مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء السادس ، الصفحة : 576
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- للمحتكر حق عيني على الأرض المحتكرة كما تقدم، وهذا الحق يخوله السلطة في أن يبني أو يغرس في الأرض أو يستعملها في الغرض الذي اتفق عليه، والمهم فيما يقوم به من عمل أن يؤدي في النهاية إلى استصلاح الأرض .
وإذا كان في الأرض بناء أو كان المحتكر هو الذي أقام البناء فله أن يعلو به وله أن يحدث فيه زيادة أو تعديلاً إلا إذا نص عقد الحكر على غير ذلك.
2- ولما كان للمحتكر هذا الحق العيني ، فله أن يتصرف فيه بالبيع أو بغيره من التصرفات ،كما ينتقل منه بالميراث، ويجوز له أن يقفه، فإذا كان الحكر قائماً على أرض موقوفة كان كل من الحكر والرقبة موقوفاً، وللمحتكر دعاوى الملكية والحيازة ككل ذي حق عيني.
المشروع في لجنة المراجعة:
تليت المادة 1259 من المشروع، ورأت اللجنة حذف الفقرة الأولى وتعديل الثانية على الوجه الآتي :
للمحتكر أن يتصرف في حقه وأن يسترده إذا اغتصب وينتقل هذا الحق بالميراث.
وأصبح رقم المادة 1076 في المشروع النهائي .
المشروع في مجلس النواب:
وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 1073
المشروع في مجلس الشيوخ
مناقشات لجنة القانون المدني :
محضر الجلسة الحادية والأربعين
تليت المادة 1073 فاستقر الرأي على حذف عبارة «وأن يسترده إذا اغتصب ، لأن هذا الاسترداد يثبت لكل صاحب حق وفقاً للقواعد العامة ولا حاجة لنص خاص ».
تقرير اللجنة :
حذفت اللجنة عبارة «وأن يسترده إذا اغتصب ، من نص هذه المادة باعتبارها تزيداً لا حاجة للنص عليها، وأصبح رقمها 1001».
مناقشات اللجنة :
وافق المجلس على المادة كما عدلتها اللجنة .
1 ـ إنه و إن كان للمحتكر وفق النظام المقرر فى الشريعة الإسلامية أن يشفع ببنائه إلا أنه لا يصح أن تقاس حالته على حالة المستأجر الذى يقيم بناء على الأرض التى أستأجرها ، ذلك أن المحتكر طبقا للنظام المشار إليه له حق عينى تتحمله العين فى يد كل حائز لها ، و يراد به استبقاء الأرض للبناء تحت يد المحتكر مادام قائما بدفع أجر المثل ، فهو مالك لمنافع العين ملكا أبديا بدوام دفعه أجرة المثل بخلاف المستأجر فإن عقد الايجار لا يخوّله إلا حقا شخصيا قبل المؤجر و لا يعطيه حق البقاء و الاستقرار على الدوام فلا يثبت له حق الشفعة بوصفه جارا مالكا للبناء .
(الطعن رقم 10 لسنة 22 جلسة 1955/02/03 س 6 ع 2 ص 599 ق 77)
2 ـ لما كان المطعون فيه قد ذهب فى قضائه إلى رفض طلب الطاعنة إزالة المنشآت محل التداعى أو تثبيت ملكيتها لها مستحقة الإزالة أو البقاء وطلبها طرد المطعون عليه الأول منها على قوله إنه" وقد ثبت من الأرواق أن عقد البدل لم يحرر ولم يتم شهره فإن...."الطاعنة .....لم تعد مالكة بعد الرقبة أرض النزاع فلا يكون لها طلب إعمال المواد924،925،926من القانون المدنى الخاصة بإزالة المنشآت المقامة على تلك الأرض إذ أن هذا الطلب لا يكون إلا مالك الرقبة وعلى أساس قواعد الالتصاق المقررة للمالك الأمر الذى يتضح منه أن دعواها اقيمت قبل الأوان" وكان هذا القول من محكمة الاستئناف خطأ فى فهم الأساس القانونى الصحيح الواجب بناء حكمها عليه وفضلا عن انه لا يواجه كل الطلبات المطروحة فى الدعوى فإن الطاعنة لم تستند إلى عقد الاستبدال، وملكية حق الرقبة فى طلباتها وإنما ركنت فيها إلى حق الحكر وما يخوله لها من حق القرار وملكية ما أحدثه مورثها من منشآت على الأرض المحكرة ملكا عاما تاما وانتقل إليها من بعده فيكون لها حق حيازتها والانتفاع بها بكافة الأوجه. هذا إلى أن لها بمقتضاه حقا عينيا تتحمله العين المحكورة فى يد كل حائز لها يراد به استبقاءها البناء تحت يد المحتكر ما دام الحكر قائما، لما كان ما تقدم وكان البين من الأوراق وعلى ما حصله الحكم المطعون فيه وبما لا خلاف عليه بين الخصوم ان الحق فى الحكر على عين التداعى لازال قائما للطاعنة بما كان يتعين معه على محكمة الموضوع تكييف الدعوى تكييفا صحيحاً وإعمال أثر قيام هذا الحق المقرر للطاعنة وطبقا لطلباتها فى الدعوى على ما قام به المطعون عليه الأول وحسبما كشفت عنه وقائعها من أعمال مقتضاها المساس بحقوق المحتكرة والاعتداء على حقها فى القرار دون مسوغ أو سند، وإذ لم يلتزم الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى برفض دعواها برمتها بما اشتملت عليه من طلبات على نحو ما سلف بيانه تأسيسا على عدم تملكها الرقبة فتحجب بذلك عن الفصل فى هذه الطلبات فإنه يكون قد أخطأ فى القانون.
(الطعن رقم 1766 لسنة 61 جلسة 1996/04/14 س 47 ع 1 ص 660 ق 123)
3 ـ مقتضى حق الحكر - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن للمحتكر إقامة ما يشاء من المبانى على الأرض المحكرة وله حق القرار ببنائه حتى ينتهى حق الحكر وله ملكية ما أحدثه من بناء ملكاً تاماً يتصرف فيه وحده أو مقترناً بحق الحكر وينتقل عنه هذا الحق إلى ورثته الذين يكون لهم مصلحة قانونية فى الدفاع عن هذا الحق وعن تملكهم البناء المقام على الأرض المحكرة .
(الطعن رقم 4334 لسنة 61 جلسة 1997/04/26 س 48 ع 1 ص 695 ق 137)
4 ـ إبرام العقد محل النزاع فى سنة 1928 فى ظل العمل بالتقنين المدنى القديم الذى خلت أحكامه من تنظيم خاص لحق الحكر ، فإنه يتعين الرجوع إلى القواعد التى إستقرت عليها الشريعة الإسلامية فى شأن الحكر بإعتبارها هى منشأ هذا النظام ، و التى كانت تجيز تحكير الوقف و غير الوقف على خلاف ما يقضى به التقنين المدنى الحالى الذى قصر الحكر على الأراضى الموقوفة و قد عرف الفقهاء الحكر بأنه عقد إيجار يبيح للمحتكر الإنتفاع بالأرض المحكرة إلى أجل غير محدد ، أو إلى أجل طويل معين مقابل دفع أجر المثل المقرر على الأرض خالية ، و حق الحكر يخول للمحتكر الحق فى الإنتفاع بالأرض بكافة أوجه الإنتفاع و له حق القرار فيها بالبناء أو الغراس ، و للمحتكر أن يتصرف فى حق الحكر بجميع أنواع التصرفات فله أن يبعه أو يهبه ، أو يرتب عليه حق إنتفاع ، و له أن يؤجره للغير ، و ينتقل عنه بالميراث ، و من المقرر فى قضاء هذه المحكمة - أن للمحتكر حق عينى تتحمله العين المحكره فى يد كل حائز لها ، و لذلك فلا محل لقياس حالته على حالة المستأجر صاحب الحق الشخصى الذى يقيم بناء على الأرض التى إستأجرها . و مفاد ما تقدم أن عقد الحكر يختلف عن عقد الإيجار فى أمور جوهرية فهو ينشأ مؤيداً أو لمدة طويلة ، بينما الإيجار حق شخصى ينشأ لمدة مؤقتة ، و الأجرة فى الحكر هى أجرة المثل تزيد و تنقص تبعاً لزيادة أو نقص أجره المثل ، أما فى عقد الإيجار فالأجرة ثابتة .
(الطعن رقم 1090 لسنة 55 جلسة 1990/02/28 س 41 ع 1 ص 673 ق 112)
5 ـ من مقتضى عقد الحكر أن يتملك المستحكر حق الإنتفاع بالأرض المحكرة بالبناء ، أو الغراس بينما يحتفظ المحكر بملكية الرقبة المحكرة ، كما أن للمستحكر أن يتصرف فى حق الحكر بالبيع أو بغيره من التصرفات .
(الطعن رقم 1415 لسنة 50 جلسة 1981/03/24 س 32 ع 1 ص 920 ق 171)
6 ـ من مقتضى عقد الحكر أن للمحتكر إقامة ما يشاء من المبانى على الأرض المحتكرة و له حق القرار ببنائه حتى ينتهى حق الحكر ، كما أن له أن يحدث فى المبانى زيادة و تعديلا ، و له ملكية ما أحدثه من بناء ملكا تاما يتصرف فيه وحده أو مقترنا بحق الحكر ، و ينتقل عنه هذا الحق إلى ورثته . ولكنه فى كل هذا تكون حيازته للآرض المحتكرة حيازة وقتيه لا تكسبه الملك إلا إذا حصل تغيير فى سبب حيازته يزيل عنها صفة الوقتية ، و لا يكفى فى ذلك مجرد تغيير الحائز الوقتى لنيته بل يجب أن يقترن تغيير النية بفعل إيجابى ظاهر يجابه به مالك الحق بالإنكار الساطع والمعارضة العلنية ويدل دلالة جازمة على أن ذا اليد الوقتية مزمع إنكار الملكية على صاحبها و الإستئثار بها دونه .
(الطعن رقم 218 لسنة 29 جلسة 1964/02/20 س 15 ع 1 ص 244 ق 43)
ينشیء الحكر حقاً عينياً أصلياً يخول المحتكر الانتفاع بالأرض حسبما يشاء، فيقيم بناء أو غراساً بشرط أن يؤدي ذلك لتحسينها، وللمحتكر التصرف في الحكر كيفما يشاء، بالبيع أو الهبة أو يؤجره أو يرتب عليه حق انتفاع أو ارتفاق أو برهنه ما لم يكن الحق موقوفاً، والحجز الذي يرد عليه يكون حجزاً عقارياً وينتقل الحكر لورثة المحتكر .
وإذ ينطوي عقد الحكر على إذن صادر من المحكر إلى المحتكر بإقامة غراس أو منشأت على سبيل البقاء والقرار، وبالتالي لا تخضع لقواعد الإلتصاق، شريطة تسجيل عقد الحكر، إذ يترتب على هذا التسجيل نملك المحتكر تلك المنشأت، وهو يتملكها بالتسجيل وحده باعتباره حائزاً عرضياً لا يجوز له التملك بالتقادم، لا هو ولا ورثته من بعد، مهما طال الزمن على حيازتهم خلاف للمشترى، فإن لم يتم التسجيل، فلا تنتقل الملكية للمحتكر ولا لورثته من بعده ولا لمن تصرف لهم هؤلاء، مما يحول دون هؤلاء جميعاً واستعمال الحقوق المقررة للمالك، كالشفعة ورفع دعاوى الملكية المتعلقة بالمنشأت.(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الرابع عشر الصفحة/ 247)
عقد الحكر ينشئ للمحتكر حقاً عينياً أصلياً في الأرض المحتكرة، هو حق الحكر، ومن ثم فإن للمحتكر التصرف في حق الحكر، سواء كان التصرف بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة والوصية.
وله أن يرتب عليه حق انتفاع أو حق ارتفاق وله أن يؤجره، وله أن يحكر حقه فيكون هناك حق حكر على حق الحكر.
وله أن يرهن حق الحكر رهناً رسمياً، ما لم يكن هذا الحق موقوفاً.
وكما ذكرنا سلفاً يجب تسجيل أي تصرف ناقل للملكية حتى يكون حجة بين طرفيه وبالنسبة للغير عملاً بالمادة التاسعة من قانون تنظيم الشهر العقارى.
وللمحتكر حق الأخذ بالشفعة عملاً بالمادة 936 مدني التي تجري على أن "لمالك الرقبة في الحكر إذا بيع حق الحكر، وللمستحكر إذا بيعت الرقبة"، فيكون ذلك سبباً من أسباب انقضاء حق الحكر عن طريق اتحاد الذمة.
وهذا الحق يتميز به المحتكر عن المستأجر وهو صاحب حق شخصي.
حق الحكر خلاف حق الانتفاع ينتقل بالميراث فهو لا ينقضي بوفاة المحتكر، مع ملاحظة ما تنص عليه المادة 1008 / 2 مدني من أنه إذا مات المحتكر قبل أن يبني أو يغرس انتهى الحكر إلا إذا طلب جميع الورثة بقاء الحكر.(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الرابع عشر الصفحة/ 97)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن عشر ، الصفحة / 53
حِكْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِكْرُ لُغَةً: الاِسْمُ مِنَ الْحَكْرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ، وَهُوَ فِي الأْصْلِ الظُّلْمُ وَالتَّنَقُّصُ، وَالْعُسْرُ، وَالاِلْتِوَاءُ. وَمِنْهُ رَجُلٌ حَكْرٌ وَهُوَ مَنْ يُدْخِلُ عَلَى غَيْرِهِ الْمَشَقَّةَ فِي مُعَاشَرَتِهِ وَمُعَايَشَتِهِ، وَالاِحْتِكَارُ: أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَيَحْبِسَهُ لِيَقِلَّ فَيَغْلُوَ. وَالاِسْمُ مِنْهُ الْحِكْرُ وَالْحُكْرَةُ.
وَفِي الْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ: الْحَكْرُ اللَّجَاجَةُ وَالْعُسْرُ، وَالاِسْتِبْدَادُ بِالشَّيْءِ، أَيْ الاِسْتِقْلاَلُ وَأَصْلُ الْحُكْرَةِ الْجَمْعُ وَالإْمْسَاكُ.
أَمَّا الْحِكْرُ بِالْكَسْرِ فَقَدِ انْفَرَدَ بِذَكَرِهِ الزَّبِيدِيُّ مُسْتَدْرِكًا لَهُ عَلَى الْقَامُوسِ، فَقَالَ: الْحِكْرُ بِالْكَسْرِ مَا يُجْعَلُ عَلَى الْعَقَارَاتِ، وَيُحْبَسُ، مُوَلَّدَةٌ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلاَثَةِ مَعَانٍ:
الأْوَّلُ: الأْجْرَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى عَقَارٍ مَحْبُوسٍ فِي الإْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْ هَذَا الاِسْتِعْمَالِ مَا قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: مَنْ بَنَى فِي الأْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مَسْجِدًا وَقَفَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ فَعَلَى مَنْ يَكُونُ حِكْرُهُ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا دَامَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً فَإِذَا انْقَضَتْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَفِي فَتَاوَى عُلَيْشٍ «مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى الْخُلُوِّ يَكُونُ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ أُجْرَةٌ لِلَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ يُسَمَّى عِنْدَنَا بِمِصْرَ حِكْرًا لِئَلاَّ يَذْهَبَ الْوَقْفُ بَاطِلاً».
الثَّانِي: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعَقَارِ الْمُحْتَكَرِ نَفْسِهِ فَيُقَالُ: هَذَا حِكْرُ فُلاَنٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الإْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ وَالْغَالِبُ أَنْ يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الاِحْتِكَارَ.
وَالاِسْتِحْكَارُ بِمَعْنَى الاِسْتِئْجَارِ إِجَارَةً طَوِيلَةً، وَيُسَمَّى (التَّحْكِيرَ) أَوِ (الإْحْكَارَ) بِمَعْنَى الإْيجَارِ أَوِ التَّأْجِيرِ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الاِحْتِكَارُ إِجَارَةٌ يُقْصَدُ بِهَا مَنْعُ الْغَيْرِ وَاسْتِبْقَاءُ الاِنْتِفَاعِ بِالأْرْضِ. وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ:
الاِسْتِحْكَارُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِبْقَاءُ الأْرْضِ لِلْبِنَاءِ، أَوِ الْغَرْسِ، أَوْ لأِحَدِهِمَا. وَيَكُونُ فِي الدَّارِ وَالْحَانُوتِ أَيْضًا.
وَمُرَادُ ابْنِ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ يُقْصَدُ بِهَا مَنْعُ الْغَيْرِ أَيْ مَنْعُ الْغَيْرِ مِنَ الْمُنَافَسَةِ فِيمَا لَوْ أُوجِرَتِ الأْرْضُ إِجَارَةً قَصِيرَةً وَانْتَهَتِ الْمُدَّةُ. فَمَنْ يَسْتَأْجِرُهَا إِجَارَةً طَوِيلَةً يَأْمَنُ مِنَ الْمُنَافَسَةِ وَيَمْنَعُهَا، وَمِنْ هُنَا أُخِذَ هَذَا الاِصْطِلاَحُ وَهُوَ الاِحْتِكَارُ لأِنَّهُ يَئُولُ فِي مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ إِلَى الْمَنْعِ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الْخُلُوُّ: هُوَ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ لِعَقَارِ الْوَقْفِ مُقَابِلَ مَالٍ يَدْفَعُهُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ لِتَعْمِيرِهِ إِذَا تَخَرَّبَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَمِّرُهُ بِهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ عَنْ بَاقِي الْمَنْفَعَةِ تُسَمَّى حِكْرًا.
3 - ب - الأْجْرَةُ: وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْحِكْرِ.
4 - ج - «الإْجَارَةُ الطَّوِيلَةُ» وَهُوَ اصْطِلاَحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِحْتِكَارِ إِذْ الاِحْتِكَارُ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِئْجَارُ الأْرْضِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لِلْبِنَاءِ، أَوِ الْغَرْسِ، أَوْ أَحَدِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلاَمِ ابْنِ عَابِدِينَ، وَالإْجَارَةُ الطَّوِيلَةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمَا، بَلْ قَدْ تَكُونُ لِلزَّرْعِ وَلِسَائِرِ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالاَتِ الأْرْضِ. وَتَكُونُ فِي غَيْرِ الأْرْضِ أَيْضًا كَالْمَسَاكِنِ وَالآْلاَتِ وَغَيْرِهَا.
أَقْسَامُ الْحِكْرِ:
5 - الْحِكْرُ يَكُونُ فِي الأْوْقَافِ وَهُوَ الأْغْلَبُ وَفِي غَيْرِهَا وَهِيَ الأْمْلاَكُ الْخَاصَّةُ، وَهُوَ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ كَلاَمُ الرَّمْلِيِّ وَابْنِ عَابِدِينَ، إِذْ أَطْلَقَا تَعْرِيفَ الاِحْتِكَارِ عَنْ قَيْدِ الْوَقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي (مِنْحَةِ الْخَالِقِ) حَيْثُ قَالَ: الأْرْضُ الْمُقَرَّرَةُ لِلاِحْتِكَارِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا أَوْ وَقْفًا.
إِلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي شَأْنِ الْحِكْرِ يَنْصَبُّ عَلَى الْحِكْرِ فِي الأْوْقَافِ وَلاَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْحِكْرِ فِي الأْمْلاَكِ إِلاَّ نَادِرًا، وَلِذَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ قَانُونِ الْعَدْلِ وَالإْنْصَافِ بِأَنَّهُ اسْتِبْقَاءُ الأْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ مُقَرَّرَةً لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ أَوْ أَحَدِهِمَا.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَيَقْتَصِرُ الْكَلاَمُ فِيمَا يَلِي عَلَى الْحِكْرِ فِي الأْوْقَافِ، لأِنَّ الْحِكْرَ فِي الأْمْلاَكِ تَجْرِي أَحْكَامُهُ بِحَسَبِ صِيغَةِ التَّعَاقُدِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْمُدَّةِ وَالأْجْرَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَتَرِدُ الإْشَارَةُ إِلَيْهِ.
حُكْمُ الإْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فِي الأْوْقَافِ:
6 - الأْصْلُ فِي الإْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فِي الأْمْلاَكِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لأِنَّ الْمَالِكَ يَصْنَعُ فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ. وَنَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
أَمَّا فِي الأْوْقَافِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَرْبَعٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
7 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ أَنْ يُؤَجِّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ لاَ مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ أَنْ لاَ يُؤَجِّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ يَجِبُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لاَ مَحَالَةَ.
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْمَنْقُولُ عَنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: أَنَا أُجَوِّزُ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ وَلاَ أُجَوِّزُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ كَانَ يَقُولُ: فِي الضِّيَاعِ (أَيِ الأْرَاضِيِ الزِّرَاعِيَّةِ) نُفْتِي بِالْجَوَازِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ، وَفِي غَيْرِ الضِّيَاعِ نُفْتِي بِعَدَمِ الْجَوَازِ فِيمَا زَادَ عَنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْجَوَازِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَوْضِعِ. قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ: فَلَوْ آجَرَهَا الْمُتَوَلِّي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الإْجَارَةُ وَتُفْسَخُ.
وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْمَنْعَ فِيمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثِ سِنِينَ فِي الأْرْضِ وَسَنَةٍ فِي غَيْرِهَا كَمَا صَنَعَ صَاحِبُ تَنْوِيرِ الأْبْصَارِ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: إِنْ كَانَتِ الأْرْضُ تُزْرَعُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لاَ يُؤَجِّرُهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ تُزْرَعُ فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ مُرَّةً لاَ تُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، أَوْ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ لاَ تُؤْجَرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ.
وَإِنَّمَا جَرَتِ الْفُتْيَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ صِيَانَةً لِلأْوْقَافِ عَنْ دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ بِطُولِ الْمُدَّةِ قَالُوا: لأِنَّ الْمُدَّةَ إِذَا طَالَتْ تُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ مَنْ رَآهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مُتَوَالِيًا وَلاَ مَالِكٌ يُعَارِضُ وَيُزَاحِمُ - وَمَالُ الْوَقْفِ مَالٌ ضَائِعٌ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ الْمُهْتَمِّ - يَظُنُّهُ الرَّائِي بِتَصَرُّفِهِ الدَّائِمِ مَالِكًا، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ إِذَا ادَّعَاهُ. وَلاَ مَصْلَحَةَ لِلْوَقْفِ فِي أَمْرٍ يَدْعُو إِلَى هَذَا الضَّرَرِ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَرَتِ الْفُتْيَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى إِلْحَاقِ أَرْضِ الْيَتِيمِ بِأَرْضِ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَلاَ تُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا أَرَاضِيَ بَيْتِ الْمَالِ، نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ.
وَفِي قَوْلِ مُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ إِجَارَةُ الْوَقْفِ لِلْمُدَدِ الطَّوِيلَةِ. غَيْرَ أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَذْكُورُ أَوَّلاً وَهُوَ التَّوْقِيتُ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِنَّمَا عَدَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عَلَى الْوَقْفِ.
ثُمَّ إِنْ آجَرَ النَّاظِرُ الْوَقْفَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ يَجُوزُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُبْطِلَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَرَأَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إِنِ احْتَاجَ الْقَيِّمُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ إِجَارَةً طَوِيلَةً فَالْحِيلَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْقِدَ عُقُودًا، فَيَكْتُبُ: اسْتَأْجَرَ فُلاَنُ ابْنُ فُلاَنٍ ثَلاَثِينَ عَقْدًا مَثَلاً، كُلُّ عَقْدٍ عَلَى سَنَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا شَرْطًا فِي بَعْضٍ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ الأْوَّلُ لاَزِمًا لأِنَّهُ نَاجِزٌ، وَمَا بَعْدَهُ لاَ يَلْزَمُ، لأِنَّهُ مُضَافٌ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ كُلُّ سَنَةٍ إِذَا دَخَلَتْ.
8 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ كِرَاءُ الْوَقْفِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، قَالَ الْحَطَّابُ: الْحَبْسُ إِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنِينَ كَبَنِي فُلاَنٍ، فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُكْرِيَهُ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَلاَ يُكْرِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ الْكِرَاءُ فِي السِّنِينَ الْكَثِيرَةِ فَعَثَرَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ مَضَى بَعْضُهَا فَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ يَسِيرًا كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ لَمْ يُفْسَخْ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فُسِخَ. وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ الْبُرْزُلِيُّ عَنْ نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي وَقْفٍ أُكَرِي خَمْسِينَ عَامًا، إِنْ وَقَعَ الْكِرَاءُ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى النَّقْدِ (أَيْ تَعْجِيلِ الأْجْرَةِ) فُسِخَ، وَفِي جَوَازِهِ عَلَى غَيْرِ النَّقْدِ قَوْلاَنِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا عِنْدِي الْمَنْعُ. ا هـ.
ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: أَمَّا الْحَبْسُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْمَسَاكِينِ وَشَبَهِهَا فَلاَ يُكْرِيهَا النَّاظِرُ لأِكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ إِنْ كَانَتْ أَرْضًا، وَلاَ أَكْثَر مِنْ عَامٍ إِنْ كَانَتْ دَارًا، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ، وَمَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ، فَإِنْ أَكْرَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مَضَى إِنْ كَانَ نَظَرًا (أَيْ مَصْلَحَةً)، وَلاَ يُفْسَخُ.
وَعَلَّلُوا لِمَنْعِ الإْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فِي الْوَقْفِ بِمِثْلِ مَا عَلَّلَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، قَالُوا: لِخَوْفِ انْدِرَاسِهِ إِذَا طَالَ مُكْثُهُ بِيَدِ مُكْتَرِيهِ.
9 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ تُؤَجَّرَ الْعَيْنُ إِلَى مُدَّةٍ تَبْقَى إِلَيْهَا غَالِبًا - مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْطَ الْوَاقِفِ - فَتُؤَجَّرُ الأْرْضُ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ - قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ:
سَوَاءٌ الْمِلْكُ وَالْوَقْفُ - وَتُؤَجَّرُ الدَّارُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَالثَّوْبُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ. وَفِي قَوْلٍ: لاَ يُزَادُ عَلَى سَنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّمَا يَجْرِي ذَلِكَ - أَيِ الإْجَارَةُ الطَّوِيلَةُ - فِي الْوَقْفِ إِنْ وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِعَيْنِ الْوَقْفِ، وَاصْطِلاَحُ الْحُكَّامِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُؤَجَّرُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ، لِئَلاَّ يَنْدَرِسَ اسْتِحْسَانٌ مِنْهُمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا ذَلِكَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ بِغَلَبَةِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَلأِنَّ شَرْطَ إِجَارَةِ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَتَقْوِيمُ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْبَعِيدَةِ صَعْبٌ - أَيْ لِتَغَيُّرِ الأْسْعَارِ وَطُرُوءِ الرَّغَبَاتِ غَالِبًا - قَالَ: وَأَيْضًا فَفِيهَا مَنْعُ الاِنْتِقَالِ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَضَيَاعُ الأْجْرَةِ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَتْ مُعَجَّلَةً. وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فِي فَتَاوَاهُ الْكُبْرَى الْفِقْهِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ قُضَاةَ الشَّافِعِيَّةِ مَالُوا فِي ذَلِكَ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لأِنَّهُ أَحْوَطُ. وَنَقَلَهُ عَنِ السُّبْكِيِّ وَغَيْرِهِ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مُجَرَّدَ زِيَادَةِ الأْجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ لاَ يُسَوِّغُ الإْجَارَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الْوَقْفِ. وَقَالَ: وَأَلْحَقُوا بِأَرْضِ الْوَقْفِ فِي ذَلِكَ أَرْضَ الْيَتِيمِ.
10 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الإْجَارَةَ الطَّوِيلَةَ جَائِزَةٌ، عَلَى الأْصْلِ فِي الإْجَارَةِ إِذَا كَانَتْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَبْقَى إِلَيْهَا الْعَيْنُ غَالِبًا وَإِنْ كَثُرَتْ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِهَذَا الأْصْلِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيْ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ ) قَالَ: وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى نَسْخِهِ دَلِيلٌ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لأِنَّ مَا جَازَ لِسَنَةٍ جَازَ لأِكْثَرَ مِنْهَا، وَالتَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ أَوْ ثَلاَثٍ تَحَكُّمٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي فِي الْوَقْفِ، قَالَ: إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ جَازَتْ إِجَارَتُهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَلاَ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى وَنَسَبَهُ إِلَى الرِّعَايَةِ وَالْمُغْنِي، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: بَلِ الْوَقْفُ أَوْلَى أَيْ بِجَوَازِ الإْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ.
وَابْنُ الْقَيِّمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَيَّنَ مَفَاسِدَ الإْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فِي الْوَقْفِ كَمَا بَيَّنَهَا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِبُطْلاَنِهَا حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ امْتِنَاعَهَا.
حُكْمُ التَّحْكِيرِ فِي الْوَقْفِ وَشُرُوطُ جَوَازِهِ:
12 - يَتَبَيَّنُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّحْكِيرَ فِي الْوَقْفِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الأْوَّلُ وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ: إِنَّهُ جَائِزٌ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ مَنْعَهُ أَمْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَرْضِ الْوَقْفِ لأِنَّهُ يَغُلُّ يَدَ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الأْرْضِ، وَاسْتِغْلاَلِهَا لَمْ يُجِيزُوهُ إِلاَّ بِشُرُوطٍ:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ قَدْ تَخَرَّبَ وَتَعَطَّلَ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. ثَانِيًا: أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعَمَّرُ بِهِ.
ثَالِثًا: أَنْ لاَ يُوجَدَ مَنْ يُقْرِضُ الْوَقْفَ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا أَنْ لاَ يُمْكِنَ اسْتِبْدَالُ الْوَقْفِ بِعَقَارٍ ذِي رِيعٍ.
فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَازَ إِيجَارُ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً لِمَنْ يَبْنِيهِ، أَوْ يَغْرِسُ الأْرْضَ، لأِنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلاِنْتِفَاعِ بِالْوَقْفِ، وَلَمْ يَنْظُرْ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى احْتِمَالِ تَمَلُّكِ الْوَقْفِ لأِنَّهُ مَوْهُومٌ فَلاَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ الضَّرَرِ الْمُتَحَقِّقِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَاقِفُ قَدْ مَنَعَ الإْجَارَةَ الطَّوِيلَةَ امْتَنَعَ إِلاَّ إِذَا حَصَلَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقَوْلِ الأْوَّلِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، وَمِنْ هَؤُلاَءِ الأْذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ. التّفْصيلُ في مُصْطلح: (خُلُوٌّ).
مَنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّحْكِيرُ:
14 - التَّحْكِيرُ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ يَجُوزُ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ وَهُوَ النَّاظِرُ فَلاَ يَمْلِكُهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِنْ كَانَ مُوَلًّى عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ، أَوْ مَأْذُونًا مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ الإْجَارَةِ مِنْ نَاظِرٍ أَوْ قَاضٍ، وَكَذَلِكَ وِلاَيَةُ قَبْضِ الأْجْرَةِ لِلنَّاظِرِ لاَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ النَّاظِرُ بِقَبْضِهَا.
الْمُدَّةُ فِي التَّحْكِيرِ:
15 - التَّحْكِيرُ نَوْعٌ مِنَ الإْجَارَةِ ، وَالشَّرْطُ فِي الإْجَارَةِ مِنْ حَيْثُ الأْصْلُ الْعِلْمُ بِالْمُدَّةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. أَمَّا فِي التَّحْكِيرِ: فَقَدْ قَالَ الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَنَا بِمِصْرَ أَنَّ الأْحْكَارَ مُسْتَمِرَّةٌ لِلأْبَدِ وَإِنْ عُيِّنَ فِيهَا وَقْتُ الإْجَارَةِ مُدَّةً، فَهُمْ لاَ يَقْصِدُونَ خُصُوصَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا كَالشَّرْطِ، فَمَنِ احْتَكَرَ أَرْضًا مُدَّةً وَمَضَتْ فَلَهُ أَنْ يَبْقَى وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَمْرَ الْوَقْفِ إِخْرَاجُهُ. نَعَمْ إِنْ حَصَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الإْخْرَاجِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الأْبَدِ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُحْتَكِرِ حَقُّ الْقَرَارِ إِذَا وَضَعَ بِنَاءَهُ فِي الأْرْضِ وَيَسْتَمِرُّ مَا دَامَ أُسُّ بِنَائِهِ قَائِمًا فِيهَا، فَلاَ يُكَلَّفُ بِرَفْعِ بِنَائِهِ، وَلاَ بِقَلْعِ غِرَاسِهِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ الْمُقَرَّرَةَ عَلَى سَاحَةِ الأْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا لِبَقَاءِ الْمُحْتَكَرِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ عَلَى رَقَبَةِ الأْرْضِ يَفْسَخُ الْقَاضِي الإْجَارَةَ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ مُفْلِسًا، أَوْ سَيِّئَ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ مُتَغَلِّبًا يُخْشَى عَلَى الْوَقْفِ مِنْهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ.