَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَنْعِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ؛ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ فِيهَا.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَفِي كُلِّ أُمُورِي، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كُلَّ شَيْءٍ، لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ فِيهِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ فِي هَذَا غَرَرًا عَظِيمًا وَخَطَرًا كَبِيرًا؛ لأِنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِ هِبَةُ مَالِهِ وَطَلاَقُ نِسَائِهِ وَإِعْتَاقُ رَقِيقِهِ وَتَزَوُّجُ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ، وَيَلْزَمُهُ الْمُهُورُ الْكَثِيرَةُ وَالأْثْمَانُ الْعَظِيمَةُ فَيَعْظُمُ الْغَرَرُ .
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِهَا.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهَا الْعِلْمَ بِالْمُوَكَّلِ بِهِ عِلْمًا تَنْتَفِي بِهِ الْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ وَالْمُتَوَسِّطَةُ، أَمَّا الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ فَلاَ تَضُرُّ وَالْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ هِيَ جَهَالَةُ الْجِنْسِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دَابَّةٍ لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّ الدَّابَّةَ تَشْمَلُ الْفَرَسَ وَالْحِمَارَ وَالْبَغْلَ،
وَالْجَهَالَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ هِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ الَّذِي تَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، كَأَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ دَارٍ، فَهَذِهِ الْوَكَالَةُ لاَ تَصِحُّ أَيْضًا إِلاَّ إِذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ أَوِ الصِّفَةَ لِتَقِلَّ الْجَهَالَةُ.
وَالْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ هِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ الْمَحْضِ - النَّوْعُ الَّذِي لاَ تَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا - كَأَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ فَرَسٍ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ .
وَتَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ وَيُعَيِّنُهُ الْعُرْفُ .
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُوَكَّلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. لأِنَّ تَجْوِيزَ الْوَكَالَةِ لِلْحَاجَةِ يَقْتَضِي الْمُسَامَحَةَ، فَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ فِيهِ مَعْلُومًا عِلْمًا يَقِلُّ مَعَهُ الْغَرَرُ.
وَيَشْتَرِطُونَ فِي الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ بَيَانَ النَّوْعِ، وَإِذَا تَبَايَنَتْ أَوْصَافُ نَوْعٍ وَجَبَ بَيَانُ الصِّنْفِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الأْوْصَافِ، وَهَذَا فِيمَا يُشْتَرَى لِغَيْرِ التِّجَارَةِ، أَمَّا مَا يُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ ذِكْرُ النَّوْعِ وَلاَ غَيْرُهُ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ مِنَ الْعُرُوضِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي فَرَسًا بِمَا شِئْتَ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ حَتَّى يَذْكُرَ النَّوْعَ وَقَدْرَ الثَّمَنِ؛ لأِنَّهُ مَا يُمْكِنُ شِرَاؤُهُ وَالشِّرَاءُ بِهِ يَكْثُرُ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْغَرَرُ، فَإِنْ ذَكَرَ النَّوْعَ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ صَحَّ لاِنْتِفَاءِ الْغَرَرِ، وَاقْتَصَرَ الْقَاضِي عَلَى ذِكْرِ النَّوْعِ؛ لأِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ نَوْعًا فَقَدْ أَذِنَ فِي أَعْلاَهُ ثَمَنًا فَيَقِلُّ الْغَرَرُ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ مَالِهِ كُلِّهِ صَحَّ؛ لأِنَّهُ يَعْرِفُ مَالَهُ فَيَقِلُّ الْغَرَرُ .
سَابِعًا: الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ:
24 - يَرِدُ الْغَرَرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْمَهْرِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ عَلَى الْعَقْدِ؛ لأِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لاَ يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ الْعِوَضِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ صُوَرًا لِلْغَرَرِ فِي الْمَهْرِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ جَهَالَةَ نَوْعِ الْمَهْرِ تُفْسِدُ التَّسْمِيَةَ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَيَجِبُ حِينَئِذٍ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
كَمَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ ثُبُوتِ الأْجَلِ إِذَا كَانَتْ جَهَالَتُهُ مُتَفَاحِشَةً، وَيَجِبُ الْمَهْرُ حَالاً، وَذَلِكَ كَالتَّأْجِيلِ إِلَى هُبُوبِ الرِّيَاحِ أَوْ إِلَى أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ، أَوْ إِلَى الْمَيْسَرَةِ .
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا سَبَقَ - التَّصَرُّفَاتِ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُ الْغَرَرِ فِيهَا وَعَدَمُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ. فَالطَّرَفَانِ: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا الْغَرَرُ، إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً.
وَإِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ، فَيُغْتَفَرُ فِيهِ الْغَرَرُ.
وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالأْلْفَةُ وَالسُّكُونُ، يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) الآْيَةُ. يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ، فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوُ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَشُورَةِ بَيْتٍ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الآْبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ؛ لأِنَّ الأْوَّلَ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ، وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ فَامْتَنَعَ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ تَأْجِيلِ الْمَهْرِ إِلاَّ لِزَمَنٍ مُحَدَّدٍ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّأْجِيلُ لِلْمَوْتِ أَوِ الْفِرَاقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا تَأْجِيلَ الْمَهْرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مَلِيًّا .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَالثَّمَنِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لأِنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ فِي حَقِّ مُعَاوَضَةٍ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ؛ وَلأِنَّ غَيْرَ الْمَعْلُومِ مَجْهُولٌ لاَ يَصِحُّ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ كَالْمُحَرَّمِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ الْجَهْلُ الْيَسِيرُ وَالْغَرَرُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِالزَّوَاجِ عَلَى الآْبِقِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَدَيْنِ السَّلَمِ، وَالْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَوْ مَكِيلاً وَنَحْوَهُ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لأِنَّ الصَّدَاقَ لَيْسَ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، فَاغْتُفِرَ الْجَهْلُ الْيَسِيرُ وَالْغَرَرُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَهْرِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، لِذَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَهْرِ شُرُوطَ الْمَبِيعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَا صَحَّ مَبِيعًا صَحَّ صَدَاقًا.
وَلَوْ سَمَّى صَدَاقًا فَاقِدًا لأِحَدِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ فَسَدَ الصَّدَاقُ وَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ، وَيَجِبُ لِلزَّوْجَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ .
الْغَرَرُ فِي الشُّرُوطِ:
25 - يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الشُّرُوطِ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُ الْغَرَرِ فِيهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، وَشَرْطٌ يُحْدِثُ غَرَرًا فِي الْعَقْدِ، وَشَرْطٌ يَزِيدُ مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي فِي الْعَقْدِ.
أَوَّلاً - الشَّرْطُ الَّذِي فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ:
26 - قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْخُلُوُّ عَنِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، نَحْوُ مَا إِذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ؛ لأِنَّ الْمَشْرُوطَ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَلاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ، لأِنَّ عِظَمَ الْبَطْنِ وَالتَّحَرُّكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعَارِضِ دَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَانَ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ .
وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - الْحَنَفِيَّةَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلاً بِالصِّحَّةِ؛ لأِنَّ كَوْنَهَا حَامِلاً بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَذَا جَائِزٌ فَكَذَا هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي فِي وُجُودِهَا غَرَرٌ، مَا لَوِ اشْتَرَى نَاقَةً وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى أَنَّهَا تَضَعُ حَمْلَهَا إِلَى شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأِنَّ فِي وُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ غَرَرًا، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا وَكَذَا رِطْلاً . قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ شَرَطَ كَوْنَهَا تُدِرُّ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا مِنَ اللَّبَنِ بَطَلَ الْبَيْعُ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأِنَّ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ وَضَبْطُهُ فَلَمْ يَصِحَّ .
ثَانِيًا - الشَّرْطُ الَّذِي يُحْدِثُ غَرَرًا فِي الْعَقْدِ:
27 - مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُحْدِثُ غَرَرًا فِي الْعَقْدِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ شَيْئًا وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَهُ غَيْرَ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِبَيْعِ الثُّنْيَا.
وَبَيْعُ الثُّنْيَا مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ».
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الثُّنْيَا إِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولاً؛ لأِنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ يَجْعَلُ الْبَاقِي مَجْهُولاً .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَيْعِ الثُّنْيَا: أَنْ يَبِيعَ الشَّاةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا فِي بَطْنِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ جَهَالَةِ الْمَبِيعِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً أَوْ شَاةً وَهُنَّ حَوَامِلُ، وَاسْتَثْنَى مَا فِي بُطُونِهَا، فَإِنَّ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا فَاسِدٌ لاَ يَجُوزُ .
ثَالِثًا - الشَّرْطُ الَّذِي يَزِيدُ الْغَرَرَ فِي الْعَقْدِ
28 - هَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِي أَصْلِهَا غَرَرٌ، وَالأْصْلُ مَنْعُهَا، لَكِنَّهَا جَازَتِ اسْتِثْنَاءً وَذَلِكَ كَعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا بِالْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَقْتَرِنُ بِهِ - أَيِ الْقِرَاضِ - شَرْطٌ يَزِيدُ فِي مَجْهَلَةِ الرِّبْحِ أَوْ فِي الْغَرَرِ الَّذِي فِيهِ .
ر: (مُضَارَبَة).

